فكرٌ ونظر

فكرٌ ونظر

06/05/2016

الإيمان بالغَيب

 

الوجهُ الآخَر لحقيقة «العقل»

الإيمان بالغَيب

___ الشيخ حسين كوراني ___

يطرح العلامة الشيخ حسين كوراني في كتابه (حول رؤية المهديّ المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف) نقاشاً مستفيضاً حول مسألة «الإيمان بالغَيب»، التي تعيش في فكر كلّ مسلم نظريّاً، ولكنّها تبتعد عن قناعات الكثيرين عندما تصطدم بقضايا ترتبط بالمعصومين عليهم السلام، وكراماتهم المختلفة.

في ما يلي اختصار لما جاء في المحور الرابع من الكتاب المذكور تحت عنوان «في ظلال الغَيب».  

ينقسم الواقع إلى قسمين:

أ) ما تدركه الحواسّ وتشهده، وهو ما يُعرف بـ «عالم الشهادة».

ب) ما لا تدركه الحواسّ ويغيب عنها، ولا سبيل إلى إدراكه والتعامل معه إلا بالعقل الذي هو بدوره غائب عن الحواسّ، فهو «غَيب»، وهذا العالم هو ما يُعرف بـ «عالَم الغَيب».

الإيمان بالغَيب، محض الواقعيّة والعقلانيّة

عالم الشهادة هو المعبَّر عنه في النصوص الإسلاميّة عادةً بـ «الدنيا»، والغَرَقُ فيه على حساب سائر الواقع أو أكثرِه يتسبّب بعَمى البصيرة، أما النظر إليه نظر اعتبار وتفكير، فهو يُسدّد الرؤية ويُنير البصيرة.

نستجلي ذلك بوضوح في كلام الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، حيث يقول: «وإِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الأَعْمَى، لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً، والْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ، ويَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا. فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ، والأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ، والْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ، والأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ».

للناس- إذاً - في التعامل مع الغَيب مذاهب شتّى:

* منهم مَن يُنكره من الأساس، فهو مصداق: «الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الأَعْمَى».

* ومنهم مَن يقبله نظريّاً، وينكره عمليّاً، فهو مدّعي البصيرة، يعمى عنها في الحقيقة، والعبرة بالنتائج.

* ومنهم مَن يقبله نظريّاً وعمليّاً، وهم أنماط يرتبط منها بحديثنا اثنان:

الأول: الاتّجاه الذي يؤمن بالغَيب، ويتعامل مع عالم الشهادة على أساسه في كلّ المجالات، فهو يرى الواقع الماديّ، وينظر إليه بدقة، ولكنه يُعطيه حجمه الحقيقيّ من الواقع ككلّ، فهو مصداق ما تقدّم في كلام الأمير عليه السلام: «والْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ، ويَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا». 

الثاني: الاتّجاه الذي يؤمن بالغَيب أيضاً، ويتعامل مع عالم الشهادة على أساسه في بعض المجالات، وعندما ينظر إلى الواقع الماديّ يُعطيه أكثر من حجمه، فتختلّ عنده الرؤية، وتأتي نتائجه خاطئة.

مركزيّة التعامل مع الغَيب في تحديد سلامة وعي الوجود

يترك الخطأ في التعامل مع الغَيب أثره على كلّ شيء في حياة الإنسان: على تعامله مع نفسه، ومع مَن حوله، ومع الطاغوت المتسلّط على الناس، ومع الناس، ومع الدنيا، والآخرة.

ولا يُمكن التعاطي مع هذه الحقيقة بوضوح، إلا بمقارنتها بالأثر الذي يتركه التنكّر للقِيَم على حياة الإنسان في جميع الميادين.

للموقف من الغَيب في القضايا والمفاهيم والمواقف قوّة الحضور والتأثير الأولى، فهو العمود الفقريّ، والعصب الأساس.

ولئن كان الواقع الماديّ بالمفهوم المتداول الآن يفرض علينا الدقّة في أحكامنا وتقييمنا للأمور، فما ظنّك بالواقع الحقيقيّ إذاً؟

مخطئ مَن يتصوّر أنّ الذهنيّة الغَيبيّة ذهنيّة مثاليّة تسبح في عالم الخيال بعيداً عن الواقع؛ فالحقّ الذي لا لُبس فيه، أنّ الذهنيّة التي لا تدرك عظيم حضور عالم الغَيب هي محض خيال، وحاطب ليل.

ولئن كان غير المؤمن - أي اللادينيّ - منسجماً مع نفسه عندما يتنكّر للغَيب، لأنّه مخطئ في بُنيته الفكريّة كخطإه في نظرته إلى الأمور، فإنّ المؤمن الذي يشكّل الغَيب أساس بُنيته الفكريّة يذهب عريضاً حين يبني أحكامه على الجزئيات على أساس ماديّ محض، ملغياً دخالة الغَيبيّ! أي ملغياً ما لا يكتمل الواقع وما لا تتحقق الواقعيّة إلّا به.

 

في المنهج

ما تقدّم ليس إلا إشارة إلى إشكاليّة مركزيّة، تتمثّل بالمغالطة الكبرى، القائمة على الجهل المركّب، الذي يقع فيه مَن يدّعون أنهم ينتصرون للعقل، فيفصلون بينه وبين الغَيب، في حين أن القرآن الكريم يُحدّثنا بوضوح عن الإيمان بالغَيب، باعتباره الوجه الآخر لحقيقة «العقل».

ولنقرأ على سبيل المثال، قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ آل عمران:190-191.

إنّ منهج أولي الألباب، هو منهج: ﴿..يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ..﴾ ﴿..سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.

فمن أين جئنا بالفصل بين المنهج العقليّ، والمنهج الغَيبيّ؟!

يقودنا العقل إلى الاعتقاد بالله تعالى، المُطلَق، الذي هو على كلّ شيء قدير، وإلا لكان عاجزاً، فلا يعود هو السبب الأول، والمطلق.

وعندما نريد الحكم بإمكان وقوع أمر غريب وخارق للعادة، فإنّ العقل هو الذي يأخذ بأيدينا إلى التسليم بذلك.

الله تعالى على كلّ شيء قدير، وهذا الأمر الخارق للعادة شيء.

فالله تعالى، على هذا الشيء قدير.

إذاً، من الممكن أن يقع، بإذنه عزّ وجلّ، أما أنه هل وقع أم لا، فإنّ العقل يفسح المجال هنا للتثبّت، ليأخذ طريقه، ويقدّم لنا الإجابة بالنفي والإثبات، إلّا أنها إجابة حول وقوع أمرٍ لا شكّ في إمكانيّة وقوعه.

وعلى هذا الأساس، فلا شكّ في أن الذي ينفي إمكانيّة وقوع الأمور الغريبة الخارقة للعادة، لمجرّد استغرابه إيّاها، واستبعاد وقوعها، لا يحترم عقله على الإطلاق.

أما الذي يتعامل مع الأمور الغريبة، على قاعدة الإمكان، ويتثبّت من وقوعها بطُرق التثبّت المتعارفة، ليرفض الاعتقاد بكلّ ما لم يثبت، ويتبنّى ما ثبت، فهو يحترم عقله، ويحقّق في شخصيته الانسجام بين المنهج العقليّ، والمنهج الغَيبيّ، باعتبارهما منهجاً فكريّاً واحداً، يرفض الاجتزاء والبتر، والتخبّط.

إنه المنهج العقليّ الغَيبيّ، أي إعمال العقل في ميدان المغيّبات.

كيف نقدم المُغَيّبات لمَن لا يؤمن بها

إن السؤال المركزيّ هنا، هو التالي:

عندما تكون أمام حقيقة، ينفر الناس منها – لا بفطرتهم، وإنما لعوامل طارئة – فكيف تقدّمها للآخرين؟

هل تعمد إلى إخفاء بعضها، وتعرض ما يُستساغ؟

 أم تعرضها كما هي، ﴿..وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾؟

 أم تعرضها كما هي، باذلاً جهدك في تقريبها إلى الأذهان، وتعزيزها بالأدلة والبراهين، وعندها ﴿..وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾؟

مشكلة الذين ينادون بالعقلانيّة – النكراء، فينادون بتغاير المنهج العقليّ والغَيبيّ، أنهم لم يفهموا العقل، ولم يفهموا الغَيب، ولذلك وقعوا في أسْر السائد، والمعتاد؛ فهم مقلِّدون، قِشريّون، يُعانون من الضحالة، مهما بدا طرحهم علميّاً، مليئاً بالعقلانيّة! وبُعد النظر!

إنهم يُخفون من حقيقة الإسلام، كلّ ما لا ينسجم مع أمزجتهم، ليقدّموا للآخرين بعض الحقيقة.

لا يجرؤون على إحداث الصدمة الحقيقيّة في المواقع التي تنبغي فيها الجرأة.

 * لماذا تمّ شطب المغيّبات من أكثر حركة الفكر الإسلاميّ في هذا القرن؟

 * أين هو الحديث عن الإمام المنتظَر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وعن التشرّف بلقائه؟

 * أين هو الحديث عن المعاد والآخرة، وما هي نسبة الكتابة والتأليف في هذا المجال، من كلّ ما كُتب خلال مائة عام؟

 * أين هو الحديث عن كرامات الأنبياء والأولياء، التي وردت في القرآن الكريم؟

 * أين هو الحديث، عن كرامات المصطفى الحبيب، وأهل البيت صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين؟

* أين هو الحديث عن المستحبّات، وثوابها الكبير الذي يستغربه هؤلاء، فيرفضون أكثر المستحبّات تبعاً لهذا الاستغراب ودون أدنى تثبّت؟

 * أين هو الحديث عن الإيمان بالغَيب الذي يُشكل لبّ الإيمان وجوهره؟

 * ألم يُنتج  لنا هذا «المنهج» النشاز الهجين، «فكراً إسلاميّاً» مشدوداً إلى عالم الشهادة، متمرّغاً بأوحاله، منفصلاً عن الغَيب حتى العدوانيّة والافتراس بحجّة تحرير الدين من الخرافات؟!!

 وما الفرق بين الأمر الغَيبيّ الذي ثبتت صحته، وبين «الخرافة»، غير الثبوت، وعدمه؟

 عندما نجد كتّاباً مسلمين يعرضون فكر القرآن بـ «منهج» يُعطونه عنواناً ظاهره فيه الرحمة: «ينسجم مع روح العصر»، ‍ويجرّدون ما يطرحونه من كلّ عناصر الغَيب، ليصبح مقبولاً لدى «المثقّفين»! على قاعدة «اشهدوا لي عند الأمير»، ويقدّمون الفكرة الغَيبيّة بلَبوس ماديّ -عندها- لا نستطيع إلا أن نقول: إنّ الغَيب - بل العقل السليم - قد غُزي في عقر داره.

يُريد خطّ «الماديّة الإسلاميّة!» أن يفصلنا عن سلامة العقل والمعتقد الحقّ، ليحقّق القطع مع سيرة المعصومين التي استنار بهديها عبر القرون  كبار علماء الأمة، وثقَّفوا الأمّة على أساسها.

يعني ذلك أنّ خطّ «الماديّة الإسلاميّة!» هذا، يريد اجتثاث الجذور العقيديّة والفكريّة والثقافيّة للأمّة، لأنّ انبهاره بالمادّة والدنيا - «عالم الشهادة» - أعماه عن الواقعيّة الحق والعقلانيّة السواء.

 

ضعف الإيمان بالغَيب وقابليّة الاستعمار

لم يخلُ عصر من الرؤية الماديّة، لأنّه لم يخلُ عصر من الذين لا يفكر كلّ منهم إلا بجسده، معرِضاً عن روحه والقِيَم - أي عن سلامة عقله - رغم أنّه يحسب ما هو عليه عين العقل.

لكنّ الغالب في جميع القرون هو عدم استشراء الرؤية الماديّة، كما هو الحال في القرنَين الأخيرين.

كانت رسالة الإسلام وهي خاتمة الرسالات الإلهيّة، التعبير الأكمل عن المنهج العقليّ الذي لا سلامة للبشريّة في رحلتها على ظهر هذا الكوكب إلّا في هداه.

ودارت قرون العصر الإسلاميّ على هذه القاعدة العقليّة في مجالات الفكر والثقافة على الأعم الأغلب، رغم تنكّب إمبراطوريات الجَور - التي قامت باسم الإسلام - العقلَ ومقتضياته، أي الإيمان بالغَيب، فتنكّبت الدين، وحدود الله تعالى، وأحكامه الشرعيّة.

عندما نستعرض تراث علمائنا عبر القرون، نجد أن الرعيل الأول من العلماء، المشهود لهم بتخصّصهم، قد اعتمدوا هذا المنهج العقليّ الذي يتعامل مع الغَيب باعتباره أكبر ساحات الواقع.

وعندما نستعرض بعض القِمم العلميّة في هذا القرن، نجد أنّ المنهج هو هذا المنهج نفسه، لكنّنا عندما نستعرض كتابات الإسلام الحركيّ - وغير الحركيّ عموماً - نجد أن المنهجيّة تتوزّع على المنهج العقليّ السليم، وعلى المنهج العقليّ نظريّاً والماديّ عمليّاً.

أليس هذا التنكّب المنهجيّ «الظاهرة» نابعاً من نمط التعامل مع الغَيب، ودرجة قوّة عالم الشهادة وتفاصيله في ذهننا وتفكيرنا؟

  

كيف تعامل القرآن الكريم مع الغَيب

وإذا كان لأحدٍ أن يناقش في سيرة العلماء بأنّهم بشر غير معصومين، أو في سيرة المعصومين بأنّ ما يُروى عنهم منقولات لا تُفيد علماً! فهل باستطاعة أحد أن يناقش في كتاب الله سبحانه وتعالى؟

 ألا نجد بوضوح أن القرآن يتعامل مع الغَيب بخلاف تعاملنا معه؟

عن عرش بلقيس وإحضاره في أقلّ من لمْح البصر، قال تعالى: ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ النمل:39-40.

فهل إحضار عرش بلقيس من مسافة بعيدة، وبهذه السرعة أشدّ غرابة، أم انتقال إنسان من مكان إلى مكان بإذن الله بطيّ الأرض؟

وعن السمكة الميتة التي اتّخذت سبيلها في البحر سرَباً حين لامسها ماء الحياة، يقول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ الكهف:61-63.

وعن نبيّ الله عيسى – على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام – يقول تعالى: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ..﴾ آل عمران:49.

وعن البقرة التي أُمر بنو إسرائيل بذبحها فذبحوها وما كادوا يفعلون، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ البقرة:72-73.

فإذا كان الله سبحانه يجعل خصوصيّة الإحياء تارةً في الماء، وطوراً في لحم البقرة، فما الغرابة في أن يصل عبد صالح من عباد الله إلى مرتبة يستطيع فيها إحياء الموتى بإذن الله تعالى، أي أنّ الله تعالى يمنحه هذه الميزة، حتى إذا لم يكن نبيّاً مثل عيسى عليه السلام؟ وما المانع في أن يجعل الله تعالى هذه الخصوصيّة [الإحياء بإذنه سبحانه] في تربة سيّد الشهداء عليه السلام؟

وإذا كان الإخبار بالغَيب – الذي يُطلع اللهُ عبادَه الذين ارتضى عليه – ممكناً لنبيّ الله عيسى عليه السلام، فلماذا لا يكون ممكناً للآخرين من غير الأنبياء؟

وما الدليل على أنّ ذلك كان على يديه لخصوصيّة النبوّة؟

فهل أننا الآن، في عرضنا حقائق الإسلام، نعتمد هذا المنهج القرآنيّ الذي يتحدّث عن عالم الغَيب – على الأقل – بنفس اللغة التي يتحدث فيها عن عالم الشهادة، أم أنّ معظم الكتابات الحديثة بعيدة عن هذا، حريصة على أن تطرح من هذه الحقائق «ما يتقبّله الناس»، وهو بُرقع آخَر من وادي «ما ينسجم مع روح العصر».

ويجب التنبّه بعناية إلى أن الناس يتقبّلون المنطق القرآنيّ، لأنهم أشدّ صفاءً وأنقى فطرةً منّا، غالبَ معاشر «المثقّفين» من «حوزويّين» وغيرهم!

نعم، المتأثّرون بالفكر الماديّ الغربيّ هم الذين لا يتقبّلون.

 

 خلاصة القول: الحقيقة الصراح التي أريد تأكيدها هي أنّ علينا بدلاً من عرض الإسلام كما نريد، بحجّة أنه دين العقل والمنطق والواقع، أن نعرض الإسلام كما هو، ونُثبت أنه دين العقل والمنطق والواقع.

ليس من المنطق في شيء أن نتجنّب هذه الحقائق القرآنيّة المتقدّمة هنا، وأمثالها كثير جدّاً في كتاب الله سبحانه، ونعمد إلى ما لا يستغربه أحد فنبيّنه للناس، بل المنطق كلّه في أن نبيّن هذه الحقائق، ونستدلّ على إمكانها ووقوعها.

ليس من المنطق في شيء أن نتحدّث بخجل عن معجزات الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، وأهل بيته الأطهار عليهم السلام وكراماتهم.

بل المنطق أن ندرسها كما ندرس كلّ حديث ورواية: ما صحّ سنده قبلناه، وعرضناه على الناس بالدليل والبرهان.

وقد يتصوّر البعض أن الفارق بين المنهجَين بسيط، فالمنهج الأوّل يعرض حقائق الإسلام المقبولة ويترك المغيّبات التي هي مثار جدل واستغراب.

والمنهج الثاني يعرض كِلا النوعين من حقائق دين الله: الماديّة والغَيبيّة.

قد يتصور هذا ولكنه خطأ فادح، لأنّ عرض أيّ حقيقة إسلاميّة بمعزل عن قاعدتها الفكريّة، يمسخها ويُلغي كونها من حقائق الدين.

تداخل الغَيب والشهادة

كما تتداخل الروح مع الجسد، يتداخل عالم الغَيب وعالم الشهادة، إلى حدّ أن الفصل بينهما يعني عدم إمكانيّة التعامل مع أيّ منهما.

وما يرتبط من هذا التداخل بالحديث هنا، هو تداخل الغَيب والشهادة في المفاهيم.

ليس في المفاهيم نمطان: غَيبيّ وماديّ، فعالم الغَيب والشهادة متداخلان في المفاهيم والحقائق كما هما في الواقع.

الصدق معنى وعمل، المعنى غَيب هذا المفهوم،  والعمل شهادته.

كذلك هي سائر المفاهيم، ومنها بطبيعة الحال المفاهيم الدينيّة.

صلاة الليل والعبادة عموماً، هي المنطلق للثورة على الطواغيت.

الجهاد الأكبر هو قاعدة الجهاد الأصغر.

البكاء بين يدَي الله سبحانه، هو الذي يبني روح الاستشهاد في المجاهد.

وذكر جوع يوم القيامة وعطشه، هو الذي يُسهم في تعميق إحساسنا بآلام الفقراء.

الثواب، ورضوان الله تعالى، يدفعاننا إلى قضاء حوائج الناس. والأمل برحمة الله والخوف من عقابه عزّ وجلّ، يحملاننا على احترام الناس، وعدم التعالي عليهم والتفَرعُن.

الإيمان الصادق هو الذي يُلهب الثورة، ويجعل المجتمع متماسكاً أمام كيد المتجبّرين وبطشهم.

التوازن: ليس كلّ غريبٍ غَيباً

لا تعني الدعوة إلى الغَيب قبول كلّ غريب يُكتب في هذا المجال أو يُقال، كما لا تعني رفض كلّ شيء لا تقبله عقولنا بحجّة أنه خرافة، فعقولنا للأسف ليست نتاج الإسلام، ولا نتاج المناخ العقليّ السليم الذي يُوصل إليه، بل الغالب فيها أنها نتاج الجاهليّة التي تربّينا في أحضانها وعلى مفاهيمها وعاداتها.

تعني الدعوة إلى الغَيب، أن نُعيد النظر في موقفنا النظريّ والعمليّ من المغيّبات، فلا نعجل في الحكم عليها، متذرّعين بأنها لا تتناسب مع الوعي الذي تشهده بلاد المسلمين، أو بما شابه من أعذار، ليست إلا حُجُباً تحول بيننا وبين رؤية الحقيقة.

«ما طَرَقَ سمْعَك فَذَرْه في بقعة الإمكان»، لا تقبله دون تثبّت علميّ، ولا ترفضه بدون دليل.

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

06/05/2016

دوريات

   إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات