الملف

الملف

16/07/2015

في نقض فتاوى تحريم زيارة القبور

فتاوى تحريم زيارة القبور

بذور سامّة وجراثيم مهلكة

§        الإمام الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء رحمه الله

من الشبهات الساقطة للوهّابيّين ما ابتدعوه من القول بحرمة البناء على القبور وزيارتها، وهو ما اتّخذوه ذريعةً لجريمتهم في هدم قبور البقيع، وما وصلت إليه أيديهم، قديماً وحديثاً، من قبور الأولياء والصالحين، وحيث إنّهم أفتوا في ذلك بما خالفوا فيه إجماع المسلمين، وما عُرف من سيرتهم القطعيّة بذلك في عموم البلاد الإسلاميّة دون استثناء، فقد تصدّى لإبطال تقوّلاتهم هذه - التي ادّعوا فيها استنادها إلى الإجماع تارةً، وإلى الحديث تارةً أخرى، وإلى الإجماع المستند إلى الحديث ثالثةً - جملة واسعة من علماء المسلمين، من السنّة والشيعة.
ومن هؤلاء الأعلام الإمام المصلح الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء، رحمه الله تعالى، في موارد كثيرة، ومنها رسالته القيِّمة (نقض فتاوى الوهّابيّة) التي نورد فصلاً منها في هذه المقالة.

إنّ أوّل مَن نثر في أرض الإسلام المقدّسة تلك البذور السامّة والجراثيم المهلكة، هو أحمد بن تيميّة في أُخريات القرن السابع من الهجرة، ولمّا أحسّ أهل ذلك القرن - بفضل كفاءتهم - أنّ جميع تعاليمه ومبادئه شرّ وبلاء على الإسلام والمسلمين يجرّ عليهم الويلات، وأيّ شرّ وبلاء أعظم من تكفير قاطبة المسلمين على اختلاف نزعاتهم! أُخذ وحُبس برهةً ثمّ قُتل.

الوهّابيّة آلة بيد الأعداء

ولكن بقيت تلك البذور دفينةَ تراب، وكمينةَ بلاءٍ وعذاب، حتّى انطوت ثلاثة قرون، بل أكثر، فنبغ، بل نزع محمّد بن عبد الوهّاب فنبش تلك الدفائن، واستخرج هاتيك الكوامن، وسقى تلك الجراثيم المائتة بل المُميتة، والبذور المُهلكة، فسقاها بمياهٍ من تزويق لسانه وزُخرف بيانه، فأثمرت ولكن بقطف النفوس وقطع الرؤوس وهلاك الإسلام والمسلمين، وراجت تلك السلعة الكاسدة، والأوهام الفاسدة، على أمراء نجد واتّخذوها ظهيراً لما اعتادوا عليه من شنّ الغارات، ومداومة الحروب والغزوات من بعضهم على بعض، وقد نهاهم الفرقان المبين والسنّة النبويّة عن تلك العادات الوحشيّة، والأخلاق الجاهليّة، بملء فمه وجوامع كَلِمِه، وقد عقد بينهم الأخوّة الإسلاميّة، والمودّة الإيمانيّة وقال: «مالُ المُؤْمِنِ عَلى المُؤْمِنِ حَرامٌ كَحُرْمَةِ دَمِهِ وَعِرْضِهِ»، وقال جلّ مِن قائل: ﴿..وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا..﴾ النساء:94، أراد الله سبحانه أن يجعلهم فيما بينهم إخواناً وعلى العدوّ أعواناً، أراد أن يكونوا يداً واحدة للاستظهار على الأغيار من أعداء الإسلام، فنقض ابن عبد الوهّاب تلك القاعدة الأساسيّة والدعامة الإسلاميّة، وعكس الآية فصار يكفِّر المسلمين ويضرب بعضهم ببعض، وما انجلت تلك الغبرة إلّا وهم آلة بأيدي الأعداء ينقضون دعائم الدين، ويقتلون بهم المسلمين، ويَصِلون ما أمر الله بقطعه، ويقطعون ما أمر الله بوصله، فإذا طولبوا بالدليل والبرهان، وجاء حديث السنّة والقرآن، فالجواب الشافي عند السيف والسّنان، والنَّصَف مع البغي والعدوان، والحقّ مع القوّة والسطوة، والعدلُ والسواءُ في الغلَبةِ والاستيلاء.

بدعة تحريم زيارة القبور

نعم، ليس للقوم فيما وقفنا عليه من كتب أوائلهم وأواخرهم، وحاضرهم وغابرهم حجّة عليها مسحة من العلم أو روعة من البيان، وطلاء من الحقيقة، سوى قولهم: «إنّ المسلمين في زيارتهم القبورَ، وطوافهم حولها، واستغاثتهم بها وتوسّل الزائر بالملحود في تلك المقابر، قد صاروا كالمشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام، وأصبحوا يعبدون غير الله ليقرّبهم إلى الله تعالى، كما حكى الله سبحانه في كتابه الكريم، حيث يقول عنهم: ﴿..مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى..﴾ الزمر:3، فلم يقبل اللهُ منهم تلك المعذرة، ولا أخرجهم ذلك الزعم عن حدود الشرك والضلالة».

هذه هي أمّ شبهاتهم، وأسّ احتجاجاتهم، وأقوى براهينهم ودلالاتهم، وإليها ترجع جميع مؤاخذاتهم على غيرهم من طوائف المسلمين، من مسألة الشفاعة والتوسّل، والتبرّك والزيارة، وتشييد القبور، إلى كثير من أمثال ذلك ممّا يزعمون أنّه عبادة لغير الله، وهو على حدّ الشرك بالله، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

وأنا أقول: لَعمر الله والحقّ ما أكبر جهلهم! وأضلّ في تلك المزاعم عقلهم! وليت شعري من أين صحّ ذلك القياس والتشبيه؟! تشبيه المسلمين بالمشركين وقياسهم بهم مع وضوح الفرق في البَين، فإنّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام لتُقرّبهم إلى الله زلفى كما هو صريح الآية، والمسلمون لا يعبدون القبور ولا أربابَها، بل يعبدون الله وحدَه لا شريك له عند تلك القبور.

والقياس الصحيح والتشبيه الوجيه، قياسُ زائري القبور والطائفين حولها بالطائفين حول الكعبة البيت الحرام وبين الصفا والمروة: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا..﴾ البقرة:158، فالطائف حول البيت، والساعي بين الصفا والمروة لم يعبد الكعبة وأحجارها، ولا الصفا والمروة ومنارها، وإنّما يعبد الله سبحانه في تلك البقاع المقدّسة، وحول تلك الهياكل الشريفة التي شرّفها الله ودعا إلى عبادته فيها، وهكذا زائر القبور.

هذا هو القياس الصحيح والميزان العدل، أمّا القياس بالميزان الأوّل ففيه عينٌ بل عيون، لا بل هو خَبطٌ وجنون. أليس من الجنون قياس مَن يعبد الله موحّداً له، بمَن يعبد الأصنام مشركاً لها مع الله جلّ شأنه؟!

زائر القبور لا يعبدها

وكَشْفُ النقاب عن محيّا هذه الحقيقة الستيرة، بحيث تبدو للناظرين ناصعة مستنيرة، موقوفٌ على بيان حقيقة العبادة وكُنه معناها، ولو على سبيل الإيجاز حسب اقتضاء هذه العجالة التي جرى بها اللسان متدافعا تدافع الآتي من غير وقفة ولا أناةٍ، ولا مراجعةٍ ولا مهل.

إنّ حقيقة العبادة ومُصَاصُ معناها، وكُنه روحها ومغزاها، بعد كونها مأخوذة بحسب الاشتقاق من «العبد» و«العبوديّة»، وليس العبد - في الحقيقة وطباق نفس الأمر والواقع - ما ملكتَه بالاغتنام أو الشراء أو غيرهما من الأسباب، ولا السيّد والمولى مَن تولّى عليك بالغلَبة والقهر، أو المصانعة والخداع، إنّما السيّد مَن أنعم عليك بنعمة الحياة، وخلع عليك بعد العدم خلعة الوجود، وربّاك في بواطن الأصلاب وبطون الأرحام ستيراً، لا تراك سوى عينُه، ولا ترعاك سوى عنايتُه، فذاك هو الربّ والمالك والسيّد حقيقةً من غير تسامح في المعنى، ولا تَجوُّزٍ في اللفظ، وأنت ذلك العبد المملوك بحقيقة العبوديّة، المربوب بنعمة الإيجاد والتكوين، والصنع والخلق، وقد اقتضت تلك العبوديّة، حسب النواميس العقليّة، والاعتبار والرويّة، المُعزَى إليها بقوله عزّ شأنه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات:56.

فالعبادة معناها كلفظها مشتقّة من العبوديّة، وهي شأنٌ من شؤونها وأثرٌ من آثارها، فإنّ العبوديّة قضت على العبد - حفظاً لاستدامة تلك النعمة، بل النِّعَم الجمّة وامتدادها أبديّاً - أن يقف العبدُ موقفَ الإذعان والاعتراف بها لوليّها ومولاها، فكما أنّه في موطن الحقّ والواقع عدمٌ صرف وعجزٌ محض، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة، كذلك يكون في موطن الخارج والظاهر ماثلاً بين يدَي مولاه في غاية الخضوع والذلّة، والعجز والحاجة...

إذاً، فالعبادة على الحقيقة هي كون العبد في مقام الاعتراف والإذعان بالعبوديّة مقروناً بما يليق بها من استعمال ما يدلّ على أقصى مراتب الخضوع والذلّة؛ بالسجود والركوع، والهرولة والطواف، وغير ذلك ممّا وصفته الشرائع، وأوعزت إليه الأديان من معلوم الحكمة ومجهولها، ومبهم الحقيقة أو معقولها.

تلك هي العبادة الحقيقيّة، غايته أنّ عامّة النّاس قصرت أفكارهم عن اجتناء ذلك اللبّ واقتصروا على القشور من العبادة، اللّهمّ إلّا أن يكون ذلك مرتكزاً في أعماق نفوسهم على الإجمال في المقصود، دون التفصيل والاستحضار والشهود، وكيف كان الحال، فهل تحسّ أنّ أحداً من زوّار القبور والمتوسّلين بأربابها يقصد أنّ القبر الذي يطوف حوله، أو صاحبه الملحود فيه هو صانعُه وخالقه، وأنّه بزيارته يريد أن يتظاهر بالعبوديّة له فتكون عبادةً له؟! أو أنّ أحداً من الزائرين يقول للقبر - أو لمَن فيه: يا خالقي ويا رازقي ويا معبودي؟!

كلّا ثمّ كلّا ما أحسب أنّ أحداً يخطر على باله شيء من تلك المعاني مهما كان من الجهل والهمجيّة، كيف وهو يعتقد أنّ صاحب القبر بشرٌ مثله عاش ومات وأصبح رميماً رفاتاً. نعم، يعتقد أنّ روحه باقية عند الله - جلّ شأنه - فهو بها يسمع ويرى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ آل عمران:169، ونظراً إلى تلك الحياة يخاطبه ويسلّم عليه ويتوسّل به إلى الله، سبحانه، ويطلب الشفاعة منه.

وبعد هذا كلّه فهل تجد من الحقّ والإنصاف تشبيه الزائرين بعبَدة الأصنام، وهذه منابرهم ومنائرهم ومشاعرهم تضجّ في الأوقات الخمس بل في أكثر الأوقات بشهادة أنْ لا إله إلّا الله، ويلهجون بأنّه لا معبود إلّا الله؟! فهل ذلك القول إلّا قولُ مجادلٍ بالباطل يريد أن يدحض به الحقّ، ويلقحَ شرر الفساد في الأرض، ويريقَ دماء المسلمين ظلماً وعدواناً؟! وممّا ذكرنا من معنى العبادة وحقيقة معناها يتّضح أنّه لا شيء من تلك العناوين الممنوعة عند الوهّابيّة، من الشفاعة والوسيلة، والتبرّك والاستغاثة والزيارة وأمثالها، له مسيسٌ بالعبادة بوجه من الوجوه، هذا مضافاً إلى صدوره من النبيّ صلّى الله عليه وآله وأصحابه والتابعين الواردة في صحيح الأخبار من صحيحَي البخاريّ ومسلم وغيرها، وقد استوفى جملةً منها جدّنا كاشف الغطاء - رفع الله درجته - في رسالته (منهج الرشاد) وفيها مقنع وكفاية، مَن أرادها فليراجعها.

 

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

16/07/2015

دوريّات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات