مرابطة

مرابطة

منذ 6 أيام

فلسطين تتّحد بانتفاضة الكرامة


فلسطين تتّحد بانتفاضة الكرامة

____ د. مصطفى يوسف اللّداوي* ____

الانتفاضة دائماً، الأولى والثانية والثالثة اليوم، فعلٌ مباركٌ، وعملٌ عظيمٌ، ومقاومةٌ محمودة، وعطاءٌ موصول، وجهدٌ موفور، ونفيرٌ عامٌ، وقوّةٌ كبيرة، وشجاعةٌ لافتة، وهي بالخير تأتي على الشعب والأمّة، وعلى الوطن والبلاد، وعلى العامّة والخاصّة، إذ يفيض خيرها، ويعمّ فضلها، ويمتدّ ظلّها، وتسود منجزاتها، وتتعاظم استحقاقاتها، وتتوالى نتائجها الطيّبة، وما تأتِ به من خيرٍ شامل، وفضلٍ سابغٍ تعجز عن الإتيان به السياسة والمفاوضات، والسلطة والحكومة، والقوى والفصائل والأحزاب، التي تستظلّ بظلّ الانتفاضة، وتتفيّأ تحت ظلالها الوارفة، تستفيد منها وتكسب، وتغنم منها وتتعلّم، وتحاول أن تتقدّمها وتسبق، أو تلحق بها ولا تتأخّر، إذ أنّ الخاسر هو من فاتته الانتفاضة ولم يلحق بها ولم يشارك فيها.

الانتفاضة توحّد الشعب، وتجمع الكلمة، وترطّب القلوب، وتصفّي النفوس، وتجمع الشتات، وتقرّب البعيد، وتنسي الهموم، وتقضي على المشاكل وتستر العيوب. فهي ذات فعلٍ عجيبٍ وأثرٍ كالسحر، تجمع المتناقضات، وتوحّد بين المتضادّات، وترفع الصوت وتجعل منه صوتاً واحداً، قويّاً مجلجِلاً، يخيف ويرعد، ويدوّي ويهدّد، ويؤكّد أنّ هذا الشعب بخيرٍ وإن أصابته هنات، أو قعد ولحقت به على مرّ الأيام سقطاتٌ، فإنّه دوماً ينهض، وغالباً يستفيق، ويعود أقوى من ذي قبل، وأشدّ بأساً وأصعب مراساً ممّا كان، فلا يقوى عليه العدوّ ولا يلجمه، ولا يشكمه ولا يرعبه، بل يخافه ويتحسّب منه.

الفلسطينيون في كلّ مكانٍ من أرض الوطن فلسطين وقفوا اليوم لأجل القدس، وهبّوا لنصرتها، واتّحدوا في الدفاع عنها، فلم يغضب لأجل القدس ساكنوها ومجاوروها في الضفة الغربية فقط، ولم تجد القدس وبلداتها القديمة الصامدة أنفسهم وحيدين في الميدان، ضعفاء في المواجهة، يواجهون صلف الاحتلال دون سندٍ أو نصير، وإن كانت هبّتهم عظيمة، واستبسالهم مهول، وتحدّيهم كبير، وغضبهم جارف، واندفاعهم جريء، فكانوا جديرين بنسائهم ورجالهم، وشِيبهم وشبابهم، أن يكونوا حماةً للأقصى، وحراساً للقدس.

بل هبّت معهم وقبلهم جنين وطولكرم، ونابلس والخليل، وبيت لحم ورام الله وقلقيلية، ومعهم كلّ المخيمات والبلدات والقرى، في هبّةٍ جماهيريةٍ أعادت للفلسطينيين صور الانتفاضة الأولى الناصعة، التي كانت تنتضي في تظاهراتها كالسيوف اللامعة، تواجه بصدورها العارية الدبابة والبندقية، والجندي المدجّج بالسلاح وكأنّه في ميدان حربٍ أو ساحة قتال، فكانوا سبّاقين قبل غيرهم، ليقولوا للقدس وأهلها إنّنا معكم ومنكم، يدنا مع أيديكم، وقلوبنا وسيوفنا معكم، وحجارتنا إلى العدوّ تسبقكم، ولن يمنعنا عن نصرتكم قتلٌ ولا قنصٌ، ولا إعدامٌ غادرٌ وتصفياتٌ جبانة.

أمّا غزة البعيدة عن القدس، والمعزولة عنها بأسوار الاحتلال العالية، وجدرانه السميكة، وسياساته الظالمة، التي تحرمهم من التواصل مع أهلهم، والصلاة في مسجدهم، والمشاركة في الرباط معهم، فإنّها هبّت من خلف الأسلاك الشائكة، التي تفصل بينها وبين جنود الاحتلال، وحمل شبابها الحجارة، وقذفوا به وجوه العدوّ، مستعيدين مجد آبائهم، وتضحيات إخوانهم، وهم في أغلبهم شبابٌ يافعٌ ما شهد الانتفاضة الأولى، ولا عاش أيامها الماجدات، ولا ناله شرف حمل حجارتها، والخوض في رماد شوارعها، ولا ذرفت عيونه الدموع من أثر قنابل الغاز المسيلة للدموع التي كان جيش الاحتلال يغرق غزّة ويخنق سكّانها به.

ولكن هذا الجيل من الشباب شهد حروباً ضروساً، ومعارك طاحنة، وصمد أمام القصف والغارات الجوية المهولة، وتحمل الحصار والحرمان والمعاناة، وثبت أمام همجيّة العدوان، ورسم لشعبه صوراً عظيمةً في المقاومة والهجوم والمباغتة، فكان خروجه في مواجهة جنود الاحتلال ولو من وراء الأسلاك الشائكة، نصرةً للقدس وأهلها، ودفاعاً عن المسجد الأقصى وحقّ المسلمين فيه، ورسالةً صارخةً قويّةً مدويةً أنّ غزّة جزءٌ من الوطن فلسطين، وأنّه لا تنبتّ عن أهلها، ولا تنفصل عن وطنها، وأنّها تهبّ نصرةً للقدس مع سكّانها، وتضحّي في سبيلها، لأنها تؤمن أنّ القضية واحدة، والوطن واحدٌ، كما أنّ العدو المحتلّ الغاصب واحدٌ.

أمّا الأهل في أرضنا المحتلة عام 1948م، في حيفا ويافا، وفي اللّد والرملة، وفي النقب والناصرة وغيرها، فقد كانوا أسبق منّا وأسرع، وهم الذين هبّوا للرباط في المسجد الأقصى قبل أهله، والدفاع عنه قبل جيرانه، وسقط منهم فيه شهداء، وقُتل على الطريق أثناء عودتهم في حوادث سيرٍ كثيرون، ولكنّ الموت لم يمنعهم من مواصلة الرباط، وممارسات الاحتلال واستدعاءات شرطته لم تُخيفهم، ولم تقلّل من أعداد الوافدين الراغبين في المشاركة ونيل فضل الرباط وبركة المقاومة، وقد شاركوا هبّة القدس جميعاً، ليقولوا للمحتلّ «الإسرائيلي» إنّنا عرب مسلمون، لغتنا عربية، وديننا الإسلام، وكتابنا القرآن، ما نسينا ولن ننسَ.

لا شيء كالانتفاضة يوحِّد فلسطين وأهلها، ويرسم لهم صورةً جميلةً براقة، ناصعةً زاهيةً، يتغنّى بها أهلها ويفرحون، ويباهون بها ويتباهون، ويقولون لغيرهم هذه هي فلسطين الأصيلة، وهذا هو شعبها الكريم، وهذه هي حقيقتنا التي كنتم تعرفون وتدعمون، وهذه هي انتفاضتنا التي كنتم تؤيّدون وتساندون، وها هم اليوم صفاً واحداً، وجبهةً موحدةً، لا انقسام بينهم، ولا فُرقةَ تمزّقهم، ولا اختلافات تباعد بينهم، فاللّهُمّ انصُرهم وأيِّدهم، واحفظهم وبارك في جهدهم، واحفظ عطاءهم وتضحياتهم، واحمِ بدمائهم القدس والأقصى، وأعِد إلينا الأسرى والمَسرى.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

منذ 6 أيام

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات