فكر ونظر

فكر ونظر

06/04/2016

مفهوم الوحي في القرآن الكريم


مفهوم الوحي في القرآن الكريم

حقيقتُه والغاية الإلهية من نزوله

ــــــــــــــــــــــــــ المرجع الديني الشيخ جعفر سبحاني ــــــــــــــــــــــــــــ


يعدّ مفهوم الوحي في علم الأصول وفلسفة الدين من أهمّ المفاهيم وأعقدها التي شغلت علماء المسلمين وما تزال تشغلهم على اختلاف مدارسهم الفقهية والأصولية.

في هذا المبحث يتناول المرجع الديني الشيخ جعفر سبحاني مفهوم الوحي في الأديان التوحيدية وفي القرآن الكريم بصفة خاصّة، ويبيّن أبعاده وحقائقه والمراد الإلهيّ منه.

«شعائر»

 

من المصطلحات والمفاهيم التي وردت في القرآن الكريم مصطلح «الوحي»، ولكن قبل أن نتناول هذا المفهوم من زواية الرؤية القرآنية، وما هي المجالات التي استعمل فيها القرآن هذا المصطلح، نسلّط الضوء على معناه اللغوي:

- في (مقاييس اللغة) لابن فارس: «الوحي أصلٌ يدلّ على إلقاء علمٍ في إخفاء».

- وفي (مفردات الراغب): «أصل الوحي الإشارة السريعة، ولتضمّن السرعة قيل: (أمرٌ وَحِيّ)..».

- وقال ابن منظور في (لسان العرب): «الوحي: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفيّ، وكلّ ما ألقيتَه إلى غيرك».

بناء على ما تقدّم، يمكن القول: إنّ الوحي هو ذلك الإلقاء إلى الغير الذي يكمن فيه عنصران: الأوّل: الخفاء. والثاني: السرعة.

وإذا ما أُطلق على الارتباط بين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين الله سبحانه وعلى عملية تلقّي الأحكام والتعاليم الإلهية مصطلح «الوحي»، فإنّ هذا الإطلاق في الواقع ينطلق من هذه الحيثية، وذلك باعتبار أنّ ذلك نوعٌ من التعليم غير الاعتيادي الخفيّ المقترن بالسرعة.

والذي يظهر من الشيخ المفيد قدّس سرّه أنّ المقوّم لإطلاق الوحي والعنصر اللازم له هو «الخفاء في التعليم» حيث ذهب إلى أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء، بطريقٍ من الطُّرق. (انظر تصحيح الاعتقاد: ص 120، فصل في كيفية نزول الوحي) والحال أنّ عنصر السرعة أيضاً يعدّ من مقوّمات الوحي بالإضافة إلى الخفاء.

بعد أن تعرّفنا على المعنى اللغوي لمصطلح «الوحي» ننتقل إلى الحديث عن تحليل وتحقيق المراد من الوحي في القرآن الكريم، وهنا يمكن الإشارة إلى مجموعة من المعاني التي استخدم فيها هذا المصطلح، ومنها:

أولاً: الإدراك الغريزي

لقد كشفت العلوم الحديثة كعلم الأحياء - وخاصة في مجال دراسة المخلوقات التي تتحرك على أساس غريزيّ - أنّ هذه المخلوقات تقوم بفعّاليات وحركات وأعمال حيّرت العقول وأدهشت الفكر الإنساني. فعلى سبيل المثال زنابير النحل وما تقوم به من الأعمال المدهشة التي تتّسم بالدقة والإتقان والتنظيم وتوزيع المهام والأدوار. وكذلك العنكبوت وما تنسجه من البيوت - ورغم وصفها في القرآن الكريم بأنّها أوهن البيوت - فإنّها مع ذلك تتّصف بالدقة والإتقان، فإنّ كلّ هذه الأعمال نابعة من عامل داخلي ونداء غريزي.

إذاً لا بدّ من الإذعان انّ ذلك لا يكون إلاّ وليد نوع من التعليم الخفي والرمزي الذي أُلقي إلى تلك المخلوقات، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله سبحانه: ﴿وَأَوحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذي مِنَ الجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُللاً...﴾ النحل: 68-69.

ثانياً: الإلهام والإلقاء في القلب

لقد استُعمل مصطلح الوحي في القرآن الكريم بمعنى آخر وهو: الإلقاء إلى القلب، بمعنى أنّ المُلقَى إليه يصل إلى تلقّي الشيء ومعرفته من دون أن يرى المُلقِي أو يخضع إلى تعليمه المباشر له، وهذا التلقّي في الحقيقة معلولٌ لعاملين، هما:

1. طهارة النفس: فقد تصل النفس في بعض الأحيان وبسبب الطُّهر المعنوي والسموّ الروحي والمعنوي والنورانية التي تتحلّى بها، إلى مقام تكتمل فيه لياقاتها وقدراتها بحيث تكون على استعداد لتلقّي الحقائق من الموجودات النورانية والشخصيات الكاملة، بل تصل إلى درجة تلقّي تلك الحقائق من الذات المقدّسة لله سبحانه.

2. وتارة أُخرى قد تنحطّ النفس بحيث تصل إلى درجة من الدناءة والخسّة والوقوع في الظُّلمة، بحيث ترتبط حينئذٍ بما يُسانخها من الأرواح الخبيثة وتتلقّى منها التعاليم الفاسدة والأفكار المنحطّة والمخادعة التي لا أساس لها أبداً.

وإذا ما استُعملت كلمة «الوحي» في الحالتين فما ذلك إلّا بسبب وجود مِلاك الإطلاق وهو توفّر صفتَي: الخفاء، والسرعة، في تلك التعاليم، والأفضل أن نطلق على القسم الأوّل عبارة «الإلهام والإشراق» وعلى القسم الثاني «الوسوسة الشيطانية».

ثالثاً: وحيُ الشريعة

إنّ الإنسان العادي قد يتوصّل إلى النتائج التي يتوخّاها من خلال الحسّ والتجربة، أو إجالة الفكر والتدبّر والاستدلال، ولكن ذلك لا يعني انحصار طُرق المعرفة وسبلها بهذَين الطريقين، بل هناك طريق ثالث للمعرفة يُفاض على النفس من العالم العُلويّ يكون الهدف منه هداية المجتمع الإنساني وسوقه إلى الكمال والرقيّ والتعالي، وهذا ما يطلق عليه اسم «الوحي التشريعي».

والحقيقة أنّ هذا الوحي التشريعي لا يختلف من جهة الماهية والحقيقة عن القسمَين السابقين، نعم النكتة الكامنة في هذا القسم هي مسألة الهداية وإرشاد الناس إلى المبدأ والمعاد. وهذه الخصيصة أُخذت باعتبارها قيداً لازماً لهذا النوع من الوحي حيث قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرينَ﴾ الشعراء: 193 - 194.

وعلى هذا الأساس فإنّ الأنبياء وإن كانوا يمتلكون وسائل المعرفة كالحسّ والعقل ولكن شريعتهم لا تكون نتاج تلك الوسائل المعرفية، بل إنّها جميعاً تتعلّق بالعالم العلويّ حيث ينزل الوحي على نفوسهم وأرواحهم وبأمرٍ من الله سبحانه حاملاً رسالته وتشريعاته سبحانه، ولذلك لا يُخطئون أدنى خطأ في ضبط الأحكام الإلهية وحفظها وإبلاغها وبيانها.

ولذلك فكلّ محاولة لتفسير حركة الأنبياء في إطار الهداية، بأنّها وليدة الحسّ والعقل، أو هي نتاج الاستعداد والنبوغ الذاتي للأنبياء، لا تبعد عن كونها محاولة انحرافية يسير صاحبها في طريق أعوج، ومن المستحيل أن توصله محاولته تلك إلى الهدف الذي يرومه، والحقيقة أنّ السبب الذي دعا أصحاب هذا التفكير الخاطئ إلى مثل هذه المحاولات هو عدم اعتقادهم بوجود عالم خارج عالم المادة والطبيعة، فلذلك اضطروا إلى إضفاء صبغة مادية على جميع الحوادث وعدّوها نتاجات بشرية نابعة من عِلل مادية لا غير.

وقد وصف الله سبحانه وتعالى طائفة من الأنبياء بقوله: ﴿وَجَعلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدينَ﴾ الأنبياء:73. وحينئذ لابدّ من معرفة المراد من الوحي في هذه الآية.

إنّ أغلب المفسّرين قالوا: إنّ المراد من الوحي هنا هو الوحي التشريعي الذي ينزل على جميع الأنبياء ليُبيّن لهم وظائفهم ووظائف العباد والمهامّ التي لابدّ من القيام بها والتي تنظّم حياتهم، وعلى هذا فالآية ناظرة إلى نوع خاصّ من أنواع الوحي، لا إلى جميعها.

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

07/04/2016

دوريات

نفحات