الملف

الملف

منذ 3 أيام

8 شوّال: 92 عاماً على جريمة الوهّابيّين في البقيع


 

اقرأ في الملف

استهلال

من زيارة الأئمّة الأربعة عليهم السّلام في البقيع

جنّة البقيع

مدخل

بقيع الغرقد في كتب (الرحلات)

إعداد: «شعائر»

هكذا هدم الوهّابيّون القبور الطاهرة

إعداد: أسرة التحرير

الوهّابيّة: استراتيجيّة الغرب في محو آثار النبوّة

شمس الدين العجلانيّ

في نقض فتاوى تحريم زيارة القبور

الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء

 

استهلال
زيارة الأئمة الأربعة عليهم السّلام بالبقيع
السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةَ الهُدى، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ التَّقْوى، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَيُّها الحُجَجُ عَلى أَهْلِ الدُّنْيا. السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَيُّها القُوَّامُ فِي البَرِيَّةِ بِالقِسْطِ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الصَّفْوَةِ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ النَّجْوى، أَشْهَدُ أَنَّكُمْ قَدْ بَلَّغْتُمْ وَنَصَحْتُمْ وَصَبَرْتُمْ فِي ذاتِ الله وَكُذِّبْتُمْ وَأُسِيَء إِلَيْكُمْ فَغَفَرْتُمْ، وَأَشْهَدُ أَنَّكُمْ الأَئِمَّةِ الرَّاشِدُونَ المُهْتَدُونَ وَأَنَّ طاعَتَكُمْ مُفْتَرَضَةٌ ".." طِبْتُمْ وَطابَ مَنْبَتُكُمْ، مَنَّ بِكُمْ عَلَيْنا دَيّانُ الدِّينِ فَجَعَلَكُمْ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ. وَجَعَلَ صَلاتَنا عَلَيْكُمْ رَحْمَةً لَنا وَكُفَّارَةً لِذُنُوبِنا وَاخْتارَكُمْ الله لَنا وَطَيَّبَ خلقنا بِما مَنَّ عَلَيْنا مِنْ وِلايَتِكُمْ..
(المزار، الشهيد الأول)

جنّةُ البقيع

  البقيع: هي بقعة طاهرة مقابل المسجد النبويّ الشريف في المدينة المُنوّرة، تضمّ أضرحة أربعة من أئمّة المسلمين من أهل بيت رسول الله، صلّى الله عليه وآله، وهم:

1 ـ الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

2 ـ الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام.

3 ـ الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام.

4 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام.



كما يضمّ البقيع أيضاً: بيت الأحزان، وهي الحجرة التي بناها أمير المؤمنين، عليه السلام، للصدّيقة الكبرى بعد وفاة رسول الله، صلّى الله عليه وآله،، وكانت تأوي إليها عندما تأذّى طغاة المدينة والمُرتدّون على الأعقاب من بكائها على أبيها صلوات الله عليها.

ويضمّ البقيع أيضاً قبر والدة أمير المؤمنين السيّدة فاطمة بنت أسد، وقبر العبّاس بن عبد المطّلب عم النبيّ، صلّى الله عليه وآله، وقبر إبراهيم ابن رسول الله، صلّى الله عليه وآله، وقبور عددٍ من عمّات النبيّ، صلّى الله عليه وآله، وزوجاته، وبعض أصحابه – وفي مقدّمهم الصحابيّ الجليل عثمان بن مظعون - وعددٍ من شهداء صدر الإسلام، والعديد من الأولياء وكبار شخصيّات المسلمين، وفي بعض التواريخ أنّ عشرة آلاف صحابيّ دُفنوا فيه.



وقد كان البقيع منذ عهد رسول الله، صلّى الله عليه وآله، مزاراً للمؤمنين إلى يومنا هذا، ولكنّ الوهّابيّين السعوديّين أقدموا في مناسبتَين على هدم تلك الأضرحة والقباب الطاهرة، ومنعوا المسلمين من تأدية شعائرهم الدينيّة وممارسة معتقداتهم الشرعيّة.





تبلغ مساحة البقيع الحاليّة مائة وثمانين ألف متر مربّع. ويُعدّ البقيع من أقرب الأماكن التاريخيّة إلى مبنى المسجد النبويّ حالياً.




والبقيع في اللّغة: المكان المتّسع، أو موضعٌ من الأرض فيه أَرومُ شجرٍ من ضروب شتّى، وبه سُمّي بقيع الغَرقد بالمدينة المنوّرة، لأنّ هذا النوع من الشجر كان كثيراً فيه ثمّ قُطع. وقيل: لا يُسمّى البقيع بقيعاً إلّا وفيه شجرٌ أو أصولها.

وروى المسلمون جميعاً عن رسول الله أحاديث عدّة في فضل البقيع، وأنّه صلّى الله عليه وآله، كان يزور البقيع ويدعو لمَن دُفن فيه.

* ففي (كامل الزيارات) لابن قولويه عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «كانَ رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، يَخْرُجُ في مَلَإٍ مِنَ النّاسِ مِنْ أَصْحابِهِ كُلَّ عَشِيَّةِ خَميسٍ إِلى بَقيعِ المَدَنِيّينَ فَيَقولُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيارِ - ثلاثاً - رَحِمَكُمُ اللهُ - ثلاثا - ثمّ يلتفت إلى أصحابه فيقول: هَؤُلاءِ خَيْرٌ مِنْكُمْ.

فيقولون: يا رسول اللهَ، وَلِمَ؟ آمنوا وآمنّا وجاهدوا وجاهدنا.

فيقول: إِنَّ هَؤُلاءِ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسوا إيمانَهُمْ بِظُلْمٍ، وَمَضَوْا عَلَى ذَلِكَ، وَأَنا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ شَهيدٌ. وَأَنْتُمْ تَبْقَوْنَ بَعْدي وَلا أَدْري ما تُحْدِثونَ بَعْدي».

* وفي (صحيح مسلم) أنّ النبيّ، صلّى الله عليه وآله، كان يخرج من آخر اللّيل إلى البقيع، فيقول: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ دارَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ، وَأَتاكُمْ ما تُوعَدونَ غَداً مُؤَجَّلونَ، وَإِنّا إِنْ شاءَ اللهُ بِكُمْ لاحِقونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقيعِ الغَرْقَدِ».

 

 

بقيع الغرقد كما وصفه المؤرّخون والرحّالة العرب

§        إعداد: «شعائر»

البقيع مدافنُ أهل المدينة المُنوّرة. وقد يُقال له: بقيع الغرقَد. وأصلُ البقيع في اللّغة: الموضعُ الذي فيه أروم الشّجر من ضروبٍ شتّى، والغرقَد كبارُ العوسَج.
وقيل: كان البقيع مقبرةً قبل الإسلام، ووردَ ذكره في مرثيّة عمرو بن النعمان البياضيّ لقومه:

أَيْنَ الّذينَ عَهِدْتُهُمْ فـي غِبْـطَـةٍ    

بَيْنَ العَقيقِ إِلى بَقيعِ الغَــرْقَـِـد

إلّا أنّه بعد الإسلام خُصِّص لدفن موتى المسلمين فقط، وكان اليهود يدفنون موتاهم في مكانٍ آخر يُعرَف بـ (حشّ كوكب)، وهو بستان يقع جنوب شرقيّ البقيع.
هذا المقال، يُعرّف بأبرز الأعلام المدفونين في البقيع، مستشهداً بما ورد في كتابات الرحّالة والمؤرّخين المسلمين منذ القرن السابع وحتّى القرن الهجريّ الرابع عشر، وتحديداً حتّى قبيل جريمة هدم مقامات بقيع الغرقد بسنوات.

 

في بعض المصادر التاريخيّة أنّ البقيع كان بستاناً يحوي أشجاراً من العَوسج، وأوّل مَن دُفن فيه من المسلمين هو أسعد بن زرارة الأنصاريّ، وكان من الأنصار.

ثمّ دُفن بعده الصحابيّ الجليل عثمان بن مظعون، وهو أوّل مَن دُفن فيه من المسلمين المُهاجرين، وقد شارك رسول الله، صلّى الله عليه وآله، بنفسه في دفنه.

ثمّ دُفن إلى جانبه إبراهيم ابن الرّسول، صلّى الله عليه وآله، ولذلك رغب المسلمون فيه، وقطعوا الأشجار ليستخدموا المكان للدفن.

 

وَصْفُ محمّد بن أحمد بن جُبَير (ت: 614 للهجرة)

يقول ابن جُبَير في (رحلته): «...وبقيع الغرقد شرقيّ المدينة، تخرج إليه على بابٍ يُعرَف بـ (باب البقيع)، وأوّل ما تلقى عن يسارك عند خروجك، من الباب المذكور، مشهد صفيّة عمّة النبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، أمّ الزبير بن العَوّام، وأمام هذه التربة قبر مالك بن أَنَس الإمام المدنيّ، وعليه قبّة صغيرة مختصرة البناء.

وأمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وعليه قبّة بيضاء، وعلى اليمين منها قبر عقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر.

وبإزائهم روضة فيها أزواج النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، ويليها روضة [فاطمة بنت أسد]، والحسن بن عليّ، عليه السّلام، وهي قبّة مُرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور وعن يمين الخارج منه، وقبراهما مرتفعان عن الأرض، مُتّسعان مُغَشّيان بألواح مُلصقة أبدع إلصاق، مُرصّعة بصفائح الصّفر [أي النّحاس]، ومكوكبة بمساميره على أبدع صفة، وأجمل منظر. وعلى هذا الشّكل قبر إبراهيم ابن النبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم.

 

 

ويلي هذه القبّة.. بيت يُنسَب لفاطمة بنت الرسول، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، ويُعرَف ببيت الحزن، يقال: إنّه الذي أوَت إليه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى صلّى الله عليه [وآله] وسلّم...».

وَصْفُ محمّد بن أحمد المطريّ (ت: 741 للهجرة)

قال المطريّ في كتابه (التعريف بما آنستُ الهجرة): «... ومع الحسن، عليه السلام، ابنُ أخيه عليّ بن الحسين زين العابدين، وابنه الباقر، وابنه جعفر بن محمّد الصادق، عليهم السلام، وعليهم قبّة عالية البناء...

ثمّ قبر عقيل بن أبي طالب، ومعه في القبر ابن أخيه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعليهم قبّة.. ثمّ قبر إبراهيم ابن سيّدنا رسول الله، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وعليه قبّة فيها شبّاك من جهة القِبلة، وهو مدفون عند جنب عثمان بن مظعون، كما ورد في الصحيح أنّ رسول الله، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، حين مات إبراهيم، عليه السلام، أنّهم قالوا: أين نحفر له؟ قال: عِنْدَ فَرَطِنا عُثْمانَ.

وفي قبّة عقيل حظيرٌ مَبنيّ بالحجارة، يقال فيه قبور أزواج رسول الله، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، فيسلّم عليهنّ هناك...

ثمّ قبر إسماعيل بن جعفر الصادق في مشهد كبير مُبَيّض غربيّ قبّة [فاطمة بنت أسد] هو ركنُ سور المدينة من جهة القبلة والشرقيّ وبابه من داخل المدينة، بناه بعض ملوك مصر العُبيديّين [أي الفاطميّين]، ويقال إنّ هذه العَرَصَة التي فيها هذا المشهد وما حولها من جهة الشمال إلى الباب هي كانت دار زين العابدين عليّ بن الحسين، عليهم السلام، وبين باب الأوّل وباب المشهد بئر منسوبة إلى زين العابدين، وكذلك بجانب المشهد الغربيّ مسجد صغير مهجور يقال إنّه أيضاً مسجد زين العابدين...».

 

وَصْفُ عبد الله بن أبي بكر العيّاشي المالكيّ (ت: 1090 للهجرة)

وقال العياشيّ في (رحلته): «.. هناك مسجدٌ صغير قيل إنّ فيه موقف النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، حين خرج ليستغفر لأهل البقيع، وقيل هو زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي دُفن فيها. وفيها كثيرٌ من أهل البيت عليهم السّلام.

روى خالد بن عرفجة قال: كنت أدعو ليلةً إلى زاوية دار عقيل، فمرّ جعفر بن محمّد، فقال: أَعَنْ أَثَرٍ وَقَفْتَ هُنا؟ قلتُ: لا. قال: هَذا مَوْقفُ نَبِيِّ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِاللَّيْلِ، إِذا خَرَجَ يَسْتَغْفِرُ لِأَهْلِ البَقيعِ.

قال المراغيّ: وقد أخبرني غير واحد أنّ الدعاء هناك مستجاب.

فإذا مررتَ كذاك تحت سور المدينة يميناً إلى أن توازي قريباً من زاوية سور المدينة الذي فيه مشهد السيّد إسماعيل، فهناك على يسارك القبّة الكبيرة الماثلة في الهواء، وفيها مشهد [فاطمة بنت أسد] ومشهد الحسن بن عليّ، ومشهد زين العابدين، ومحمّد الباقر، وجعفر الصادق، وكثير من أهل البيت عليهم السّلام. وبين هذا المشهد وزاوية دار عقيل مشاهدُ مُتعدِّدة إلى جهة المشرق:

...منها: مشهد يقال إنّ فيه بنات [ربائب] النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، ما عدا فاطمة عليها السّلام، وهو قرب مشهد عقيل. ولا شكّ أنّ مَن مات من أهل بيت النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، في حياته كان يدفنه قرب عثمان بن مظعون؛ لما ورد في الأحاديث الصحيحة أنّ النبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، لمّا مات عثمان بن مظعون وضع عند رأسه حَجَراً، وقال: (أُعَلِّمُ بِهِ قَبْرَ أَخي، وَأَدْفُنُ إِلَيْهِ مَنْ ماتَ مِنْ أَهْلي)، وهذا المشهد قريبٌ من ذلك...

ومنها: مشهد يُنسب لحليمة السعديّة مرضعة النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، عليه قبّة لطيفة...

ومنها: مشهد على يسارك وأنت مارّ في زقاق البقيع يقال إنّه لأبي سعيد الخدريّ».

وَصْفُ محمّد يحيى الولاتيّ المالكيّ (ت: 1330 للهجرة)

قال الولاتيّ – المُتوفّى قبل أربعة عشر عاماً من جريمة الوهّابيّين في هدم البقيع - في (رحلته الحجازيّة): «مشينا ذات اليمين فدخلنا قبّة آل النبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، فسلّمنا عليهم، وزرنا فيها سبطَه الحسن، وزينَ العابدين بن الحسين، وابنَه محمّداً الباقر، وابنه جعفراً الصادق عليهم السّلام، وتوسّلنا إلى النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، بجاههم وبه إلى الله تعالى، ودعونا..

ثمّ خرجنا منها فزرنا قبّة بنات [ربائب] النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم؛ رُقَيّة وزينب وأمّ كلثوم، ووقفنا على باب القبّة، وسلّمنا عليهنّ، رضوان الله تعالى عليهنّ، وتوسلنا بهنّ إلى أبيهنّ نبيّ الله، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وبه إلى الله، عزّ وجلّ، في قضاء مآربنا كلّها، ودعونا..

ثمّ زرنا قبّة أزواج النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وقفنا ببابها وسلّمنا عليهنّ كلّهن.. وتوسّلنا بهنّ.

ثمّ دخلنا قبّة سيّدنا إبراهيم ابن نبيّنا، عليه الصّلاة والسّلام، فسلّمنا عليه وعلى الصحابة الذين معه في القبّة: عثمان بن مظعون، وعبد الله بن مسعود، وخُنَيْس بن حُذافَة، وأسعد بن زُرارَة وتوسّلنا بالجميع.. كما تقدّم.

ثمّ مشينا إلى قبّة حليمة مُرضعة رسول الله، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، فوقفنا بباب القبّة وسلّمنا عليها وتوسّلنا بها.. ثمّ زرنا قبّة أبي سعيد الخدريّ..».

 

رسول الله، صلّى الله عليه وآله، يزور البقيع
قال الشيخ المفيد في (الإرشاد) أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وآله، لمّا أحسّ بالمرض الذي عراه، أخذ بيَد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وتبعَه جماعة من الناس، وتوجّه إلى البقيع، فقال لمَن تبعه:

«إِنَّني قَدْ أُمِرْتُ بِالاسْتِغْفارِ لِأَهْلِ البَقيعِ»، فانطلقوا معه حتّى وقف بين أظهُرِهِم، وقال: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ القُبورِ، لَيَهْنِئْكُمْ ما أَصْبَحْتُمْ فيهِ مِمّا فيهِ النّاسُ، أَقْبَلَتِ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يَتْبَعُ آخِرُها أَوَّلَها»، ثمّ استغفر لأهل البقيع طويلاً.

 

فاجعة البقيع

هكذا هدم الوهّابيّون القبور الطاهرة

§        إعداد: أسرة التحرير

لم يكتفِ أعداءُ أهل البيت بمحاولتهم إطفاء نور الله بقتل أنوار الله وخلفاء رسوله، صلّى الله عليه وآله، أو بمعاقبة مَن يتحدّث عنه بحديث أو بقتل مَن يتحدّث بفضيلة من فضائل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، أو بتحريفهم لسنّة رسول الله، صلّى الله عليه وآله، أو بهدم قبر الإمام الحسين عليه السلام عدّة مرات، فبعد أن رأوا هذا النور يزداد توهُّجاً، بالرغم ممّا بذلوا من جهد للقضاء عليه، اتّخذوا طريقة أخرى للقضاء عليه، تمثّلت بِهَدْمِهِم قبورَ بُناة الإسلام وأئمّة الهداية الموجودة في البقيع، وانتهاك حرمتها وقدسيّتها في فترتَين زمنيّتَين.

في ما يلي تحقيق شامل عن فاجعة هدم القبور الشريفة في البقيع، مقتبس من مصادر عدّة.

 

في العام 1158 للهجرة (1745 م) اتّفق كلّ من الأمير محمّد بن سعود (أمير الدرعيّة) والشيخ محمّد بن عبدالوهّاب على العمل معاً على نشر الدعوة الوهّابيّة، على أن تكون للأوّل السلطة السياسيّة ولـلثاني الدينيّة...

خلف محمّدَ بن سعود في الحكم ابنُه عبدُ العزيز الّذي توسّع في الحكم فاحتلّ عدداً من المناطق المجاورة... كما قام بغزو جنوب العراق حيث هجم على مناطق عديدة منه، ودخل جيشه مدينة كربلاء المُقدّسة في 20 نيسان 1801م (1216 للهجرة) بقيادة ابنه سعود، وعاث فيها فساداً، وهدم جانباً من مشهد سيِّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ونهب محتوياته...

 

بداية الهَدم في مكّة المكرّمة

وكان سعود بن عبد العزيز قد قام سنة 1209 للهجرة (1794م) بتجهيز جيش كبير، وهجم على‏ المناطق الحجازيّة المتاخمة لنَجد، واستطاع تحقيق مقدار من النجاح بعد انضمام مجموعة من القبائل إليه لتتخلّص من البطش الذي تميّزت به الهجمات السعوديّة...

وقد قام بهجومه على مكّة في 1218 للهجرة (1802م)، ودخلها ثمّ قام بتهديم قببها وآثارها الدينيّة.. وعن ذلك يقول الشيخ زيني دحلان في (خلاصة الكلام): «فما أصبح الصباح إلّا وهم سارحون بالمساحي لهدم القبب، فبادر الوهّابيّون ومعهم كثير من النّاس لهدم المساجد ومآثر الصالحين؛ فهدموا أوّلاً ما في المعلّى من القبب... ثمّ هدموا قبّة مولد النبيّ صلّى الله عليه وآله... ومولد سيّدنا عليّ رضي الله عنه، وقبّة السيّدة خديجة رضي الله عنها، وتتبّعوا جميع المواضع التي فيها آثار الصالحين، وهم عند الهدم يرتجزون ويضربون الطبل ويغنّون، وبالغوا في شتم القبور التي هدموها».

ويقول المؤرِّخ الوهّابيّ ابن بشر عن هذه الواقعة: «ولبث المسلمون [أي الوهّابيّون] في تلك القباب بضعة عشر يوماً يهدمون. يباكرون إلى هدمها كلّ يوم. وللواحد الأحد يتقرّبون!! حتّى لم يبقَ في مكّة شيئاً من تلك المشاهد والقباب إلاّ أعدموها وجعلوها تراباً».

قصّة الهدم الأول في البقيع (المدينة المنوّرة)

لم تذكر المصادر التاريخيّة عن الهدم الأوّل للبقيع إلّا نزراً يسيراً نذكر جانباً منه هنا؛ ففي سنة 1220 للهجرة (1805م) دخل السعوديّون المدينة المنوّرة بعد مزاعم عن مبايعة البعض لهم، ويذكر ابن بشر في (عنوان المجد في تاريخ نجد) تفاصيل القضيّة، فيقول: «فلمّا قَرُب [سعود بن عبد العزيز] إلى المدينة أرسل إلى أهلها بدخوله، فأبوا وامتنعوا من ذلك، فحمل عليهم كراراً حتّى دخلها بعد وصوله بخمسة وعشرين يوماً، فقتل منها بعض النّاس حيث سمّى أهلها الناكثين، لذلك استباح دمهم حتّى بعد الحرب، فدخل مسجد رسول الله، صلّى الله عليه وآله، وزاره، ولبث فيها عشرة أيام لم يحرّك منها ساكناً..».

ويضيف:

«ويوم الحادي عشر، جاء هو وبعض أولاده ومن يعزّ عليه، فطلب الخدم السودان الّذين يخدمون حرم النّبيّ، فقال: أريد منكم الدّلالة على خزائن النّبيّ، فقالوا بأجمعهم.. نحن لا نولّيك عليها، ولا نسلّطك، فأمر بضربهم وحبسهم، حتّى اضطرّوا إلى الإجابة، فدلّوه على بعض من ذلك فأخذ كلّ ما فيها، وكان فيها من النقود ما لا يُحصى، وفيها تاج كسرى أنوشروان، الذي حصل عليه المسلمون لمّا فُتحت المدائن... وفيها تحف ثمينة من جملة ما أرسله سلاطين الهند بحضرته، صلّى الله عليه وآله، تزييناً لقبّته صلّى الله عليه وآله. وأخذ قناديل الذهب، وجواهر عديدة، ثمّ إنّه رتّب في المدينة رجلاً من آل سعود، وخرج إلى البقيع يريد نجداً، فأمر بتهديم كلّ قبّة كانت في البقيع، وتلك القبب: قبّة الزهراء فاطمة بنت الرسول رضي الله عنها [بيت الأحزان]، وقبّة الحسن بن عليّ رضي الله عنه، وقبّة عليّ بن الحسين رضي الله عنه، وقبة محمّد الباقر، وقبّة جعفر الصادق..».

 

 

هذا، وقد حاول الوهّابيّون السعوديّون هدم القبّة النبويّة الشريفة! قال عليّ بن موسى الأفنديّ، رئيس القلم العربيّ في ديوان محافظ المدينة في زمن العثمانيّين في كتاب له باسم (وصف المدينة المنوّرة في سنة 1303 للهجرة /سنة 1885م): «..فلمّا أخذ الوهّابيّ الشرقيّ النجديّ المدينة المنوّرة، ونهب جميع تعاليق الحجرة [النبويّة] من ذهب وفضّة وياقوت وجواهر وزمرّد وغير ذلك من التبرّكات المثمّنة التي لا نظير لها في الدنيا، أمر بهدم قباب البقيع، فهُدمت، وأمر بهدم القبّة الخضراء ليأخذ العَلم الذهب الذي عليها، فكلّ من طلع لتنزيل العلم طاح فمات...».

 

إخراج آل سعود من المدينة المنوّرة

لقد حزّ في نفوس المسلمين في العالم الأفاعيل الشائنة التي قام بها السعوديّون في المدينة المنوّرة ، وتهديم الآثار الإسلاميّة وإهانة الأولياء والصالحين فيها.. ولذلك فقد عمّ الغضب الإسلاميّ سائر البلاد الإسلاميّة، وارتفعت وتيرة المطالبات الشعبيّة بتحرير الأماكن المُقدّسة من القيود السعوديّة، وإعادة الهيبة والاحترام إليها كما كانت فيه علی الدوام. وقد شجّعت هذه الأجواء (بالإضافة إلی الرغبات العثمانيّة في الهيمنة على الحجاز) الدولة العثمانيّة علی التفكير في استردادها، ولذلك فقد طلبت من واليها علی مصر محمّد عليّ باشا البدء في الاستعداد لاستعادة السيطرة علی الحجاز في عام 1222للهجرة /1807م.

وعندما استعادت الدولة العثمانيّة المدينة المنوّرة، أعاد المسلمون إليها عمارتها، وقاموا ببناء الآثار الإسلاميّة التي هدمها الوهّابيّون على صورةٍ من الفنّ تتّفق مع ذوق العصر، مستعينين بالتَّبرّعات السَّخيّة والأضرحة الجاهزة التي كانت تأتي من كافّة العالم الإسلاميّ.

 

الهدم الثاني للبقيع

في مطلع عشرينيّات القرن الماضي - بعد حوالي مائة وعشرين سنة من الاحتلال الوهّابيّ الأوّل للمدينة المنوّرة - لم يتمكّن الشريف حسين حاكم الحجاز من القبول بالمطالب البريطانيّة بإنشاء وطنٍ قوميّ لليهود في فلسطين، فتوتّرت العلاقات بين الأشراف والإنكليز، وأُجبر الشريف حسين على التخلّي عن الحكم. حينها سمحت بريطانيا لآل سعود بغزو الحجاز، فأخذت الحواضر الحجازيّة تسقط الواحدة تلو الأخرى نتيجة المجازر التي ارتكبها الوهّابيّون فيها لإخضاع أهلها.

وهكذا سقطت المدينة المنوّرة في يد الجيش السعوديّ في 15 جمادى الأولى 1344 للهجرة (1925م) بعد حصارٍ طويلٍ عانى منه الأهالي كثيراً، ويصف الرحّالة المستر رتز حالة الأهالي بقوله: «كانت النتيجة التي أدّى إليها الحصار الكريه هذا أن قلَّ عددُ السكّان فيها إلى ستّة آلاف نسمة فقط، مع أنّ هؤلاء السكّان كان عددهم قد وصل إلى سبعين أو ثمانين ألف نسمة من قبل» .. ثمّ يأخذ الرحّالة رتز بوصف الشوارع والأزقّة الفارغة والبيوت المُتهدّمة.

هذا، وقد مكث الجيش السعوديّ عدّة أشهر (تقلّ عن الخمسة بقليل) في المدينة، لم يمسّ فيها مقبرة البقيع بسوء.. فبعد أن دخل الوهّابيّون المدينة المنوّرة في جمادى الأولى 1344 للهجرة، لم تنلها أيدي الغيّ السعوديّ إلّا في الثامن من شوّال من ذلك العام، وقبلها قام بالتمهيد لذلك عبر أحد فقهاء السلاطين وهو قاضي القضاة الشيخ عبدالله بن بليهد، حيث أرسله من الرياض إلى المدينة المنوّرة في شهر رمضان، وبعد دخوله المدينة وجّه إلى علمائها المغلوبين على أمرهم سؤالاً حول جواز البناء على القبور، والتبرّك بقبر رسول الله، صلّى الله عليه وآله،، وسائر ما يعدّه الوهّابيّة من الشرك، وكانت النتيجة أنّه استصدر منهم بالترهيب والتهديد الفتاوى التي تخدم مصالح أسياده من آل سعود.

 

 

وهكذا، وفي يومٍ أسود كالح من أيّام عام 1344 للهجرة، كَشّر الوهّابيون عن أنيابهم وسنّوا حِرابهم وفرضوا على جميع بنّائي المدينة المشاركة في الهدم، وتوجّهوا إلى جنّة البقيع ورفعوا سواعد طالما تغذّت على المال الحرام، وهوَوا بها على أطيب بقعة ضمّت الأجساد المُطهّرة لأربعة من الأئمّة من آل البيت الأبرار عليهم السّلام، ولا زالوا بها حتّى سوّوها مع الأرض، لا يشير إليها إلّا مجموعة الحصى التي عليها.. وتنقل لنا رسالة لرجلٍ مُوالٍ ومن محبّي أهل البيت عليهم السّلام كان في المدينة المنوّرة عند هدم قبور البقيع، أرسلها إلى أحد علماء الشيعة في العراق مؤرّخة في 8 شوّال 1344، تنقل لنا هذه الرسالة صورة لما حصل للمقدّسات الإسلاميّة في المدينة المنوّرة، وممّا جاء في الرسالة:

«..جميع البلاد الحجازيّة مقهورة تحت سيطرة ابن سعود وحكمه المطلق فيها. ومنذ أيّام ورد المدينة قاضي قضاة الوهّابيّين [يقصد الشيخ عبدالله بن بليهد] وبينما كان مجلسه غاصّاً بعلمائها صرّح أمامهم بتحريم زيارة القبور، وأنّها بدعة في الدين، وشرك بالله، وأنّه يلزم تحصيل الاتّفاق من جميع علماء المذاهب الأربعة على تخريبها تماماً ومحو آخر أثر من آثارها على وجه الأرض. ونظراً لذلك فقد مُنعت زيارة جميع المراقد المطهّرة، وأُغلقت أبوابها، ومنذ عشرين يوماً لم نجرؤ على قصد هذه المشاهد المشرّفة وزيارتها، إذ إنّ جنود الوهّابيّين (الأخوان) قد رصدوا الحرم المطهّر النبويّ ومنعوا أيّ زائر من التقرّب إلى ضريح رسول الله، صلّى الله عليه وآله.

ثمّ إنّ قاضي قضاة الوهّابيّين لم يتمكّن من تحصيل الاتّفاق المطلوب من علماء المدينة، إلّا بعد أيّام، إذ استعمل معهم الوسائل الأخرى المخوّفة من القوّة، والبعض الآخر وافق ابتداء، فحكموا جميعاً طبق رغبته بتحريم زيارة القبور مطلقاً والتمسّح بها إلى الله، والاستشفاع بها إليه وتلاوة الزيارة فيها. ثمّ صدر الأمر بهدم المراقد الشريفة وتخريبها، فشرع الجند أولّاً بنهب جميع ما تحتويه تلك البنايات المُقدّسة في البقيع من الفرش والستائر والمعلّقات والسرج وغير ذلك، ثمّ بدأوا يخرِّبون تلك المشاهد المقدّسة، وفرضوا على جميع بنّائي المدينة الاشتراك في التخريب والتهديم».

             

الجريمة كما وصفها الغربيّون

يصف الرحّالة الغربيّ (إيلدون رترEldon Ritter)، المدينة المنوّرة بعد الجريمة الثانية التي نفّذها الوهّابيّون عند استيلائهم على المدينة وقتلهم الآلاف من الأبرياء، يقول: «لقد هُدّمت واختفت عن الأنظار القباب البيضاء التي كانت تدلّ على قبور آل البيت النبويّ.. وأصاب القبور الأخرى نفس المصير فسُحقت وهُشِّمت».

 ويقول الرحّالة السويسريّ لويس بورخارت Louise Burkhart، الذي اعتنق الإسلام وسمّى نفسه إبراهيم: «تبدو مقبرة البقيع مهملة جدّاً، لا تليق بقدسيّة الشخصيّات المدفونة فيها. وقد تكون أتعس من أيّة مقبرة موجودة في المدن الشرقيّة الأخرى التي تضاهي المدينة المنوّرة في حجمها، فهي تخلو من أيّ قبرٍ مشيّد تشييداً مناسباً، وتنتشر القبور فيها وهي أكوام غير منتظمة من التراب. يحدّ كلّ منها عدد من الأحجار الموضوعة فوقها..»، ويعزي تخريب المقبرة الى الوهّابيّين.

ثمّ يصف هذا الرحّالة قبور أئمّة أهل البيت عليهم السّلام بالقول: «فالموقع بأجمعه عبارة عن أكوام من التراب المبعثر، وحُفر عريضة..».

أمّا جبل أُحُد، فيقول عنه هذا الرحّالة بأنّه وجد المسجد الذي شُيِّد حول قبر حمزة، رضوان الله تعالى عليه، وغيره من شهداء أُحُد مثل مصعب بن عُمير... قد هدمه الوهّابيّون.. وعلى مسافة وجد قبور اثنَي عشر صحابيّاً من شهداء أُحُد «وقد خرّب الوهّابيّون قبورَهم وعبثوا بها».

 

 

الحركة الوهّابيّة

استراتيجيّة الغرب في محو آثار النبوّة*

ـــــــــــــــــ شمس الدين العجلانيّ ــــــــــــــــــــــــ

عندما كنت أتابع الاعتداءات الوحشيّة على دمشق [يقصد اعتداءات التكفيريّين بالقصف وزرع المفخّخات خلال السنوات الأخيرة]، وهذا الكمّ الهائل من التدمير غير الإنسانيّ تساءلت: مَن الفاعل؟ وما غايته؟ وتذكّرت مجموعة صحف قديمة لديّ تعود إلى عام 1925م، تتحدّث عن تدمير وحشيّ للآثار الإسلاميّة في الجزيرة العربيّة التي كانت تعرَف آنذاك ببلاد الحجاز.

لقد زخرت الصحف والمجلّات القديمة بالعديد من الأخبار والتحقيقات والصور التي تفتقدها مكتبتنا العربيّة، ولم يولِ أولو الأمر منّا الاهتمام بهذه الصحف والمجلّات، رغم أنّها وثيقة مهمّة تؤرّخ للحدث ساعة وقوعه بالكلمة والصورة، لكونها السجّل اليوميّ لحياتنا على الصعد كافّة: السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة.. ومن ثمّ تُعتبر وثيقة مهمّة تحمل تفاصيل الحدث بالكلمة والصورة. لا بدّ لنا من العودة إلى هذه الصحف ورفع الغبار عنها، لأنّها قد تقول لنا ما يحصل اليوم في شامنا! ولأنّها تحتوي على كنز سياسيّ وثقافيّ واجتماعيّ نفتقده ونحتاج إليه.

في هذه الصحف والمجلّات القديمة قد نقرأ خبراً أو تحقيقاً يدهشنا، أو يقع نظرنا على صورة تُبهرنا، أو ليس هذا وذاك، بل قد نقرأ ونرى صوراً تدعنا نقف طويلاً في حيرة! وهذا ما حصل معي عندما كنت اقرأ مجموعة من الصحف المصريّة.

«اللّطائف المصوّرة»

بين يدَيّ الآن مجلة «اللطائف المصوّرة» المصريّة لصاحبها إسكندر مكاريّوس، وهي من المجلّات التي انتشرت بين الجمهور السوريّ في العشرينيّات والثلاثينيّات من القرن الماضي بشكلٍ كبير، وهي مجلّة أسبوعيّة كانت تصدر يوم الاثنين من كلّ أسبوع، سياستها كما جاء في تعريفها على صفحتها الأولى، أدبيّة علميّة تاريخيّة تنشر صور الحوادث الجارية ومشاهير رجال العالم. بين يدَيّ العدد الصادر بتاريخ 7 أيلول عام 1925. نقرأ في هذا العدد: «آل سعود يعتدون على المدينة المنوّرة».

مجلّة «اللّطائف المصوّرة» في عددها ليوم الاثنين في 7 أيلول من عام 1925م، نشرت تحقيقاً مصوّراً عن اعتداء آلِ سعود (الوهّابيّين) على المدينة المنوّرة، وصور التظاهرات التي خرجت بدمشق احتجاجاً على اعتدائهم على الآثار الإسلاميّة، والغضب الشعبيّ الذي عمّ المدن والقرى في جميع أنحاء العالم الإسلاميّ على أفعال آل سعود الوحشيّة بحقّ الآثار الدينيّة. فتحتَ عنوان: «منظر عام للمدينة المُقدّسة التي يهاجمها الوهّابيّون، وقد ضربوا آثارها المقدّسة التاريخيّة فأثار عملهم سخط العالم الإسلاميّ» نشرت تحقيقاً مصوراً يضمّ صورة كبيرة للمدينة المنوّرة، وصورة للملك فؤاد الأوّل ملك مصر مع تعليق جاء فيه: «صاحب الجلالة مولانا الملك فؤاد الأوّل الذي برهن على ما عهده المسلمون في جلالته من الغيرة على الآثار الإسلاميّة المقدّسة، فقد أرسل تلغرافاً إلى السلطان ابن آل سعود طلب فيه باسم مسلمي مصر بألّا تطلق قنابل المدافع على قبر النبيّ في المدينة المنوّرة، وأن تُذَاع الحقيقة عن الهجوم على المدينة تسكيناً لخواطر العالم الإسلاميّ».

وأشارت المجلّة إلى البيان الذي أصدره مندوب «الحزب الوطنيّ الحجازيّ» ونشرته الصحف المصريّة حول الاعتداءات على الآثار الإسلاميّة من آل سعود. وفي عددها الصادر يوم الإثنين 5 تشرين الأوّل عام 1925 نشرت مجلة «اللطائف المُصوّرة» صورة كبيرة لأهالي دمشق وهم خارجون في تظاهرات الاحتجاج على الاعتداء الوحشيّ على الآثار الإسلاميّة وتعليقاً يقول: (خرج المسلمون من الجامع الأمويّ في دمشق في 11 أيلول الماضي في تظاهرة احتجاجاً على ضرب الوهّابيّين لآثار المدينة، فاصطدم البوليس بالمتظاهرين وفرّقهم خوفاً من حدوث ما لا تُحمَد عقباه).

آل سعود يدمّرون أضرحة الصحابة

منذ سنوات عديدة دأبت مجلة (الكفاح العربيّ) على إعادة تسليط الضوء على وقائع وحوادث وقعت وحدثت في الزمن الغابر، من خلال صفحة أو صفحتين تحت اسم (مجلّة الكون). وعن وحشيّة آل سعود بحقّ الأماكن المُقدّسة نشرت (الكون) في عددها رقم 526 مؤرّخاً في يوم 3 كانون الأول عام 1925، تحقيقاً مصوَّراً حول ذلك تحت عنوان: «آل سعود يدمّرون أضرحة الصحابة»، جاء فيه:

 

 

«أدّت جريمة تدمير أضرحة الصحابة وأهل البيت إلى موجة استنكار واسعة في أنحاء العالم الإسلاميّ، وقد بدأ وفد إيرانيّ برئاسة السفير جعفر خان جلال جولته الميدانيّة في أنحاء مكّة المكرّمة والحرم النبويّ الشريف في المدينة المنوّرة، وذلك بعد الأنباء التي ذكرت أنّ زعماء الحركة الوهّابيّة من آل سعود دمّروا قبور الصحابة وأهل البيت. وقد قدّم ابن سعود اعتذاره لرئيس الوفد الإيرانيّ الذي أشار إلى أنّ قبر السيّدة خديجة والسيّدة آمنة وبعض قبور أهل البيت والصحابة دُمّرت تماماً، وحركة الاستنكار الإسلاميّة الحادّة التي بدأت طلائعها والتي يتوقّع أن تتنامى وتستمرّ بأشكال متعدّدة يحرّكها، إضافة إلى الألم على ما جرى وطال مقامات لها في نفوس المسلمين قيمتها الأثريّة والدينيّة، الخشية الواسعة من التطاول على ضريح النبيّ صلّى الله عليه وآله. وكان الاعتداء حدث على يد جنود سعوديّين اتّهمهم الملك بأنّهم متطرّفون!».

 

 

التدمير

لقد قام آل سعود بتدمير معظم تراث النبيّ صلّى الله عليه وآله والصحابة والمسلمين في الأماكن المقدّسة.. ولو خضنا في البحث عمّا دمّروه من آثار إسلاميّة دينيّة تاريخيّة في الجزيرة العربيّة لعجزنا عن إحصائها، ولكن نقول على سبيل المثال:

- هدم آل سعود البيت الذي وُلد فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله بمكّة المكرّمة.

- بيت السيّدة خديجة زوجة النبيّ صلّى الله عليه وآله.

- البيت الذي وُلدت فيه السيّدة فاطمة بنت الرسول صلّى الله عليه وآله.

- بيت حمزة بن عبد المطّلب.

- بيت الأرقم؛ أوّل بيت كان يجتمع به الرسول مع أصحابه.

- كما هدم آل سعود قبور شهداء مكّة وبعثروا رفاتهم، وكذلك هدموا البيت الذي ولد فيه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام.

- وبقيع الغرقد في المدينة المنوّرة حيث يرقد المهاجرون والأنصار من صحابة رسول الله، صلّى الله عليه وآله.

- هدموا القبّة التي تظلّل الروضة النبويّة المقدّسة، لكنّهم توقّفوا حينما وقف الشعب وبعض العلماء الصالحين من شعبنا ومن البلاد الإسلاميّة كافّة رافضين هذه الإجراءات وخرجوا في التظاهرات، كما سرق آل سعود الذهب الموجود في القبّة.

 

وحالما دخل جند الاحتلال السعوديّ مكّة المكرّمة، اتّجهوا لتدمير كلّ ما هو ورق… وكلّ ما هو كُتُب، وكلّ ما هو وثائق وصُوَر، وكلّ ما هو تاريخيّ… من ذلك على سبيل المثال ما ارتكبوه «بالمكتبة العربيّة» التاريخيّة العلميّة التي أحرقوها، وهي التي تُعدّ من أثمن المكتبات في العالم قيمة تاريخيّة، إذ لا تقدّر بثمن أبداً، لقد كان بهذه المكتبة ستّون ألف كتاب من الكتب النادرة الوجود، وفيها أربعون ألف مخطوطة نادرة الوجود من مخطوطات «جاهليّة» خطّت كمعاهدات بين طغاة قريش واليهود، تكشف الغدر اليهوديّ وعدم ارتباط اليهود بالدين والوطن من قديم الزمان، وتكشف مؤامرات اليهود على النبيّ صلّى الله عليه وآله.

وفي هذه المكتبة وغيرها من مكتبات المدينة التي أحرقها ودمّرها آل سعود بعض المخطوطات التي كُتبت بخطّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، وبخطّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وعددٍ من الصحابة، كما أحرقوا كلّ الوثائق التي تهتمّ بالأشراف الذين هم من سلالة الرسول الكريم. لقد أراد آل سعود بذلك ألّا يبقى أيّ أثر يذكر تاريخنا، وألّا يبقى للعرب من تاريخهم إلّا الاسم السعوديّ المزيف المهين.

وبعد، لا يخفى على الباحث عن الحقيقة أنّ ما يُسمّى الدولة السعوديّة اكتملت بوسائط الغزو الوحشيّ والتوسّع على حساب البلدان المجاورة تحت عين الرضى البريطانيّة تارةً، وتارةً أخرى الأميركيّة. ولكن ما لم يتمّ توثيقه والبحث عنه بتؤدةٍ، هو تطلّعاتهم العدوانيّة على بلاد الشام. فلو بحثنا عبر السنين الطويلة عمّا تعرضت له بلاد الشام من دسائس ومؤامرات، لتَبيّن لنا بوضوح بصمات آل سعود عليها، فنقرأ عن دورهم في إيقاف الثورة الفلسطينيّة الكبرى عام 1939م، وموقفهم من اتّفاق التابلاين مع شركة أرامكو الأميركيّة، ودورهم في توقيع اتّفاق مُجحِف للهدنة مع «إسرائيل»، وبصماتهم العريضة في الانقلابات العسكريّة في سورية في فتره نهاية الأربعينيّات والخمسينيّات من القرن الماضي، ومحاولة اغتيال الرئيس عبد الناصر زمن الوحدة. وأخيراً وليس آخراً دورهم الجشع الإرهابيّ الآن على سوريا والمنطقة عموماً.

* نقلاً عن جريدة الوطن السوريّة (بتصرّف يسير وتعديل في العنوان)

 

فتاوى تحريم زيارة القبور

بذور سامّة وجراثيم مهلكة

§        الإمام الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء رحمه الله

من الشبهات الساقطة للوهّابيّين ما ابتدعوه من القول بحرمة البناء على القبور وزيارتها، وهو ما اتّخذوه ذريعةً لجريمتهم في هدم قبور البقيع، وما وصلت إليه أيديهم، قديماً وحديثاً، من قبور الأولياء والصالحين، وحيث إنّهم أفتوا في ذلك بما خالفوا فيه إجماع المسلمين، وما عُرف من سيرتهم القطعيّة بذلك في عموم البلاد الإسلاميّة دون استثناء، فقد تصدّى لإبطال تقوّلاتهم هذه - التي ادّعوا فيها استنادها إلى الإجماع تارةً، وإلى الحديث تارةً أخرى، وإلى الإجماع المستند إلى الحديث ثالثةً - جملة واسعة من علماء المسلمين، من السنّة والشيعة.
ومن هؤلاء الأعلام الإمام المصلح الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء، رحمه الله تعالى، في موارد كثيرة، ومنها رسالته القيِّمة (نقض فتاوى الوهّابيّة) التي نورد فصلاً منها في هذه المقالة.

إنّ أوّل مَن نثر في أرض الإسلام المقدّسة تلك البذور السامّة والجراثيم المهلكة، هو أحمد بن تيميّة في أُخريات القرن السابع من الهجرة، ولمّا أحسّ أهل ذلك القرن - بفضل كفاءتهم - أنّ جميع تعاليمه ومبادئه شرّ وبلاء على الإسلام والمسلمين يجرّ عليهم الويلات، وأيّ شرّ وبلاء أعظم من تكفير قاطبة المسلمين على اختلاف نزعاتهم! أُخذ وحُبس برهةً ثمّ قُتل.

الوهّابيّة آلة بيد الأعداء

ولكن بقيت تلك البذور دفينةَ تراب، وكمينةَ بلاءٍ وعذاب، حتّى انطوت ثلاثة قرون، بل أكثر، فنبغ، بل نزع محمّد بن عبد الوهّاب فنبش تلك الدفائن، واستخرج هاتيك الكوامن، وسقى تلك الجراثيم المائتة بل المُميتة، والبذور المُهلكة، فسقاها بمياهٍ من تزويق لسانه وزُخرف بيانه، فأثمرت ولكن بقطف النفوس وقطع الرؤوس وهلاك الإسلام والمسلمين، وراجت تلك السلعة الكاسدة، والأوهام الفاسدة، على أمراء نجد واتّخذوها ظهيراً لما اعتادوا عليه من شنّ الغارات، ومداومة الحروب والغزوات من بعضهم على بعض، وقد نهاهم الفرقان المبين والسنّة النبويّة عن تلك العادات الوحشيّة، والأخلاق الجاهليّة، بملء فمه وجوامع كَلِمِه، وقد عقد بينهم الأخوّة الإسلاميّة، والمودّة الإيمانيّة وقال: «مالُ المُؤْمِنِ عَلى المُؤْمِنِ حَرامٌ كَحُرْمَةِ دَمِهِ وَعِرْضِهِ»، وقال جلّ مِن قائل: ﴿..وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا..﴾ النساء:94، أراد الله سبحانه أن يجعلهم فيما بينهم إخواناً وعلى العدوّ أعواناً، أراد أن يكونوا يداً واحدة للاستظهار على الأغيار من أعداء الإسلام، فنقض ابن عبد الوهّاب تلك القاعدة الأساسيّة والدعامة الإسلاميّة، وعكس الآية فصار يكفِّر المسلمين ويضرب بعضهم ببعض، وما انجلت تلك الغبرة إلّا وهم آلة بأيدي الأعداء ينقضون دعائم الدين، ويقتلون بهم المسلمين، ويَصِلون ما أمر الله بقطعه، ويقطعون ما أمر الله بوصله، فإذا طولبوا بالدليل والبرهان، وجاء حديث السنّة والقرآن، فالجواب الشافي عند السيف والسّنان، والنَّصَف مع البغي والعدوان، والحقّ مع القوّة والسطوة، والعدلُ والسواءُ في الغلَبةِ والاستيلاء.

بدعة تحريم زيارة القبور

نعم، ليس للقوم فيما وقفنا عليه من كتب أوائلهم وأواخرهم، وحاضرهم وغابرهم حجّة عليها مسحة من العلم أو روعة من البيان، وطلاء من الحقيقة، سوى قولهم: «إنّ المسلمين في زيارتهم القبورَ، وطوافهم حولها، واستغاثتهم بها وتوسّل الزائر بالملحود في تلك المقابر، قد صاروا كالمشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام، وأصبحوا يعبدون غير الله ليقرّبهم إلى الله تعالى، كما حكى الله سبحانه في كتابه الكريم، حيث يقول عنهم: ﴿..مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى..﴾ الزمر:3، فلم يقبل اللهُ منهم تلك المعذرة، ولا أخرجهم ذلك الزعم عن حدود الشرك والضلالة».

هذه هي أمّ شبهاتهم، وأسّ احتجاجاتهم، وأقوى براهينهم ودلالاتهم، وإليها ترجع جميع مؤاخذاتهم على غيرهم من طوائف المسلمين، من مسألة الشفاعة والتوسّل، والتبرّك والزيارة، وتشييد القبور، إلى كثير من أمثال ذلك ممّا يزعمون أنّه عبادة لغير الله، وهو على حدّ الشرك بالله، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

وأنا أقول: لَعمر الله والحقّ ما أكبر جهلهم! وأضلّ في تلك المزاعم عقلهم! وليت شعري من أين صحّ ذلك القياس والتشبيه؟! تشبيه المسلمين بالمشركين وقياسهم بهم مع وضوح الفرق في البَين، فإنّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام لتُقرّبهم إلى الله زلفى كما هو صريح الآية، والمسلمون لا يعبدون القبور ولا أربابَها، بل يعبدون الله وحدَه لا شريك له عند تلك القبور.

والقياس الصحيح والتشبيه الوجيه، قياسُ زائري القبور والطائفين حولها بالطائفين حول الكعبة البيت الحرام وبين الصفا والمروة: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا..﴾ البقرة:158، فالطائف حول البيت، والساعي بين الصفا والمروة لم يعبد الكعبة وأحجارها، ولا الصفا والمروة ومنارها، وإنّما يعبد الله سبحانه في تلك البقاع المقدّسة، وحول تلك الهياكل الشريفة التي شرّفها الله ودعا إلى عبادته فيها، وهكذا زائر القبور.

هذا هو القياس الصحيح والميزان العدل، أمّا القياس بالميزان الأوّل ففيه عينٌ بل عيون، لا بل هو خَبطٌ وجنون. أليس من الجنون قياس مَن يعبد الله موحّداً له، بمَن يعبد الأصنام مشركاً لها مع الله جلّ شأنه؟!

زائر القبور لا يعبدها

وكَشْفُ النقاب عن محيّا هذه الحقيقة الستيرة، بحيث تبدو للناظرين ناصعة مستنيرة، موقوفٌ على بيان حقيقة العبادة وكُنه معناها، ولو على سبيل الإيجاز حسب اقتضاء هذه العجالة التي جرى بها اللسان متدافعا تدافع الآتي من غير وقفة ولا أناةٍ، ولا مراجعةٍ ولا مهل.

إنّ حقيقة العبادة ومُصَاصُ معناها، وكُنه روحها ومغزاها، بعد كونها مأخوذة بحسب الاشتقاق من «العبد» و«العبوديّة»، وليس العبد - في الحقيقة وطباق نفس الأمر والواقع - ما ملكتَه بالاغتنام أو الشراء أو غيرهما من الأسباب، ولا السيّد والمولى مَن تولّى عليك بالغلَبة والقهر، أو المصانعة والخداع، إنّما السيّد مَن أنعم عليك بنعمة الحياة، وخلع عليك بعد العدم خلعة الوجود، وربّاك في بواطن الأصلاب وبطون الأرحام ستيراً، لا تراك سوى عينُه، ولا ترعاك سوى عنايتُه، فذاك هو الربّ والمالك والسيّد حقيقةً من غير تسامح في المعنى، ولا تَجوُّزٍ في اللفظ، وأنت ذلك العبد المملوك بحقيقة العبوديّة، المربوب بنعمة الإيجاد والتكوين، والصنع والخلق، وقد اقتضت تلك العبوديّة، حسب النواميس العقليّة، والاعتبار والرويّة، المُعزَى إليها بقوله عزّ شأنه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات:56.

فالعبادة معناها كلفظها مشتقّة من العبوديّة، وهي شأنٌ من شؤونها وأثرٌ من آثارها، فإنّ العبوديّة قضت على العبد - حفظاً لاستدامة تلك النعمة، بل النِّعَم الجمّة وامتدادها أبديّاً - أن يقف العبدُ موقفَ الإذعان والاعتراف بها لوليّها ومولاها، فكما أنّه في موطن الحقّ والواقع عدمٌ صرف وعجزٌ محض، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة، كذلك يكون في موطن الخارج والظاهر ماثلاً بين يدَي مولاه في غاية الخضوع والذلّة، والعجز والحاجة...

إذاً، فالعبادة على الحقيقة هي كون العبد في مقام الاعتراف والإذعان بالعبوديّة مقروناً بما يليق بها من استعمال ما يدلّ على أقصى مراتب الخضوع والذلّة؛ بالسجود والركوع، والهرولة والطواف، وغير ذلك ممّا وصفته الشرائع، وأوعزت إليه الأديان من معلوم الحكمة ومجهولها، ومبهم الحقيقة أو معقولها.

تلك هي العبادة الحقيقيّة، غايته أنّ عامّة النّاس قصرت أفكارهم عن اجتناء ذلك اللبّ واقتصروا على القشور من العبادة، اللّهمّ إلّا أن يكون ذلك مرتكزاً في أعماق نفوسهم على الإجمال في المقصود، دون التفصيل والاستحضار والشهود، وكيف كان الحال، فهل تحسّ أنّ أحداً من زوّار القبور والمتوسّلين بأربابها يقصد أنّ القبر الذي يطوف حوله، أو صاحبه الملحود فيه هو صانعُه وخالقه، وأنّه بزيارته يريد أن يتظاهر بالعبوديّة له فتكون عبادةً له؟! أو أنّ أحداً من الزائرين يقول للقبر - أو لمَن فيه: يا خالقي ويا رازقي ويا معبودي؟!

كلّا ثمّ كلّا ما أحسب أنّ أحداً يخطر على باله شيء من تلك المعاني مهما كان من الجهل والهمجيّة، كيف وهو يعتقد أنّ صاحب القبر بشرٌ مثله عاش ومات وأصبح رميماً رفاتاً. نعم، يعتقد أنّ روحه باقية عند الله - جلّ شأنه - فهو بها يسمع ويرى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ آل عمران:169، ونظراً إلى تلك الحياة يخاطبه ويسلّم عليه ويتوسّل به إلى الله، سبحانه، ويطلب الشفاعة منه.

وبعد هذا كلّه فهل تجد من الحقّ والإنصاف تشبيه الزائرين بعبَدة الأصنام، وهذه منابرهم ومنائرهم ومشاعرهم تضجّ في الأوقات الخمس بل في أكثر الأوقات بشهادة أنْ لا إله إلّا الله، ويلهجون بأنّه لا معبود إلّا الله؟! فهل ذلك القول إلّا قولُ مجادلٍ بالباطل يريد أن يدحض به الحقّ، ويلقحَ شرر الفساد في الأرض، ويريقَ دماء المسلمين ظلماً وعدواناً؟! وممّا ذكرنا من معنى العبادة وحقيقة معناها يتّضح أنّه لا شيء من تلك العناوين الممنوعة عند الوهّابيّة، من الشفاعة والوسيلة، والتبرّك والاستغاثة والزيارة وأمثالها، له مسيسٌ بالعبادة بوجه من الوجوه، هذا مضافاً إلى صدوره من النبيّ صلّى الله عليه وآله وأصحابه والتابعين الواردة في صحيح الأخبار من صحيحَي البخاريّ ومسلم وغيرها، وقد استوفى جملةً منها جدّنا كاشف الغطاء - رفع الله درجته - في رسالته (منهج الرشاد) وفيها مقنع وكفاية، مَن أرادها فليراجعها.

 

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

منذ 3 أيام

دوريّات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات