الملف

الملف

01/08/2016

تاسعُ الأسباط الاثنَي عشر عليهم السلام

 

الإمام محمّد بن عليّ الجواد

تاسعُ الأسباط الاثنَي عشر عليهم السلام

 

 

اقرأ في الملف

استهلال                                             

مختصر من سيرة الإمام الجواد عليه السلام              إعداد وتنسيق: «هيئة التحرير»

حكمةُ المعصوم                                               الإمام الخامنئي دام ظلّه

من كرامات الإمام الجواد عليه السلام                      إعداد: خليل سرور

شبيهُ الأنبياء                                                 الشيخ حسين كوراني

 

الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام

مختصَر من سيرته الشريفة

______ إعداد وتنسيق: «هيئة التحرير» ______

وُلد الإمام أبو جعفر محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام، يومَ الجمعة، في العاشر من شهر رجب سنة 195 للهجرة في المدينة المنوّرة، وقيل في التاسع عشر من شهر رمضان المبارك، ولكن وردت في بعض الأدعية المرويّة عن الناحية المُقدّسة الإشارة إلى أنّ ولادته عليه السلام كانت في رجب: «اللَّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ بِالمَوْلودَيْنِ في رَجَبٍ؛ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الثّاني وَابْنِهِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ المُنْتَجَبِ».

اسمه الكريم: محمّد، وكُنيته المشهورة أبو جعفر؛ ويقال: أبو جعفر الثاني للتمييز بينه وبين الحديث عنه وعن الإمام الباقر عليهما السلام. وألقابه: «التقيّ» و«الجواد»، وقيل أيضاً: «المُختار»، و«المُنتجب»، و«المُرتضى»، و«القانع»، و«العالِم»، وغيرها.

والده الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، ووالدته السيّدة سبيكة عليها السلام، وسمّاها الإمام الرضا عليه السلام «الخَيزران». وكانت من أهل النُّوبَة، وهي قبائل تسكن منطقة تمتدّ على ضفّتي نهر النيل أقصى شمال السودان وأقصى جنوب مصر، ومن قبيلة مارية القبطيّة أُمّ إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكانت أفضل نساء زمانها، وقد أشار إليها رسول الله صلّى الله عليه وآله، عند تعداده أسماء الأئمّة الاثني عشر، فقال: «بِأَبي ابْنُ خيرَةِ الإماءِ النُّوبِيَّةِ الطَّيِّبَة».

* وأمّا كيفيّة ولادته عليه السلام، فترويها السيّدة حكيمة بنت الإمام موسى الكاظم عليه السلام، قالت: «لمّا حَضَرَت ولادةُ الخَيزُران أدخَلَني أبو الحسن الرضا عليه السّلام وإيّاها بيتاً (أي غرفة) وأغلق علينا الباب والقابلةُ معنا، فلمّا كان في جوف الليل انطفأ المصباح، فاغتَمَمنا لذلك، فما كان بأسرعَ أن بدر أبو جعفر (الجواد) عليه السّلام فأضاء البيتَ نوراً! فقلتُ لأمّه: قد أغناكِ اللهُ عن المصباح.

فقعد في الطَّسْت، وقبض عليه وعلى جسده شيء رقيق شِبهُ النور.. فلمّا أصبحنا جاء الرضا عليه السّلام فوضعه في المهد وقال لي: الْزَمي مَهْدَهُ.

قالت: فلمّا كان اليوم الثالث، رفع بصره إلى السماء ثمّ لمح يميناً وشمالاً، ثمّ قال: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ مُحَمّداً عَبْدُهُ وَرَسولُهُ. فقمتُ رَعِدةً فَزِعةً وأتيتُ الرضا عليه السّلام فقلت له: رأيت عجباً!

فقال (أي الإمام الرضا عليه السّلام): وما الّذي رَأَيْتِ؟

فقلتُ: هذا الصبيُّ فعَلَ الساعةَ كذا وكذا.

قالت: فتبسّم الرضا عليه السّلام وقال: ما تَرَيْنَ من عَجائِبِهِ أَكْثَر». (الثاقب في المناقب لابن حمزة: ص 504/ ح 1)

* وروي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: «قد وُلِدَ شبيهُ مُوسى بنِ عِمْرانَ فالِقِ البِحارِ، فَيَبْكي عَلَيْهِ أَهْلُ السَّماءِ، وَيَغْضَبُ اللهُ تَعالى على عَدُوِّهِ وَظالِمِهِ، فَلا يَلْبَثُ إِلاّ يَسيراً حَتّى يُعَجِّلَ اللهُ بِهِ إلى عَذابِهِ الأَليمِ وَعِقابِهِ الشَّديدِ».

* وفي (إثبات الهداة) للحرّ العامليّ أنّ الفضل بن سهل بعث إلى محمّد بن أبي عبّاد كاتب الإمام الرضا عليه السلام يسأله عن مدى علاقة الإمام الرضا بولده الجواد عليهما السلام، فأجابه: «ما كان الرضا يذكر محمّداً إلا بكُنيته، يقول: كَتَبَ لي أبو جَعْفَر.

وكنتُ أكتب إلى أبي جعفر عليه السلام وكان آنذاك بالمدينة، وهو صبيّ، وكانت كُتُبُ أبي جعفر ترِد إلى أبيه وهي في منتهى البلاغة والحُسن..».

من مناقبه عليه السلام

* روى العلاّمة المجلسيّ وغيره أنّ عمر الإمام الجواد عليه السلام كان تسع سنين عند وفاة أبيه، وقيل سبع سنين. ولمّا استُشهد أبوه عليه السلام كان في المدينة، وشكّ بعضُ الشيعة في إمامته؛ لصغر سنّه حتّى حجّ العُلماء والأفاضل والأشراف وأماثل الشيعة من أطراف العالم، ثمّ جاؤوا إليه عليه السلام بعد إتمام مناسكهم، فزالت شبهاتهم وشكوكهم بعد ما رأوا غزارة علمه وكثرة معاجزه وكراماته، وأقرّوا بإمامته.

* وفي (عيون المعجزات) للشيخ حسين بن عبد الوهّاب، «أنّه لمّا قُبض الرِّضا عليه السلام كان سنُّ أبي جعفر عليه السلام نحو سبع سنين، فاختلفت الكلمة بين النّاس ببغداد وفي الأمصار، واجتمع الريّان بن الصَّلت، وصفوان بن يحيى، ومحمّد بن حكيم، وعبد الرحمن بن الحجّاج، ويونس بن عبد الرحمن، وجماعة من وجوه الشّيعة وثقاتهم، في دار عبد الرحمن بن الحجّاج... يبكون ويتوجّعون من المصيبة، فقال لهم يونس بن عبد الرحمن: دعوا البكاء! مَن لهذا الأمر وإلى مَن نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا؟ يعني أبا جعفر عليه السلام.

فقام إليه الريّان بن الصلت، ووضع يده في حلقه، ولم يزل يلطمه، ويقول له: أنت تُظهر الإيمان لنا، وتُبطن الشّكّ والشِّرك. إن كان أمره من الله، جلّ وعلا، فلو أنّه كان ابنَ يومٍ واحد، لكان بمنزلة الشّيخ العالم وفوقه، وإن لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو واحدٌ من النّاس، هذا ممّا ينبغي أن يفكّر فيه. فأقبلت الجماعة عليه تعذله وتوبّخه.

وكان وقت الموسم، فاجتمع فقهاء بغداد والأمصار وعلماؤهم، وعددهم ثمانون رجلاً، فخرجوا إلى الحجّ، وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر عليه السلام، فلمّا وافوا أتوا دار جعفر الصادق عليه السلام لأنّها كانت فارغة، ودخلوها وجلسوا على بساطٍ كبير، وخرج إليهم عبد الله بن موسى (ابن الإمام الكاظم عليه السلام)، فجلس في صدر المجلس وقام منادٍ، وقال: هذا ابنُ رسول الله فمَن أراد السؤال فليَسأله.

فسُئل عن أشياء، أجاب عنها بغير الواجب، فوَرَد على الشّيعة ما حيّرهم وغمّهم. واضطرب الفقهاء، وقاموا وهمّوا بالانصراف، وقالوا في أنفسهم: لو كان أبو جعفر عليه السلام يَكْمُل لجواب المسائل، لما كان من عبد الله ما كان من الجواب بغير الواجب.

ففُتح عليهم بابٌ من صدر المجلس ودخل موفّق الخادم وقال: هذا أبو جعفر، فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه، وسلّموا عليه، فدخل صلوات الله عليه... وجلس وأمسك النّاسُ كلّهم، فقام صاحب المسألة، فسأله عن مسائله، فأجاب عنها بالحقّ، ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له: إن عمّك عبد الله أفتى بِكَيْتِ وكَيْتِ، فقال: لا إلهَ إلّا اللهُ، يا عَمُّ، إنّهُ عَظيمٌ عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقِفَ غَداً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيقولَ لَكَ: لِمَ تُفْتي عبادي بما لم تَعلَمْ، وفي الأُمّةِ مَنْ هو أعْلَمُ مِنْكَ؟».

* وقد رُوي أنه عليه السلام أجاب عن ثلاثين ألف مسألة غامضة في مجلسٍ واحد أو مجالس متوالية.

* وفي (دلائل الإمامة) للطبري، قال: «حجّ إسحاق بن إسماعيل في السنة التي خرجت الجماعة إلى أبي جعفر عليه السلام. قال إسحاق: فأعددتُ لي في رقعةٍ عشر مسائل لأسأله عنها، وكان لي حمل (أي كانت امرأته حاملاً). فقلتُ: إذا أجابني عن مسائلي سألتُه أن يدعو الله لي أن يجعله ذكراً، فلمّا سأله الناس قمتُ والرقعةُ معي لأسأله عن مسائلي، فلمّا نظر إليَّ قال لي: يا أبا يَعْقوبَ، سَمِّهِ أَحْمَدَ. فوُلد لي ذكرٌ وسمّيته أحمد..».

 

شهادته عليه السلام

لمّا استدعى المأمون الإمام الجواد عليه السلام بعد وفاة أبيه إلى بغداد وزوّجه ابنته، مكث الإمام ببغداد مدّة، فضاق صدره من سوء معاشرة المأمون، فاستأذنه في الذهاب إلى الحجّ، فتوجّه إلى بيت الله الحرام، ومن هناك عاد إلى مدينة جدّه وبقي هناك إلى أن مات المأمون، واغتصب الخلافة بعده أخوه المعتصم. وكان ذلك في السابع عشر من شهر رجب سنة (218 للهجرة). فلمّا استولى المعتصم على الملك، وسمع فضائل الإمام الجواد عليه السلام ومناقبه، وبَلَغَهُ غزارةُ عِلمه، اضطرمت نارُ الحسد في قلبه، وصمّم على القضاء على الإمام عليه السلام فاستدعاه إلى بغداد؛ فلمّا توجّه الإمام إلى بغداد جعل وصيّه وخليفته ابنه عليّ الهادي عليه السلام، ونصَّ على إمامته عند كبار الشيعة وثقات الأصحاب، وسلّم إليه كتب العلوم الإلهية والأسلحة التي كانت للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسائر الأنبياء عليهم السلام.

وقد أخبر الإمام الجواد عليه السلام بعض أصحابه بأنّه غيرُ عائدٍ من رحلته هذه، فقد روى محمّد بن القاسم، عن أبيه قال: لمّا خرج – أبو جعفر الاِمام الجواد عليه السلام - من المدينة في المرّة الاَخيرة، قال: «ما أطَيْبَكِ يا طِيبَةُ! فَلَسْتُ بِعائِدٍ إِلَيْكِ».

وبُعيد ذلك أخبر الاِمام عليه السلام أصحابه في السنة التي تُوفّي فيها بأنّه راحلٌ عنهم في عامه. فعن محمّد بن الفرج الرخجيّ، قال: كتب إليَّ أبو جعفر عليه السلام: «احْمِلوا إليَّ الخُمْسَ فَإِنّي لَسْتُ آخِذَهُ مِنْكُمْ سِوى عَامِي هَذا». فقُبض في تلك السنة.

ثمّ ودّع الإمام أهله وولده، وترك حرمَ جدّه صلّى الله عليه وآله، وذهبَ إلى بغداد بقلبٍ حزين، ودخلها يوم الثامن والعشرين من شهر محرّم سنة (220 للهجرة) وقتله المعتصم في أواخر هذه السنة بالسُّمّ.

وكان قد شاع بين الناس مبلغُ علم الإمام محمّد الجواد وتصاغُرُ كبار الفقهاء والمحدّثين بين يديه، وكان أحد المؤثّرين على المعتصم قاضي قضاته أبي دُؤاد الإياديّ السجستاني. ولقد حقد أبو دُؤاد على الإمام الجواد أشدّ ما يكون من الحقد، وذلك حينما أخذ المعتصم برأيه في مسألة فقهية وأهمل آراء بقية الفقهاء، فتميّز أبو دُؤاد غيظاً وغضباً على الإمام عليه السلام، وسعى إلى الوشاية به، وتدبير الحيلة في قتله.

وبيان ذلك ما رواه زرقان الصديق الحميم لأبي دُؤاد قال: إنّه رجع من عند المعتصم وهو مغتمّ، فقلت له في ذلك..

قال: إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه، وقد أحضر محمّد بن عليّ (الجواد)، فسألنا (المعتصم) عن القطع؛ في أيّ موضعٍ يجب أن يُقطَع؟

فقلت: من الكرسوع لقول الله في التيمّم: ﴿..فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ..﴾، واتّفق معي على ذلك قوم. وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق.

قال: وما الدليل على ذلك؟

قالوا: لأنّ الله قال: ﴿.. وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ..﴾.

قال: فالتفت إلى محمّد بن عليّ (الجواد) فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟

قال: قد تكلّمَ القَوْمُ فيه..

قال: دعني ممّا تكلّموا به، أيّ شيءٍ عندك؟

قال: اعْفِني مِنْ هَذا...

 قال: أقسمتُ عليك بالله لمّا أخبرتني بما عندك فيه.

فقال: إِذا أَقْسَمْتَ عَلَيَّ بِالله إِنّي أَقولُ: إِنَّهُمْ أَخْطأوا فيهِ السُّنَّة، فإنَّ القَطْعَ يَجِبُ أنْ يَكونَ مِنْ مَفْصِلِ أُصولِ الأَصابِعِ فَيُتْرَكَ الكَفُّ.

قال: لِمَ؟

قال: لِقَوْلِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: السُّجودُ على سَبْعَةِ أَعْضاء: الوَجْهِ واليَديْنِ والرُّكبتَيْنِ والرِّجْلَيْنِ، فإذا قُطِعَتْ يَدُهُ مِنَ الكُرْسوعِ أوِ المِرْفَقِ لم يَبْقَ له يَدٌ يَسْجُدُ عَلَيْها، وَقالَ اللهُ تَبارَكَ وَتعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ..﴾، يَعْني بهِ هذِهِ الأعْضاءَ السَّبْعَةَ الّتي يَسْجُدُ عَلَيْها ﴿..فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾، وما كانَ للهِ لَمْ يُقْطَعْ.

قال: فأَعجب المعتصم ذلك، فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ.

قال زرقان: إنّ أبا دُؤاد قال: صرتُ إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت: إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة، وأنا أكلّمه بما أعلم أنّي أدخلُ به النار.

قال: ما هو؟

قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيّته وعلماءهم لأمرٍ واقعٍ من أمور الدين فسألهم عن الحكم فيه، فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر المجلسَ أهلُ بيته وقوّاده ووزراؤه، وكتّابه، وقد تسامعَ الناسُ بذلك من وراء بابه، ثمّ يترك أقاويلهم كلّهم، لقول رجلٍ يقول شطرُ هذه الأمّة بإمامته، ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه، ثمّ يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء!

قال: فتغيّر لونه، وانتبه لما نبّهتُه له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً..

* وأمّا كيفية شهادته عليه السلام، فقد وقع الخلاف فيها، لكن الأشهر أنّ زوجته أُمّ الفضل بنت المأمون سمّته بعد تحريض عمّها المعتصم؛ لأنّها كانت تضمر العداء والبغض للإمام؛ حسداً منها لأُمّ الإمام عليّ النقيّ الهادي عليه السلام، فكانت دائمة الشكاية منه عند أبيها وهو لا يستمع إليها، وقد عزم بعد أن قتل الإمام الرضا عليه السلام على ترك أذى أهل بيت الرسالة عليهم السلام وعدم التعرّض لهم للحفاظ على المُلك.

وكيف ما كان، فقد نقل عن كتاب (عيون المعجزات): أنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر عليه السلام، وأشار على ابنة المأمون بأن تسمّه؛ لأنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر عليه السلام وشدّة غيرتها عليه، فأجابته إلى ذلك وجعلت سُمّاً في عنب رازقيّ ووضعته بين يديه.

فلمّا أكل منه ندمتْ وجعلت تبكي، فقال: «ما بُكاؤُكِ؟ وَاللهِ لَيَضْرِبنَّكِ اللهُ بِفَقْرٍ لا يَنجَبِرُ، وبَلاءٍ لا يَنْسَتِرُ». فماتت بعلّة في جوفها، حيث صار فيه ناسور (ورَم) فأنفقت مالها وجميع ما ملكته على تلك العلّة واحتاجت إلى الاسترفاد والاستعانة بمال الآخرين.

ثم غُسّل الإمام عليه السلام، وكُفّن ودُفن في مقابر قريش خلف رأس جدّه الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وصلّى عليه ظاهراً الواثق بالله، ولكنّ الحقيقة هي أنّ الإمام عليّ النقي الهادي عليه السلام جاء من المدينة بطيّ الأرض وتولّى أمر تجهيزه وتكفينه والصلاة عليه.

ووقع الخلاف في تاريخ استشهاد الإمام الجواد عليه السلام، والأشهر أنّه استُشهد في آخر شهر ذي القعدة سنة (220 للهجرة)، وقيل غير ذلك. وكان ذلك بعد سنتين ونصف من هلاك المأمون كما قال الإمام نفسه: «الفرجُ بعدَ المَأْمونِ بثلاثينَ شَهْراً ». وعمره الشريف خمسٌ وعشرون سنة وبضعة أشهر. وهو أصغر الأئمّة الطاهرين عليهم السلام سنّاً.. وقد ضُبط في بعض المصادر بخمس وعشرين سنة، وشهرين، وثمانية عشر يوماً.

حكمةُ المعصوم

الإمام الجواد عليه السلام في كلام وليّ أمر المسلمين دام ظلّه

* في هذا النصّ لسماحة السيد القائد الخامنئي دام ظلّه مقاربة معمّقة للمزايا الرفيعة التي وسمتْ الحياة الشريفة للإمام محمّد بن عليّ الجواد عليهما السلام. وقد عرض السيد القائد إلى السيرة الذاتية للإمام عليه السلام، مركّزاً على مجموعة من المحطّات التي تشكّل بمجموعها شخصيّة الإمام المعصوم والكيفيّة التي واجه فيها حاجات الأمّة؛ سواء في بيان وشرح الوحي المقدّس، أو في الميدان السياسي والاجتماعي، وطريقة تعاطيه مع السلطة العبّاسية واستبدادها.

«شعائر»

حياة الإمام محمّد الجواد عليه السلام استمرارٌ لخطّة أبيه الرضا عليه السلام، ويبدو ذلك من علاقة المأمون نفسها بالإمام الجواد عليه السلام ومحاولة المأمون تقريبَ الإمام الجواد وإدخاله في أروقة الحكم، استمراراً لمؤامرته لتمييع حركة التشيّع وقضيتها ضمن إطار الخلافة العبّاسيّة، ومستهدفاً بذلك حجز الإمام وعزله عن قواعده الشعبية بشكل لا يثير الأُمّة، وخصوصاً وهو يعيش مُعزّزاً مُكرّماً في قصور المأمون ومبانيه الفخمة، وبعدها سوف يجعله تحت رقابة القصر المحكمة والتي تحصي عليه كلّ تحرّكاته وسكَناته بدقّة تامّة.

ولهذا بادر المأمون إلى خطّته القديمة في الظهور أمام الناس كشخصٍ مُشفقٍ مُحبٍّ للإمام عليه السلام، فزوّجه ابنته أمُّ الفضل لكي يضمن تأييد الإمام له، ولذلك عرض عليه البقاء في مركز الخلافة، لكنّ الإمام الجواد أصرّ على الرجوع إلى المدينة، ليُحبط خطّة المأمون في كسب تأييده لخلافته المغتصبة، فهي من جانب الإمام عليه السلام استنكار لخلافة المأمون وإيحاء للآخرين بعدم شرعيّة حكمه، ومن جانب آخر إثبات لإمامته وانفصال أطروحته عن أطروحة السلطة الحاكمة.

فقبول الإمام عليه السلام بالبقاء مع المأمون في بلاطه وحاشيته معناه أن تندمج الأطروحتان، وتبدو للجمهور أنّهما غير متناقضتين ما يُضيّع على أطروحة الإمام معالمها الفكرية الخاصة التي تميّزها عن أطروحة الحاكم المنحرف.

والإمام الجواد عليه السلام استمرّ في خط أبيه، في تخطيطه الفكري وتوعيته العقائدية، فكان في المدينة يجمع عنده الفقهاء من بغداد والأمصار ليسألوه ويستنيروا بهديه، «وكان وقت موسم الحجّ، فاجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلاً فخرجوا إلى الحجّ وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر».

وكان الإمام الجواد عليه السلام يمارس مهام مسؤولياته الجهاديّة لتوسيع قواعده الشعبية، حتّى سمع به المعتصم واستدعاه إلى بغداد بالقوّة ليغدر به، ويُنهي حياته الشريفة بالسُّم، وقال ابن بابويه: «سمّه المعتصم».

فالإمام عليه السلام، إذاً، كان يشكّل خطراً على استمرار السلطة، ويسلّط الأضواء على مواضع انحرافهم وبُعدهم عن الإسلام، وليس ذلك وحده، بل كان الكلّ يعرف منزلته وتفوّقه العلمي والفكري على صِغر سنه وتحدّيه للفقهاء وللقضاة في عصره، «ففي مجلس واحد سألوه عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم فيها وله تسع سنين».

قال المفيد: «إنّ المأمون كان قد شغف بالجواد لِما رأى من فضله مع صغر سنّه وبلوغه من الحكمة والعلم والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحدٌ من مشايخ أهل الزمان».

وقال الطبرسي في (إعلام الورى) «إنّه عليه السلام كان قد بلغ في وقته من الفضل والعلم والحِكم والآداب، مع صغر سنّه، منزلةً لم يساوه فيها أحدٌ من ذوي السنّ؛ من السادة وغيرهم».

نُنهي حديثنا عن عمل الإمام الجواد وتخطيطه بهذا القدر المختصر، وذلك لتشابه دورِهِ دورَ أبيه الرضا عليه السلام، ولنقف على دراسة ظاهرة إعجازية، وجدت في الإمام الجواد عليه السلام وقد أثارت حولها كثيراً من التساؤلات والأقاويل. ألا وهي ظاهرة تولّيه مرجعيّة الإمامة والقيادة وهو في سنّ الطفولة، وكان عمره آنذاك ثماني سنين.

الإمام عليه السلام وصِغر سنّه

هي من الظواهر الإعجازية التي وجدت في الإمام الجواد عليه السلام، والتي كان لها أثرها الكبير في واقع الحكّام آنذاك.

وقد أجمعت المصادر التاريخية أنّ الإمام الجواد توفّي أبوه الرضا عليه السلام وعمره «ثماني سنين أو سبع سنين وأربعة أشهر»، وتولّى الإمامة بعد أبيه وهو في سنّ الطفولة.

هذه الظاهرة وُجدت لأوّل مرّة في حياة الأئمّة عليهم السلام في شخص الإمام الجواد عليه السلام، وكان تحدّياً صارخاً للحكّام المنحرفين ورهاناً أكيداً وإعجازياً على حقيقة امتداد خطّ إمامة الأئمّة عليهم السلام  ومرجعيّتهم، هذا الخطّ الذي يمثّله الإمام الجواد عليه السلام.

ولو اعتمدنا حساب الاحتمالات لوجدنا أنّ صغر سنّ الإمام عليه السلام وحده سببٌ كافٍ للاقتناع بحقيقة إمامته وتمثيله لخطّ إمامة أهل البيت، وإلّا كيف نُفسّر توليه الزعامة الشيعيّة في كلّ المجالات النظرية والعملية.

ولربّما يتبادر افتراض يقول إنّ الطائفة الإسلامية الشيعيّة ربّما لم ينكشف لديها، بوضوح، إمامة وزعامة هذا «الصبيّ» لأهل البيت، ولربّما زادوا هذا الافتراض زعماً آخر كما جاء على لسان الباحث أحمد أمين «باختفاء الأئمّة عن الأعين، واكتفائهم بالدعوة سرّاً، ليبقى العطف عليهم في الناس».

وردُّنا على هذا الافتراض والزعم، هو أنّ زعامة الإمام الجواد عليه السلام كانت زعامة مكشوفة وعلنية أمام كلّ الجماهير، ولم تكن زعامة أئمّة أهل البيت في يومٍ ما زعامة مُحاطة بالشرطة أو الجيش وأبّهة الملك والسلطان، بحيث تحجب الزعيم عن رعِيّته، ولم تكن زعامتهم عليهم السلام زعامة دعوة سرّيّة من قبيل الدعوات الصوفية والفاطمية، كي تحجب بين قائد الدعوة وبين قواعده الشعبية، بل كان الإمام عليه السلام يمارس زعامة مكشوفة إلى حدٍّ ما، وكانت القواعد الشعبية المؤمنة بزعامته وإمامته تتفاعل معه مباشرة في مسائلها الدينية وقضاياها الاجتماعية والأخلاقية.

ولمّا استقدمه المأمون إلى مركز خلافته في بغداد، أصرّ الجواد عليه السلام على الاستئذان والرجوع إلى المدينة، وقد سمح له المأمون بذلك، وقد قضى أكثر عمره الشريف هناك.

فالجواد عليه السلام كان يتحرّك بفاعلية ونشاط على المسرح الاجتماعي وهو مكشوف أمام كلّ المسلمين بما فيهم الشيعة الذين يؤمنون بزعامته وإمامته.

حتّى أن المعتصم تضايق من نشاطه وتحرّكه، فطلبه وأحضره إلى بغداد، ولما حضر أبو جعفر عليه السلام إلى العراق لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبّرون ويعملون الحيلة في قتله، ويقول المفيد: «فورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرّم سنة 220 هجرية، وتوفّي بها في ذي القعدة من هذه السنة».

وفي (روضة الواعظين): «مات ببغداد قتيلاً مسموماً».

وعلى ضوء هذه الحقائق تسقط دعوى الفرض الذي يقول بأنّ الجواد عليه السلام لم تكن زعامته مكشوفة أمام المسلمين عامّة وأمام شيعته خاصّة، خلافاً لطبيعة العلاقة التي نشأت منذ البداية بين قادة أهل البيت وقواعدهم الشعبية، وخصوصاً أن المأمون قد سلّط الأضواء على إمامة الجواد وعِلمه، فقد عرّضه إلى امتحان من أجل إفحامه وفضّ الناس عنه، وجمع بينه وبين كبار العلماء أمام العباسيّين فتبيّن تفوّق الجواد عليه السلام العلمي والفكري على صِغر سنّه.

وقد طلب المأمون من يحيى بن أكثم، وهو من كبار المفكّرين آنذاك أن يطرح على الإمام مسألة يقطعه فيها.

فقال له: أتأذن لي، جُعلت فداك، في مسألة؟

فقال له أبو جعفر: سلْ ما شِئْتَ.

قال يحيى: ما تقول في مُحْرِمٍ قتلَ صيداً؟

فقال له الإمام عليه السلام: «قَتَلَهُ في حِلٍّ‏ٍٍ أو حَرَمٍ؟ عالِماً كان المُحْرِمُ أمْ جاهِلاً؟ قتلَهُ عَمْداً أو خَطَأً؟ حُرّاً كانَ أمْ عَبداً؟ صَغيراً كانَ أو كبيراً؟ مُبْتَدِئاً بالقتلِ أمْ مُعيداً؟ من ذواتِ الطَّيْرِ كانَ الصَّيْدُ أمْ من غَيْرِها؟ من صغارِ الصَّيْدِ كان أم من كِبارِه؟ مُصِرّاً عَلى ما فعلَ أم نادِماً؟ في اللَّيْلِ كان قَتْلُهُ للصَّيْدِ أم في النَّهار؟ مُحْرِماً كان بالعُمرةِ إذ قَتَلَهُ أو بالحجِّ كان مُحْرِماً؟».

فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع وتلجلج حتّى عرف أهلُ المجلس أمره.

وهناك افتراضات أخرى ربما تُثار في هذا المجال نعرضها على التوالي:

* الافتراض الأوّل: يقول إنّ المستوى العلمي والفكري للطائفة الشيعيّة وقتئذٍ كان بدرجة يُمكن معها أن يغفلوا هذا الموضوع، أو بشكل آخر، إنّ مستواهم الفكري والعقلي والروحي هو الذي دفعهم إلى التصديق والإيمان بإمامة طفل وهو ليس بإمامٍ حقاً!

وهذا الفرض ساقط، يكذّبه الواقع التاريخي الثابت للطائفة الشيعيّة، إذ أنّ مستواها العلمي والفقهي كان موضع إكبار وتقدير من قِبَلِ كلّ المدارس الفكرية المنافسة الأخرى. فالمدرسة الفكرية الضخمة التي خلّفتها جهود الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام كانت من أكبر مدارس الفكر الإسلامي التي شهدها العالم الإسلامي آنذاك، فهناك جيلان قد تعاقبا وهم من تلاميذ الصادق والكاظم عليهما السلام وكانا على رأس الطائفة الشيعيّة في ميادين الفقه والتفسير والكلام والحديث وكلّ جوانب المعرفة الإسلامية.

وعلى ضوء هذه الحقيقة، لا يمكن الافتراض أبداً بأنّ المستوى الفكري والعلمي للطائفة كان بالمقدار الذي يُغفل موضوعاً مُهمّاً وخطيراً كهذا، فكيف تغفل طائفة بكاملها وفيها هذه المدرسة التي كانت تُعدّ قِبلةً للفكر الإسلامي المنفتح وتتخيّل أو تتصوّر غفلة أنّ الإمامة في شخص طفل صغير وهو ليس بإمامٍ حقّاً.

وخصوصاً - وكما قدّمنا - أنّ إمامة الجواد عليه السلام وزعامته لقواعده الشعبية كانت زعامة مكشوفة لكلّ المسلمين، وبإمكان أيّ فرد منهم أن يتحدّاها، ويمتحن صدقها، وخصوصاً الطائفة الشيعيّة التي كانت تمثّلها في العالم الإسلامي أكبر المدارس الفكرية وأضخمها على الإطلاق، فقد امتدّت مدرستها في الكوفة وقم والمدينة، وكانت هذه المدارس والمراكز الفكرية على صِلة بالإمام عليه السلام تستفتيه وتسأله، وتنقل إليه الحقوق والأموال من مختلف الأطراف، فكيف نتصوّر أنّ هذه العقلية المنفتحة أو مثل هذه المدرسة الضخمة تغفل عن حقيقة طفل لا يكون إماماً.

* الافتراض الثاني: إنّ الطائفة الشيعيّة عبر تاريخها المديد لم تكن تملك تصوّراً واضحاً لمفهوم الإمام والإمامة، بل كانت تتصوّر الإمام مجرّد رقم في تسلسل نَسَبي، فهي بالتالي تجهل الإمام والشروط اللازمة للإمامة!

نقول إنّ هذا الافتراض مردود، لأنّ التشيّع كأساسٍ يقوم على المفهوم الإلهي العميق لفكرة الإمامة هو من (البديهيّات) ومن أبسط مفاهيم التشيّع، فالإمام في مفهومه الشيعي العامّ هو ذلك الإنسان الفذّ، (الكامل) بمعارفه وأقواله وأعماله وأخلاقه. وهذا المفهوم، وهو ما كان واضحاً في معالمه وأبعاده عند الطائفة الشيعيّة، قد بشرّت به آلاف النصوص التي توالت منذ عهد الإمام عليّ عليه السلام إلى عهد الإمام الرضا عليه السلام، حتى أنّ كلّ تفاصيل التشيّع وخصوصيّاته أصبحت واضحة في أذهان الشيعة ووعيهم.

تقول إحدى الروايات بهذا الصدد: دخلنا المدينة بعد وفاة الرضا عليه السلام نسأل عن الخليفة بعد الإمام الرضا، فقيل إنّ الخليفة في قرية قريبة من المدينة، (قال الراوي): فخرجت إلى تلك القرية فدخلتها، وكان فيها بيتٌ للإمام موسى بن جعفر عليه السلام، انتقل إلى الإمام الجواد عليه السلام بالوراثة، فرأيت البيت غاصّاً بالناس ورأيت أحد أخوة الرضا عليه السلام جالساً متصدّراً المجلس، وسمعتُ الناس يقولون عنه - أي عن أخي الرضا عليه السلام - بأنّه ليس هو الإمام، لأنّهم سمعوا من الأئمّة عليه السلام: أنّ الإمامة لا تكون في أخوَين بعد الحسن والحسين عليهما السلام.

نستنتج من هذا الحديث، أنَّ كلّ تفاصيل التشيّع وخصوصيّاته ومفاهيمه كانت واضحة وجليّة عندهم، ما يكذّب زعم أصحاب هذا الافتراض.

* الافتراض الثالث والأخير: إنّ الأمر لا يعدو كونه تفانياً وإصراراً على الغرور والباطل من قبل طائفة الشيعة ومُحبّيه عليه السلام.

ونقول إنّ هذه الدعوى باطلة، ليس فقط من وجهة إيماننا بورع الطائفة الشيعيّة وقدسيّتها، وإنّما نؤكّد القول من خلال تلك الظروف الموضوعيّة التي أحاطت بهذه الطائفة المضطهدة، إذ أنّه لم يكن التشيّع في يوم من الأيّام في حياة هذه الطائفة المؤمنة طريقاً للأمجاد والسلطان أو الإثراء، بل كان التشيّع على مدار التاريخ طريقاً إلى التعذيب والحرمان والسجون والاضطهاد، بل وكان طريقاً لأن يعيش معها (الموالي) حياة خوف وتضحية ومراقبة دائمة في كلّ خطوة يخطوها.

يقول الإمام الباقر عليه السلام عن تلك المحن والبلايا التي نزلت بالشيعة وخاصة أيّام الحكم الأمويّ: «وَقُتِلَتْ شيعَتُنا بِكُلِّ بلدةٍ، وقُطِعَتِ الأَيدي وَالأَرْجُلُ عَلى الظّنَّةِ وَالتُّهْمَةِ، وَكُلُّ مَنْ يُذْكَرُ بِحُبِّنا أَوِ الانْقطاعِ إِلَيْنا سُجِنَ أَوْ نُهِبَ مالُهُ وَهُدِّمَتْ دارُهُ».

فافتراض التفاني والإصرار على الباطل، لم يكن في أيّ وقت من الأوقات من أجل مطمح مادّيّ أو دنيويّ. ولماذا، بعد ذلك، كلّ هذا التفاني وإصرار علماء الطّائفة وفقهائها، على إمامة باطلة زائفة، مع أنّ تفانيهم في الإمام عليه السلام سيكلّفهم ألواناً قاسية من الحرمان والعذاب.

لذلك لا يمكننا تفسير تفاني الشيعة في الإمامة، إلّا أن يكون ذلك ناشئاً عن اعتقاد حقيقي بهذه الإمامة، ووعي عميق لشروط انعقادها.

ومن هنا يجب القول إنّ كلّ هذه الافتراضات لا يمكن قبولها لمن اطّلع على حقيقة تاريخ هذه الطائفة وظروفها الموضوعيّة، وبالخصوص الظروف والملابسات التي أحاطت بإمامة الجواد عليه السلام.

وبعد عرض هذه الافتراضات وردّها، لا يبقى لدينا إلا الفرض الوحيد المطابق للواقع؛ وهو كون الجواد صلوات الله عليه هو الإمام حقّاً.

 

من كرامات الإمام الجواد عليه السّلام

الولاية التكوينية والإخبار بالمغيَّبات

_____ أعدّها ونسّقها: خليل أحمد سرور _____

لعلّ من المزايا الربّانيّة التي اختزنتها شخصيّة الإمام محمّد الجواد عليه السلام، ما فاضت به من علوم ومعارف إلهيّة لا ينالُها إلا الراسخون في العلم من أهل بيت النبوّة عليهم السلام.

في المقالة التالية، ننقل سلسلة مختارة من عيون أخبار الإمام الجواد عليه السلام، تُشير بجملتها إلى معاجزه في الولاية التكوينية والإخبار بالمغيّبات. وتلك جميعاً ممّا مَنّ اللهُ تعالى به على أوليائه وأوصيائه من أئمّة الهدى عليهم السلام.

«شعائر»

قال الشيخ كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعي في كتابه (مطالب السؤول): «مناقب أبي جعفر محمّد الجواد ما اتَّسَعت جِلبابُ مجالها، ولا امتدّت أوقاتُ آجالها، بل قضت عليه الأقدار الإلهيّة بقلّة بقائه في الدنيا بحُكْمِها وسجالها، فقلّ في الدنيا مُقامُه، وعُجِّل عليه فيها حِمامُه، فلم تَطُلْ لياليه ولا امتدّت أيّامُه، غيرَ أنّ الله خصّه بمنقبةٍ أنوارُها متألّقةٌ في مطالع التعظيم، وأخبارُها مرتفعة في معارج التفضيل والتكريم». ثم ذكر إخبار الإمام الجواد عليه السلام عما أضمره المأمون في نفسه، ومحاولته اختبار علم الإمام عليه السلام بسؤاله عمّا اصطاده، والقصّة معروفة.

***

* قال الشّيخ محمود الشّيخانيّ القادريّ الشّافعي: «ومن كراماته (أي الإمام الجواد عليه السّلام) أنّه كان تُطوى له الأرض، فيصلّي في يومٍ واحدٍ بمكّة والمدينة والشّام والعراق».

(الصّراط السَّويّ في مناقب آل النبيّ)

***

* «عن محمّد بن الريّان قال: احتال المأمون على أبي جعفر (الجواد) عليه السّلام بكلّ حيلة فلم يمكنه فيه شيء، فلمّا اعتلّ وأراد أن يبني عليه ابنته (أي يزفّ ابنتَه إلى الإمام الجواد عليه السّلام) دَفَع إلى مئتَي وصيفة من أجمل ما يكون.. إلى كلّ واحدة منهنّ جاماً فيه جوهر يستقبلن أبا جعفر عليه السّلام إذا قعد في موضع الأخيار، فلم يلتفت عليه السّلام إليهنّ.

وكان رجلٌ يُقال له مُخارِق صاحبَ صوتٍ وعُودٍ وضرب، طويل اللّحية، فدعاه المأمون فقال مخارق له: يا أمير المؤمنين، إنْ كان في شيءٍ من أمر الدنيا فأنا أكفيكَ أمره.

فقعد مخارق بين يدي أبي جعفر عليه السّلام فشهق شهقةً اجتمع عليه أهلُ الدار، وجعل يضرب بعوده ويغنّي، فلمّا فعل ساعةً وإذا أبو جعفر عليه السّلام لا يلتفت إليه لا يميناً ولا شمالاً، ثمّ رفع عليه السّلام إليه رأسه فقال: اتّقِ اللهَ يا ذا العُثْنُون! (والعثنون ما فضل من اللّحية بعد العارضَين، أو شُعَيرات تحت حنك البعير)

قال الراوي: فسقط المِضراب مِن يد مخارق والعود، ولم ينتفع بيديه إلى أن مات، فسأله المأمون عن حاله، فقال: لمّا صاح بي أبو جعفر فزعتُ فزعةً لا أفيقُ منها أبداً».

(الكافي للكليني)

***

* روى جماعة من علماء أهل السُّنّة هذه المنقبة للإمام الجواد سلام الله عليه: «حُكي أنّه لمّا توجّه أبو جعفر الجواد إلى المدينة الشريفة، خرج معه الناس يشيّعونه للوداع.. فسار إلى أن وصل إلى باب الكوفة عند دار المسيِّب، فنزل هناك مع غروب الشمس ودخل إلى مسجدٍ قديم مؤسَّسٍ بذلك الموضع ليصلّيَ فيه المغرب، وكان في صحن المسجد شجرةُ نَبْقٍ لم تَحمِل قطّ، فدعا عليه السّلام بكُوزٍ فيه ماء، فتوضأ في أصل الشجرة وقام يصلّي، فصلّى مع الناس المغرب، ثمّ تنفّل بأربع ركعات وسجد بعدهنّ للشكر، ثمّ قام فودّع الناسَ وانصرف، فأصبحت النبقةُ وقد حملت من ليلتها حملاً حَسَناً، فرآها الناس وقد تعجّبوا مِن ذلك غاية العَجَب!».

(جامع كرامات الأولياء للنبهاني، روى الحديث هذا ثمّ قال: وكان ما هو أغرب من ذلك، وهو أن نبق هذه الشجرة لم يكن له عُجْم (أي نَوى)، فزاد تعجّبُهم من ذلك! وهذا مِن بعض كراماته الجليلة، ومناقبه الجميلة)

***

 

* روى ابن الصبّاغ المالكيّ عن أبي خالد، قال: «كنت بالعسكر (وهو محلّة في سامراء)، فبلغني أنّ هناك رجلاً محبوساً أُتِي به من الشام مُكبَّلاً بالحديد وقالوا: إنّه تنبّأ! فأتيتُ باب السجن ودفعت شيئاً إلى السجّان حتّى دخلتُ عليه، فإذا برجلٍ ذي فَهمٍ وعقل ولُبّ، فقلت له: يا هذا، ما قصّتك؟

قال: إنّي كنتُ رجلاً بالشام أعبُد اللهَ تعالى في الموضع الذي يُقال إنّه نُصِب فيه رأسُ الحسين عليه السّلام.. فبينما أنا ذاتَ يومٍ في موضعي مُقْبِل على المحراب أذكر الله، إذ رأيتُ شخصاً بين يَدَيّ، فنظرت إليه فقال لي: قُم. فقمتُ معه، فمشى قليلاً.. فإذا أنا في مسجد الكوفة، فقال لي: تعرف هذا المسجد؟ قلت: نعم، هذا مسجد الكوفة. فصلّى فصلّيتُ معه، ثمّ خرج فخرجت معه، فمشى قليلاً.. فإذا نحن بمكّة المشرّفة، فطاف بالبيت فطفتُ معه، ثم خرج فخرجت معه، فمشى قليلاً.. فإذا أنا بموضعي الذي كنت فيه بالشام.. ثمّ غاب عنّي، فبقيتُ متعجّباً ممّا رأيت.

فلمّا كان العام المقبل، فإذا بذلك الشخص قد أقبل علَيّ، فاستبشرت به فدعاني فأجبتُه، ففعل بي كما فعل بي بالعام الماضي، فلمّا أراد مفارقتي قلتُ له: سألتك بحقِّ الذي أقدَرَك على ما رأيتُ منك، إلاّ ما أخبرتَني مَن أنت، فقال: أنا محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب.

فحدّثت بعضَ مَن كان يجتمع لي بذلك، فرفع ذلك إلى [الوزير العبّاسي] محمّد بن عبد الملك الزّيّات، فبعث إليّ مَن أخذني في موضعي وكبّلني في الحديد، وحملني إلى العراق وحبسني كما ترى، وادّعى علَيّ بالمُحال.

قال أبو خالد: قلتُ له: فأرفعُ عنك قصّةً [أي ورقة فيها شرح حالك] إلى محمّد بن عبد الملك الزّيّات.

قال: افْعَلْ.

قال: فكتبتُ عنه قصّةً وشرحتُ فيها أمره ورفعتُها إلى محمّد بن عبد الملك، فوقّع على ظهرها: قُلْ للذي أخرجك من الشام إلى هذه المواضع التي ذكرتَها، يُخرِجك من السجن الذي أنت فيه!

فقال أبو خالد: فاغتَمَمتُ لذلك وسُقط في يدي، وقلت: إلى غدٍ آتيه (أي هذا السجين) وآمرُه بالصبر وأعِده من الله بالفَرَج، وأُخبره بمقالة هذا الرجل المتجبّر (أي الزيّات). فلمّا كان من الغد باكرتُ السجن.. فإذا أنا بالحرسِ والجندِ وأصحابِ السجن وناسٍ كثيرين في هَرَج! فسألتُ: ما الخبر؟! فقيل لي: إنّ الرجل المتنبّئ المحمول من الشام فُقِد البارحةَ من السجن، لا ندري كيف خَلَص منها، وطُلِب فلم يُوجد له أثرٌ ولا خبر، ولا يدرون.. أغُمِس في الماء، أم عُرِج به إلى السماء!

فتعجّبتُ من ذلك وقلت: استخفافُ ابن الزيّات بأمره، واستهزاؤه بما وقّع به على قصّته، خلّصه من السجن».

(الفصول المهمّة)

***

* «حدّث أبو محمّد عبد الله بن محمّد قال: قال لي عمارة بن زيد: رأيت امرأةً قد حملت ابناً لها مكفوفاً إلى أبي جعفر محمّد بن عليّ (الجواد) عليه السّلام، فمسح يدَه عليه فاستوى قائماً يعدو كأنْ لم يكن في عينه ضرر!».

(دلائل الإمامة للطبري الإمامي)

***

* «عن أبي سَلَمة قال: دخلت على أبي جعفر عليه السّلام وكان بي صَمَمٌ شديد، فخُبِّر بذلك لمّا أنْ دخلتُ عليه، فدعاني إليه فمسح يده على أُذُني ورأسي ثمّ قال: اسْمَعْ وعِهْ. [ قال أبو سلمة] فوَاللهِ إنّي لأسمعُ الشيءَ الخفيّ عن أسماع الناس مِن بعد دعوته».

(مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب)

***

* «عن داود بن محمّد النهديّ، عن عمران بن محمّد، الأشعري قال: دخلتُ على أبي جعفر الثاني عليه السّلام وقضيت حوائجي، وقلت له: إنّ أمّ الحسن (زوجة عمران بن محمّد) تُقرئك السّلام وتسألك ثوباً من ثيابك تجعلُه كفناً لها. قال: قد استَغنَتْ عن ذلك.

فخرجتُ ولستُ أدري ما معنى ذلك! فأتاني الخبر بأنّها قد ماتت قبل ذلك بثلاثة عشر يوماً أو أربعة عشر يوماً».

(الخرائج لقطب الدين الراوندي)

***

* «عن أبي هاشم الجعفريّ قال: كلّمني جَمّالٌ أن أُكلّمَه (أي أُكلّم الإمامَ الجواد عليه السّلام) ليدخله في بعض أموره، فدخلت عليه لأكلّمه فوجدتُه يأكلُ مع جماعة، فلم يُمكِنّي كلامه، فقال: يا أبا هاشِمٍ، كُلْ، ووضع بين يَدَيّ.. ثمّ قال ابتداءً منه مِن غير مسألة: يا غُلامُ، انْظُرِ الجَمّالَ الّذي أَتانا بِهِ أَبو هاشِمٍ فَضُمَّهُ إِلَيْكَ».

(الإرشاد للشيخ المفيد)

***

* «رُوي عن ابن أُرومة أنّه قال: حَمَلَت إليّ امرأةٌ شيئاً من حُليٍّ وشيئاً من دراهم وشيئاً من ثياب، فتوهّمتُ أنّ ذلك كلّه لها، ولم أسألها إنْ كان لغيرها في ذلك شيء.. فحملتُ ذلك إلى المدينة مع بضاعات لأصحابنا، فوجّهتُ ذلك كلّه إليه (أي إلى الإمام الجواد عليه السّلام) وكتبت في الكتاب أنّي قد بعثت إليك مِن قِبل فلانة كذا ومِن قِبل فلانٍ كذا ومِن فلانٍ وفلانٍ بكذا. فخرج في التوقيع: قد وصل ما بعثتَ مِن قِبل فلان وفلان ومن قِبَل المرأتين، تقبّل اللهُ منك ورضي عنك، وجَعَلك معنا في الدنيا والآخرة.

فلمّا رأيت ذِكرَ المرأتينِ شككتُ في الكتاب أنّه غيرُ كتابه، وأنّه قد عُمِل علَيّ دونه؛ لأنّي كنتُ في نفسي على يقينٍ أنّ الذي دفعتْ إليّ المرأة كان كلّه لها وهي امرأةٌ واحدة، فلمّا رأيت في التوقيع امرأتين اتَّهمت مُوصِلَ كتابي.

فلمّا انصرفتُ إلى البلاد جاءتني المرأة فقالت: هل أوصلتَ بضاعتي؟ فقلت: نعم. قالت: وبضاعة فلانة؟ قلت: وكان فيها لغيرِكِ شيء؟! قالت: نعم، كان لي فيها كذا ولأُختي فلانة كذا. قلت: بلى، قد أوصلتُ ذلك. وزال ما كان عندي».

(الخرائج للراوندي)

استجابة دعائه عليه السّلام

* «عن محمّد بن عُمير بن واقد الرازي، قال: دخلتُ على أبي جعفر محمّد الجواد بن الرضا عليهما السّلام ومعي أخي به بَهَقٌ شديد، فشكا إليه من البَهَق، فقال عليه السّلام: عافاكَ اللهُ ممّا تَشْكو. فخرجنا من عنده وقد عُوفي، فما عاد إليه ذلك البهق إلى أن مات.

قال محمّد بن عمير: وكان يصيبني وجعٌ في خاصرتي في كلّ أُسبوع، فيشتدّ ذلك بي أيّاماً.. فسألته أن يدعوَ لي بزواله عنّي، فقال: وَأَنْتَ عافاكَ اللهُ. فما عاد إلى هذه الغاية».

(الثاقب في المناقب لابن حمزة)

***

 

* «عن ابن أُرومة أنّه قال: إنّ المعتصم دعا جماعةً من وزرائه فقال لهم: اشهدوا لي على محمّد بن عليّ بن موسى (أي الجواد عليه وعلى آبائه وأبنائه أفضل الصلاة والسّلام) زُوراً، واكتبوا كتاباً أنّه أراد أن يَخرُج علينا!

ثمّ دعاه فقال له: إنّك أردتَ أن تخرج علَيّ!

قال عليه السّلام: واللهِ ما فَعَلْتُ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ.

قال المعتصم: إنّ فلاناً وفلاناً وفلاناً.. شَهِدوا عليك بذلك. وأُحضِروا فقالوا: نعم، وهذه الكتب أخذناها مِن بعض غِلمانك!

وكان أبو جعفر (الجواد) عليه السّلام جالساً في بَهْوٍ (وهو غرفة متقدّمة من البيت، وهي عادةً غرفة الضيوف)، فرفع يده وقال: اللَّهُمَّ إِنْ كانوا كَذَبُوا علَيّ فَخُذْهُمْ.

قال الراوي: فنظرنا إلى ذلك البهو كيف يَزحَف ويَذهب ويجيء.. وكلّما قام واحدٌ وقع. فقال المعتصم: يا ابن رسول الله، إنّي تائبٌ ممّا قلتُ فادعُ ربّك أن يُسكِّنَه.

فقال عليه السّلام: اللَّهُمَّ سَكِّنْهُ، إنّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَعْداؤُكَ وَأَعْدائي... فَسَكَنَ».

(الثاقب في المناقب)

 

شبيهُ الأنبياء

شذرات من مناقب الإمام الجواد عليه السلام

ـــــــــــــــــــــــــ الشيخ حسين كوراني ـــــــــــــــــــــــــ

 

* تحت هذا العنوان: «شبيهُ الأنبياء»، تناول سماحة العلامة الشيخ حسين كوراني واحدة من أعظم الصفات التي ميّزت مكانة الإمام محمّد الجواد عليه السلام في المسيرة النبويّة الإلهية لأئمّة أهل البيت عليهم السلام. عنينا بها وراثته الأصيلة لأنبياء الله صلوات الله عليهم أجمعين، ولا سيّما لجهة السّمة الإعجازية لشخصيّته النبويّة. وقد أشار سماحته في معرض كلامه إلى تصدّي الإمام الجواد عليه السلام لأعقد القضايا التي واجهتها الأمة، رغم حداثة سنّه ومشقّة الظروف التي عاشها أيّام حُكم بني العبّاس.

يُشار إلى أن هذه المقالة منتخبة من عدّة دروس ألقاها سماحته في «المركز الإسلامي».

«شعائر»

من بين أبرز المعجزات في تاريخ النُّبوّة والإمامة، سبعُ معاجز امتازت عن غيرها بأنّ المحوَر فيها نبيٌّ أو إمام صغير السِّنّ، يتصدّى في صغر سِنِّه لمهمّة «الحُجّة على الخَلْق»، بما يعنيه ذلك من عِلم يفوق كلّ ما أُوتيه حتّى أعلم العلماء، وبما يعنيه أيضاً من حكمة ودراية وقيادة سياسيّة في حمَّى الصّراع مع الطّواغيت، والمترَفين، والملأ.

المعجزات السبع هي نُبوّة الأنبياء سليمان وعيسى ويحيى عليهم السلام، وإمامة أمير المؤمنين والأئمّة الجواد والهادي والمهديّ عليهم السلام.

نحن في الحديث على أعتاب الإمام الجواد عليه السلام أمامَ الحديث عن معجزة فارقة هي معجزة الطفل الحجّة على الخلق، هي أن يكون شخصٌ صغير السنّ نبيّاً أو إماماً، وقد تكرّرت هذه الظاهرة في خطّ الأنبياء والأوصياء سبع مرّات؛ ثلاث منها في الأنبياء وأربع في الأوصياء.

الأنبياء: سليمان وعيسى ويحيى عليهم السلام.

والأوصياء: أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، والإمام الجواد، والإمام الهادي، والإمام المهديّ عليهم السلام.

سليمان في العاشرة من عمره  كان نبيّاً.

وعيسى في المهد قال: ﴿..إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾.

ويحيى قال عنه تعالى: ﴿..وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾.

أمّا أمير المؤمنين عليه السلام، فيكفي هذا النصّ من (نهج البلاغة) يتحدّث عمّا قاله له النبيّ الأعظم عندما كان في العاشرة من عمره، قال عليه السلام: «وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حينَ نزلَ الوحيُّ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما هَذِهِ الرَّنَّة؟

فقالَ هذا الشَّيْطانُ آيِسٌ مِنْ عِبادَتِه. إنَّكَ تَسْمَعُ ما أَسْمَعُ، وَتَرَى ما أَرَى، إلّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلَكِنَّكَ وَزيرٌ، وَإِنَّك لَعَلى خَيْر».

ترابط هذه المعجزات

ينبغي التّنبُّه جيّداً إلى العلاقة الجذريّة بين معجزات هؤلاء الأنبياء، وبين معاجز الأئمّة عليهم جميعاً الصّلاة والسّلام، فالإعجاز في صغر السِّنّ في مجال النّبوّة، تأسيسٌ لأصلٍ عقائديّ، يُمكِّن من التّعاطي مع ما سيأتي في خطِّ الوصاية المحمّديّة بِيَقينٍ قرآنيّ.

كما ينبغي التّنبُّه إلى تمهيد ظاهرة إمامة الإمام الجواد عليه السلام في السّابعة من عمره الشّريف - أو حواليها - لإمامة الإمام المهديّ المنتظَر عليه السلام في حوالي الخامسة من عمره الشّريف.

إنَّ الفرق كبير جدّاً بين التّعامل مع هذه المعاجز منفصلة عن بعضها، أو فصل معاجز النّبّوة عن معاجز الإمامة، وبين التّعامل معها على قاعدة التّرابط والانتظام ضمن أصلٍ عقائديّ وقرآنيّ واحد، كما أنَّ الفرق كبيرٌ جدّاً بين التّفكير بمعجزة صِغر سنِّ الإمام الجواد دون الربط بينه وبين وصغر سنِّ الإمام المهديّ عليهما السلام حين تصدِّيهما لمهامّ الخلافة الإلهيّة، ووصاية رسول الله صلّى الله عليه وآله، وبين التّفكير بمعجزتَي هذين الإمامَين عليهما السلام.

سيقودنا التّأمُّل في هذا التَّرابط – وتلقائيّاً - إلى التَّرابط بين نبوّة النّبيّ عيسى عليه السلام «في المهد»، وبين إمامة الإمام المهديّ المنتظر الذي أجمع المسلمون أنّه سينزل من حيث رفعه الله تعالى إليه، لِيَنصر المهديّ الذي يُحقِّق الله تعالى على يديه آمال النّبيّين والمُستضعفين.

المِشكاة واحدة، والله تعالى بكلِّ شيءٍ عليم، وقد تكفَّل، سبحانه، بألَّا يكون للنّاس عليه حُجَّة، وأنّ له سبحانه الحجَّة البالغة، فمن الطّبيعي أن تُبنى الأُسس العقائديّة لمسيرة النّبوّة والإمامة – الواحدة - على غاية القوّة والوضوح.

هكذا يمكننا أن ندرك أهمّيّة التّأسيس العقائدي لإمامة المهديّ المُنتظَر خاتم الولاية المحمّديّة، وندرك أيضاً مدى اللُّطف الإلهي للأجيال التي ستواجه ألوان التّشكيك بإمامة الإمام الجواد، ثمّ على امتدادِ دوراتٍ طويلةٍ من الزَّمن، تمتدّ قروناً بإمامة الإمام المهديّ المُنتظَر عليه السلام.

أصلُ مبدأ ﴿.. وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّاً﴾، لُطفٌ إلهيّ، من تجلِّياته تعزيز الإيمان بالغَيْب. وتثبيته في القرآن الكريم لُطفٌ آخر، وتكراره في الأنبياء لمزيد تثبيته كأصلٍ عقائديّ مُسلَّم، فيضُ لطفٍ خاصّ، وكذلك هو شأن تكرّره في أكثر من إمام.

وممّا ينبغي الوقوف عنده طويلاً في معجزة صِغر سنِّ الإمام الجواد، هو أنّه عليه السلام لم يُعمِّر طويلاً، فقد استُشهد في الخامسة والعشرين من عمره الشَّريف، وهذا يعني أنَّ كلّ فترة عمره كانت تحدّياً منه لخصومه، وتحدّياً من خصومه له... نستنتج أنَّ فرادة إعجاز إمامة الإمام الجواد عليه السلام، في المرتبة الأولى بين المعجزات الخاصّة جدّاً، وأنّها كانت في معرض التّحدّي والاختبار طيلة عمر الإمام عليه السلام.

النصّ على إمامته عليه السلام

لما وُلد أبو جعفر الجواد، قال الرضا عليه السلام لأصحابه: «قَدْ وُلِدَ لي شَبيهُ موسى بْنِ عِمْرانَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فالقِ البِحار، وشَبيهُ عيسى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ».

الشّبه بالنبيّ عيسى عليه السلام واضح، وأمّا الشبه بالنبيّ موسى عليه السلام ودلالة تعبير «فالق البحار» هي أنَّ الإمام الجواد ضاهت مهمةَ النبيّ موسى مهمّتُه في تحدّي فراعنة عصره وفي معاجزه.

ومن النصوص على إمامته رغم صغر سنّه عليه السلام:

* في (عيون المعجزات) للشيخ حسين بن عبد الوهّاب: «عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا عليه السلام: قد كنّا نسألك عن الإمام بعدَك قبل أن يهبَ اللهُ لك أبا جعفر، وكنت تقول: يَهَبُ اللهُ لي غُلاماً، وقد وهب الله لك وأقرّ عيوننا. ولا أرانا الله يومك، فإن كانت الحادثة فإلى مَن نفزع؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائمٌ بين يديه.

فقلت: جعلت فداك، وهو ابن ثلاث سنين؟!

فقال: وما يَضرُّهُ ذلك؟ قد قامَ عيسى عَلَيْهِ السَّلامُ بالحُجَّةِ وهو ابْنُ سَنَتَيْنِ».

* وفي (الكافي) للكليني: «عن الخيراني قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن عليه السلام  بخراسان، فقال له قائل: يا سيّدي إن كان كَوْنٌ فإلى مَنْ؟

قال: إلى أبي جَعْفَرٍ ابْني.

فكأن القائل استصغر سنّ أبي جعفر، فقال أبو الحسن عليه السلام: إنَّ اللهَ تباركَ وتَعالى بَعَثَ عيسى بْنَ مريمَ رَسولاً نَبِيّاً، صاحِبَ شريعَةٍ مُبْتَدَأةٍ، في أصْغَرِ مِنَ السِّنِّ الذي فيه أبو جَعْفَرٍ».

* وفيه أيضاً: «قال الرضا عليه السلام: هذا أبو جَعْفَرٍ قد أَجْلَسْتُهُ مَجْلِسي وَصَيَّرْتُهُ مَكاني».

* وقالَ: «إِنّا أَهْلُ بَيْتٍ يَتوارَثُ أَصاغِرُنا عَن أَكابِرِنا، القُذَّةَ بِالقُذَّةِ».

* «وعن يحيى بن حبيب الزيات قال: أخبرني مَن كان عند أبي الحسن الرضا عليه السلام جالساً، فلما نهضوا قال لهم: إِلْقَوْا أبا جَعْفَرٍ فَسَلِّموا عَلَيْهِ وَأَحْدِثوا بِه عَهْداً. فلمّا نهض القوم، التفت إليّ فقال: يَرْحَمُ اللهُ المُفَضَّلَ، إِنَّهُ كانَ ليَقْنَعُ بِدونِ هَذا».

* «وعن معمّر بن خلّاد قال: سمعتُ إسماعيل بن إبراهيم يقول للرضاعليه السلام: إن ابني في لسانه ثقل، فأنا أبعث به إليك غداً تمسح على رأسه وتدعو له، فإنّه مولاك. فقال: هو مَوْلى أَبي جَعْفَرٍ، فابْعَثْ بهِ غَداً إِلَيْهِ».

* وفي (كمال الدين) للشيخ الصدوق: «عن عبد السلام بن صالح الهرويّ، قال: سمعتُ دعبل بن عليّ الخزاعي يقول: أنشدتُ مولاي الرضا عليّ بن موسى قصيدتي التي أوّلها:

مَدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تلاوةٍ        ومَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفَرُ العَرصاتِ

فلما انتهيت إلى قولي:

خروجُ إمامٍ لا محالةَ خارجٌ          يَقومُ على اسْمِ اللهِ وَالبَركاتِ

يُمَيِّزُ فينا كُلَّ حَقٍّ وباطِل             ويَجْزي عَلى النَّعْماءِ والنَّقِماتِ

بكى الرضا عليه السلام بكاء شديداً، ثم رفع رأسه إليَّ فقال لي: يا خُزاعِيُّ، نَطَقَ روحُ القُدُسِ عَلى لِسانِكَ بِهَذَيْنِ البَيْتَيْنِ، فَهلْ تَدْري مَنْ هَذا الإمامُ وَمَتى يَقومُ؟

فقلت: لا يا مولاي، إلّا أنّي سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد ويملأها عدلاً كما مُلئت جوراً.

فقال: يا دِعْبِلُ، الإمامُ بَعْدي مُحَمّدٌ ابْني، وبَعْدَ مُحَمَّدٍ ابْنُهُ عَلِيٌّ، وَبَعْدَ عَلِيٍّ ابْنُهُ الحَسَنُ، وَبَعْدَ الحَسَنِ ابْنُهُ الحُجَّةُ القائِمُ المُنْتَظَرُ في غَيْبَتِهِ، المُطاعُ في ظُهورِهِ. لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيا إِلّا يَوْمٌ واحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، ذَلِكَ اليَوْمَ حَتّى يَخْرُجَ فَيَمْلَأَ الأَرْضَ عَدْلاً كَما مُلِئَتْ جَوْراً.

وأمّا متى، فإخْبارٌ عَنِ الوَقْتِ، فقدْ حَدَّثَني أَبي، عنْ أَبيهِ عَنْ آبائِهِ، عَلَيْهِمُ السَّلامُ، أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قيلَ له: يا رَسولَ اللهِ مَتى يَخْرُجُ القائِمُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ؟

فقال: مَثَلُهُ مَثَلُ السّاعَةِ الّتي: ﴿..لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً..﴾».

 

اخبار مرتبطة

  شعائر العدد الثامن و السبعون -شهر ذو القعدة 1437-أيلول

شعائر العدد الثامن و السبعون -شهر ذو القعدة 1437-أيلول

نفحات