المنهج الوحدوي للإمام كاشف الغطاء

المنهج الوحدوي للإمام كاشف الغطاء

04/05/2011

كلمة التّوحيد، وتوحيد الكلمة

الشيخ محمّد جاسم الساعدي

مقاربة الباحث الإسلامي الشيخ محمّد جاسم الساعدي، لمنهج الإمام الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء ( ت 1373 هجريّة) حول الوحدة والتقريب بين المذاهب الإسلاميّة، تكشف موقع هذه المَنهجيّة التأسيسيّة للمساعي الرّاهنة لتحقيق وحدة المُسلمين في مواجهة أخطار الفتنة والتّنازع، والغزو الإستعماري.
                                                                                                                                                       
لا يخفى دور رجال الإصلاح وروّاده في نشر الفكر الوحدوي والإصلاحي في الأوساط الفكريّة والثقافيّة الإسلاميّة على أكثر من مستوى. ومن أبرز هؤلاء الكبار الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء. فهو تميّز بنبوغه ونشاطه العلمي، وكان يتمتّع بالذكاء الحادّ والألمعيّة الوقّادة، وحصل على قسطٍ وافرٍ من العلم والفضل، وكرّس ذلك في خدمة الإسلام والمسلمين، ولا سيّما في ميدان الوحدة والتقريب.
في دعوته إلى الوحدة يقول الشيخ كاشف الغطاء: «كلّ ذي حسٍّ وشعورٍ يعلم أنّ المسلمين اليوم بأشدّ الحاجة إلى الإتفاق والتآلف وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف، وأن ينضمّ بعضهم إلى بعض كالبنيان المرصوص، ولا يدَعوا مجالاً لشيء ممّا يثير الشحناء والبغضاء والتّقاطع والعداء».
وقد بارك وأثنى على كلّ خطوة تدعو إلى الإتحاد والتّقريب. فمِمّا قاله في رسالةٍ له إلى دار التّقريب بالقاهرة، وجّهها إلى فضيلة العالم الجليل الشيخ محمود شلتوت: «لقد اطّلعت على كلمةٍ لكم في بعض الصحف كان فيها لله رضىً وللأُمّة صلاح، فحمدناه تعالى أنّه جعل في هذه الأُمّة وفي هذا العصر مَن يجمع شمل الأُمّة، ويوحّد الكلمة ويفهم حقيقة الدّين، ويزيد الإسلام لأهله بركةً وسلاماً. وما برحنا منذ خمسين عاماً نسعى جهدنا في التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، وندعو إلى وحدة أهل التوحيد».
وعلى هذا النحو، طلب الشيخ من العلماء والمفكّرين والمثقّفين أن يبحثوا بحثاً موضوعيّاً بعيداً عن التراكمات وردود الفعل النفسيّة التي خلقتها الفُرقة المذهبيّة. وكذلك طلب منهم أن يعملوا بكلَّ جدٍّ وإخلاصٍ على تهدئة الجوانب العاطفيّة المُتأجَّجة في الوسط الشعبي، وأن يوضّحوا للأُمّة أنّ الخلافات ما هي إلّا اجتهاداتٌ اقتنع بها كلُّ مجتهدٍ من خلال اجتهاده، ذلك أنّ المجتهد قد يخطئ وقد يُصيب.
وقد التقى الإمام كاشف الغطاء علماء مصر والشام والمغرب العربي وإيران والهند وباكستان والحجاز والخليج، فقام بإقرار العلاقات الوديّة والأخويّة بين الجميع، وخفّف من النزاعات، وعرّف الأُمّة بحقيقة الإسلام بعيداً عن المنحى الطائفي والتعصُّب العِرقي أو المذهبي، وبذلك أوجد المناخ الإئتلافي بين مختلف الطبقات الإسلاميّة.
في رسالةٍ له إلى لشيخ محمّد بشير الإبراهيمي (باحث إسلامي من العراق) يقول: «ولا سعادة لهم [أي للمسلمين] إلّا بالاتّفاق وتوحيد الكلمة، ومن كلماتي المؤثّرة ما قلته في مؤتمر فلسطين قبل أكثر من عشرين سنة: إنّ الإسلام بُنِيَ على دعامتين: كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة. ولو أنّ المسلمين تدبّروا آيةً واحدة من كتاب الله العظيم، وهي قوله تعالى ﴿قل هو القادر على أن يبعث عليكُم عذاباً من فوقِكُم أو من تحت أرجُلِكُم أو يَلبِسَكُم شِيَعاً ويُذيقَ بعضَكُم بأس بعضٍ انظر كيف نُصرَّف الآيات لعلَّهُم يفقهون﴾ الأنعام:65، لو تدبّروها لَكَفتهم حافِزاً على جمع الكلمة وعدم التأثُّر بالخلافات المذهبيّة والنّعرات الطائفيّة. أتُرى –يا أخي– يأتي الله بيوم للمُسلمين يجمع به كلمتهم ويُحقّق وحدتهم، فيكونوا شيعةً واحدة أو سُنّةً واحدة، أو السُنّة والشيعة متّفقة؟! إذ ذاك ما أتمنّاه وما هو على الله بعزيز».
كما يقول -أيضاً- في جملة كلام له في المؤتمر العالمي الإسلامي المنعقد في القُدس الشريفة سنة 1931م: «إنّ من الغرائز التي استحكمت في نفوسنا وتوارثناها في قرونٍ بعيدة -وهي التي قضت علينا ولم نستطع إلى اليوم أن نقضي عليها- غريزة الشقاق والخلاف بيننا، خلافاً لِما أمرنا الله سبحانه به من الوحدة والألفة، وما عقده جلّ شأنه في أعناقنا من الأُخوّة والولاء: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض..﴾ التوبة:71، ومعلوم أنّ اختلاف الآراء وحريّة الفكر ناموسٌ من نواميس البشر، وفِطرةٌ فطر الله الناس عليها: ﴿سُنّة الله في الَّذين خلوا من قبل ولن تَجِد لِسُنّة الله تبديلاً﴾ الأحزاب:62، ولكنّ الرزيّة وقاصمة الظَّهر جعْلُ الإختلاف في الرأي سبباً للعداوة وآلة لقطع وشائج الأُخوّة وأواصر القربى، ولا ريب في أنّنا مُسلِمون موحّدون قبل كوننا سنيّين أو شيعيّين أو زيديّين أو شافعيّين، وهذه الطرائق المتأخّرة حدوثاً وزماناً ورتبةً لا تُوجب قطع رابطة الإسلام المُحكَمة فيما بيننا:
ما ذا التّقاطع في الإسلام بينكمُ           وأنتُم – يا عباد الله – إخوانُ.
وقد كانت الصّحابة –رضوان الله عليهم- لا سيّما بعد رحلة صاحب الرسالة، يختلِفون في كثير من الفروع، ولكلٍّ رأيه. وقد شاعت اختلافاتهم في مسائل مهمّة، كالمسح أو الغسل في الوضوء، وفي العول والتّعصيب في الميراث، وفي المتعة والمهر في النكاح، وهكذا إلى كثيرٍ من المسائل، ولكن ما أوجب شيء من ذلك صدعاً في وحدتهم ولا تفريقاً في كلِمتهم، بل كانوا يُصلُّون بصلاةٍ واحدةٍ، ويقتدي بعضهم ببعضٍ، ولا يطعن بعضهم في إيمان بعضٍ، ولذلك ملكوا في الإسلام شرق الأرض وغربها في نصفِ قرنٍ. فمن الواجب المُحتَّم على كُلَّ مسلم –لا سيّما القادة والعلماء في مثل هذه الأوقات العصيبة- بذل الجهود إلى ضمّ المسلمين بعضهم إلى بعضٍ، ونشر الإلفة  فيما بينهم، كما أراد الله سبحانه ورسوله، وأمر به كتابه.
وليس معنى تلك الأُخوّة أن تدعو السُّني أن يكون شيعيّاً أو الشيعي ليكون سُنيّاً، فإنّ هذا منافٍ للحكمة، ومصادم لسُنّة الله في خلقه، بل لكلٍّ رأيه وما يعتقده، ولكن معنى الدّعوة إلى الوحدة أن لا نجعل تلك الخلافات أداةً للتفرِقة، ومِعولاً للتمزيق، وسبباً للتشاحن والتطاحن والعداوة والبغضاء بين الأخوين ....
فيا أيّها الأعلام، ويا زُعماء الإسلام، الله الله في هذه القضيّة! فإنّها قضيّة جوهريّة، فليبذل كلّ واحدٍ منّا جهده في نشر هذه الروح الطيّبة، وبثَّ تلك التعاليم المُقدَّسة، عسى أن يكوِّن الله سبحانه من المسلمين -بفضل مساعيكم-  أُمّةً تهُزُّ العالم ثانياً كما هزّته أوّلاً، بل أقول ثانياً ولا أخشى ان أكون مغالياً، تُصلح العالم عوداً كما أصلحته بدءاً.

الوحدة وفضيلة الإختلاف

وقد بيّن الشيخ أنّ الإختلاف طبيعةٌ من طبائع هذا الكون، وأنّ اختلاف الآراء من أدقّ نواميسه وأقوى قاعدة لحفظ نظام العالم، وأنّ الوحدة التي ندب إليها القرآن الكريم ليست هي وحدة الآراء والمذاهب، فهذا أمر مستحيل بحسب الطّبيعة البشريّة، ومعطِّلٌ لأكمل المواهب، وأيّ موهبةٍ أشرف من موهبة حريّة الآراء وعدم الحجر على العقول وإخماد جذوة الذكاء والفهم والتنقيب؟! وإنّما المُراد بالوحدة المندوب إليها الوحدة الأخلاقيّة، والوحدة الإيمانيّة، وحدة الإخاء والمودّة؛ وذلك بأن لا يكون اختلاف الآراء سبباً للتباعد والتباغض والجفاء والعداء، بل يأخذ الأطراف بالمثل الأعلى والقُدوة الحسنة من خيار الصّحابة في صدر الإسلام، فقد كانوا -والحال على كثرة ما بينهم من الاختلاف في القضايا الفرعيّة والمسائل العلميّة- على أكثر ما يرام من الإخاء والصفاء، كأنّ الإسلام جسد وهم أعضاء ذلك الجسد، تجمعهم روح واحدة، روح المبدأ المُقدّس والتضحية بكلّ عزيز في سبيله.
وذكر أيضاً أَنّ المسلمين لا يزالون يتعلّقون بحبال الآمال ويكتفون بالأقوال عن الأعمال، ويدورون على دوائر الظواهر والمظاهر من دون الحقائق والجواهر، يدورون على القشور، ولا يَصِلُون إلى اللُّب! على العكس ممّا كان عليه أسلافهم أهل الجدّ والنشاط، وأهل الصدق في العمل قبل القول، وفي العزائم قبل الحديث. تلك السّجايا الجبّارة التي أخذها عنهم الأغيار فسبقوا مُسلمي اليوم وكان السّبق لهم، وكانت للمسلمين الدّائرة عليهم، فأصبحت على المسلمين! ويستحيل على المسلمين إذا بقوا على هذه الحال، أن تقوم لهم قائمة أو تجتمع لهم كلمة، أو تثبت لهم في المجتمع البشري دعامة، ولو ملأوا الصحف والطوامير وشحنوا أرجاء الارض وآفاق السماء بألفاظ الاتّحاد والوحدة وكلِّ ما يُشتقّ منها ويُرادِفها، بل ولو صاغوا سبائك الخطب منها بأساليب البلاغة، ونظّموا فيها عقود الجواهر والإبداع  والبراعة. كلّ ذلك لا يُجدي إذا لم يندفعوا نحو العمل الجدّي والحركة الجوهريّة، ويُحافِظوا على أخلاقهم وملكاتهم، ويكبحوا جماح أهوائهم ونفوسهم بإرسال العقل والرويّة والحنكة والحكمة، فيجد كلّ مسلم أنّ مصلحة أخيه المسلم هي مصلحة نفسه، ويسعى لها كما يسعى لمصالح ذاته، وذلك حيث ينزع الغِلّ من صدره والحقد من قلبه، وينظر كلّ من المسلمين إلى الآخر -مهما كان- نظرَ الإخاء لا نظر العداء، وبعين الرَّضا لا بعين السّخط، وبلحاظ الرّحمة لا الغضب والنّقمة.
كما ذكر أنّ الإتحاد سجايا وصفات، وأعمال ومَلَكات، وأخلاق فاضلة، وحقائق راهنة، ونفوس متضامنة، وسجايا شريفة، وعواطف كريمة، والإتّحادُ هو أن يتبادل المسلمون المنافع ويشتركوا في الفوائد، ويأخذوا بموازين القسط وقوانين العدل. وليس معنى الوحدة في الأُمّة أن يهضم أحد الفريقين حقوق الآخر فيصمت، ولا من العدل أن يُقال للمهضوم إذا طالب بحقٍّ أو دعا الى عدلٍ: إنّك مُفرَّقٌ أو مُشاغب، بل ينظر الآخرون إلى طلبه، فإن كان حقّاً نصروه، وإن كان حَيْفاً أرشدوه وأقنعوه، وإلّا جادلوه بالتي هي أحسن مُجادلة الحميم لحميمه والشّقيق لشقيقه، لا بالشتائم والسباب والمنابزة بالألقاب!
ولطالما دعا الشيخ كاشف الغطاء رضوان الله عليه إلى عقد المؤتمرات لتنمية فكرة الاتّحاد الجدّي، وأن يحذر المسلمون من حيتان الغرب وأفاعي الإستعمار، كما سمّاها، فإنّهم من أخطر عوامل بذر التفرقة والشقاق بين أبناء الأُمّة الإسلاميّة.

تداعى عليكم الأمم

يوشِك أنْ تداعى عليكم الأُمم من كلِّ أُفق، كما تداعى الأكََََََلَةُ على قَصعتها، قال قلنا: يا رسول الله، أَمِن قِلَّةٍ بنا يومئذٍ؟ قال: أنتم يومئذٍ كثير، ولكن تكونون غُُثاءً كغُثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوِّكم، ويجعل في قلوبكم الوَهَن، قال قلنا: وما الوهن؟ قال: حبُّ الحياة وكراهيةُ الموت.


 

اخبار مرتبطة

  العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

04/05/2011

  خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

04/05/2011

نفحات