موقف

موقف

02/10/2013

كانت مصابيحهم تتحطَّم، لكنَّ شُعلتهم لا تنطفئ


كانت مصابيحهم تتحطَّم، لكنَّ شُعلتهم لا تنطفئ

_____المستشار عبد الحليم الجنديّ*_____

 

ليس في تاريخ البشريّة، كلّها، أُسرة شُرِّدت وجُرِّدَت، وذاقت العذاب والاسترهاب، مثل أهل بيت النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم.

بدأَ بهم تاريخُ الإسلام مجدَه. واستمرَّ فيهم بِعبرتِه وعظمتها. قدَّم أبوهم للبشريّة أسبابَ خلاصها بكتاب الله وسنّة الرَّسول. وقدَّم أهلُ بيته أرواحَهم في سبيل القِيَم الّتي نزل بها القرآنُ وجاءت بها السُّنّة. كانت مصابيحُهم تتحطَّم لكنَّ شُعلتهم لا تنطفئ، لتخلِّد الجهاد والاستشهاد والإرشاد، بالمَثَل العالي الّذي كانوه، والضَّوء الّذي لم تمنع الموانع من انتشاره، وعلَّم فيه أبناءُ النّبيّ أمَّته بعض علومه: أنَّ الاستشهادَ حياةٌ، للمُستَشهدين وللأحياء جميعاً.

(وقال أيضاً في ذيل الكتاب ص 110 و111): وتستمرُّ عجلات الطّغيان في الدّوران. وتتَوالى مقاتل الطّالبيّين توالي الخلفاء العبّاسيّين؛ ففي بدء عهد المأمون، يُقتل بالعراق الحسن بن الحسين بن زيد عند قنطرة الكوفة مع أبي السّرايا. والحسن بن إسحاق بن عليّ في وقعة السّوس مع أبي السّرايا. ومحمّد بن الحسن بن الحسين يُقتل باليمن في أيّام أبي السّرايا. وعليّ بن عبد الله بن محمّد يُقتل باليمن في أيّام أبي السّرايا ومحمّد بن إبراهيم بن إسماعيل (وهو ابن طباطبا) الخارج مع أبي السّرايا سنة 199 للهجرة، مُطالِبين بالبيعة «للرّضا من آل محمّد». وقد انهزموا بجيش هرثمة بن أعين قائد المأمون سنة 200 للهجرة. وقَتلى العلويِّين على يد هذا الجيش كثيرون.

وفي عهد المعتصم، خرج محمّد بن القاسم بن عليّ بالطّالقان فقَبضَ عليه عبد الله بن طاهر وبَعَث به إلى الخليفة. وحَبَس المعتصم عبد الله بن الحسن بن جعفر حتّى مات في مخبئه. فلمّا جاء الواثق أَمنَ العلويُّون بضعَ سنين. إذ جمعوا ثمّ حبسوا عن الانطلاق خارج العاصمة سامرّاء، فتطامنوا واطمأنَّت السُّلطة.

ثمَّ هبّت عليهم في أيّام المتوكِّل ريحٌ عاتيةٌ من جنونِ الفَزَع. فلقد أزال قبرَ الحسين وحرَثَه حتّى لا يُزار. وشتَّتَ شملَ شيعتِه وفرَّقَهُم في النّواحي. فمنهم مَن حُبِسُوا، ومنهم مَن تَواروا حتّى ماتوا في مهربهم - وتناقل النّاسُ أشعاراً منسوبةً إلى ابن السِّكِّيت عالِم النّحو الكبير، وكان يُعلِّم ولدَي المتوكِّل. وفي هذه الأشعار:

تاللهِ إنْ كانَت أُمَيَّةُ قَد أَتَت

قَتلَ اِبنِ بِنْتِ نَبِيِّها مَظْلوما

فَلَقَد أَتاهُ بَنو أَبيهِ بِمِثلِهِ

هذا لَعَمرُكَ قَبرُهُ مَهدوما

أَسفوا على ألّا يكونوا شارَكوا

في قتلِه فتتبَّعوه رَميما!

 

وربَّما أراد المتوكِّل أن يتيقَّن من صدور هذا الشِّعر أو من ولاء العالِم حين سأَلَه: أيُّهما أحسن، ولداي (المؤيَّد والمعتزّ) أم الحَسن والحُسين؟ ولم يُرْضِه جوابُه. فأَمَر بِقتله فقتلوه. ولمْ يَلبث المتوكِّل إلَّا قليلاً حتّى قَتَلَه ابنُه (المُنتصِر) في مؤامرة! وإنَّما كانت فظاعة الجريمة الأخيرة قصاصاً عجَّلت به السَّماء لمقتل عالِمٍ آثَرَ الصِّدق.

ولم يصلح للعلويِّين بالٌ إلَّا أشهراً بعد مصرع المتوكِّل، لِيَعود البطشُ بهم إلى عنفوانه في أيّام المُستعين. فمنهم مَن خَرجَ وخَرجَ النَّاسُ معه، كيحيى بن عمر، خَرج فقُتِل. ومنهم مَن خَرَج ولم يَخرج النَّاسُ معه، فحُبِسَ ليموت سنة 271 للهجرة، وهو الحسن بن محمّد المعروف بالحرون. ومنهم محمّد بن جعفر خَرَج وحُبِسَ حتّى مات في سامرّاء ليَتتابعَ سِجِلُّ الشُّهداء.

نقف عن السَّرد عند أبياتٍ لابن الرّوميّ (321 – 384 للهجرة) من جيميَّته في رثاء يحيى بن عمر بعد مقتله، إذ خَرَج على بني العبّاس في القرن الرّابع من جرَّاء ظُلمِهم:

أمامك فانظر أيّ نهجيك تنهج

طريقان شتّى مستقيم وأعوَجُ

أكلّ أوانٍ للنّبيّ محّمد

قتيل زكيّ بالدِّماء مضرَّجُ؟

بني المصطفى كم يأكل النّاس شلوكم

لبلواكم عمّا قليل مُفَرَّجُ

أبعد المُكنّى بالحسين شهيدكم

تُضاء مصابيح السّماء فَتُسْرَجُ؟

أيحيى العلا لهفي لذكراك لهفةً

يباشر مَكواها الفؤاد فينضجُ

لِمَن تستجدّ الأرض بعدك زينة

فتصبح في أثوابها تتبرَّجُ؟

سلامٌ ورَيحانٌ ورَوحٌ ورحمة

عليك ومحدود من الظّلّ سَجْسَجُ

ألا أيُّها المستبشرون بيومه

أظلّت عليكم غُمّة لا تُفرَّجُ

نَظارِ لكم أنْ يُرجِعَ الحقّ راجعٌ

إلى أهله يوماً فتشجوا كما شجوا

غُررتم إذا صدَّقتم أنّ حالةً

تدوم لكم، والدَّهر لونان أَخْرَجُ

أبَى اللهُ إلَّا أن يَطيبوا وتَخبثوا

وأنْ يسبقوا بالصّالحات وتُفْلَجوا

لعلّ قلوباً قد أَطَلْتُم غليلَها

ستظفر منكم بالشّفاء فَتُثْلجُ

 

 

 

* المستشار عبد الحليم الجنديّ في كتاب (الإمام جعفر الصّادق عليه السّلام)

(طبعة المجلس الأعلى للشّؤون الإسلاميّة، القاهرة، نقلاً من "شرح إحقاق الحقّ للسّيّد المرعشيّ: ج33/176)

اخبار مرتبطة

  شعائر العدد الثالث و الأربعون -شهر ذو الحجة 1433 - تشرين الأول / تشرين الثاني 2013

شعائر العدد الثالث و الأربعون -شهر ذو الحجة 1433 - تشرين الأول / تشرين الثاني 2013

نفحات