تحقيق

تحقيق

منذ 3 أيام

إضاءات على المجهول من مكتبات النّجف الأشرف


كنوزٌ مخبوءَة

إضاءات على المجهول من مكتبات النّجف الأشرف

ـــــ إعداد: أحمد الحسيني ـــــ

 

هذا التّحقيق، منتخَبٌ من دراسةٍ موسّعة أعدّها الأستاذ جعفر الخليلي عن تاريخ المكتبات العامّة والخاصّة في مدينة النّجف الأشرف، قدّم فيها، إلى ذلك، تعريفاً وافياً بأهمّها؛ وفي طليعتها (المكتبة الحيدريّة)، أو (مكتبة الخزانة العلويّة) التّابعة لمقام أمير المؤمنين صلوات الله عليه.

ونظراً لأهميّة المعلومات الواردة في هذه الدّراسة، ونُدرتها، فقد آثرنا الاقتصارَ في هذا التّحقيق على إيراد ما كتبَه عن كيفيّة نشوء المكتبات النّجفيّة، على أن نوفَّق لاحقاً، إن شاء الله، للتّعريف بأهمّ هذه المكتبات الّتي أدّت، وما تزال، دوراً علميّاً وحضاريّاً على مستوى العالم كلّه، إنطلاقاً من أعرقِ الحواضر الشّيعيّة على الإطلاق.

يُشار إلى أنّ الدّراسة التي أعدّها الأستاذ الخليلي نُشرت في المجلّد السّابع من (موسوعة العتبات المقدّسة).

 

ذهب بعضُ المؤرّخين إلى أنّ تاريخ النّجف العلميّ يبدأ مع تمصيرِها، أي منذ القرن الثّاني الهجريّ أو بعده بقليل، مستدلّاً على ذلك بانتقال النّشاط العلميّ من الكوفة إلى النّجف بَدو تمصير الأخيرة، وبوجود خزانة للكُتب في النّجف كان ممَّن عنِي بها عضد الدّولة البويهيّ (ت: سنة 372 للهجرة)، وبظهور إجازات علميّة بالاجتهاد يرجع تأريخها إلى القرن الرّابع.

يقول المؤرّخ الشّيخ عليّ الشّرقي في كتابه (الأحلام): «ففي القرن الثّاني للهجرة بدأت العمارة والتّشييد لمدينة النّجف تدريجيّاً، فانتقلت المدرسة من الكوفة إليها، وبقيت الكوفة تصبّ في بحر النّجف، ومن بداية القرن الثّالث للهجرة ظهرت شخصيّات علميّة في النّجف، مثل شرف الدّين بن عليّ النّجفي، وأحمد بن عبدالله الغَرويّ، وابن شهريار..».

 

أمّا الأمر الّذي لا شُبهةَ فيه، فهو أنّ ذروة النّشاط العلميّ في النّجف الأشرف بدأ في منتصف القرن الخامس الهجريّ، عقبَ هجرة الشّيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطّوسيّ، المعروف بـ (شيخ الطّائفة)، فقد كان الشّيخ الطّوسيّ «انفرد بزعامة الشّيعة في بغداد بعد وفاة الشّريف السّيّد المرتضى، وكان للشّيخ الطّوسيّ مكانة مرموقة في الأوساط العلميّة، وكان له كرسيٌّ للبحث والدّرس، وكانت دارُه في الكرخ مأوى الرّواد والمُتتبّعين من رجال العلم والتّأليف، وقد بلغ من العَظَمة والرِّفعة العلميّة أنْ صارت عدّةُ تلاميذه الّذين يحضرون بحثَه، وكلّهم من المجتهدين، نحو ثلاثمائة مجتهد».

        (حياة الشّيخ الطّوسيّ، للشّيخ أغا بزرك، المقدّمة)

 

كُتب بغداد نواة مكتبات النّجف

حين حدوث الفتنة بين الشّيعة والسّنّة، واستفحال أمرها في أيّام طغرل بك، أوّل ملوك السلجوقيّين الّذي ورد بغداد سنة 447 هجريّة، والّذي شنّ على الشّيعة حملةً شعواء، هاجر الشّيخ الطّوسيّ إلى النّجف بعد أن نُهب بيته وأُحرقت كُتبه.

قال ابن الجوزي في حوادث سنة 449 هجريّة: «وفي صفر من هذه السّنة كُبست دار أبي جعفر الطّوسيّ متكلّم الشّيعة بالكَرْخ، وأُخذ ما وُجد من دفاتره وكرسيٍّ كان يجلس عليه للكلام، وأُخرج إلى الكرخ وأُضيف إليه ثلاثة سناجيق [رايات] بيض كان الزّوّار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة، فأُحرق الجميع».

(المصدر السّابق)

 

 وكانت للشّيعة ببغداد مكتبةٌ أنشأها أبو نصر، سابور بن أردشير (المتوفّى عام 416 للهجرة) وزير بهاء الدّولة البويهيّ (من ملوك الدّولة البويهيّة، تولّى نحو عام 380 للهجرة، وتوفّي عام 403 للهجرة)، سنة 381 للهجرة في محلّة عُرفت بـ «بين السّورَيْن» في الكرخ، وكانت هذه المكتبة أهمّ المكتبات على الإطلاق بالنّظر لما كانت تحتوي عليه من كتُبٍ قيِّمة منفردة، فقد جمع لها هذا الوزير الكُتبَ من مختلف الجهات والأماكن: من العراق، وفارس، والهند، والصّين، والرّوم على ما ذكر محمّد كردعليّ.

(خطط الشّام: ج 6، ص 185، أخرجه الشّيخ أغا بزرك)

 

وقد جاء في (المنتظم) لابن الجوزيّ: أنّ محتويات هذه المكتبة لم تقلّ عن عشرة آلاف مجلّد، وكان فيها مائة مصحف بخطوط ابن مقلة (يُضرب بحُسن خطّه المثل. توفّي عام 328 للهجرة)، وقد ضمّت نوادر الكتب وأعلاقها [جمع عِلق، وهو النّفيس]، ومن ذلك نسخة من ديوان عديّ بن زيد، إلى مئات من الكتب الّتي انفردت بها هذه المكتبة السّابوريّة الّتي قد تُسمّى (بدار العلم) أيضاً.

 

 

وكانت هذه الدّار مَوْئلاً للعلماء والباحثين، يتردّدون إليها للدّرس والمناظرة والمباحثة، ومن أشهر روّادها كان الشّاعر الفيلسوف أبو العلاء المعرّي، فقد طالما ذكرها وذكر بعض القائمين على أمرها، وآثَر الإقامة بها يوم كان ببغداد.

(رسائل أبي العلاء المعري: ص 34، أخرجه كوركيس عواد)

 

وكان جماعة من العلماء يهدون مؤلّفاتهم لهذه الخزانة، وكان أكثرها بخطوط المؤلّفين أنفسهم، قال ياقوت الحمويّ: «وبها خزانة الكتب الّتي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدّولة بن عضد الدّولة، ولم يكن في الدّنيا أحسن كتباً منها، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة وأُصولهم المحرّرة».

(معجم البلدان: ج 2، ص 342)

 

وكان يشرف على هذه المكتبة ويتعهّدها عددٌ من كبار الرّجال وأئمّة العصر، وقد أورد التّاريخ اسم الشّريف المرتضى ضمنَ المعنيّين بهذه المكتبة، وقد أكثر المؤرِّخون من ذِكر هذه المكتبة، وما تحتوي عليه من نفائس المخطوطات، الّتي مثّلت أكبر مجموعة من مختلف الثّقافات، وقد أمر طغرل بك بإحراقها (حياة الشّيخ الطّوسيّ: ص 5)، فضاعت بذلك ثروة لا تعوَّض من العالم الإسلاميّ، والعالم العربيّ، والعالم الشّيعيّ خاصة، فكان لا بدّ، إذاً، من أن تتّجه الفكرة بعد انتقال الشّيخ الطّوسيّ إلى النّجف واتّخاذها مركزاً علميّاً، إلى التّعويض عن تلك الخسارة الجسيمة الّتي سبّبها إحراق المكتبة السّابوريّة، فكان هذا مبدأ انتعاش المكتبة المعروفة باسم (المكتبة العلويّة)، أو (المكتبة الحيدريّة)، أو (مكتبة الصّحن الشّريف) في النّجف، وهي المكتبة الّتي قيل إنّ تاريخ تأسيسها يرجع إلى القرن الثالث، أو ما بعده على الظّنّ القريب.

وبانتقال الشّيخ الطّوسيّ إلى النّجف الأشرف، انتقل النّتاجُ الفكريّ من جميع المدن الإسلاميّة الشّيعيّة لغرض التَّلْمذة على منبر النّجف، وهاجر الجمعُ الغفير من سائر الأقطار الشّيعيّة، «بالأدب ومواعين الأدب»، على حدّ تعبير الشّيخ عليّ الشّرقيّ، فأوجدوا في النّجف حركةً فكريّةً تمتاز عن الحركة الفكريّة في أُمّهات المدن العراقيّة، وكانت المكتبات، وما بدأت تجمع من الكُتب النّادرة، من أعظم مظاهر الثّقافة ومميّزات النّجف، حتّى نَدَر أنّ يكون هنالك عالم دينيّ من دون أنّ تكون له مكتبة خاصّة، تحتوي على نوادر الكتب الخطّيّة الفريدة، قليلها وكثيرها.

 

حركة الكُتُب والمخطوطات في النّجف

يقول الباحث في التّاريخ الإسلاميّ الدّكتور صالح أحمد العلي: «..بدأت العناية الشّعبيّة والرّسميّة في حفظ التّراث ومَنْعِه من التّسرّب، وقامت محاولات مُتعدّدة لجمع المخطوطات وصيانتها في مكتبات عامّة موحدّة يُتاح للرّاغبين فيها القراءة والبحث، وأظهرُ تلك المحاولات هي التّي قام بها نفرٌ من (الغيورين) والعلماء في النّجف والبصرة لهذا الغرض».

(المستدرك على الكشّاف، عبدالله الجبوري، ص 12)

ولقد بلغ من شأن الكتاب وحتّى الكتاب العاديّ، أنّ يتقبّله تاجر الأقمشة والبقّال، وغيرهما، رهينةً عن مبلغ ربّما تجاوز ثمنُه أضعافاً مضاعفة، وكثيرون أولئك الّذين رهنوا مكتباتهم كلّها أو بعضها في الأجيال الماضية للخروج من ضائقةٍ ماليّةٍ كبرى. وانحصرت الثّروة الكبيرة - إن جاز التّعبير - عند هذه الطّبقة من أهل العلم والبحث، فراجت تجارتُها، وراح يطوف تجّار الكتب في أغلب الأقطار الإسلاميّة كالهند، وإيران، يجمعون الكتب النّادرة الفريدة وغير الفريدة من المخطوطات القديمة، فيأتون بها إلى النّجف ويزفّون البشارة إلى هواة الكتب، والعلماء، والأُدباء، بما احتوى عليه تَطوافهم من نفائس الكتب ونوادرها، قبل وصول الصّناديق، أو قبل فَتْحِها، فيستعدّ الشّرّاؤون للشّراء، قبل وصول البضاعة بأيّام. ومن الّذين عُرفوا بمثل هذه التّجارة في الحقبة الأخيرة كان آل الدّشتيّ، وآل زاهد، وآل العامليّ، وآل الشّيخ صادق الكتبيّ.

وقد التزم الوراثُ، حين يموت المُورِّثُ من أصحاب الكتب والخزائن، بالمحافظة على المخلّفات من هذه الكتب، ورعايتها، فلا يفرِّطون فيها إذا كان الوارثون من أهل العلم والمعرفة، ما لم تكن هنالك حالة اضطراريّة تُرغمهم على اقتسام هذه الكتب، أو بيعها. فإذا ما اضطرّوا لبيع كتبهم نزلوا بها إلى سوق (المزاد)، وهي سوق خاصّة بالكتب، تُقام كلّ خميس وجمعة من كلّ أُسبوع، وهما اليومان اللّذان تتوقّف فيهما الدّراسة في النّجف، فينتهز باعةُ الكتب هذه الفرصة، وينزلون بالكتب الّتي يُعهَد إليهم ببيعها إلى السّوق، وتبدأ المزايدة من قبل الأساتذة وشيوخ العلم، والهواة، والطّلّاب، ولا تزال هذه السّوق قائمةً حتّى اليوم.

 

خبراء الكُتُب

عرفت النّجف في عصرها الأخير جماعةً من العلماء عدّوا حُججاً في معرفة الكتب النّادرة من المخطوطات وقيمتِها، وقد كسب هؤلاء من الشّهرة ما استدعى أنّ يذكرهم التّاريخُ المعاصر كخبراء بالكتب وبمؤلّفيها، منهم الشّيخ عليّ كاشف الغطاء، والشّيخ محمّد السّماويّ، والسّيّد جعفر بحر العلوم، والشّيخ عبد الحسين الحلّيّ، والشّيخ أغا بزرك، والشّيخ محمّد رضا فرج الله.

ففي يوم (المزاد) تتّجه الأنظار كلّها إلى الخبراء الّذين يعرفون قيمة الكتب النّادرة والمخطوطات، وخطّاطيها، فينافسونهم في شراء الكتب الّتي يحاول هؤلاء الخبراء شراءها، لذلك كثيراً ما اضطرّ هؤلاء الخبراء للاستعانة بالبعض لشراء الكتب الّتي يعيّنونها لهم، وهم يجلسون عن كثبٍ منهم خوفاً من منافسة الجَهَلة، التّي قد تسبّب ارتفاعَ ثمن الكتاب أكثر من ثمنه المُتعارف.

يقول جرجي زيدان: «وفي النّجف عادةٌ قديمة لا توجد في سواها من بلاد العراق، وهي أنّه في كلّ نهار خميس وجمعة، تقوم سوقٌ تُعرَض فيها الكتب، وتُباع في المزايدة، فمنها ما يُباع بثمنٍ بخسٍ وهو ثمين، ومنها ما يُباع بثمنٍ غالٍ وهو لا يساوي فلساً، وما ذلك إلّا من جهل البعض ودراية البعض الآخر وذكائهم في مشترى المصنّفات».

(تأريخ آداب اللّغة العربيّة: ج 4، ص 129)

 

 

 وكثيراً ما تُعرَض في سوق (المزاد) هذا رُزَمٌ من أوراق وكُتب وكراريس مشدودٌ بعضُها إلى بعض، فينزّلها من (يدلّل) بالكتب وينادي عليها في ميدان البيع باسم (الصّفقة)، وينادي عليها بصوت عالٍ قائلاً: «إنَّها صفقةٌ لا تُباع إلّا جملةً واحدةً على كلّ عيبٍ شرعيّ»، وكثيراً ما يعثر المشترون في هذه (الصّفقات) على نفائس لا تثمَّن من المواثيق التّاريخيّة، والكتب المفقودة، والنّصوص الضّائعة.

ولم يكن الانتقال في العصور السّابقة من بلدٍ إلى آخر، خصوصاً إذا كانت المسافة شاسعة، بالأمر الهيِّن اليسير، لذلك فإنّ الكثير ممّن أنهى دراستَه، وراهقَ الاجتهاد، وأراد العودةَ إلى بلده، أنزلَ كتبَه إلى سوق المزاد، وباعها، أو أنّه أوقفها على طلّاب العلم والمعاهد، فصار الكتاب الّذي يدخل النّجف لا يخرج منها إلَّا نادراً وفي حالاتٍ استثنائيّة، فتوسّعت مكتباتُ النّجف وصارت المخطوطات النّادرة، سواء من المصاحف الفنّيّة، أو الكتب التّاريخيّة، أو الدّينيّة، والأدبيّة، والكراريس، في زيادةٍ مستمرّة جعلت مكتبات البيوت، والمكتبات العامّة، تزخر بها وتنمو يوماً بعد يوم.

قال جرجي زيدان مقارناً بين مكتبات بغداد والنّجف: «مكتبات بغداد هي أُمّ المكتبات، إلّا أنّ كُتب النّجف أقدمُ خطّاً وأندرُ وجوداً، وأتقن كتابةً، وموضوعاتها مختلفة».

(المصدر السّابق)

 

توقير الكتاب

 

 

يقول الشّيخ عليّ الشّرقيّ: «ومن النّوادر أنّ شيخاً من شيوخ الأدب يظهر أنّه كان رقيق الدِّين، عرض عليَّ شراء كُتُبٍ مخطوطة، كانت عليها شارةُ التّحبيس، فقلتُ له: كيف تبيع الوقفَ المحبّس؟ فقال: إنّي لا أرى الملكيّة في الكتاب، لأنّ المؤلّف يريد بثّ المعرفة وإشاعة أفكاره، وما ملكيّة الكتاب إلَّا استيعابه قراءةً فقط، وعليه فالكتاب لا يُمَلَّك، أمّا الثّمن المبذول فهو عوض عن قراءته فقط، ولمّا كانت القاعدة الفقهيّة القائلة (لا وقف إلّا في ملك)، فمن الغلط أن يقال هذا الكتاب وَقْف».

وقريبٌ من هذا الرّأي ما ذهب إليه جماعةٌ من ذوي الفضل إيثاراً وسبيلاً للمنفعة في كُتبهم لكلّ مَن يريد الاستفادة بقراءتها، قائلين: «إنّ غلّةَ الكتاب قراءته، وزكاةُ تلك الغلّة إعارتُه». ويعاكس هذا الرّأي مَن يوصدُ بابَ مكتبته في وجوه الطلّاب، شحّةً وضنّةً، وكثيرٌ أولئك الّذين يقبضون على الكُتب قبضةَ الشّحيح.

ويقول الشّرقيّ: «اتّفق لي وأنا صبيٌّ أنْ أَلِجَ، على ضَنينٍ بالكُتب، مكتبتَه الّتي صُفَّت فيها الكُتبُ النّفيسةُ وراء أبواب الزّجاج، وكانت المكتبة مفروشةً بالطّنافس، والسّجّاد الإيرانيّ الممتاز، فوجدتُ صاحب المكتبة جالساً على طرّاحة في زاوية تلك المكتبة، وهو كفيفُ البصر، وإلى جانبه قارئٌ يتلو عليه ما يريد تلاوتَه، وبينا أنا أُطارحه الحديث رفعتُ يدي، فاصطدمتْ بباب الخزانة، وعندما سمع نقرها اضطرب انزعاجاً، واستفهم بارتباكٍ، ولم تهدأ روعتُه حتّى عرف أنّها الصّدفة ولم يحدث شيء..!!».

ويتابع الشّرقيّ حديثه، فيقول: «ويدور الزّمن، ويموت ذلك الجَمّاعةُ للكُتب، ويهمّ وارثُه بحمل ما في المكتبة إلى معرض الكتب للبيع، فيستعين بي وبرفيقٍ لي لنعرِّفه بالمهمّ من تلك النّفائس، وتثمينها. وعند دخولي المكتبة دُهشتُ حين وجدتها شعثاء، موحشة، قد فارقتْ رَونقَها، وكان التّرابُ فراشَها والغبرةُ تعلو خزاناتها، ومُدَّ لنا حصيرٌ جلسنا فوقَه، وكان رفيقي لا يعلم بالّذي يُخالجني، وبينا نحن منهمكون باستعراض بعض الكتب المبثوثة في تلك المزبلة لا المكتبة، إذا برجَّةٍ تهزّ الغرفة، فحوَّلتُ بصري ووجدتُ أحدَ الوَرَثة قد وضع سلّماً خشبيّاً وصعد عليه واضعاً يده وراء النّضدة من الكتب، يدفعها لتطيحَ على الأرض، لأنّه تَعِبَ من تناولها كتاباً كتاباً، فتذكّرت ذلك الكفيفَ وفَزَّتَه من نقرة الباب، وكيف أربكَتْهُ، وقلت: مَن لي به ليسمعَ ويشاهدَ ما فعلَه هذا العابثُ البَطِر».

(الأحلام: ص 61 - 62)

لذلك فليس اليوم أثر، ولا بعضُ أثرٍ للمكتبات الخاصّة، فكم بالأَولى أن تزول من الوجود، بعد زمنٍ قصيرٍ، حين يكون الوارثون لها مضطرّين لبيعها، أو مهمِلين لرعايتها، وعلى هذا فما كان من المكتبات في القرون الأخيرة كالرّابع عشر والثّالث عشر مثلاً، هو غير ما كان في القرن الثّاني عشر والحادي عشر، وما قبل ذلك.

 

وما كان يملكه آل (الملالي)، مثلاً، من نفائس المخطوطات في أوائل القرن الثالث عشر، هو اليوم من ممتلكات طوائف كثيرة من أهل العلم في النّجف، وهو يؤلّفُ جزءاً من مكتباتٍ لم يكن لها أيُّ وجودٍ قبلَ هذا القرن، وهذا ما جعلَ من الصّعب على المؤرِّخين أن يعرضوا لتأريخ هذا العدد الهائل من المكتبات الّتي كانت تنشأ في جيلٍ وتزول في جيلٍ آخَر، لقلّة المراجع الّتي يعوِّل عليها المؤرّخ.

 

 

السّيّد المرعشيّ يُسجَن بسَبب كتاب

لآية الله السّيّد شهاب الدّين المرعشيّ النّجفيّ قدّس سرّه خدمات جليلة في حماية التّراث العلميّ الإسلاميّ وحِفْظِه، فقد نذر حياتَه منذ شبابه لحيازة نفائس الكُتب والمخطوطات وصيانتها من التَّلف والضّياع، وكابدَ في سبيل ذلك أنواع المِحَن والصّعوبات، حتّى انتهى الأمرُ إلى تشييده إحدى أهمّ المكتبات العالميّة في مدينة قمّ المقدّسة، وهي المعروفة اليوم باسم (مكتبة السّيّد المرعشيّ).

أخبر السّيّد المرعشيّ قدّس سرّه بعضَ طلّابه عن حادثةٍ جرت معه أيّام شبابه، سنة 1921 ميلاديّة، عند دراسته في النّجف الأشرف، فقال:

«خرجتُ، ذات يوم، من مدرسة القوّام الواقعة في محلّة المشراق، متوجّهاً إلى السّوق المتّصلة بالباب العلويّ الشّريف، فرأيتُ امرأةً تبيع بيض الدّجاج، دنوتُ منها لشراء البيض، وإذا بكتابٍ بين أغراضها بانَ جزءٌ منه، فتصفّحتُه، فإذا هو كتاب: (رياض الصّالحين) للعلّامة عبد الله أفنديّ، الّذي لا يوجَد عنه أيّ نسخةٍ أخرى. فسألتها: بِكَم تبيعينه؟ قالت: بخمس روبيّات، فقلت لها: اشتريتُه منك بمائة روبيّة، فوافقت.

في هذه الأثناء حضر رجلٌ دلاّلٌ للكتب اسمُه (فلان)، يشتري الكُتب القديمة لصالح مكتبة لندن، بأسعارٍ زهيدة، ويسلّمُها للحاكم الإنكليزيّ في النّجف الأشرف، فتناول الكتاب من يدي عنوةً، وقال للمرأة: أنا أشتريه منكِ بأكثر ممّا دفع هذا، وأخذ يزايد في سعره. عندها، حوّلتُ وجهي إلى جهة الحرم الشّريف، وخاطبتُ أمير المؤمنين عليه السّلام قائلاً: سيّدي! أنت لا تَرضى أن يخرج هذا الكتاب من يدي، وأنا أريد أن أخدمَكم به.. بعد قليل، قالت المرأة للدّلّال: لن أبيعَك الكتاب، فإنّه لهذا السّيّد.

جمعتُ المبلغ من هنا وهناك وأعطيتُه للمرأة، ومضيتُ به. فما مرّت ساعةٌ إلّا والدّلّال مع الشّرطة قد هجموا على المدرسة واعتقلوني وساقوني إلى الحاكم الإنكليزيّ، فأخذ يتكلّم بلغته مزمجراً، متّهماً إيّاي بالسّرقة، ثمّ أَمر بسجني، فسُجنت تلك اللّيلة، وأنا أتوسّل إلى الله أن يحفظَ ذلك الكتاب الّذي أخفيتُه. وفي اليوم الثّاني، بعث المرجع الأعلى (شيخ الشّريعة) جماعةً إلى الحاكم، وانتهت المباحثات بإخراجي من السّجن، شرطَ تسليم الكتاب بعد شهر إلى الحاكم الإنكليزيّ.

فطلبتُ من الطَّلَبة نَسْخَ الكتاب، وقبل انتهاء المدّة، تمَّ نَسْخُه، فحملتُ الكتاب إلى شيخ الشّريعة، وقلت له: أنت مرجع المسلمين الحاليّ، وهذا الكتاب لا يوجد منه سوى ما نسخناه، ويريد الحاكم الإنكليزيّ أخْذَ الكتاب الأصليّ، فلمّا رأى الكتاب، قام ثمّ جلس، ثمّ قام وجلس، وقال: هذا هو الكتاب؟ قلت نعم. فكبّر اللهَ تعالى وهلّل، وأخذه منّي حتّى يحينَ انقضاء المدّة، لكنّ الحاكم الإنكليزيّ قُتل بهجومٍ شعبيٍّ قبل موعد تسليم الكتاب، فبقي الكتاب بحوزة شيخ الشّريعة، وبعد وفاته انتقلَ إلى وَرثته».

أمّا النّسخة الّتي كانت بحوزة السّيّد المرعشيّ النّجفيّ، فقد استُنسخ عنها 12 نسخة، إحداها كانت عند السّيّد عبد الحسين شرف الدّين، وأخرى عند السّيّد حسن الصّدر.

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريّات

دوريّات

منذ 0 ساعة

دوريّات

نفحات