حقيقة الرُّؤى والأحلام

حقيقة الرُّؤى والأحلام

01/07/2011

ليست كلّ الرُّؤى حقيقيّة

العلّامةالسيّد محمّد حسين الطباطبائي

القرآن الكريم حافلٌٌٌ بِذِكْر شواهِد الرُّؤى في حياة الأنبياء العظام وسواهم من مؤمنين وغير مؤمنين، ودلالتها على أحداث مفصليّة في مَسارِ الرسالات، ولذلك تناولت أبحاث المفسِّرين وسائر العلماء حقيقة الرُّؤيا والحُلُم.
ما يلي مقاربة العلَّامة الطباطبائي في تفسيره القيّم (الميزان في تفسير القرآن) لموضوع الرُّؤيا، تقدّمه «شعائر» لقرّائها بتصرُّف.

كان الناس كثيري العناية بأمر الرُّؤى والمنامات منذ عهود قديمة، وكان لكلّ قَوْم قوانين وموازين متفرِّقة متنوِّعة يزِنون بها المنامات، ويُعبّرونها بها، ويَكشفون رموزها، ويَحلّون بها مُشكلات إشاراتها، فيتوقّعون بذلك خيراً أو شرّاً، أو نفعاً أو ضرّاً بزعمهم.
وقد اعتنى القرآن الكريم بشأنها كما حكى الله تعالى فيه عن رؤيا إبراهيم عليه السلام في ابنه، قال: ﴿فلمّا بلغ معه السعي قال يا بُنيّ إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر..﴾، إلى أن قال: ﴿وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا..﴾ الصافات : 102-105.
ومنها ما حكاه تعالى من رؤيا يوسف عليه السلام: ﴿إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنّي رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين﴾ يوسف:4.
ومنها رؤيا صاحبَي يوسف في السجن، قال أحدهما: ﴿..إنّي أراني أعصر خمراً وقال الآخر إنّي أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبّئنا بتأويله إنّا نراك من المحسنين﴾ يوسف:36.
ومنها رؤيا الملك: ﴿وقال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيّها الملا أفتوني في رؤياي..﴾ يوسف:43.
ومنها رؤيا أمّ موسى، قال تعالى: ﴿إذ أوحينا إلى أمّك ما يوحى* أن أقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليمّ..﴾ طه:38-39 [على ما ورد في الروايات أنّه كان رؤيا].
ومنها ما ذُكر من رُؤى رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال تعالى: ﴿إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر..﴾ الأنفال:43. وقال: ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم ومقصِّرين لا تخافون..﴾ الفتح:27، وقال: ﴿وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلّا فتنة للناس..﴾ الإسراء:60.
وقد وردت من طريق السمع روايات كثيرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام تُصدّق ذلك وتُؤيّده.
 لكنّ الباحثين من علماء الطبيعة من أوروبا لا يَرون للمنامات حقيقة، ولا لِلبَحث عن شأنها وارتباطها بالحوادث الخارجيّة وزناً علميّاً، إلّا جماعة من علماء النفس ممّن اعتنى بأمرها، واحتجّ عليهم ببعض المنامات الصحيحة التي تُنبئ عن حوادث مستقبليّة أو أمور خفيّة إنباءً عجيباً، لا سبيل إلى حمله على مجرّد الإتّفاق والصدفة، وهى منامات كثيرة جداً مرويّة بِطُرُق صحيحة لا يُخالطها شكّ، كاشفة عن حوادث خفيّة أو مستقبليّة أوردوها في كتبهم.

حقيقة الرُّؤيا

للرُّؤيا حقيقة، وليس منّا أحدٌ، إلّا وقد شاهد من نفسه شيئاً من الرُّؤى والمنامات دلّه على بعض الأمور الخفيّة، أو المشكلات العلميّة، أو الحوادث التي ستستقبله من الخير أو الشرّ، أو قَرع سمعه بعض المنامات التي من هذا القبيل، ولا سبيل إلى حمل ذلك على الإتّفاق وانتفاء أيّ رابطة بينها وبين ما ينطبق عليها من التأويل، وخاصّة في المنامات الصريحة التي لا تحتاج إلى تعبير.
نعم ممّا لا سبيل أيضاً إلى إنكاره، أنّ الرُّؤيا أمرٌ إدراكيٌّ وللخيال فيها عَمَل، والمتخيّلة من القوى الفعّالة دائماً، ربّما تَدوم في عملها من جهة الأنباء الواردة عليها من ناحية الحسّ كاللّمس، والسمع، وربما تأخذ صُوَراً بسيطة أو مركّبة من الصُّوَر والمعاني المخزونة عندها فتُحلِّّل المُركّبات، كتفصيل صورة الإنسان التامّة إلى رأس ويَد ورِجل وغير ذلك، وتُركِّب البسائط كتركيبها إنساناً ممّا اختُزن عندها من أجزائه وأعضائه. فربّما ركّبته بما يُطابق الخارج، وربّما ركّبته بما لا يطابقه، كتخيُّل إنسانٍ لا رأس له، أو له عشرة رؤوس.

تأثير العوامل الخارجيّة والنفسيّة

 وبالجملة، فإنّ للأسباب والعوامل الخارجيّة المحيطة بالبَدَن، كالحرّ، والبرد، ونحوها، والداخليّة الطارئة عليه، كأنواع الأمراض، والعاهات، وانحرافات المزاج، وامتلاء المعدة، والتعب وغيرها، تأثير في المُتخيّلة، ولها -بالتالي- تأثير في الرُّؤيا. فترى أنّ مَن عملت فيه حرارةٌ أو برودة بالغة يَرى في منامه نيراناً مؤجّجة، أو الشتاء والتّجمُّد ونزول الثلوج، وأنّ مَن عملت فيه السخونة فألجمه العرق، يرى الحمّام وبُرَك الماء ونزول الأمطار ونحو ذلك، وأنّ مَن انحرف مزاجه أو امتلأت معدته، يرى رؤيا مُشوَّشة لا ترجع إلى طائل.
وكذلك الأخلاق والسجايا الإنسانيّة شديدة التأثير في نوع تَخيُّله، فالذي يحبّ إنساناً أو عملاً لا ينفكّ يتخيّله في يقظته ويراه في نومته، والضعيف النفس الخائف المذعور إذا فوجئ بصوت، يتخيّل إثرَه أموراً هائلة، وكذلك البُغض والعداوة والعُجب والكِبر والطمع ونظائرها، كلٌّ منها يجرُّ الإنسان إلى تخيّله صُوَراً مُتسلسلة تُناسبه وتلائمه، وقَلّما يسلم الإنسان من غَلَبة بعض هذه السجايا على طبعه.

ليست كلُّ الرُّؤى ذات حقيقة

 بناءً على ما تقدّم، فإنّ أغلب الرُّؤى والمنامات هي من التخيُّلات النفسانيّة التي ساقها إليها شيء من الأسباب الخارجيّة والداخليّة، الطبيعيّة أو الخُلقيّة ونحوها، فلا تَحكي النفس -بحسب الحقيقة- إلّا كيفية عمل تلك الأسباب وأثرها فيها فحسب، ولا حقيقة لها وراء ذلك.
وهذا ما ذَكره مُنكرو حقيقة الرُّؤيا من علماء الطبيعة، وهو لا يَزيد على تعداد هذه الأسباب المؤثّرة في الخيال، العمّالة في إدراك الإنسان.
وما أَوْردوه حقٌّ مسلَّم، غير أنّه لا يُنتج إلّا هذه النتيجة: «ليست كلّ الرُّؤى ذات حقيقة»، وهو غير ما يدّعيه منكرو حقيقة الرؤيا من الأساس وكلّياً، إنّهم يدّعون أنّ «كلّ الرُّؤى والمنامات باطلة وليست ذات حقيقة». فالصحيح، أنّ هناك منامات صالحة وأحلاماً صادقة تَكشف عن حقائق، ولا سبيل إلى إنكارها، كما لا سبيل إلى نفي الرابطة بينها وبين الحوادث الخارجيّة والأمور المستكشَفة كما تقدّم.
 فقد ظهر ممّا بيّنا أنّ جميع الرُّؤى لا تَخلو عن حقيقة، بمعنى أنّ هذه الإدراكات المتنوّعة المختلفة التي تعرِض للنفس الإنسانيّة في المنام وهي المُسمّاة بالرُّؤى، لها أصول وأسباب تستدعي وجودها للنفس وظهورها للخيال، وهي على اختلافها تَحكي أصولها وأسبابها التي استدعَتها، فلكلّ منامٍ تأويل وتعبير، غير أنّ تأويل بعضها هو السبب الطبيعي العامل في البَدَن في حال النوم، وتأويل بعضها الآخر السبب الخُلُقي، وبعضها أسباب متفرّقة إتفاقيّة، كمن يأخذه النوم وهو مُتفكّر في أمرٍ، مشغولِ النفْسِ به، فيَرى في حلمه ما يناسب ما كان ذاهناً له.
وإنّما البحث -ههنا- في نوع واحد من هذه المنامات، وهي الرُّؤى التي لا تستند إلى أسباب خارجيّة، طبيعيّة، أو مزاجيّة، أو إتفاقيّة، ولا إلى أسباب داخليّة خُلقيّة أو غير ذلك، ولها ارتباط بالحوادث الخارجيّة والحقائق الكونيّة.

المنامات الحقيقيّة

الرؤى الصادقة هي المنامات التي لها ارتباط بالحوادث الخارجيّة، وخاصّة المستقبليّة منها: كَمَن يرى أنّ حادثة كذا وقعت، ثمّ تقع بعد حينٍ كما رأى.
ولا معنى للإرتباط الوجودي بين موجود ومعدوم، أو أمر غائب عن النفس لم يتّصل بها من طريق شيء من الحواسّ، كَمَن رأى أنّ في مكان كذا دفيناً فيه من الذهب المسكوك كذا، ومن الفضّة كذا، في وعاء صِفَته كذا وكذا، ثمّ مضى إليه وحفر كما دُلَّ عليه فوَجَده كما رأى، ولا معنى للإرتباط الإدراكي بين النفس وبين ما هو غائب عنها، أي ما لم تَنَلْه بشيءٍ من الحواسّ.
ولذا قيل: إنّ الإرتباط إنّما استقرّ بينها وبين النفس النائمة من جهة اتصال النفس بسبب الحادثة الواقعة، الذي هو [السبب] فوق عالم الطبيعة، فترتبط النفس بسبب الحادثة، ومن طريق سببها بنفسها.
* توضيح ذلك: أنّ العوالم ثلاثة: عالم الطبيعة وهو العالم الدنيوي الذي نعيش فيه، والأشياء الموجودة فيه صُوَر ماديّة تجري على نظام الحركة، والسكون، والتغيُّر، والتبدُّل.
وثانيها عالم المِثال وهو فوق عالم الطبيعة وُجوداً، وفيه صُوَر الأشياء بلا مادّة، منها تنزل هذه الحوادث الطبيعيّة وإليها تعود، وله مقام العليّة ونسبة السببيّة لحوادث عالم الطبيعة.
وثالثها عالم العقل وهو فوق عالم المثال وجوداً، وفيه حقائق الأشياء وكلّيّاتها من غير مادّة طبيعيّة ولا صورة، وله نسبة السببيّة لِمَا في عالم المثال.
* والنفس الإنسانيّة لتجرُّدها، لها مُسانَخة مع العالَمَين؛ عالم المِثال وعالمِ العقل، فإذا نام الإنسان وتَعطّلت الحواس انقطَعَت النفس طبعاً عن الأمور الطبيعيّة الخارجيّة، ورَجعَت إلى عالمها المُسانِخ لها، وشاهَدَت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الإستعداد والإمكان. فإن كانت النفس كاملة مُتمكِّنة من إدراك المُجرَّدات العقليّة أدركتْها، واستَحضَرَت أسباب الكائنات على ما هي عليها من الكُليّة والنُّوريّة، وإلّا حكتها حكاية خياليّة بما تأنَسُ بها من الصُّوَر والأشكال الجزئيّة الكونيّة، كما نحكي نحن مفهوم السرعة الكليّة بِتصوُّر جسم سريع الحركة، ونحكي مفهوم العَظَمة بالجبل، ومفهوم الرِّفعة والعلوّ بالسماء وما فيها من الأجرام السماويّة، ونحكي الكائد المكّار بالثعلب، والحسود بالذئب، والشُّجاع بالأسد إلى غير ذلك.
وإن لم تكن مُتمكِّنة من إدراك المجرّدات على ما هي عليها، والإرتقاء إلى عالَمها، توقّفت في عالم المِثال مرتقيةً من عالم الطبيعة، فربّما شاهدت الحوادث بمشاهدة عِلَلها وأسبابها من غير أن تتصرّف فيها بشيء من التغيير، ويَتّفق ذلك غالباً في النفوس السليمة، المتخلِّقة بالصدق والصفاء، وهذه هي المنامات الصريحة.
وربّما حكَت ما شاهدتْه منها بما عندها من الأمثلة المأنوس بها، كتمثيل الزواج بالإكتساء والتلبّس، والفَخار بالتاج، والعلم بالنور، والجهل بالظُّلمة، وخُمود الذِّكر بالموت، وربّما انتقلنا من الضدِّ إلى الضدِّ، كانتقال أذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغِنى، وانتقالنا من تصوّر النار إلى تصوّر الجَمَد، ومن تصوّر الحياة إلى تصوّر الموت وهكذا، ومن أمثلة هذا النوع من المنامات ما نُقل أنّ رجلاً رأى في المنام أنّ بيده خاتماً يَختم به أفواه الناس وفروجهم، فسأل ابن سيرين عن تأويله فقال: «إنّك ستصير مؤذّناً في شهر رمضان، فيصوم الناس بأذانك».

أقسام المنامات الحقيقيّة

وقد تبيّن ممّا قدّمناه: أنّ المنامات الحقّة تنقسم إنقساماً أوّليّاً إلى منامات صريحة لم تتصرّف فيها نفس النائم، فتنطبق على ما لها من التأويل من غير مَؤونة. ومنامات غير صريحة تصرّفت فيها النفس من جهة الحكاية بالأمثال، والإنتقال من معنى إلى ما يُناسبه أو يُضادّه، وهذه هي التي تحتاج إلى التعبير بردِّها إلى الأصل الذي هو المشهود الأوّلي للنفس، كردّ التّاج إلى الفَخار، وردّ الموت إلى الحياة، والحياة إلى الفَرَج بعد الشدّة، وردّ الظُلمة إلى الجهل والحيرة أو الشقاء.
 ثمّ إنّ هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما تتصرّف فيه النفس بالحكاية، فتنتقل من الشيء إلى ما يُناسبه أو يُضادّه، ووقفتْ في المرّة والمرّتين [بعد الإنتقال] مثلاً، بحيث لا يعسُر ردّه إلى أصله كما مرّ من الأمثلة، وثانيهما ما تتصرّف فيه النفس من غير أن تَقف على حدّ، كأن تنتقل مثلاً من الشيء إلى ضدّه، ومن الضدّ إلى مثله، ومن مثل الضدّ إلى ضدّ المثل وهكذا، بحيث يتعذّر أو يتعسّر للمُعبّر أن يردّه إلى الأصل المشهود، وهذه المنامات هي المسمّاة بأضغاث الأحلام، ولا تعبير لها لتعسُّره أو تعذُّره.
 وقد بان بذلك أنّ هذه المنامات ثلاثة أقسام كلّية، وهي: المنامات الصريحة ولا تعبير لها لعدم الحاجة إليه، وأضغاث الأحلام ولا تعبير فيها لتعذُّّره أو تعسُّره، والمنامات التي تصرّفت فيها النفس بالحكاية والتمثيل وهي التي تقبل التعبير.
وفى القرآن ما يؤيِّد ما مرّ من الكلام عن هذا النوع من الرُّؤى وأقسامه، قال تعالى: ﴿وهو الذي يتوفّاكم بالليل..﴾ الأنعام:60، وقال: ﴿الله يتوفّى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى..﴾ الزمر:42.
وظاهر الآيتين أنّ النفوس متوفّاة ومأخوذة من الأبدان، مقطوعة التعلّق بالحواسّ الظاهرة، راجعة إلى ربّها نوعاً من الرجوع يُضاهي الموت. وقد أُشير في كلامه تعالى إلى كلّ واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة، فَمِن القسم الأوّل ما ذُكر من رؤيا إبراهيم ورؤيا أمّ موسى وبعض رؤى النبيّ صلّى الله عليه وآله، ومن القسم الثاني ما في قوله تعالى: ﴿قالوا أضغاث أحلام..﴾ يوسف:44، ومن القسم الثالث رؤيا يوسف، ومناما صاحبَيه في السجن، ورؤيا ملك مصر المذكورة في سورة يوسف.
 


 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

03/07/2011

  كتب أجنبية

كتب أجنبية

03/07/2011

  كتب عربية

كتب عربية

03/07/2011

نفحات