ملحق شعائر/ 21

ملحق شعائر/ 21

09/01/2016

استراتيجيّة التعبئة

ملحق شعائر/ 21

 

 

 

استراتيجيّة التعبئة

النصّ  الكامل لحديث الإمام الخامنئي دام ظلّه أمام قادة قوّات التعبئة

طهران 25-11-2015

 

 

باسمه تعالى


وسط الاحتدام الذي يشهده العالم الإسلاميّ اليوم، تبدو الأمّة أمام جملة من الاستحقاقات الكبرى للدفاع عن حياضها، وحفظ كرامة أبنائها وصون عقيدتها، واستقلال أوطانها وتحريرها من هيمنة المستكبرين، ومن جاهلية الفتنة العمياء التي لا تَني تعصف بشعوبها لسنوات خلَت.

وعند كلّ منعطف من أزمتنا الحاضرة تتطلّع الأمّة الإسلامية إلى مرجعياتها وولاة أمرها؛ من خلالهم ترنو إلى القول الفصل، توجيهاً واسترشاداً والتزاماً بمنهجهم وبياناتهم الهادية لبلوغ أهدافها المنشودة.

اليوم، وفي المنعطف التاريخي الذي تعبره الأمّة نجدنا بإزاء تحدّيات كبرى متعدّدة الوجوه والعناوين. منها ما يتّصل بالمطامح المتمادية من جانب الاستكبار للسيطرة على بلاد المسلمين، وإعادة ترتيبها على نصاب مصالحه وأطماعه، سواء عبر الاحتلال المباشر أو من خلال «حرب ناعمة» متعدّدة الأشكال والأفعال.. ومنها ما يتعلّق بنار الفتن العمياء وموجات التكفير والإرهاب الأسود، وكلّ ذلك في سياق المجرى المحموم لتشويه عقيدة الإسلام المحمديّ العظيم وثقافته الاصيلة.

مثل هذا المشهد المدوِّي، وسواه ممّا يعصف ببلاد العرب والمسلمين في الحقبة الراهنة بات يتصدّر المفاصل الأساس في خُطب سماحة الإمام السيد علي الخامنئي ومواقفه وتوجيهاته، فالقضية عند سماحته لا تتوقّف على حدثٍ تفصيليّ أو ظاهرة عابرة، وإنما هي حلقات متّصلة في محراب قيادته ومسؤولياته. ذلك أنّ هموم الأمّة الكبرى تدخل دخولاً بيّناً صميم الإستراتيجية العليا الآيلة إلى تحديد آفاق المواجهة ومقوّمات النصر.

* * * * *

في هذا الملحق سنعرض إلى واحدٍ من العناوين الحاسمة التي تطرّق إليها سماحة الإمام قبل أسابيع قليلة خلال لقائه قادة قوات التعبئة في الجمهورية الإسلامية في إيران.

تكمن أهمية هذا الحديث في اندراجه ضمن الإستراتيجية العليا المشار إليها. فهو يستجيب لأحد أخطر التحدّيات التي تواجهها الأمة، وهي ضرورة الإعداد والاستعداد وتهيئة شروط المواجهة المطلوبة للأخطار المحدقة. ولأجل ذلك وجدنا من خلال استعادته وتقديمه إلى القارئ الكريم، أن نلفت إلى المكانة الاستثنائية التي يتبوّأها في هذه الحقبة الدقيقة والحسّاسة من تاريخ العالم الإسلامي. على أن إلفاتنا إلى أهمية هذا الحديث ومفصليّته إنما يعود أولاً، إلى تضمّنه رؤية عميقة في تحديد واقع الحال الذي تعيشه الأمّة، وثانياً إلى أنه يعيّن التخوم الدقيقة بين جبهة الأعداء والأصدقاء، فضلاً عمّا يترتّب على جبهة المقاومة من واجبات في إطار استراتيجيات التصدّي بأشكالها ومساراتها المختلفة.

يطرح سماحة السيد القائد في حديثه جملة من النقاط تؤلّف المرتكزات الأساسية التي ينبغي الأخذ بها لتكوين استراتيجية تعبئة شاملة وناجعة على الصعد الإيمانية والثقافية والسياسية والعسكرية والأمنية.

ينطلق سماحته من الثابت الإيماني في مقاربة فضيلة التعبئة، وذلك انطلاقاً من وجوبها الإلهيّ طبقاً لما ورد في كتاب الله العزيز: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ..﴾ الأنفال:60، إلى سواها من الآيات البيِّنات التي تحثّ على الرباط والتعبئة والاستعداد. وقد بيَّن الجوانب التربوية والأخلاقية للتعبئة حيث ربط بين هذا الفعل الجهادي في المسار الحضاري للأمّة، والمقاصد المرتجاة منه لإقامة العدل الإلهيّ تحت قيادة بقية الله الأعظم وإمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

* * * * *

تجدر الإشارة إلى اشتمال هذا الحديث على معاينة دقيقة وتفصيلية للتحوّلات التي عاشتها المجتمعات الإسلامية وهي تواجه أعداء الخارج، ولا سيما لجهة ظهور المقاومات وجبهات التحرير الوطني التي نشأت كتعبيرٍ عن إرادة الشعوب. غير أن ماهية المقاومة الإسلامية وعملها كما تحدّدت معالمها وشروطها الإيمانية والأخلاقية والسياسية في هذا الحديث، تشكّل مدرسة وقدوة لتحقيق التحرير الناجز تبعاً لحقائق الوحي ومكارم الأخلاق.

* * * * *

وإذ تتشرّف مجلّة «شعائر» في نشر هذا الملحق، تلفت عناية القرّاء الأعزاء إلى أن حديث الإمام الخامنئي الذي توجّه به إلى قادة التعبئة جاء خلال ذكرى يوم التعبئة الذي انعقد في حسينية الإمام الخميني قدّس سرّه في طهران في النصف الثاني من تشرين الثاني 2015م.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

«شعائر»

شتاء 2016م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّدٍ وآله الطاهرين، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين، ولعنةُ الله على أعدائهم أجمعين.

 قدِمتم خير مَقدم أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء، ونشرتم بأنفاسكم الدافئة وقلوبكم الطافحة بالمحبة والمودة، ولا سيّما بكلمات قادتنا الأحبّاء - السيد جعفري [القائد العام للحرس الثوري] والسيد نقدي [رئيس منظمة تعبئة المستضعفين] - العَبَق التعبويّ في أرجاء هذه الحسينية. وهذا عَبَقٌ لا بدّ من إدراكه واستشمامه، وهذه ظاهرةٌ ينبغي معرفة حقيقتها المذهلة والمباركة بشكل صحيح.

كما أبارك لكم جميعاً ذكرى يوم تأسيس التعبئة، راجياً الله سبحانه وتعالى أن يجعلكم أنتم الإخوة والأخوات فرداً فرداً وكل من ينضوي تحت قيادتكم، ممّن يكون بقية الله الأعظم أرواحنا فداه راضياً عنهم وداعياً لهم، وأن يحشركم في الدنيا والآخرة مع هذه الأنوار المقدسة بقلوبكم وأجسامكم وأرواحكم.

 أودّ أن أغتنم هذه الفرصة لأطرح جملة من النقاط:


بين «مقاومتهم‌« و«مقاومتنا»

النقطة الأولى هي أن ظاهرة التعبئة ظاهرةٌ إبداعية، ولا يعني ذلك أن قوى المقاومة الشعبية لم يكن لها وجود في البلدان والبقاع الأخرى، فلقد كان لها وجود وهذا ما نعلمه، غير أنّ قوات المقاومة في شتى بلدان العالم، شرقاً وغرباً، غالباً ما تختصّ بفترات القمع والكبت والكفاح، وبعد انقضاء فترة الكفاح - سواء عبر إمساك فصائل المقاومة نفسها بزمام السلطة أو إمساك غيرها بمساعدتهم - تنتهي قوى المقاومة وينقضي أمد هذا التنظيم الشعبي، وهذه هي الحالة السائدة في العالم، والمعروفة لدى كلّ مَن له اطلاع بفصائل المقاومة الشعبية في شتّى بلدان إفريقيا وأوروبا وآسيا.

ففي فترة تسلّط الفرنسيّين على الجزائر مثلاً، تشكّلت فصائل المقاومة الشعبية، وخاضت كفاحاً مريراً لسنوات طوال لربّما يبلغ ثمانية إلى عشرة أعوام، وبذلوا جهودًا جبارة، ولكن بعد أن تأسّست الحكومة الثورية، تبدّدت هذه الفصائل وتفرّق جمعها، حيث تربّع البعض منهم على كرسيّ الحكم، وشكّل البعض الآخر حزباً، وبالتالي لم يبق شيء باسم فصائل المقاومة.

أو في عهد الاحتلال الألماني لفرنسا مثلاً، تبلورت جماعات المقاومة من اليساريين واليمينيّين والمعتدلين، وأخذت تمارس نضالها لفترات طويلة، ولكن بعد انهيار الاحتلال وتشكيل الحكومة، انتهى تاريخ  صلاحية هذه الجماعات ولم يبق أثرٌ منها. وأشرت إلى أنّهم إمّا كانوا يجلسون على سدّة الحكم، وهؤلاء بالطبع، حينما يصلون إلى السلطة يصابون بآفاتها، وهذا ما شاهدته بالعيان في بعض البلدان. فإنّ أولئك الذين جاهدوا جهاداً مريراً في الخنادق وعلى التراب والأرض لسنوات حتى الوصول إلى السلطة، أخذوا ينتهجون في فترة حكمهم نفس ما كان ينتهجه مثلاً ذلك القائد البرتغالي الذي كان حاكماً على هذا البلد، ويتبعون نفس الأسلوب من دون أي فارق، فقد كان الهدف من النضال هو الوصول إلى السلطة، وهذا ما شاهدته بنفسي في مواطن متعددة حيث تتبدّل حقيقتهم، أو أنّه كان يصل غيرهم إلى السلطة، وهم مثلاً يشكّلون الأحزاب، كما هو حال بعض الأحزاب الموجودة في هذه الدول التي كان نضالها بدافع الوصول إلى السلطة.

 فإنّ الهدف الذي تتوخّاه الأحزاب الغربية، وبتبعها الأحزاب الموجودة في كلّ العالم، هو الإمساك بزمام السلطة، وهذا يعني أنّ الحزب يناضل بغية التربّع على كرسي الحكم، ثم يشرع الحزب الآخر بالكفاح لانتزاع الحكم من يديه. وفي الحقيقة فإنّ الأحزاب التي يُطلق عليها اليوم عنوان الحزب في العالم، لا تشكّل الأرضية لمتابعة المفاهيم والمعارف السامية التي يؤمن بها نفس ذلك الحزب، نظير ما كان يتبادر إلى أذهاننا في أوائل الثورة من مفهوم الحزب، فإنّ هذا غير رائج في العالم المعاصر، وإنّما الهدف هو أن تتشكّل فئة - كنَادٍ أو مجموعة - وتسعى للوصول إلى السلطة، وبعد تحقيق أهدافها تقتفي آثار نفس الحكومة السابقة دونما فارق.

إذاً، فإنّ فصائل المقاومة [كانت] تؤول بعد الانتصارات إلى الزوال والاضمحلال والانقراض. ولكن أن تبقى هذه الفصائل كالتيّار الجاري والنبع الفيّاض بعد الانتصار أيضاً، وتزداد يوماً بعد آخر تألّقاً ووعياً، وتنزل إلى مختلف الساحات التي يحتاج البلد إليها بصورة تنظيمية، وتنمو وتتكامل كمّاً ونوعاً، وتتوصّل إلى مفاهيم جديدة، وتتمكّن من أداء دورها في التحدّيات المستحدثة، كما هو حال قواتنا التعبوية، فهذا ما لم يسبق له في العالم نظيرٌ ومثيل.


التعبئة.. إبداع الإمام الخميني

وهذا هو (إنجاز) الإمام الخميني رضوان الله عليه وإبداعه، حيث أسّس التعبئة من صلب الشعب. فإنّها ليست مؤسسة مفصولة عن الناس، وإنّما هي متكوّنة من مختلف شرائح الشعب الذين ينتمون إلى هذه المنظومة في الجامعات والمزارع والأسواق والأجهزة المختلفة الحكومية وغير الحكومية. والتعبئة في الحقيقة تعتبر اصطفاءً خاصاً من بين أفراد الشعب لتكون ممثِّلة عنه. وهذه هي التي أسّسها الإمام رضوان الله عليه، فتنامت وتوسّعت يوماً بعد يوم، وظهرت بصورة بارزة وعظيمة ومذهلة. وإنّ الكثير من قادة الحرس الثوري الذين تسمعون أو تقرأون عنهم ما يثير الدهشة، سواء من الشهداء أو الأحياء، هم من التعبويّين الذين نزلوا إلى ساحات الدفاع المقدّس في بادئ الأمر بهذه السمة، من دون أن يكونوا متفرّغين أو موظفين، فتفتّحت مواهبهم، وتبدّلوا إلى قادة كبار أمثال الشهيد «باقري»، والشهيد «كاظمي»، والشهيد «بروجردي»، وغيرهم الكثير. هذا في ساحة الجهاد والمعركة. وكذلك الحال في ميدان العلم، فإنّ الكثيرين ممّن حقّقوا إنجازات كبيرة في ساحة العلم والتكنولوجيا، إمّا أن يكونوا منتمين إلى منظّمة التعبئة، أو أنّهم تعبويّون في الحال الحاضر من دون أن تُسجَّل أسماؤهم في قائمة منظّمة التعبئة، حيث يعتبرون أنفسهم من قوات التعبئة، من أمثال شهداء الطاقة الذرية - بمن فيهم «رضائي نجاد»، و«أحمدي روشن»، و«شهرياري»، و«علي محمدي»، وغيرهم - الذين أدّوا دوراً بارزا ًفي المسائل التقنية النووية المهمّة، وقد شاهدناهم عن كثب، وفي الحقيقة فإنّ هؤلاء جميعاً يدخلون في عداد العناصر التعبوية.

سمات التعبئة والتعبويّين

إنّ للتعبئة تعريفها المحدّد: فالمراد منها هم أفراد الشعب الذين يوجدون في وسط الساحة بأهداف إلهيّة سامية، وبروح مثابرة لا تعرف الكَلل والملَل، وفي كلّ مكان يتطلّب الأمر، وينزلون بكلّ قدراتهم وطاقاتهم إلى الميدان، ولا يهابون المخاطر التي تعترض الطريق؛ أي إنّهم حملوا أرواحهم على أكفّهم. وقولنا إنّ «فلاناً قد حمل روحه على كفّه» سهلٌ في الكلام، ولكنّه في العمل لا يتّسم بهذه السهولة. والتعبوي هو ذلك الشخص الذي أعدّ نفسه لهذه المهمّة الشاقّة؛ ألا وهي بذل النفس، بل وحتى بذل تلك الأمور التي قد تكون أعزّ من النفس؛ هذا هو معنى التعبئة. وهذا من مميّزات بلدنا ومن مختصّات الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية.

 إنّ من سمات التعبئة وخصائصها هي الوجود (الحضور) الواسع الذي يجب الحفاظ عليه، في مختلف الساحات العسكرية والعلمية والفنية - من أمثال الشهيد السيد «مرتضى آويني» الذي كان تعبوياً، إلى غيره من الفنانين الملتزمين والموالين، سواء في عالم الفنون التشكيلية أو الشعر أو الأدب وما إلى ذلك - وكذا في الساحة التقنية، وأخيراً في المسائل الاقتصادية التي أوصيتُ رجال الحكومة في شأنها، وقلت لهم بأنّ قوات التعبئة مستعدّة للحضور والمساهمة في ساحة الاقتصاد المقاوم. وعلى الإخوة الأعزاء بالطبع من قادة التعبئة والحرس الثوري أن يحذروا كلّ الحذر، فإنّ الأنشطة الاقتصادية من المزالق، [وعلى حدّ قول الشاعر سعدي الشيرازي]: «إذا كثُر الوحل، زلّت أقدام الفِيَلة»؛ فليكونوا حذِرين ومراقبين. وسوف أشير فيما يأتي إلى أنّ القضايا المالية والاقتصادية ونحوها هي واحدة من كمائن العدو ومصائده التي يجب فيها توخّي الحيطة والحذر الشديد. فإنّ الإنسان مُعرَّضٌ للامتحان على الدوام، وهذا ما يجب عليكم أن تعرفوه، وأنتم تعرفون ذلك بالفعل، لأنّه من بديهيّات المعارف الإسلامية. أي إنّ المرء حتّى إذا بلغ مرتبة بلعم بن باعورا - ذلك الرجل الذي يُستجابُ له إذا دعا، ولا يُردُّ له طلب وسؤال عند الله - فقد يزلّ ويَهوي. هناك مسار يصعد بكم إلى الأعلى. وفي جميع اللحظات والحالات والخطوات التي تقطعونها نحو الأعلى، هناك هاوية تحت أقدامكم، وكلّما خطوتم خطوة إلى الأعلى، كانت الهاوية أشدّ وأقسى وأخطر، ما يدعو إلى ضرورة المراقبة والحذر، وهذا ما سوف أشير إليه.

إذاً، فإنّ من سمات قوات التعبئة مساحةَ وجودهم التي تغطي جميع الساحات التي ذكرناها والتي لم نذكرها، والتي يمكن للتعبويين الوجود فيها.

 ثمّ إنّ الحضور التعبوي يعني حضور الناس، وأينما وُجدت قوات التعبئة، فذلك يعني أنّ الشعب الإيراني حاضر وموجود في تلك الساحة، وكما ذكرت فإنّ التعبئة تعدّ نموذجاً ومثالاً ومعلماً من معالم الشعب الإيراني. ومن الواضح أنّ الوجود هذا هو في سبيل الدفاع عن المبادئ والقيم والهوية الثورية والوطنية، ومساعدة هذا الشعب وهذا البلد لبلوغ تلك المراحل التي تليق به، والتي قد حدّدها ببركة الثورة الإسلامية، وراح يحثّ الخطى باتجاهها. فإنّ هذا هو المراد من وجود قوات التعبئة، حيث يتعيّن عليهم الدفاع.

 

 

العدوّ مشخَّص.. الاستكبار

وحينما نقول يتعيّن عليهم الدفاع، يتبادر سؤال إلى الأذهان، وهو أنّه: هل هناك هجومٌ حتى يجب الدفاع؟ وهل ثمّة عدوٌّ يتعيّن الدفاع لمواجهته؟ هذا سؤال يخطر في الذهن. وأنتم تعلمون الجواب بوضوح، فإنّ هناك عدوّاً غدّاراً محتالاً مقتدراً مخادعاً، شيطانيَّ النزعة، يواجه هذه الحركة، ولكن من هو هذا العدوّ؟ إنّه الاستكبار.

وإنّ الذي يجسّد الاستكبار اليوم هو أميركا، وبالأمس كانت بريطانيا. ثمّ إنّ هذا العدوّ ليس [غافلاً عنّا]، وإنّما هو في شغل شاغل. وهذا التحليل الذي ورد في مستهلّ حديث قائدنا العزيز جعفري، تحليل صائب تماماً. فإنّ الصراع العالميّ اليوم قائمٌ بين الحركة الاستكبارية والحركة [التي تنادي] بالقِيَم والاستقلال الوطني وحفظ الهويّة، المتمثّلة بالثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية؛ على هذا يدور الصراع اليوم في العالم، ولا يعني ذلك عدم وجود أيّ صراع آخر، فإنّ الكلاب بالتالي تتكالب على الجيفة، وتتناحر فيما بينها، بيد أنّ هذا هو الصراع الأصلي، وهو النهج الأساسي، وهو الجبهة الرئيسية. ولذلك فالعدو موجود ومتنبّه.


مثلّث: المال، الهيمنة، التزوير

ذكرت أنّ أميركا هي التي تجسّد الاستكبار في هذا اليوم، غير أنّ هذا يرتبط بالجهاز السياسي للاستكبار، والاستكبار لا يختصّ بالجهاز السياسي [وحسب]، بل قد يكون الجهاز المالي أكبر أهميّة وأشدّ تأثيراً، كالشركات الضخمة والرأسماليين الكبار في العالم الذين هم في الأغلب من الصهاينة، وهذه كلّها تدخل في عداد منظومة الاستكبار، وهم يمارسون أعمالهم باستمرار، ويمثّلون في الحقيقة المال والقوة. وما قيل حول مثلّث الذهب والتسلط والتزوير صحيح أيضاً. وكنا في الماضي إذا ما ذكرنا هذا المثلث، نقصد بالتزوير، التزوير الديني. أي العناصر التي تظهر بمظهر ديني وتعبّد الطريق وتمهّد السبيل لدخول جيش المال والقوة. إلّا أنّ مرادنا من التزوير في الوقت الراهن لا ينحصر في التزوير الديني، وإنّما يشمل التزوير السياسي أيضاً. فإنّ الأجهزة السياسية والدبلوماسية باتت تقوم بالتحريف وتمارس عملية التزوير ووضع الدسائس والمؤامرات والبرامج والمخطّطات بكلّ قوّة، حيث يظهرون بوجه بشوش، ويتقدّمون بأذرع مفتوحة، وفي الوقت ذاته وكما شاهدتم في بعض الأفلام، يعانقون الطرف الآخر، ويغرزون الخنجر في صدره! ومن هنا، فإنّ التزوير اليوم يشمل التزوير السياسي والدبلوماسي ونحو ذلك أيضاً، ما يوجب التفاتنا وتنبّهنا.

 هذا هو نوع من أنواع العداء الذي قد يظهر بأشكال مختلفة. فلا بدّ لنا من التنبّه إلى ذلك؛ أي تكرار هذا الأمر مع أنفسنا والتدرّب عليه بشكلٍ متواصل، لئلّا يغيب عن ذاكرتنا ولكي نعرف ما الذي يجب علينا فعله. وعلينا جميعاً – من سياسيين ومديري البلاد، وأنتم التعبويون الأعزاء والآخرون من النشطاء وأهل الفكر والعمل - أن نبقي هذه القضية حاضرة بقوة في أذهاننا.


النفوذ والتغلغل، أو العداء الناعم

إنّ من أنواع العداء، هو العداء الصلب الذي يتمثّل في قذف القنابل وإطلاق الرصاص وإرسال الإرهابيّين. وثمّة نوع آخَر للعداء وهو العداء الناعم، وقد أشرت قبل فترة إلى قضية النفوذ والتغلغل، وهي قضية بالغة الأهمية. علماً بأنّ البعض قد أبدى ردود فعل حيال طرح هذه القضية، قائلين بأنّ النفوذ قد أصبح مسألة تيّارات وأجنحة داخلية، وباتوا يستغلّونها استغلالاً فئوياً، أنا لا شأن لي بهذا الكلام، فليكفّوا عن الاستغلال الفئوي، وليوقفوا الجدل والمناقشات التي لا طائل من ورائها حول هذه القضية، وليتجنّبوا طرح عنوان النفوذ فارغاً عن المحتوى المناسب له، ولا شأن لنا بهذه الأمور، ولكن ومع كلّ ما يقال، وما يتمّ من إنجاز أعمال مهمّة، لا ينبغي التغافل عن أساس هذه الحقيقة، وهي أن العدو في صدد النفوذ والاختراق. وسوف أتناول قليلاً شرح حقيقة النفوذ وطريقته، لئلّا نغفل عن أساس القضية، فلا تتهم التيارات بعضها البعض، بأن يخاطب كلٌّ منها الآخر أنّك كنت تقصد من كلامك هذا الشيء، فليكن المقصود كائناً ما كان، ولكن لا ينبغي تناسي هذه الحقيقة التي بات العدوّ يخطط لها.


النفوذ على مستوى الأفراد والجماعات

النفوذ على نمطَين: نفوذ جزئي وفردي، ونفوذ جناحي تياريّ (حزبيّ). فللنفوذ الجزئي نماذج كثيرة، وهو يعني أن يكون لكم على سبيل المثال مركز، أو أن تكون لكم مسؤولية، فيدسّون شخصاً بوجهٍ مقنَّع قد تمّ تجميله وتزيينه في داخل مجموعتكم، فتتصوّرون أنّه صديقكم، والحال أنّه ليس بصديق، ليتمكّن عبر ذلك من تحقيق أهدافه، فتارة يقوم بالتجسّس وتتبّع المعلومات والأخبار وإرسالها، وهو أقلّ أنواع النفوذ الفردي أهميّة، وتارة يقوم بما هو أخطر من التجسّس، وهو التغيير في قراراتكم. فإنّك لو كنت مديراً، ومسؤولاً، ومن أصحاب القدرة على اتّخاذ القرار، وبإمكانك أن تقطع خطوة شاسعة أو مؤثِّرة، وكانت هذه الخطوة بحيث لو تمّت بهذه الطريقة لجرت لمصلحة العدو، فإنّه يتدخّل في الموضوع ويعمل ما من شأنه أن تخطو هذه الخطوة بهذه الطريقة، وهذا يعني صناعة القرار. ولهذا النمط من النفوذ وجود في الأجهزة كافة، ولا يختص بالأجهزة السياسية، بل له وجوده على الدوام حتى في الأجهزة العلمائية والدينية وأمثالهما أيضاً.


تسلّل الأعداء إلى مراكز القرار

نقل لي المرحوم السيد حسن تهامي، وهو أحد كبار العلماء في بلدنا ومن سكان مدينة «بيرجند»، حيث هاجر إلى هذه المدينة وأقام فيها، وكان عالماً كبيراً، ولو كان بقي في قم أو النجف، لأصبح من مراجع التقليد بالتأكيد، حيث كان غزيراً في علمه. حدّثني قائلاً: حينما اشتعلت نيران الحرب بين العراقيين والبريطانيين في سنة 1918، أي قبل مئة عامٍ تقريباً، كان لأحد المراجع آنذاك خادم معروف بالخير والصلاح، وكان يجالس طلبة العلوم الدينية ويحادثهم، وكان صاحباً وصديقاً لهم جميعًا، والكلّ يعرفه، وقد ذكر اسمه ولكن لم يبقَ في بالي. ثمّ تابع حديثه قائلاً: بعد أن انتصر الإنكليز، واحتلّوا العراق، وكانت آخر مدينة دخلوا إليها هي النجف، وصل الخبر إلى هؤلاء العلماء بأنّ هذا الخادم هو ضابط بريطاني!

يقول: لكنّي لم أصدّق، وقلت مستغرباً: هل يمكن ذلك؟ وذات يوم كنت أمشي في سوق الحويش - وهو سوق معروف في النجف - وإذا بي أرى حوالي عشرة من الضباط والعسكريين البريطانيين يتقدّمون على أحصنتهم - حيث كانوا يومذاك يستخدمون الخيل - وكان في مقدّمتهم ضابط، فوقفت على جانب الطريق ليعبر هؤلاء الضباط، ولكنّهم حينما وصلوا إلى جانبي، رأيت ذلك الضابط الذي يسير في مقدّمتهم، خاطبني من على فرسه قائلاً: يا سيّد حسن، كيف حالك؟! نظرت إليه، نعم، وجدته ذلك الرجل نفسه الذي كان خادماً للمرجع الفلاني! كان يعيش فيما بيننا لسنوات طوال. هكذا قد يتمّ النفوذ الفردي، حيث يتسلّلون إلى بيت الشخص أو إلى مؤسّسته وجهازه. وأمّا في الأجهزة السياسيّة بالأمس فحدّث عنه ولا حرج، وقد تكون هذه الظاهرة موجودة في الوقت الراهن أيضاً، وهي ظاهرة خطيرة.

 لكن الأخطر من ذلك هو النفوذ التياريّ. وأعني به تأسيس شبكات في وسط الناس عبر الأموال، وهنا يتّضح دور الأموال ودور الأبعاد الاقتصادية. وتأسيس الشبكة يتمّ في الأغلب عبر وسيلتين: الأولى المال، والثانية المغريات الجنسية. حيث يستقطبون الأشخاص، ويجتمعون معاً، ويحدّدون هدفاً مفتعلاً مزيّفاً، ثمّ يسوقون الأفراد المؤثّرين الذين يتمكنون من التأثير في المجتمع صوب الاتجاه المنشود لديهم.

ولكن ما هو ذلك الاتجاه المنشود؟ إنّه عبارة عن تغيير المعتقدات والـمُثُل والرؤى ونمط الحياة. فيفعلون ما من شأنه أن يفكّر الشخص - الذي راح ضحية النفوذ والاختراق ووقع متأثراً به - كما يفكر ذلك الأميركي؛ أي أن يجعلوك تنظر إلى القضية كما ينظر إليها الأميركي - مثل السياسي الأميركي ولا شأن لهم بالشعب الأميركي - وتحلّل الأمور كما يحلّلها ذلك المسؤول الرفيع المستوى في الـ«سي آي ايه»، وتطلب نفس ما يريده في نهاية المطاف، فيكون بالتالي مطمئناً فارغ البال، إذ لا حاجة لأن يخاطر ويخوض الساحة بنفسه، لأنّك أنت الذي تقوم بمهمته بدلاً عنه. إذاً هذا هو الهدف من النفوذ المتمثل بالنفوذ التياري [العنقودي] الواسع، لا الجزئي الموضعي. ولو حصل هذا النفوذ وتمّ اختراق الأشخاص الذين لهم تأثيرهم في مصير البلد وسياسته ومستقبله، فانظروا ماذا سيحدث؟ سوف تتغيّر المبادئ والقِيَم والمطالب والمعتقدات.

 حينما تنظرون اليوم، في القضية الفلسطينية، تؤمنون بأنّ هناك ظلماً سافراً يُرتَكب بحقّ أبناء هذا الشعب؛ هذا ما هو مشهود لديكم، وهذه هي نظرتكم. فإنّ ذلك الذي يُعتدى عليه في عقر داره - من الفلسطينيين العرب، سواء كان مسلماً أم مسيحياً - يُدان في النظرة الأميركية، وهو مظلوم في نظركم، فإن تمكّنوا من تغيير نظرتكم، ستنظرون إلى هذه القضية كما ينظرون هم إليها، وتقولون إنّ «إسرائيل» تدافع عن هويتها! ألم يقل أوباما ذلك؟

ففي ذلك الوقت الذي كانوا يلقون قذائفهم وحِمَم نيرانهم على أهالي غزّة ليل نهار، ويهجمون على الناس العُزّل، ويدمّرون منازلهم وحياتهم ومزارعهم ومدارسهم ومستشفياتهم (ويقتلون) أطفالهم، قال الرئيس الأميركي: إنّ «إسرائيل» تدافع عن نفسها! هذه هي النظرة التي يحملونها. وتأسيس الشبكات وصناعة التيارات يؤدّي إلى أن يحمل الشخص الذي يعيش في داخل إيران مثلاً أو في بلد آخر، نفس هذه النظرة. وهذا هو المراد من النفوذ، فانظروا كم هو أمر خطير وحسّاس.


النُّخب وصنّاع القرار مستهدفون

ولكن مَن هم الذين يتعرّضون لهذا النفوذ؟ في الأغلب هم النخب والمؤثّرون وصنّاع القرار وأصحابه، فإنّهم هم الذين يصبحون عرضة للهجوم، ويحاول الأعداء التغلغل والتوغل في أوساطهم، ومن هنا فإنّ النفوذ لَخطرٌ كبير. وقول البعض إنّ زيداً من الناس قد استغلّ مفردة النفوذ استغلالاً فئوياً وجناحياً؛ فهذا لا يحدّ من أهمية المسألة. فإنّه فعل ذلك أم لم يفعل - ولا يحقّ له بالطبع أن يستغلّ هذه القضية استغلالاً فئوياً - لا يُغيّر واقع الأمر، ولا يمكن التغاضي عن هذا الواقع.

 والذي يكمّل هذا النفوذ والتغلغل هو الممارسات الهامشيّة، فإنّ من الأمور التي تؤول إلى تكميل عملية النفوذ، هي تخطئة الذين يشدّدون على الأسس والرؤى الصائبة والقيم، وهذا ما يكمّل النفوذ والاختراق. ولا أريد القول بأنّ هؤلاء الذين يخطّئون التعبئة ويتّهمونها بالتطرّف والتشدّد وما إلى ذلك، إنّما يتعاملون مع المتسلّلين والنفوذيّين ويسايرونهم عن وعي ومعرفة، ولا أدّعي ذلك ولا توجد لديّ معلومات في هذا المجال، ولكن عملهم يُعدّ في الحقيقة مكمّلاً ومساعداً لأولئك، فإنّ هؤلاء الذين يعمدون في شتّى القطاعات وبمختلف الأساليب إلى توجيه التهمة للتعبئة بالتشدد والتطرف وأمثال ذلك، إنما يعبّدون طريق النفوذ في حقيقة الأمر، وإنّ مشروع النفوذ والاختراق يتمّ تكميله بواسطتهم، لأنّ التعبئة هي من متاريس المواجهة للعدو، ولا يجوز إضعاف هذا المتراس الحصين.


بيّنات الثورة ومحكماتُها

إنّني أوصي وأنصح كلّ من هو قادر على الحديث والكلام من أصحاب المنابر، بأن لا يحاولوا إضعاف أُسس البلاد وركائز الثورة الرئيسية، ولا يَسِموا البعض فور حديثهم عن المباني والأصول بالتشدّد والتطرّف والفئوية وما إلى ذلك؛ كلا، ليس الأمر كذلك. ولا يخطّئوا الأسس، ولا يوجّهوا تهمة التطرّف، ولا ينكروا بيّنات الثورة. فإنّ للثورة بيّنات وواضحات ومحكمات، وهذه الأجزاء العشرون وأكثر من خطب وبيانات وكلمات الإمام الخميني موجودة، ولقد كان الإمام مظهراً للثورة، ومتحدّثاً باسم الثورة، ومبيّناً لحقائق الثورة. فلينظروا على أيّ المسائل كان يشدّد الإمام ويؤكّد. وليتجنّبوا إنكار بيّنات الثورة. وهذه هي تلك الأمور التي تتّسم بالأهمية.

إنّني أعتبر التعبئة في غاية الأهمية، وأراها ظاهرة تتّسم ببالغ الأهمية والتأثير والبركة والمستقبل المشرق، وأعتقد أنّ ما يُبذَل من جهود وأعمال، وما يُوجّه إليها من إساءة وتشويه، لن تُوهن قوات التعبئة، وسوف تزداد تأصّلاً وتجذّراً إن شاء الله يوماً بعد آخر. فلقد كانت التعبئة ذات يوم غرسةً دقيقة رقيقة، وأصبحت اليوم شجرة باسقة عظيمة، وسوف تكون بعد اليوم أصلب عوداً بفضل الله، ولكن يجب عليكم أن تراقبوا هذه الشجرة القوية لئلّا تتسرب إليها الآفات. وإنّني هنا أخاطبكم أنتم وأناشدكم بأن تتحلّوا بالدقّة والحذر. تارةً يهجمون على الشجرة بالمنشار لقطعها، وهذا ما يمكن صدّه، وطوراً تتسرّب الآفة إلى داخل الشجرة، وهنا يصعب علاجها.


آفات قد يُبتلى بها أبناء التعبئة

 - الغرور.. أوّل الآفات: إنّ واحدة من آفات التعبئة هي الغرور. فإنّنا ما دمنا تعبويين - ونُعتبر من الصفوة والنخبة، ونتلقّى كلّ هذا الثناء والإطراء - ننظر إلى الآخرين بعين الاستصغار؛ هذه آفة. فإنّكم كلّما تعاظمتم وتساميتم، لا بدّ وأن يزداد تواضعكم ويتضاعف خشوعكم بين يدي الله تعالى. ولكم أن تنظروا إلى استغفارنا الذي يصدر أحياناً من أفواهنا قائلين: «أَسْتَغْفِرُ اللهَ رَبِّي وَأَتُوبُ إِلَيْهِ»، وأن تقارنوا بينه وبين استغفار الإمام السجّاد عليه السلام، أو أن تنظروا إلى أدعيتنا، وتقارنوا بين ابتهالنا وتضرّعنا في الدعاء، وبين تضرّع أمير المؤمنين عليه السلام في المناجاة، أو تضرّع الإمام الحسين عليه السلام في دعاء عرفة، أو تضرّع الإمام السجاد عليه السلام في الصحيفة السجادية، فسوف تجدون أنّه شتّان ما بينها، ولكنّهم يجتهدون في الابتهال والتضرع والاستغفار أكثر منّا بآلاف المرات. فانظروا إلى أمير المؤمنين عليه السلام بكلّ ما يتّسم به من عظمة ومنزلة وعبودية وتقوى، كيف يتحدّث في دعاء كميل عن الخوف من عذاب الله! ولهذا كلّما تعاليتم، يجب أن تستصغروا أنفسكم أمام الله وأمام خلقه. ولقد علّمونا في دعاء مكارم الأخلاق بأن نقول: «وَلا تَـرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَـةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا». فلننظر إلى مسؤولياتنا، وإلى تقصيرنا، وإلى نقاط ضعفنا ونقصنا، وهي ليست بالقليلة، وأنا أتحدّث عن نفسي، وأنتم الشباب أفضل منّا، ولكنّنا جميعاً نعاني من النقص، فلْنُولِ مزيداً من اهتمامنا بها. إذاً فالغرور هو إحدى الآفات. وعليكم أن تراقبوا أنفسكم لئلّا تصابوا بالغرور لكونكم تعبويّين ومضحّين ومستعدّين لبذل الـمُهج.

 - الغفلة والغرَق في ملذّات الدنيا: الآفة الثانية هي الغفلة. فإنّها واحدة من الأمور التي تترتّب على الغرور، لأنّ المرء إذا ما اغترّ كثيراً بقوّته وقدراته وقِيَمه، سيرضى ويطمئنّ من نفسه، وبالتالي سيُصاب بالغفلة. فلا تغفلوا، ولتنظروا دوماً بأعين مفتوحة وأبصار ثاقبة.

الآفة الأخرى - وسأكتفي بهذا المقدار - هي الدخول في منافسات ومسابقات الإمكانات الدنيوية وزخارفها، فهي مسابقة إذاً، حيث المسارعة والجري بحثًا عن زخارف الدنيا وبهارجها، وعن المزيد من الأمور الكمالية، وعن الرفاه والعيش الأفضل، والربح الأكثر. والجري يكون في التسابق، أهل الدنيا يخوضون هذا السباق، علماً بأنّ البعض في هذا السباق أذكى وأدهى، فيتقدّم نحو الأمام حتى ينهب المليارات، والبعض الآخر لا يبلغ هذا المستوى من الدهاء والذكاء. غير أنّ أهل الدنيا وعبيد الدنيا في سباق. فلا تخوضوا هذه الساحة التنافسية، ولا تقولوا بأنّ فلاناً قد حصل على شيء، وأنا صفر اليدين، ولا بدّ لي أن أكون مثله؛ كلّا، فإنّ هذه ليست من آفات التعبئة فحسب، بل هي آفة كلّ مؤمن. ولقد شاهدنا الكثير ممّن كانوا موسومين بالخير والصلاح وكانوا من الموالين، ولكنّهم عندما غرقوا في بحر ملاذّ الدنيا، شيئاً فشيئاً وهنوا واستكانوا وصارت قدراتهم ضئيلة، ودوافعهم ضعيفة. فإذا ضعفت الدوافع ضعفت العزائم، وإذا ضعفت العزائم ظهرت آثارها في العمل، وأخيراً ضاعوا وتاهوا.. هذه هي الآفات.


وصايا لأبناء التعبئة

وما هي أولويّات التعبئة في هذا اليوم؟ إنّها التقوى والطهارة في الدرجة الأولى. وإنّ وصية كلّ العظماء من أرباب المعنى - الذين قد تشرّفنا بخدمة البعض منهم - هي الإعراض عن الذنوب. فالبعض يطلب أذكاراً خاصّة تأخذ بيد الإنسان إلى المقامات الرفيعة، وهم يقولون: الذكر هدية لكم! ولكن لا تُذنبوا.

هذه هي الخطوة الأولى التي ما إن يخطوها الإنسان حتّى تُعالَج الكثير من مشاكله الروحية والمعنوية والمادية. فإنّنا جميعاً مُعرَّضون لاقتراف الذنوب والوقوع في المزالق والزلّات، ويجب علينا المراقبة كما ذكرت. ولو كنتم تراقبون أنفسكم - وهي التي يُعبَّر عنها بالتقوى؛ فإنّ المراد من التقوى، التي تكرّرت كلّ هذا التكرار في القرآن الكريم، هو مراقبة النفس لعدم الوقوع في الذنوب والفساد - سوف ينصركم الله سبحانه وتعالى ويثبّت أقدامكم. والمراقبة بحدّ ذاتها تستنزل الرحمة الإلهية، والتقوى تبارك حياة الإنسان وتبارك في عمره وفي لحظاته وفي ساعاته. هذه هي أولى توصياتي.

والتوصية الثانية هي البصيرة. ولطالما كرّرت هذه الجملة الواردة عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام خلال كلماتي حيث يقول: «أَلَا.. ولَا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ». وقد ذكر أولاً أهل البصر، وهم أصحاب الرؤى الصحيحة، وأهل البصائر الذين يُدركون المشهد ويفهمون وضع الساحة. فلا بدّ من تعزيز البصيرة يوماً بعد يوم، ومعرفة المشهد الداخلي، والوقوف على مجريات الأحداث في الداخل، وفي أي ّالمَواطن يتلمّس الإنسان وجود العدوّ، وفي أيّ المَواطن يستطيع المضيّ قُدماً باطمئنان قلب وراحة بال، هذه هي البصيرة المتمثّلة بمعرفة مكانتنا في العالم المعاصر.


هذا هو شعبنا!

يصبّ البعض كلّ جهده لتحقير الذات وتوهين الشعب والقول بأنّنا لسنا على شيء! مبيّنين ذلك بشتّى الأساليب، حيث يتحدّثون بإسهاب عن البلد الفلاني أو الشعب الفلاني أو سلوك الدولة الفلانية بالإشادة والإطراء، وفي الأغلب لا تشير هذه الأمور إلى الحقيقة، وإنّما تشابه الأفلام السينمائية. ففي الأفلام السينمائية عندما يريد الشرطي احتجاز شخص، يقول له في بادئ الأمر: كن حَذِراً، فقد يُستَخدم كلّ ما تقوله ضدّك في المحكمة. فانظر كم هو إنسان شريف هذا الشرطي بحيث ينصح المتّهم - الذي قد يكون مجرماً - في بداية المطاف بأن يراقب لسانه لئلّا يخرج من فمه كلامٌ كثيرٌ قد يُستخدم ضدّه في المحكمة. ولكن هل قوات الشرطة الغربية والأميركية على هذا النمط؟ هذا ما يُعرض في الأفلام الهوليوودية. وأمّا شرطة أميركا، فإنّها إذا ألقت القبض على شخص، تضربه، وترميه بالرصاص، وتقتله، تقتل شخصاً يحمل سلاحاً (لعبة أطفال) في يده! والأفلام السينمائية تزيّن كذباً المحاكم والشرطة والجهاز الحكومي وأمثال ذلك، فإنها بالتالي أفلام سينمائية. والبعض يعمل في كتابة مقالاته ومدوناته وكلماته كما تعمل الأفلام السينمائية، حيث يقوم  بإظهار الآخرين بالنسبة إلى ما يفتقرون إليه، وتزيينه وتجميله، وفي الحقيقة إثارة الشعور بالحقارة والدونية لدى أبناء شعبنا.

كلا، ليس الأمر على هذا النحو. فإنّ شعبنا شعبٌ عظيم، قد خرج من امتحانات كبيرة ناجحاً مرفوع الرأس، وحقّق إنجازات باهرة. إنّ شعبنا هو ذلك الشعب الذي كان إذا أسر رجلاً في الحرب المفروضة، لا يضربه ولا يقتله، بل كان يداوي جروحه، ويسقيه الماء من مَطَرَتِه الخاصة.. هكذا هو شعبنا. إنّه يحتجز من عرض البحر بعض الأراذل المنتمين إلى إحدى الدول والمتّهمين بالتجسّس - وتجسّسهم غير مستبعَد - ويجلبهم إلى داخل البلد، ومن ثَمَّ يكسوهم ثياباً جديدة، ويعيدهم إلى أوطانهم.. هذا هو شعبنا في تعامله، وفي حِلمه، وفي إنصافه، وفي شجاعته.

إنّ شعبنا هو ذلك الشعب الذي حرّر نفسه من وطأة الإذلال والامتهان التي طالت عدة قرون، واستطاع أن يُعلن كلمته في ذروة العزة، نحن شعبٌ كهذا، وليس هذا مزاحاً.

يجتمع عتاة العالم من شتّى البلدان ليتساءلوا: ماذا نصنع مع إيران الإسلامية؟ وهذا يدلّ على الاقتدار المادي والعسكري والسياسي والمنطقي والأخلاقي لهذا الشعب. لا يعني ذلك أنّنا نخلو من أيّ ضعف، بل نعاني من حالات ضعف كثيرة، غير أنّ قدراتنا ومبادئنا ونقاطنا البارزة والمشرقة ليست قليلة، فلماذا يُهينون الشعب ويُحقّرونه؟ لقد اعتاد البعض بشكلٍ متواصل على استصغار البلد والشعب والمسؤولين. والبصيرة أن يعرف المرء هذه الحقائق ويُدركها، ويقف على مكانته، ومكانة بلده، ومكانة شعبه، ومكانة منطق الثورة، ومكانة ذلك النهج والصراط المستقيم الذي رسمه الإمام الخميني في هذا البلد؛ فالبصيرة هي معرفة قيمة هذه الأمور ومقامها.


كونوا على أُهْبَةِ الاستعداد

الاستعداد والجهوزية والتأهّب هي الأخرى من الشرائط اللازمة والتوصيات الواجبة التي لا بدّ وأن نوصي بها إخواننا وأخواتنا في قوات التعبئة، إذ يجب أن يكون المرء على أُهْبَةِ الاستعداد "..".

الصراع القائم اليوم في العالم هو صراع حقيقي. والأطراف التي تواجهنا بعيدة كلّ البعد عن القيم الإنسانية. وهناك قضايا تدور في أطرافنا لا يمكننا أن نمرّ عليها مرور الكرام. وأولاها هي القضية الفلسطينية، فإنّها ليست قضية صغيرة. حيث يمرّ على احتلال الأراضي الفلسطينية أكثر من ستّين عاماً، وقد تعاقبت الأجيال تلو الأجيال على الشعب الفلسطيني، الّا أنّ أهداف فلسطين وقِيمها وأصولها باقية ثابتة على خلاف ما يسعى إليه العدو للقضاء عليها. وإنّ ممّا يُؤسف له أنّ الدول والحكومات العربية قد انشغلت بأمور أخرى، بحيث لا تتوافر لها الفرصة أو لا تريد ولا تسمح لها المجاملات والاعتبارات والتحالفات مع أميركا وغيرها، أن تتعرّض للقضية الفلسطينية. إلّا أنّ هذه القضية تعتبر في غاية الأهمية، ولا يمكننا تركها والإعراض عنها.

 لقد انطلقت اليوم انتفاضة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وبدأ الناس بالكفاح والقتال، غير أنّ الأبواق الاستكبارية أصدرت تجاهها حكماً جائراً بالكامل، فإنّ ذلك الذي احتُلّ بيته ولا يأمن على نفسه وماله في داره - حيث يهدمون منزله بالجرافات لبناء المستوطنات ويدمّرون مزرعته - إذا ما رمى المعتدين بالحجارة وصفوه بالإرهابي! وأمّا ذلك الكيان الذي يسحق حياة هذا الإنسان وأمنه وكرامته وثروته ودنياه، يعبّرون عنه بأنّه مظلوم يدافع عن نفسه! وهذه من عجائب عالمنا المعاصر. قام أحدهم باغتصاب دار وأخرج صاحب الدار منها، وأخذ يواصل ظلمه وجوره عليه، ويقولون إنّه يدافع عن نفسه! وأما صاحب الدار المظلوم الذي سُلب منه أمنه، وفَقَد داره، وأصبح عياله وأطفاله وكرامته وحيثيّته وكلّ أموره مهدّدة، إذا ما شَتم ذلك المعتدي ورماه بالحجارة، يقولون إنّه إرهابي! فهل يُعتبر هذا أمراً صغيراً وخطأً يسيراً وظلماً هيّناً يُمكن التغاضي عنه؟ كلّا.. لا يمكن التغاضي عن ذلك. ونحن ندافع عن حركة الشعب الفلسطيني ما استطعنا بكلّ وجودنا وقدراتنا.

 وكذلك الحال بالنسبة إلى القضايا الأخرى التي تجري حولنا في الظروف الراهنة، حيث نجد أنّ الحكم الإنساني العادل المنصف في شأنها شيء، والحكم المغرض الخبيث للغربيّين وساساتهم وأجهزتهم الإعلامية شيء آخر، كما هي الحال في قضية البحرين واليمن وسوريا.


«يكفيهم عارًا أنّهم يزيديّون»

ففي الشأن البحريني، أيّ شيء يطالب به الشعب البحريني يا ترى؟ يقول الشعب البحريني: امنحوا لكلّ فرد من أفراد هذا الشعب صوتاً واحداً لانتخاب حكومته. ألستم تتبجّحون بالديمقراطية؟ ألا تزعمون أنّكم مظهر الديمقراطية والذائدون عنها؟ هل تُوجد أوضح من هذه الديمقراطية؟ ولكنّهم لا يحرمونهم منها فحسب، بل ويضايقونهم أيضاً، ويهينونهم، ويحقّرونهم. ويفعلون ذلك مع الأكثرية من هذا الشعب، فالذين يطالبون بذلك في البحرين هم أكثرية تربو على السبعين أو الثمانين بالمئة، وأمّا تلك الأقلية الظالمة التي بيدها مقاليد الأمور، فهي تمارس في حقّ هؤلاء ما يحلو لها، حتى أنّها تنال من مقدّساتهم أيضاً. ففي شهر محرّم المنصرم، تعرّضوا لأصحاب المنابر والخطباء، ومَن يرفع علم العزاء، ويقرأ المصيبة والرثاء، بل وتعرّضوا لمَن يلعن يزيد قائلين: لماذا تعلن يزيد؟! سبحان الله!! يكفيهم عاراً أنّهم يزيديّون، ويدافعون عن يزيد. يزيد الخبيث الذي لا يوجد أشدّ منه خزياً وعاراً على مرّ تاريخ الإسلام، ألا ينبغي لعنُه؟! لعنة الله على كلّ من يُؤذي النبي وذريّته وآله. هذه هي فِعالهم، وهذا ما يخصّ الشأن البحريني.

 وفي الشأن اليمني؛ شهورٌ متتالية وهم يواصلون قصف شعب اليمن، وإمطار البيوت والمنازل والمستشفيات والمدارس بالقنابل، ويقتلون شعباً وأُناساً لم يجترحوا أيّ جرم أو ذنب، وإذا بالأجهزة المتشدّقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان وأمثال ذلك، تدعم المهاجم وتدافع عنه! هذا هو حال العالم الظالم، وهذا هو حال العالم الذي تواجهونه، والاستكبار الذي تهتفون ضده.

 وكذلك الحال في الشأن السوري، وقد تحدّثنا خلال الأيام الأخيرة في هذا الشأن، وقلنا - ونُشر في وسائل الإعلام - إنّ هؤلاء يناصرون ويدعمون أخبث الإرهابيّين وأشقاهم في سوريا والعراق، ويقدّمون لهم المعونات بصورة مباشرة وغير مباشرة، ويصرّون على أن يتمّ تشكيل الحكومة السورية بهذه الطريقة لا بتلك. ولكن بأيّ حق؟ فإنّ الشعوب نفسها هي التي تقرر مصيرها وتختار حكومتها بنفسها، فما شأنكم أنتم بذلك؟ تأتون من مكان بعيد وبلاد نائية إلى هذه المنطقة لأغراض خبيثة! هذه هي الحالة السائدة في عالم الاستكبار. وفي قبال هذا العالم، فإنّ الإنسان البصير هو الذي يعرف ماذا يجب عليه فعله، ويعلم أنّ موقفه هو الموقف الحقّ.


التعبئة كنزٌ لا ينفد!

بمقدور التعبئة أن تبيّن للآخرين بأنّ مواقف الجمهورية الإسلامية في إيران هي أكثر المواقف منطقيّة ويتأتّى لأيّ إنسان منصف وعاقل اتّخاذها، فإنّ المواقف الرسمية لرجال الحكومة في الشأن السوري والعراقي والبحريني واليمني والفلسطيني اليوم مواقف واضحة وجليّة.

التعبئة بالنسبة إلى نظام الجمهورية الإسلامية بركة ورصيد وكنز لا ينفد، لأنّ الشعب ليس له نفاد. وأقولها لكم: بتوفيقٍ من الله تعالى سوف يقوم أبناء شعبنا الإيراني العزيز، أولاً، بصيانة هذا الكنز الثمين، وثانياً باستخراجه، وسوف يصل ثالثاً إلى ذروة التعالي والترقّي بمساعدة هذه الهِمم والعزائم والبصائر لا محالة. وسيُرغَم الأعداء على معاينة تقدُّم الشعب الإيراني ولن يَسعهم القيام بشيء. وهذا ما سوف يتحقّق بعون الله سبحانه.

 رحمةُ الله على إمامنا الخمينيّ العظيم الذي فتح أمامنا هذا الطريق.

 ورحمة الله على شهدائنا الأبرار الذين ألهمونا بتضحياتهم درساً عملياً وأفهمونا كيف يجب علينا أن نعمل.

ورحمة الله عليكم أنتم الأعزّاء الذين تعمدون بجهوزيّتكم اليوم إلى إدخال السرور في قلوب أبناء الشعب وبثّ الأمل في نفوسهم.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

اخبار مرتبطة

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

نفحات