بسملة

بسملة

08/02/2013

عَبْدُه، ورَسُولُه


عَبْدُه، ورَسُولُه
الشيخ حسين كوراني
الوسامُ المحمّديُّ الأرفع «عبد الله».
في كلِّ صلاةٍ يردِّدُ المسلمُ في تَشهُّدِ الصّلاة: «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه».
تتلخّصُ الرّسالةُ بما حدّدَه المُرسِل: ﴿..يأمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ..﴾ الأعراف:157
هي رسالةٌ إلى الأجيالِ البشريّةِ كلِّها. ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً..﴾ الأعراف-158
إنّها المنشورُ العالميُّ للتّحرُّرِ من كلِّ «إصرٍ وغُلّ» وأصلُ الإصْرِ: الضِّيقُ والحَبس، يُقال أصرَه يأصرُه: إذا ضيّقَ عليه وحَبَسَه، ويقالُ للثِّقلِ إصراً، لأنّه يأصرُ صاحبَه من الحركةِ لثقلِه. والإصر: عَقْدُ الشّيء وحَبْسُه بقهرِه. يقال: أَصَرْتُه فهو مأصور. و«الأغلال» جمع «غُلّ» وهو ما يقيَّد به.
ما هي دلالاتُ أنّ الحرَّ الأوّل، حامل رسالةِ الحرّيّةِ إلى البشريّةِ هو «عبدُه ورسولُه»؟
يؤكّدُ أهميّةَ هذا البحث أنّ وسامَ «العبد» لم يقتصِر على الشّاهد على الأنبياءِ وسيّدِهم، بل شملَ -وإنْ بمرتبةٍ أقلّ- جميعَ الأنبياء. من ذلك: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ ص:30. ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾ ص:41. ﴿.. إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ ص:44. ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ مريم:30.
**
من أشدّ المفارقاتِ غرابةً أن تصدمَنا عبارةُ أنّ النّبيَّ عبدٌ، أو أنْ نقرأَ توقيعَ فقيه: العبد فلان أو العبد الفقير إليه تعالى فلان، فيستفزّنا ذلك بينما تَستهوينا تعابيرُ مثل الذَّوبان في الحقّ، و«ثقافة القانون»، ونطرب لعبادةِ الحبيبِ محبوبَه وعبوديّته له، ونترنّم بذلك شعراً ونَثراً.
العبوديّة حبٌّ وطاعة، حبٌّ حتّى العبادة، يُنتجُ طاعةً مطلَقة وانقياداً مكتملاً، لا يدلّ عليه إلّا لفظُ «العبوديّة».
والعبوديّة صفةٌ لازمةٌ لكلّ إنسان، سواء تبلوَر فيه معنى الإنسانية، وتجَذَّر، أو تشوّه ثمّ سُلِبَ عنه وزال.
كلّ إنسان، إمّا أن يكون عبدَ الحقّ أو عبدَ الباطل، عبدَ العقل والنّظام والقانون، أو عبدَ الهوى والشّهوات والميول وعَبَثيَّتِها.
الأوّل عبد الله، والثّاني، عبد الدّنيا.
قال الإمام الحسين عليه السلام: «النّاسُ عبيدُ الدّنيا، والدّينُ لعقٌ على ألسنَتِهم..».
**
قد يتفرّدُ السيّدُ بعبدِه وينفردُ به، وقد يتعدّدُ الأسياد: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ الزّمر:29.
لا فرقَ في الشّركاءِ المُتشاكسين بين أن يكونوا أشخاصاً حقيقيّين، أو «حقوقيّين»، طواغيت، وأرباباً، وأنداداً بما يشملُ الأصنام، أو شهواتٍ وميولاً -حدَّ التّعلُّق- ونَزَوات.
عندما يتعلّقُ قلبُ «الإنسان» بشركاءٍ فيه -سواء أكانوا أشخاصاً أم أهواءً- فإنّ التّشاكُسَ الذي هو سِمَتُهم يصبح سِمَتَه. لذلك صحّت مقابلتُه بـ «السَّلَم» صاحبِ «القلب السّليم»، الذي لا يُسكِنُ في حرمِ الله غيرَ الله.
هكذا، تتجلّى مركزيّةُ «نزع التّعلُّقات» في منظومةِ البناء الثّقافي، وبناءِ النّفْسِ وتهذيبِها.
ليست التّعلُّقات إلّا تلك الآصار، وليس نَزْعُها إلّا الاستجابة لمسار: ﴿..يَضَعُ عَنهم إصرَهم والأغلال..﴾ الأعراف:157.
التحرّر من إصرِ التعلّقاتِ وأغلالِها، جوهرُ مفهوم ِالحرّيّة وحقيقتُه. محالٌ أن يكونَ عبدُ الشّركاءِ المتشاكسين حرّاً. محالٌ أن يتحرّرَ من ربقات الشّركاءِ المتشاكسين، مَن لا يكونُ وجودُه رهنَ الحقِّ حتّى العبادة والعبوديّة.
هذا هو المنطلقُ لاستشرافِ دلالات: «العبوديّةُ جوهرةٌ كُنْهُها الرّبوبيّة».
**
أبرزُ الدّلالات، أنّ الله هو الحقّ، فليس في التخلّف عن قانونِه إلّا الباطل والعَبَثيّة والضّلال. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ الحج:6-7. ﴿فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ يونس:32.
الإنسانُ مخلوقٌ، وليس خالقاً، فهو مطالَبٌ -لمصلحتِه وحِفْظِ جوهرةِ الإنسانيّة- بالتزامِ القانونِ الإلهيّ بدقّةٍ تامّة، مسؤولٌ عن كلِّ مخالفة، محاسبٌ عليها. ليس الإنسانُ «سيِّدَ الطّبيعة» بل هو عبدُ سيّدِ الطّبيعة والوجودِ وخالقهما.
بمقدارِ ما يتمحّضُ المخلوقُ المسؤول، في طاعةِ الحقِّ وحُبِّه، ويُوقِنُ بفقرِه المطلَق، يُصبحُ «عبد الله».
لا ينافي الحريّةَ الخضوعُ المطلقُ للقانون والعبوديّة له. كذلك -وبأولويّة مطلَقة، وبالقياس مع الفارق- لا ينافي التزامُ أوامرِ اللهِ تعالى والعبوديّةُ له شيئاً من تجلّيات الحرّية. الحرّيةُ الحقيقيّةُ رهْنُ هذه العبوديّة. الحرّيةُ وطنُ مَن هجرَ كلَّ الأوطانِ إلّا وَطَنَه. أصالة مَن هجَر التعلّقات الدّخيلة على طبيعةِ الإنسان وجوهرِ إنسانيّتِه.
**
ثقافتان لا تَلتقيان، ثقافة الإنسان المخلوق المسؤول ﴿..إنّهم مَسؤولون﴾ الصافات:24، و«ثقافة» الإنسان الإله!!
هنا بالتّحديد تفترقُ ثقافةُ الهدى الإلهيّ وقانونه، عن كلّ «الثّقافات». من هذا المفترَق يتسلّلُ كلُّ اختراقٍ لثقافةِ «المؤمن» أو التقاطٍ، أو استلاب.
المخلوق لا يُشرِّع، فضلاً عن ادّعاء سيادةِ الطّبيعة والألوهيّة. والمحاسَب يلتزمُ الضّوابطَ والنُّظُمَ والقوانين الإلهيّة، ويستعدُّ للاستحقاقاتِ المستقبليّة، يوم العرضِ الأكبر. يوم يأتي العبيدُ سيّدَهم: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ مريم:93-95.
يتّضح: كم نضربُ في التِّيه بعيداً حين نبحثُ عن «قيادة الذّات والإدارة، وعِلْم النّفس، ومناهج التّربية والتّعليم، والإرشاد الأُسَريّ» في غياهب الثّقافةِ المادّيةِ القائمةِ على نكراء أنّ الإنسانَ «سيّد الطّبيعة».
بديهيٌّ أنّ الخطرَ يكمنُ في السّائد: التّقليدِ شبهِ الأعمى، وليس في الاطّلاع والاقتباس.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

08/02/2013

دوريات

نفحات