تحقيق

تحقيق

14/11/2012

تاريخُ مجالسِ العزاءِ الحسيني


تاريخُ مجالسِ العزاءِ الحسيني
تجاوبتِ الدّنيا عليك مآتِماً

_______إعداد: أحمد الحسيني_______



ليس البكاء على الإمام الحسين عليه السلام «تقليداً» طرأَ على المجتمعات الإسلاميّة بعد شهادته وأهل بيته عليهم السلام، ولا هو من «التّراث» الذي يُحاكي ما عند سائر الأُمم من إحياء ذكرى الكبراء من موتاها، وإنّما هو سُنّة نبويّة من حيث مدلولها العقائدي، وسُنّة إنسانيّة بلحاظ مداها الزّمني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً؛ منذ أنْ تلقّى آدم عليه السلام من ربّه كلماتٍ فتاب عليه، وإلى أن يرِثَ اللهُ تعالى الأرضَ ومَن عليها. ﴿..قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة:30.
يُضيىء هذا التحقيق على نماذج من أبرز محطّات تاريخِ العزاء والبكاء على سبطِ رسول الله صلّى الله عليه وآله، حتّى نهاية العصر العبّاسي، وقد أُعدّ بالاقتباس من كتاب (تاريخ النِّياحة على الإمام الشّهيد الحسين بن علي عليهما السلام) للسيّد صالح الشّهرستاني (ت: 1395 للهجرة)، من غير أن يتطرّق إلى مجالس العزاء التي أقامها الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام، إلّا ما وردَ منها في سياق استعراض الحقبات.

بكاءُ الأنبياء: تواترَ الحديثُ في المصادر المعتبرَة أنّ الله تعالى أطلع ملائكتَه وجميع أنبيائه على نبأ شهادة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وأنّه سِبطُ سيّد الأنبياء وخاتَمهم، فبكَته الملائكة والأنبياء ولعنوا قاتله، تقرّباً إلى الله تعالى، ومواساةً لرسول الله صلّى الله عليه وآله.
O من ذلك: أنّ آدم عليه السلام لمّا وصل إلى اسم الحسين في تعلُّمه الأسماء قال: «..يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس يَنكسر قلبي وتَسيل عَبرَتي؟ قال جبرئيل: وَلَدُك هذا يُصاب بمصيبةٍ تَصْغر عندها المصائب ".." يُقتَل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً ليس له ناصرٌ ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: واعَطَشاه واقِلّة ناصراه، حتّى يحول العطشُ بينه وبين السَّماء كالدّخان، فلم يُجِبه أحد إلّا بالسّيوف ".." ويَنْهَب رَحْلَه أعداؤه، وتشهر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان، ومعهم النّسوان ".." فبَكى آدمُ وجبرئيل بكاء الثّكلى». [بحار الأنوار؛ والعوالم للبحراني]
O ورُوي أنّ زكريا عليه السلام لمَّا أوحى الله تعالى إليه بمصاب الحسين عليه السلام: «
لم يفارق مسجدَه ثلاثة أيّام، ومَنَع فيهنّ النّاس من الدّخول عليه، وأَقبل على البكاء والنّحيب وكان يرثيه: إلهي أَتَفجَع خيرَ جميع خَلْقِك بولده؟ إلهي أَتُنْزِل بلوى هذه الرّزيّة بفنائه؟ إلهي أَتُلْبِس عليّاً وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي أَتُحِلّ كربةَ هذه المصيبة بساحتِهما؟
ثمّ كان يقول: إلهي ارزُقني ولداً تقرّ به عيني على الكِبَر، فإذا رَزَقْتَنيه فافتِنّي بحبِّه، ثمّ افجَعني به كما تفجعُ محمّداً حبيبَك بولدِه، فرزقَه اللهُ يحيى، وَفَجَعَه به
..». (كمال الدين، الصدوق)
O وأخبرَ اللهُ تعالى إبراهيمَ عليه السلام بأنّ «طائفة تزعم أنّها من أمّة محمّد، ستقتلُ الحسينَ ابنَه من بعده ظُلماً وعدواناً كما يُذبَح الكَبش، ويستوجبون بذلك سخطي، فجزِعَ إبراهيم لذلك، وتوجّع قلبُه وأقبلَ يبكي..». (المجالس السنيّة، الحر العاملي)
بكاءُ رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما

اتّفقت كُتُب الحديث والرّواية عند المسلمين، شيعةً وسنّة، أنّ جبرئيل عليه السلام أخبر النّبيّ صلّى الله عليه وآله بشهادة الإمام الحسين عليه السّلام، وبمكان استشهاده.
من ذلك: ما نقله السيّد محسن الأمين رحمه الله في مصنّفه (إقناع اللّائم على إقامة المآتم) عن (أعلام النبوّة) للشّيخ عليّ بن محمّد الماوردي الشّافعي: «ومن إنذاره صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ما رواه عروة عن عائشة قالت: دخل الحسين بن عليّ رضي الله تعالى عنهما على رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وهو يُوحى إليه، فبَرك على ظهره. فقال جبريل: يا محمّد، إنّ أمّتك ستُفْتَن بعدك ويُقتَل ابنُك هذا من بعدك. ومدّ يدَه فأتاه بتربةٍ بيضاء، وقال: في هذه الأرض يُقتل ابنُك، واسمُها الطّفّ. فلمّا ذهب جبريلُ خرج رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم إلى أصحابه والتّربةُ في يده، وفيهم أبو بكر وعمر وعليّ وحذيفة وعمّار وأبو ذرّ وهو يبكي، فقالوا: ما يُبكيك يا رسول الله؟ فقال: أخبرني جبريل أنّ ابني الحسين يُقتَل بعدي بأرض الطّفّ، وجاءني بهذه التّربة فأخبرني أنّ فيها مضجعه».
ثمّ علّق السيّد الأمين بالقول: «ولا بدّ أن يكون الصّحابة لمّا رأوا رسول الله صلّى الله عليه وآله يَبكي لِقتل ولده وتربتُه بيده، أَخَذَتهم الرّقّة الشّديدة فبكوا لبكائه، وواسوه في حزنه على ولده. فهذا أوّلُ مأتمٍ أُقيم على الحسين عليه السلام يُشبه مآتمَنا التي تُقام عليه، وكان الذّاكر فيه للمصيبة رسولُ الله صلّى الله عليه وآله».
وفي (أمالي) الصدوق عن ابن عبّاس، قال: «كنتُ مع أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام في خروجه إلى صفّين، فلمّا نزل نينوى، وهي بِشَطِّ الفرات، قال بأعلى صوته: يا ابنَ عبّاس أَتَعرف هذا المَوْضع؟ قلت له: ما أعرفُه يا أمير المؤمنين، فقال عليه السلام: لو عرفْتَه كَمَعرفتي لم تكُن تَجُوزه حتى تبكي كَبُكائي، قال: فبكى كثيراً حتّى اخضلّت لحيته وسالت الدُّموع على صدره، وبكينا معه وهو يقول: آهِ آه، ما لي ولآل أبي سفيان، صبراً يا أبا عبد الله، فقد لَقِيَ أبوك مثلَ الّذي تلقى منهم». [أنظر: «الملف» من هذا العدد]

قُبَيل الخروج من المدينة

روى ابنُ قولويه في (كامل الزّيارات) عن الإمام الباقر عليه السلام: « لمّا همَّ الحسينُ عليه السلام بالشّخوص عن المدينة أقْبَلَت نساء عبد المطّلب فاجتمعنَ للنّياحة حتّى مشى فيهنّ الحسين عليه السلام، فقال: أُنشِدُكنّ الله أن تُبدينَ هذا الأمر معصيةً لله ولرسوله.


فقالت له نساءُ بني عبد المطّلب: فَلِمَن نستبقي النّياحة والبكاء؟ فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعليّ، وفاطمة، والحسن ".." جعلنا الله فداك من الموت يا حبيب الأبرار..».
ومثلُه ما رُوي مفصّلاً عن بكاء محمّد ابن الحنفيّة، وأُم هانىء عمّة سيّد الشهداء عليه السلام، وغيرهما، قُبيل خروج الإمام من المدينة إلى مكّة.

بُعيد الشّهادة

بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام، حمل ابنُ سعد معه النّساء يريدُ الكوفة، فقالت النّسوة: بحقّ الله إلَّا ما مَرَرْتُم بنا على مصرع الحُسين، فمرّوا بهنّ على المصرع، فلمّا نظرت النّسوة إلى القتلى، قامت العقيلة زينب بنت عليّ عليهما السلام تندب الحسين وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب: «يا محمّداه، صلّى عليك مليكُ السّماء، هذا حسينُك مُرَّملٌ بالدّماء، مقطّعُ الأعضاء، وبناتُك سبايا، إلى الله المشتكى وإلى محمّدٍ المصطفى وإلى عليٍّ المرتضى وإلى فاطمة الزّهراء وإلى حمزة سيّد الشّهداء، يا محمّداه هذا حسينٌ بالعرا، تسفي عليه ريح الصّبا..». قال الرّاوي: فَأَبكَتْ واللهِ كلَّ عدوٍّ وصديق. [أنظر: (اللّهوف) للسيّد ابن طاوس]

أثناء دفن الشهداء

في اليوم الثّالث على استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه رضي الله عنهم، عادت إلى كربلاء عشائرُ بني عامر -من قبائل بني أسد- من سكّان قريتَي الغاضريّة ونينوى، وكانت قد ظعنت مؤقّتاً، وحضر عندهم الإمام زين العابدين عليه السلام، فأعانوه في دفن الأجداث الطّاهرة، وارتفعت الأصوات بالنّحيب والبكاء، لا سيّما وهم يعاينون الإمام يبكي عند مواراة أبيه وأخيه الطّفل الرّضيع عليهم السلام.

في الكوفة

عند وصول موكب السّبايا إلى الكوفة، خطبت سيّدات آل النّبيّ صلّى الله عليه وآله بالجموع المحتشدة لرؤيتهنّ والوقوف على ما حدث في كربلاء، وكذلك فعل الإمام زين العابدين عليه السلام رغم ضعفه ومرضه. عندها علم أهل الكوفة مقدار المصيبة التي حلّت بأهل البيت عليه السلام، فأخذوا يَندبون ويَنتحبون، فلم يُرَ باكٍ وباكية أكثر من ذلك اليوم.

في الشّام

استطاعت السيّدة زينب عليها السلام إثبات مظلوميّة الإمام وأهل بيته، وأحقيّته في الخروج على الحكم الظّالم، وإشعار مَن في قصر يزيد بن معاوية بِهَوْل ما جَنَتْه أيدي الحاكم وأعوانه بحقّهم، فضجّت النّسوة في القصر، وشاركن العقيلة زينب والسّبايا بمصابهنّ، فنَدَبْن الحسين عليه السلام وأهله.

في المدينة المنوّرة

عندما وصل موكب السّبايا إلى مشارف المدينة المنوّرة، رآهُم بِشْر بن حَذْلَم، وكان يُجيد قرض الشّعر، فطلب منه الإمام السجّاد أن يسبقَهم إلى المدينة وينعي الإمام الحسين وأهلَ بيته وأصحابَه الّذين استُشهدوا في كربلاء، فقصدَ بِشْر مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال:

يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ بها قُتِلَ الحُسينُ فَأَدْمُعي مِدْرارُ
الجِسْمُ مِنْهُ بِكَرْبَلاءَ مُضَرَّجٌ والرّأسُ مِنْهُ على القَناةِ يُدارُ


ثمَّ قال: هذا عليُّ بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونَزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أعرّفكم مكانه. فلمْ يبقَ في المدينة مخدّرةٌ ولا محجّبة إلَّا بَرَزْن من خدورهنّ وهنّ بين باكيةٍ ونائحةٍ ولاطمةٍ، فلم يُرَ يومٌ أَمَرّ على أهل المدينة منه. وخرج النّاسُ بأجمعهم لملاقاة موكب السّبي، وقصدوا الفسطاط الذي حلّوا فيه، فخرج الإمام السجّاد عليهم السلام ومعه خرقة يَمسح بها دموعه، وهو لا يتمالك عن العَبرة. وارتفعت أصوات النّاس بالبكاء وبحنين النّسوان والجواري، والنّاس يعزّونه من كلّ ناحية فضجّت تلك البقعةُ ضجّة شديدة. فأومأَ بيده أن اسكتوا، فسكنتْ فورتُهم، فخطبَ فيهم خطبة مؤثّرة ..
ثمّ عُقدت المآتم في بقيع الغرقد، وفي البيوت والدّور، وكانت أمّ البنين، فاطمة بنت حزام الكلابيّة، أمّ العبّاس عليه السلام تخرج إلى البقيع، فتندب أولادها، فيجتمع الناس لمواساتها ومشاركتها في مصابها الأليم.
وكان ثمّة مأتم للسيّدة الرّباب أمِّ الطفل الرّضيع، إذ بقيت سنة تندب الإمام عليه السلام، لا يُظلِّلها سقفٌ حتّى ماتت. وممّا قالته في رثاء سيّد الشّهداء عليه السلام:

إنَّ الذي كانَ نوراً يُسْتَضاءُ بِهِ بِكَرْبَلاءَ قَتيلٌ غَيْرُ مَدْفونِ
سِبْطَ النَّبِيِّ جَزاكَ اللهُ صالِحَةً عَنّا وَجُنّبْتَ خُسْرانَ المَوازينِ
قَد كُنْتَ لِي جَبَلاً صَعْباً أَلوذُ بِهِ وَكُنْتَ تَصحبُنَا بالرّحمِ والدِّينِ


وكانت المدينة المنوّرة شهدت مجالس تعزية متعدّدة أقامتها أمّ المؤمنين أمّ سلَمة بدءاً من اليوم العاشر من محرّم، وأسهَب المؤرّخون في الحديث عنها.

عند القبر الشّريف

1- وصل جابر بنُ عبد الله الأنصاريّ -برفقة عطيّة العوفي- إلى كربلاء لِزيارة الإمام الحُسين عليه السلام بعد استشهاده بأربعين يوماً، فاغتسل بماء الفرات، ثمَّ توجّه إلى موضع قبره عليه السلام، فأجهش بالبكاء وخرّ مغشيّاً عليه، فلمّا أفاقَ صاح بصوتٍ عالٍ: «يا حُسين، يا حُسين، يا حُسين! ثمّ قال: حَبيبٌ لا يُجيبُ حَبيبَه، وأَنّى لَكَ بِالجَوابِ وَقَدْ شُخِبَتْ أَوْداجُكَ عَلى أَثباجِكَ، وَفُرِقَّ بَيْنَ رَأْسِكَ وَبَدَنِك..»، ثمّ شرع في قراءة الزّيارة التي أوّلها: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا آل اللهِ..».
وفي بعض المصادر، أنّ موكب السّبايا مرّ بكربلاء في يوم الأربعين في طريق العودة إلى المدينة المنوّرة من الشّام.
2- وممّن حضر عند القبر الشّريف عبيد الله بن الحرّ الجُعفي، الذي كان خذلَ الإمام الحسين عليه السلام عندما دعاه إلى الالتحاق به قائلاً: «أَقِلْني، فإنَّ نفسي لا تسمحُ بالموت»، بل وصل به الخزيُ حدَّ أن يعرضَ على الإمام فرسَه التي لا تُدرك لينجو بها من مطاردة الأمويّين! وفي (الكامل) لابن الأثير، وغيره، ذِكرُ الأبيات التي أنشدها الجُعفي عند القبر الشريف حسرةً على ما فرّطَ في جنب وليّ الله، ومنا قولُه:

فيا لكِ حسرةً ما دمـتُ حيّاً تردَّدُ بين حلقيَ والتّراقي
فلوْ علقَ التّلهّفُ قلبَ حيٍّ لَهَمَّ اليوم قلبي بانفلاقِ


فقد جاء الأُوْلَى نصروا حـسـيـناً وخابَ الآخرون إلى النّفاقِ
3- كذلك التوّابون، وبعدما نَدموا على تركهم نُصرة الإمام عليه السلام، تداركوا تفريطَهم، وأعدّوا العدّة لمواجهة الأمويّين، فكانت المعركة المعروفة في منطقة «عين الوردة» سنة 65 للهجرة، إلّا أنّهم في طريقهم إليها مرّوا بكربلاء، فلمّا وصلوا إلى موضع القبر الشّريف، صاحوا صيحةً واحدة، وضجّوا بالبكاء والعويل، فلم يُرَ يوماً أكثر بكاءً حول قبر الحسين من ذلك اليوم، وقد خَطَب فيهم خطباء كثيرون، وازدحموا على لَثْمِ القبر ازدحامَ الحجيج على لثْم الحَجر، ثمَّ قام من بينهم من تلا أبياتاً في رثاء سيّد الشّهداء عليه السلام، ومنها:

عجبتُ وأيّامُ الزّمانِ عجائبُ ويظهرُ بين المعجبات عظيمُها
تبيتُ النّشاوى من أميّة نوّماً وبالطَّفِّ قتلى ما ينامُ حميمُها


إلى أن يقول:

فأَقسمتُ لا تنفكُّ نفسي جزوعةً وعيني سفوحاً لا يملّ سجومُها
حياتي أو تلقى أميّةُ وقعةً يذلُّ لها حتّى المماتِ قرومُها


4- أمّا المختار الثّقفيّ الذي قاد حركة الاقتصاص من قتلَة سيّد الشّهداء عليه السلام، فكان أوّل مَن أقام احتفالاً تأبينيّاً في داره في الكوفة بمناسبة يوم عاشوراء، وأرسل -كما يُروى- بعض النَّادبات إلى شوارع الكوفة للنَّدب على الحسين عليه السلام، ورُوي أنّه حضر إلى كربلاء، وقبّلَ موضعَ القبر الشّريف، وعاهدَ الإمام الحسين على الانتقام من القَتَلة.

في العصر الأموي

بذلَ الأمويُّون، ولا سيَّما ملوكهم وأمراؤهم بعد يزيد، جهدهم لِعَزْل ذِكْر الإمام الحُسين عليه السلام عن ذهنيَّة المسلمين، وذلك بفَصْل النَّاس عن زيارة قبره الطّاهر ومنعهم عن إقامة العزاء والنَّوح عليه، بكلِّ ما عرفوه من الوسائل السّريّة والعلنيّة. وكان الأمويُّون لا يتورَّعون عن اتِّخاذ أيّة وسيلة إرهابيّة في منع النّاس عن مراودة القبر الشَّريف بكربلاء، وإقامة المآتم والمناحات على الحسين عليه السلام وصحبه وآله سرّاً وعلناً في جميع الأقطار الإسلاميّة التي كانت سيطرتهم عليها نافذة. فكانوا قد أحاطوا منطقة الحائر الحسينيّ بحراسة شديدة ومراقبة واعية، منعاً من وفود الزُّوّار عليها وإقامة المناحات حولها. حتى أنَّ كثيراً من الوافدين لقوا حَتْفهم فَوْر وقوعهم في شِباك تلك الحراسة، وكان قد اشتدّ هذا المَنْع في أوائل عصر الإمام الصّادق جعفر بن محمّد عليهما السلام على عهد هشام بن عبد الملك. وذلك على أثر خروج زيد بن عليّ بن الحسين عليهما السلام في الكوفة وشهادته فيها سنة 121 للهجرة، فصار جلاوزة هشام يشدِّدون المنع، ويُمثِّلون بمَن يقع بأيدي المسالح من الزُّوّار. ورَوى التّاريخ حوادث كثيرة في ذلك، منها:


1- ما رواه ابنُ قولويه في (كامل الزّيارات) عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثّمالي، قال: «خرجتُ في آخر زمان بني مروان إلى قبر الحسين بن عليّ عليهما السلام مستخفياً من أهل الشّام حتّى انتهيتُ إلى كربلا، فاختفيتُ في ناحيةِ القرية ".." حتّى إذا طلعَ الفجرُ أقبلتُ نحوَه فلم يحُل بيني وبينه أحد، فدنوتُ منه فسلّمتُ عليه، ودعوتُ الله على قَتَلتِه، وصلّيتُ الصّبح، وأقبلتُ مسرعاً مخافة أهل الشام».
2- وأيضاً في (الكامل) عن مسمع بن عبد الملك البَصري، قال: «قال لي أبو عبد الله: يا مسمع، أنتَ من أهل العراق، أما تأتي قبر الحسين؟ قلت: لا، أنا رجلٌ مشهور من أهل البصرة، وعندنا مَن يتبع هوى هذا الخليفة، وأعداؤنا كثيرة من أهل القبائل من النّصّاب وغيرهم، ولست آمنُهم أن يرقبوا حالي عند ولد سليمان [بن عبد الله، أمير البصرة في حينه] فيميلوا عليّ، قال: أفمَا تذكُر ما صُنِع به؟ قلت: بلى، قال: فتَجْزَع؟ قلت: إي والله، أَسْتَعبِر لذلك حتّى يَرى أهلي أَثَر ذلك عليّ، فأمْتَنِعُ عن الطَّعام حتى يَستبين ذلك في وجهي، قال: رَحِمَ اللهُ دمعتك، أمَا إنَّك من الّذين يُعَدُّون من أهل الجزع لنا، والّذين يفرحون لِفَرحنا ويَحزنون لِحُزننا، ويأمنون إذا أمِنَّا..».

في العصر العبّاسي

بدورهم، حذا العبّاسيّون حذْوَ بني أميّة، وربّما فاقوهم ضراوةً لناحية التّعبير العملي عن عدواتهم تجاه ما يمتّ بِصلةٍ إلى إقامة الشّعائر الحسينيّة. سيّما أيّام مُلْكِ كلٍّ من المنصور الدّوانيقي وهارون والمتوكّل، الذي أمر بهدم المرقد الشّريف سنة 236 للهجرة، فهجاه الشّاعر عليّ بن محمّد البسّاميّ بقصيدةٍ يقول فيها:

تَاللهِ إنْ كانت أميّةُ قد أَتَتْ قَتْلَ ابنِ بنتِ نبيِّها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثلِه هذا لَعمرُك قبرُه مهدوما


قال ابنُ خلِّكان في (وفيّات الأعيان): «وكان المتوكّل كثيرَ التّحامل على عليٍّ و ولدَيه الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين، فهدمَ هذا المكان [المرقد الشّريف] بأصوله ودُوره وجميع ما يتعلّق به، وأمر أن يبذَر ويُسقى موضع قبره، ومنع النّاسَ من إتيانه».
ولم يكن موقف المتوكّل والعباسيّين عموماً، موقفاً أملَته ظروف مرحلة بعينِها، بل كان سياسةً مدروسةً امتدّت على مدى سنوات حكمه، وهو بذلك واصل سياسة أسلافه ممّن ثُنيت لهم وسادة حُكْمِ المسلمين بالخديعة، حينما رفعوا شعار «الرِّضا من آل محمّد»، فقد بلغ الأمرُ بالمتوكّل أنْ بعثَ في السِّكك من يُنادي ببراءة الذّمة ممّن زار قبر الحسين بن عليّ، وعملَ على تتبُّع آل أبي طالب والشّيعة، فقتلَ ولم يتمّ له ما قدّره، حيث أنّ النّاس -لا سيّما أهل السّواد ممّن استوطنَ قريباً من كربلاء- خرجوا عليه، وبعثوا إليه أنّهم لن يمتنعوا عن زيارة القبر حتّى ولو قُتلوا عن آخرهم.
سياسة المتوكّل هذه، كان مهّدَ لها المنصور الدّوانيقي حيث استهلَّ حُكمَه بهدم قبر الحسين عليه السلام، ومنعَ النّاسَ من زيارته وإقامة المآتم والمناحات حوله وفي الجهات الأخرى، ثمّ نهج نهجَه هارون العبّاسي، فأمرَ بهدم القبّة الشّريفة (أُعيد بناؤها في عهد سلفِه الملقّب بالمهدي)، كما منع من إقامة المآتم والعزاء، سواءً عند الضّريح، أو في الدّور والمجتمعات، ثمّ عمدَ إلى اقتلاع شجرة السّدرة التي كانت بجوار القبر، وكان النّاس يستدلّون بها على موضعه بعد أن درست آثارُه بفعل الهدم المتواصل، وحرْث الأرض وزراعتها.
روى الشيخ الطوسي في (الأمالي) عن ابن المغيرة الرّازي، قال: «كنتُ عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجلٌ من أهل العراق. فسأله جرير عن خبر النّاس، فقال: تركتُ الرّشيد [هارون العبّاسي] وقد كرب قبر الحسين عليه السلام، وأمرَ أنْ تُقطَع السّدرةُ التي فيه، فقُطِعت.
قال: فرفعَ جريرُ يدَيه وقال: الله أكبر! جاءَنا فيه حديثٌ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، أنّه قال: لعنَ اللهُ قاطعَ السّدرة، ثلاثاً، فلم نقِفْ على معناه حتّى الآن، لأنّ القصد بقطعِه تغييرُ مصرع الحسين عليه السلام، حتّى لا يقفَ النّاسُ على قبره».


وبعد مقتل المتوكّل على يد ابنه المنتصر تزايد وفودُ الزوّار لمرقد الامام الحسين وإقامة المآتم والعزاء حوله، ثمّ السُّكنى بجواره. وكان في مقدّمة هؤلاء المجاورين السيد إبراهيم المجاب الضّرير الكوفي، الجدّ الأعلى لكثيرٍ من الأُسَر العلويّة في العالم. وقد وضع السيّد إبراهيم الحجرَ الأساس لمجالس العزاء والمآتم والمناحات الدائمة على الإمام الحسين حول قبره المطهّر، بصورةٍ منتظمة، وبترتيبٍ منسّق، ونزل المجاب كربلاء سنة 247 للهجرة.
أما الحكّام الذين خلفوا المنتصر فكانوا من الضّعف ومن سوء التّدبير بحيثُ لم يبقَ لهم حولٌ ولا قوّة على مجرَيات الأمور، وكانوا يقنعون بلقب الخلافة، وإلقاء الخطبة باسمِهم على المنابر، وصارت شؤون الدّولة في عهدة الموالي من الأتراك أو البويهيّين أو غيرهما، ومن أجل ذلك أضحت حرّيةُ إقامة العزاء الحسيني تتبعُ مذهب وسياسة هذه السّلطات الحاكمة عمليّاً في البلاد، كالبويهيّين، والسلجوقيّين الأتراك وغيرهم.

اخبار مرتبطة

   أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

15/11/2012

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات