الملف

الملف

27/01/2017

«أمّا حُزْني فَسَرْمَد، وأمّا لَيلي فَمُسَهَّد..»

 

«أمّا حُزْني فَسَرْمَد، وأمّا لَيلي فَمُسَهَّد..»

شهادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام

 

استهلال

.. وطاعتَنا نظاماً للمِلّة

كلُّ الزمان على أعتابها

 

عظَمة الزهراء عليها السلام محمّدية

الشيخ حسين كوراني

حتّى لا نكون شركاء في ظلْم الزهراء عليها السلام

 

..وأمّا قبرُ فاطمة عليها السلام

الطبري «الإمامي»

ثقافة التوسّل بالمعصومين عليهم السلام

الشهيد الأول  قدّس سرُّه   

لماذا المطالبة بِفَدك؟

الشيخ التبريزي الأنصاري رحمه الله

 

استهلال

...وطاعتَنا نظاماً للمِلّة

من خطبة مولاتنا السيدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها في المسجد النبويّ بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، بعشرة أيام:

«..ففرَضَ الله عليكم الإيمان تطهيراً لكم من الشِّرك،

 والصّلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزّكاة تزييداً في الرّزق، والصّيام إثباتاً للإخلاص،

 والحجّ تشييداً للدّين، والحقّ تسكيناً للقلوب وتمكيناً للدّين، وطاعتَنا نظاماً للملّة،

 وإمامتَنا لمّاً للفُرقة،

والجهادَ عزاً للإسلام، والصبر معونةً على الاستيجاب،

والأمر بالمعروف مصلحةً للعامّة، والنهي عن المنكر تنزيهاً للدّين،

والبرّ بالوالدين وقايةً من السّخط، وصلةَ الأرحام منماةً للعدد، وزيادةً في العمر،

والقصاص حقناً للدّماء...».

(دلائل الإمامة، الطبري الإمامي، ص 113)

 

 


منزلة الصدِّيقة الكبرى عليها السلام في روايات المسلمين

كلُّ الزمان على أعتابها

§        الشيخ حسين كوراني

* «يومُ فقْد الزهراء يومُ حزنٍ لرسول الله صلّى الله عليه وآله، وكلّ موحِّد. وفي أيام ذكرى شهادة الزهراء عليها السلام، نرفع آيات العزاء إلى إمام زماننا بقيّة الله في الأرضين عجّل الله تعالى فرجه الشريف».

هذه المقالة تعرض إلى منزلة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها في الحديث النبويّ الشريف، وفي كلمات المعصومين عليهم السلام،  وهو ما أوردته المجامع الحديثية عند المسلمين جميعاً.

نشير إلى أن المقالات الثلاث الأولى من هذا الملف، هي ملخّص محرّر لمجموعة من المحاضرات ألقاها سماحة العلامة الشيخ حسين كوراني في «المركز الإسلامي» طيلة شهرَي جمادى الأولى والثانية من سنة 1431 هجرية.

«شعائر»

 

كلّ الزمان على أعتاب الزهراء عليها السلام، فقد خلق اللهُ تعالى الزمانَ والمكان ببركة الزهراء وأبيها وبعلها وبنيها صلوات الله عليهم أجمعين.

للفترة بين الثامن والعشرين من صفر وآخر جمادى الثانية، علاقة خاصّة بالصدّيقة الكبرى، وسيّدة نساء العالمين عليها صلوات الرحمن. ففي الثامن والعشرين من صفر كانت وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولدينا ثلاث روايات حول شهادة الزهراء عليها السلام:

1) بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، بأربعين يوماً (8 ربيع الثاني).

2) بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، بخمسةٍ وسبعين يوماً (13 جمادى الأولى).

3) بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، بخمسةٍ وتسعين يوماً (3 جمادى الثانية).

يضاف إلى ذلك أنّ رواية مولد الزهراء عليها السلام في العشرين من جُمادى الثانية؛ ومعنى ذلك أنّ هذه الفترة من 28 صفر إلى آخر جمادى الثانية شديدة العلاقة بالصدّيقة الكبرى عليها صلوات الرحمن؛ لذا يجب أن نحرص على «وِرد» المطالعة والقراءة حول الزهراء عليها السلام، خصوصاً في شهرَي جمادى الأولى والثانية. ومن أبرز مجالات المطالعة: معرفة عظَمة مقام الزهراء كما عرّفها الله تعالى ورسوله وأهلُ البيت، لا غُلُوَّ ولا تقصير. وكذلك القراءة والتعرّف إلى سيرتها عليها السلام.

* وههنا سؤال: لماذا بقي تاريخ الشهادة مردَّداً بين ثلاثة أيام تختلفُ على مساحة خمسين يوماً، بالرغم من وجود داعيَين وعنصرَين رئيسَين يستدعيان تحديد التاريخ حتّى بالساعة؟

العنصر الأول: موقع الزهراء في عقيدة المسلمين.

العنصر الثاني: استمرار الإمامة الظاهرة لأبنائها الأئمّة عليهم السلام، إلى سنة 260 للهجرة.

الجواب عن الأوّل: أنّ حكّام أنظمة الجور والتحريف، الذين حكموا باسم الإسلام، عملوا على عرض الإسلام بما يناسبهم، وحرصوا على تبهيت صورة أهل البيت عليهم السلام في عقيدة السلمين.

والجواب عن الثاني: يظهر بالتأمّل أنّ الأئمّة عليهم السلام، تعمّدوا إبقاء التاريخ مجهولاً كما تعمّدت هي عليها السلام، إبقاء القبر مجهولاً.

والسبب هو أنّ معرفة الإسلام رهْنُ معرفة الزهراء، والأمر الذي استدعى دفنها ليلاً وبقاء قبرها مجهولاً، هو دعوة محمّدية إلى كلّ مسلمٍ أن يَدخل في دين الله تعالى من باب فاطمة عليها السلام. وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّ «على مَعرفتِها دارتِ القرونُ الأُولى»، وعلى معرفتها صلوات الله عليها تدور القرون الأخيرة. وهذه الحقيقة الناصعة تستدعي أمرَين:

الأوّل: معرفة موقع الزهراء عليها السلام من الحقيقة المحمّدية قبل خَلْق الخلق. وأكتفي في هذا السياق بالإشارة إلى ما رواه الشيخ المفيد عليه الرحمة من «حديث الأشباح» حيث يقول في (تفسير القرآن المجيد، ص 219):

«والصحيحُ من حديث الأشباح الرواية التي جاءت عن الثّقات: بأنّ آدم عليه السلام، رأى على العرش أشباحاً يلمعُ نورها، فسأل الله تعالى عنها، فأوحى إليه: (أنّها أشباح رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم)، وأعلمَه أنْ لولا الأشباح التي رآها ما خلَقَه ولا خلَق سماء ولا أرضاً».

الثاني: موقع الزهراء صلوات الله عليها في عقيدة المسلمين جميعاً. وهو يستدعي الوقوف عند أمرَين:

1) بناء العقيدة بمعزلٍ عن إعلام الطواغيت.

2) فرادة تثبيت الرسول صلّى الله عليه وآله موقع الزهراء عليها السلام في عقيدة المسلمين، حتى تحقّق الإجماع بين علماء الأمّة على أنّ عظمتها عليها السلام، عظمة محمّدية.

ومحاور هذا الإجماع بما يشمل المنقول والمركّب والمحصّل ولو بالدلالة الالتزامية، أنّها «الكوثر»، و«الصدّيقة»، وأنّ «مَن آذاها فقد آذَى اللهَ»، و«يَرضى اللهُ لِرضاها»، وأنّ لها الشفاعة في المحشر، وأنّها «سيّدة نساءِ العالمين»، و«سيّدة نساءِ الجنّة»، وأنّه «لولا أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام لم يكُن لها كُفؤ، آدم فما دُونه»، و«أنّ الله فَطَمها ومحبِّيها عن النّار».

وبالمحصّلة، فالدّرسُ العمليّ الكبير هو أن معرفة الإسلام رهنُ معرفة الزهراء عليها السلام.

مقام الشفاعة والاستنقاذ من النار

* أورد المقدّس العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه (الفصول المهمّة في تأليف الأمّة، ص 48 - 49) نماذج من روايات المسلمين السنّة حول عظيم منزلة الصديقة الزهراء عليها السلام عند الله تبارك وتعالى، قال:

1) أخرج ابن سعد (كما في صفحة 91 من الصواعق) عن عليٍّ عليه السلام، قال: «أخبرني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنَّ أوّلَ مَن يَدخلُ الجنّةَ أنا وفاطمة والحَسن والحُسين، قلتُ: يا رسول الله فمُحِبُّونا؟ قال: من ورائكم».

2) وأخرج الديلميّ (كما في الصواعق أيضاً) مرفوعاً: «إنّما سُمِّيت ابنَتي فاطمة، لأنّ الله فَطَمها ومحبِّيها عن النار».

3) أخرج ابن حنبل والترمذيّ (كما في صفحة 91 من الصواعق) أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، أخذ بيد الحسنين عليهما السلام، وقال: «مَن أحبَّني وأحبَّ هذين وأباهما وأمّهما، كانَ مَعي في دَرجتِي يومَ القيامة».

* وفي (الصراع بين الإسلام والوثنية، ص 29) للعلامة الأميني، قال: «وأخرج الحافظ الدمشقيّ بإسناده عن عليِّ [عليه السلام]، قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، لِفاطمة [عليها السلام]: يا فاطمة، تَدْرينَ لِمَ سُمِّيتِ فاطمة؟

فقال عليّ [عليه السلام]: لِمَ سُمِّيَت؟

قال: إنّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد فَطَمَها وذُرِّيّتَها عن النّار يوم القيامة».

أضاف الأميني: «وقد رواه الإمام عليّ بن موسى الرضا في (مسنده) ولفظه: إنَّ اللهَ فَطَمَ ابنَتي فاطمة وولدَها ومَن أحَبَّهم من النّار».

* وفي (شرح إحقاق الحقّ: ج 10، ص 16 – 21) للسيد المرعشي، خرّج هذا الحديث بألفاظ مختلفة من مصادر المسلمين السنّة، منهم:

1) العلّامة المناوي في (فيض القدير، ج1 ص206، ط القاهرة).

2) العلّامة السيّد الشريف نور الدين علي السمهودي في (جواهر العقدين)، على ما في (ينابيع المودّة، ص397، ط إسلامبول).

3) العلّامة الشيخ سليمان البلخي القندوزي المتوفّى سنة 1293، في (ينابيع المودّة، ص194، ط إسلامبول).

4) العلامة أخطب خوارزم في (مقتل الحسين، ص51، ط الغري).

وغير هؤلاء كثير.

ومن مصادر المسلمين الشيعة، نشير إلى نموذجٍ واحدٍ من الروايات حول منزلة الصدّيقة الكبرى صلوات الله عليها، وهو ما رواه الشيخ الصدوق في (عِلل الشرائع) عن محمّد بن مسلم الثقفي، قال: «سمعتُ أبا جعفرٍ (الباقر) عليه السلام، يقول:

لِفاطمةَ عليها السّلامُ وَقفةٌ على بابِ جهنّم، فإذا كان يوم القيامة، كُتِب بين عَينَي كلِّ رجُلٍ مؤمنٌ أو كافرٌ، فيُؤمَرُ بِمُحِبٍّ قد كثُرت ذنوبُه إلى النار، فتَقرأُ فاطمةُ بين عينَيه "مُحِبّاً"، فتقول:

إِلَهي وسيِّدي، سَمَّيْتَني فاطمة، وفَطَمْتَ بي مَن تَوَلّاني وتَوَلّى ذُرِّيَّتِي مِن النّارِ، ووَعْدُكَ الحّقُّ وأنتَ لا تُخلِفُ الميعادَ.

فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ:

صَدَقْتِ يا فاطِمة، إِنِّي سَمَّيْتُكِ فاطِمةَ، وفَطَمْتُ بِكِ مَنْ أَحَبَّكِ وتَوَلَّاكِ، وأَحَبَّ ذُرِّيَّتَكِ وتَوَلَّاهُم مِن النَّارِ، ووَعْدِيَ الحَقُّ وأنا لا أُخْلِفُ المِيعادَ.

وإنَّما أَمَرْتُ بِعَبْدِي هذا إلى النّارِ لِتَشْفَعِي فيهِ فَأُشَفِّعَكِ، وليَتَبيَّنَ مَلائكَتي وأنبِيائي ورُسُلي وأهلُ المَوقِفِ مَوقِفَكِ مِنِّي ومَكانَتَكِ عِندي، فَمَنْ قَرَأتِ بَينَ عَينَيْهِ "مُؤمِناً" فَخُذِي بِيَدِه وأَدْخِليهِ الجَنّة».

 

الاستغاثة بالزهراء عليها السلام

يتضمّن دعاء القرآن الكريم في ليالي القدر توسُّلاً بالزهراء عليها السلام، واستغاثةً بها، وقد ورد في روايات أهل البيت عدّة صيَغ في الاستغاثة بها عليها السلام، منها هذه الاستغاثة التي أوردَها الشّيخ الطّبرسيّ في (مكارم الأخلاق) بعنوان: «صلاةُ الاستغاثة بالبتول عليها السلام»، ونقلَها عنه المجلسيّ في (البحار)، والمحدّث القمّيّ في (مفاتيح الجنان)، وأوردَها القيّوميّ في (صحيفة الزّهراء عليها السلام):

1) تصلّي ركعتين.

2) ثمّ تسجد وتقول: يا فاطمة. (مائة مرّة)

3) ثمّ تضع خدّك الأيمن على الأرض وتقول مثل ذلك.

4) ثمّ تضع خدك الأيسر على الأرض وتقول مثله.

5) ثمّ اسجد وقُل ذلك مائة وعشر مرات.

6) ثمّ تقول: يَا آمِناً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْكَ خَائِفٌ حَذِرٌ، أَسْأَلُكَ بِأَمْنِكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ وَخَوْفِ كُلِّ شَيءٍ مِنْكَ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلٍ مُحمَّدٍ، وأَنْ تُعْطِيَني أَمَانَاً لِنَفْسِي، وَأَهْلِي وَمَالِي وَوُلْدِي، حَتَّى لَا أَخَافَ أَحَدَاً وَلَا أَحْذَرَ مِنْ شَيءٍ أَبَدَاً، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ.

 

.. والملائكةُ تنزل عليهم بالوحي صباحاً ومساءً

عظَمةُ الزهراء عليها السلام محمّدية

 

* لا يستكمل عبدٌ حقيقة الإيمان إلا بالاعتقاد بالمعصومين الأربعة عشر عليهم السلام، ومنزلتهم الرفيعة التي خصّهم الله تبارك وتعالى بها، وهم جميعاً نورٌ واحد، وذرّيّةٌ بعضُها من بعض.

وفي الذُّرى من هؤلاء الأطهار الخمسةُ أصحابُ الكساء، والزهراءُ عليها السلام هي واسطةُ العقد؛ «أمُّ أبيها»، والحُجّة على حُجج الله على العالمين.

في هذه المقالة، تأصيلٌ لمبدإ أن الوقوف على عظيم منزلة مولاتنا السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، يرتبط جذريّاً بمعرفة المنزلة التي أنزل الله تعالى فيها نبيّه صلّى الله عليه وآله، والأئمّة من بنيه عليهم السلام.

«شعائر»

جاء في تعزية أمير المؤمنين لرسول الله صلّى الله عليه وآله عند فقد الزهراء، قوله عليه السلام:

«.. وسَتُنْبِئُكَ ابْنَتُكَ بِتَظَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ واسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، فَكَمْ مِنْ غَلِيلٍ مُعْتَلِجٍ بِصَدْرِهَا لَمْ تَجِدْ إِلَى بَثِّه سَبِيلاً، وسَتَقُولُ: ويَحْكُمُ الله وهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.

(السلام عليك) سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ ولَا سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ، وإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ الله الصَّابِرِينَ. وَاه وَاهاً والصَّبْرُ أَيْمَنُ وأَجْمَلُ، ولَوْلَا غَلَبَةُ الْمُسْتَوْلِينَ لَجَعَلْتُ الْمُقَامَ واللَّبْثَ لِزَاماً مَعْكُوفاً، ولأَعْوَلْتُ إِعْوَالَ الثَّكْلَى عَلَى جَلِيلِ الرَّزِيَّةِ، فَبِعَيْنِ الله تُدْفَنُ ابْنَتُكَ سِرّاً، وتُهْضَمُ حَقَّهَا، وتُمْنَعُ إِرْثَهَا، ولَمْ يَتَبَاعَدِ الْعَهْدُ ولَمْ يَخْلَقْ مِنْكَ الذِّكْرُ، وإِلَى الله يَا رَسُولَ الله الْمُشْتَكَى، وفِيكَ يَا رَسُولَ الله أَحْسَنُ الْعَزَاءِ، صَلَّى الله عَلَيْكَ، وعَلَيْهَا السَّلَامُ والرِّضْوَانُ».

هذا المقطع من تعزية أمير المؤمنين عليه السلام يأخذ بأيدينا إلى حقائق بالغة الأهمية، أقف منها عند حقيقة واحدة هي عظَمة الزهراء، ويدعو إلى الحديث عن عظَمتها عليها السلام:

أولاً: أنّ معرفتها من العقيدة.

ثانياً: تضافر عوامل عديدة أدّت إلى التقصير في معرفتها عليها السلام، من أبرزها الفهم الخاطئ للوحدة الإسلامية. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ حبّ أهل البيت عليهم السلام وتقديسهم، هو أبرز أُسس الوحدة الإسلامية بعد التوحيد والنبوّة. ويجب أن يُعنى الحوار في سياق الوحدة الإسلامية بتحديد الموقف من مظلومية الزهراء صلوات الله عليها، وبما ينسجم مع هذا الأصل الأبرز من أُسس الوحدة بين المسلمين.

عظَمة المعصوم عموماً

الحديث عن عظمة الزهراء المحمّدية يستدعي التمهيد لذلك بالحديث عن المعصوم عموماً، والأهم في هذا المجال أمران:

1) أنّ الحديث عن المعصوم حديثٌ عن الإنسان المكرّم، فالمعصومون هم التجلّي الأتمّ لجوهرة الإنسانية الفريدة.

2) تختلف مقاربة عظَمة المعصوم عن غيره، اختلافاً جذرياً يمكن تحديد خطوطه العامة بما يلي:

أ) تلازم الغيب والشهادة في إنسانية الإنسان. ويبلغ هذا التلازم ذروته في المعصوم. الإنسان قادمٌ من الغيب ومروره في الدنيا مستغرق في الغَيب، وهو يغذّ السير إلى الغيب.

ب) تقترن بداية عظَمة المعصوم ببداية مشروع الخلق، لأنّ المعصومين ذُرى الكمال الإنسانيّ، وقد علم الله تعالى عصمتَهم، وهي تستلزم موقعهم من هداية الإنسان، فنوّه بهم قبل خلْق الخَلق. معرفتُه تعالى بعصمتهم كمعرفة الأستاذ قبل الامتحان تفوّقَ تلميذه بعد إجراء الامتحان، مع إضافة الفارق بين علم الخالق والمخلوق.

ج) تلازم الغيب والشهادة في المعصوم في هذه النشأة - رحلة الدنيا - أجلى مظاهر غيبيّة الإنسان، وأوضح مصاديق استحضارها في المسار العمليّ. الغَيبُ حاضرٌ في كلّ موجودٍ وواقع، إلّا أنّ حضوره في الإنسان أقوى. ثمّ إنّ استحضار الإنسان الغيبَ الحاضرَ فيه متفاوتٌ بتفاوت مراتب إنسانية الإنسان. المعصوم هو الذروة أيضاً في هذا الاستحضار.

* والنتيجة: إنّ الفصل بين الإنسان والغيب تشييءٌ للإنسان قد يؤدّي إلى الكفر، والفصل بين المعصوم والغيب كفرٌ قد يؤدي إلى مسْخ الفطرة، وتحوّل الإنسانية إلى شَيطنة ومن لوازمه الخلود في النار.

د) إنّ المعصوم كالقانون، يُعرف فيُطاع ويُلتزَم. والرادّ عليه رادٌّ على الله تعالى، لأنّ العصمة تعني محْض الطاعة ومحض العبودية لله عزّ وجلّ.

ه) إنّ الاعتقاد بالمعصوم عموماً، تكليفُ جميع الأجيال. وهذا التكليف امتحانٌ للمعصوم ولغير المعصوم. الإرسال والمحادثة تكاليفُ إضافية للمرسَل والمحدَّث، والرسالة دعوةٌ إلى العمل والالتزام.

* والخلاصة:

1)  بدأ مشروع الإنسان المكرّم، بتظهير أبرز أفراد النوع الإنساني، فكان تميّز المعصومين كطليعة الأسرة الواحدة عبر أجيالها والقرون: بني آدم وحواء.

2) الهدف من تظهير أبرز أفراد النوع، إنسانيّ، بمعنى أنّ هذا التظهير لكي يقتدي بهم غير المعصومين.

عظَمة رسول الله صلّى الله عليه وآله

في كتاب (الأربعون حديثاً) وتحت الرقم الحادي والثلاثين، أورد الإمام الخميني الرواية التالية، عن (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب المصافحة، ح 16)، نذكر منها موضع الشاهد:

«..عن أبي جعفر (الباقر) عليه السّلام، قال [الراوي]: سَمعْتُهُ يقول: ..وَإنَّ النَّبيِّ صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم لا يوصَفُ، وَكَيْفَ يوصَفُ عَبْدٌ احْتَجَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِسَبْعٍ وَجَعَلَ طاعَتَهُ فِي الأرْضِ كَطاعَتِهِ فِي السَّماءِ فَقالَ: ﴿..وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا..﴾، وَمَنْ أطَاعَ هذا فَقَدْ أطاعَني وَمَنْ عَصاهُ فَقَدْ عَصاني، وَفَوَّضَ إلَيْـهِ...».

عظَمة أهل البيت عليهم السلام

في (مدينة المعاجز) للسيّد هاشم البحراني، عن الشيخ الطوسي بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: «بَيتُ عليٍّ وفاطمةَ حُجْرَةُ رَسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلّم، وَسَقْفُ بَيتِهِم عَرْشُ رَبِّ العالَمِين، وفِي قَعْرِ بُيوتِهِم فُرجَةٌ مَكْشُوطَةٌ إلى العَرْشِ مِعْراج الوَحْي.

والمَلائِكَةُ تَنْزِلُ عَلَيهم بِالوَحْيِ صَباحاً ومَساءً وَكُلَّ ساعةٍ وطَرْفة عَين. والمَلائِكَةُ لا تَنْقَطِعُ أفواجُهُم، فَوجٌ يَنزِلُ وفَوجٌ يَصعَد.

وإنَّ اللهَ تباركَ وتَعالى كَشَفَ لِإبراهِيمَ عليهِ السَّلامُ عن السَّماواتِ حَتّى أَبْصَرَ العَرْشَ، وزادَ اللهُ في قُوّةِ ناظِرِهِ، وإنَّ اللهَ زادَ في قُوّةِ ناظِرِ مُحَمَّدٍ وعليٍّ وفاطمةَ والحَسَنِ والحُسَينِ عليهم السَّلام، وكَانوا يُبْصِرُونَ العَرْشَ ولا يَجِدونَ لِبُيوتِهِم سَقفاً غيرَ العَرْشِ، فبُيوتُهُم مُسَقَّفَةٌ بِعَرشِ الرَّحمَنِ ومَعارِجِ المَلائِكةِ، والرُّوحُ فيها بِإذْنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أمرٍ سلامٌ...».

«إنما شَرُفَت بالمهديّ»

علماء المسلمين متّفقون على أنّ الحديث عن الزهراء حديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، ما عدا النبوّة. من هنا يجب تنزيه الحديث عنها من كلّ ما لا يتناسب مع رسول الله صلّى الله عليه وآله. يقدّم النصّ الآتي عن العلّامة المناوي نموذجاً من تعامل علماء المسلمين السنّة مع منزلة أهل الكساء عموماً، والصدّيقة الكبرى عليها السلام خصوصاً.

قال المناوي في (فيض القدير: 555/4)، نقلاً عن (مطامح الأفهام في شرح الأحكام) للقاضي عيّاض بن موسى اليحصبي المتوفّى سنة 544 هجرية: «والتحقيق أنّ الفضيلة رتبة ذاتية.. وفاطمة فضيلتها بالذات والاتصال..».

يضيف المناوي: «قال – أي ابن عياض: ..وقد زلّ قدمُ البعض، فقال: إنّ فاطمة إنّما شَرُفَتْ بالمهديّ الذي يخرج منها. وهذا كفرٌ لا غبار عليه، وسمعتُ بعض شيوخنا يحكيه عن السهيليّ عفا الله عنه، وقد كفر وامتُحن من أجلها، فإنّما قال ذلك من قلّة الدين، والاجتراء على الهوى والباطل».

ثمّ يعلّق المناوي على كلام ابن عيّاض واتهامه السهيلي بالكفر، فيقول: «وقد اجترأ عفا الله عنه على السهيليّ ونسب إليه ما لم يقله. فإنّه لم يقل: إنّها شَرُفَتْ بالمهديّ كما زعمه، بل قال: إنّ ذلك من جملة سُؤددها، وشتّان ما بين التعبيرين، وعبارة السهيليّ في (روضه) عند كلامه على خبر (إنّها سيّدة نساء أهل الجنّة)، ما نصّه: (.. ومن سُؤددها أيضاً: أنّ المهديّ المبشَّر به في آخر الزمان من ذريّتها، مخصوصةً بذلك كلّه).

هذه عبارته بحروفها، وليس فيها أنّها إنّما شَرُفَتْ بالمهديّ، كما عُزي إليه..».

والسهيليّ (508 - 581) المذكور، هو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد ابن أبي الحسن السهيليّ الخَثعيّ الأندلسيّ المالكيّ النحويّ الحافظ.

ويريد ابن عيّاض من كلامه المتقدّم وإشكاله على السهيليّ القول بأنّ فضائل الزهراء صلوات الله عليها بالذّات، وليست بالاتّصال وحسب.

وهذه القاعدة تصحّ في جميع المعصومين عليهم السلام، أي إنّ فضائلهم «بالذات وبالاتصال»، ومن هنا يتّضح البَون الواسع بين منزلة المعصوم ومنزلة الصحابيّ، ولا مجال للمقارنة بينه وبين أيّ صحابيّ، كيف والأخير لا تصحّ صحبته لرسول الله صلّى الله عليه وآله، إلّا بالاعتقاد بمنزلة أهل البيت المحمّدية، ومن ثمّ يجب عليه أن يحصل على رضى مَن يرضى الله تعالى لرضاها.

 

على الكفن والعمامة

ومن النصوص التي تبين أيضاً عظيم منزلة آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله في نفوس المسلمين عامّة، ما أورده السيد عبد الحسين شرف الدين في (الفصول المهمّة في تأليف الأمّة)، نقلاً عن (التفسير الكبير) للثعلبي، بالإسناد إلى جرير بن عبد الله البجليّ، قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم:

«مَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ ماتَ شَهيداً، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ ماتَ مغفوراً له، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ ماتَ تائِباً، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ ماتَ مؤمناً مُستَكمِلَ الإيمانِ، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ بَشّرَهُ مَلَكُ الموتِ بالجنّة ثمّ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ يُزَفُّ إلى الجنّة كما تُزَفُّ العَروسُ إلى بيتِ زَوجِها، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ فُتِحَ له في قَبرِهِ بابانِ إلى الجنّة، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ جَعَلَ الله زُوّارَ قبرِهِ ملائكةَ الرّحمةِ، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ ماتَ على السُنّة والجماعَة. ألَا ومَنْ ماتَ على بُغْضِ آلِ مُحَمّدٍ جاءَ يومَ القِيامةِ مكتوباً بينَ عَينَيه: آيِسٌ من رحَمةِ الله..».

ثم يعلّق السيّد شرف الدين قدّس سرّه على هذا الحديث، فيقول:

«المرادُ من آل محمّدٍ صلّى الله عليه وآله في هذا الحديث ونحوه مجموعهم من حيث المجموع باعتبار أئمّتهم الذين هم خلفاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وأوصياؤه، ووارثو حكمه وأولياؤه، وهم الثِّقلُ الذي قَرَنَه بالقرآن ونصّ على أنّهما لا يفترقان، فلا يضلّ مَن تمسّك بهما، ولا يهتدي مَن تخلّى عنهما. وليس المراد هنا، من الآل، جميعهم على سبيل الاستغراق والشمول لكلّ فرد فرد، لأنّ هذه المرتبة السامية ليست إلّا لأولياء الله القوّامين بأمره خاصّة، بحُكم الصِّحاح المتواترة من طريق العترة الطاهرة.

نعم، تجب محبّةُ جميع أهل بيته وذريّته، كافّة، لتفرّعهم من شجرته الطاهرة صلّى الله عليه وآله، وبذلك تحصل الزُّلفى لله تعالى، والشفاعةُ من جدّهم، بأبي هو وأمّي.

وكنت أوصيتُ أولادي أن يكتبوا هذا الحديثَ على كَفني بعد الشهادتين لألقى اللهَ تعالى بذلك، والآن أكرّر وصيتي هذه إليهم، وَلْتَكُن الكتابةُ على العمامة.

 

 

وجوبُ الحذر من نقْص المعرفة

حتّى لا نكون شركاء في ظُلم الزهراء عليها السلام

* تتوقّف الهداية إلى ما يُرضي الله تعالى على معرفة الذين أُمرنا بالاقتداء بهم والأخْذ عنهم، وأيّ نقْص أو خَللٍ في تلك المعرفة يستلزم بالضرورة نقصاً في تحقّق الهداية. وهذا ما ينبغي الحذر منه عند التطرّق لمقام الصدّيقة الكبرى السيدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، والمعاني المستفادة من سيرتها المباركة.

«شعائر»

 

لكي لا نشارك في ظلم مولاتنا السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، ولكي نضمنَ أن لا نُصبح من أعدائها صلوات الله عليها، يتوجّب علينا أن نعرّفها كما عرّفها رسولُ الله صلّى الله عليه وآله.

أمّا أن نقلّل من عظَمة الزهراء عليها السلام، ولو عن سُوء فهْم، ووَهْم حُسن النيّة، فإنّ ذلك إنزالٌ للزهراء عليها السلام عن مرتبتها التي رتّبها الله تعالى فيها. ويجب التنبّه إلى أنّ التقليل من عظَمتها صلوات الله عليها ظلمٌ معنويّ، والظلم المعنويّ للزهراء أشدّ من الظلم المادّي، وأخطر بكثير.

والمقصود بالظلم المعنويّ هو أن لا نفْقهَ بعض دلالات عظَمتها المحمّدية، فلا ندرك أنّ الزهراء أعظم من النبيّ إبراهيم عليه السلام، أو أيّ نبيٍّ من الأنبياء، باستثناء رسول الله صلّى الله عليه وآله.

أليس هذا ما كان يريدنا الإمام الصادق عليه السلام أن نفقَهه حين قال: «لولا عليٌّ لمْ يكُن لفاطمةَ كُفْؤٌ، آدمَ فما دونَه».

أكثرُ الحديث السائد بيننا عن الزهراء عليها السلام، هو دون هذه العظَمة المحمّدية بكثير، بل بفراسخ، بل بأبعد ممّا بين السماء والأرض. وهذا الظلم المعنويّ للزهراء عليها السلام، أشدّ من غصب فدَك. إنّ غصب فدك جرأة على المقام المعنويّ للزهراء عليها السلام، وهو جرأة على الله تعالى بالجرأة على مقام الزهراء العظيم. كان غصب فدك نتيجة هذه الجرأة على مقامها المعنويّ عليها صلوات الرحمن.

فالحذر الحذر! لأنّ أيّ ظلمٍ معنويّ للزهراء يصدر منّي ومنك يجعلنا مع أعدائها، وهذا الخطر جدّي؛ حيث إنّ نقص المعرفة بالزهراء صلوات الله عليها يؤدّي إلى الاصطفاف مع أعدائها، والعياذ بالله تعالى.

إنّه الخطر الذي يصرّ المؤمن في قراءته لدعاء كميل أن يخلّصه الله تعالى منه. نقرأ في الدعاء:

«فلئِن صيّرتَني في العقوباتِ معَ أعدائك، وجمعتَ بيني وبينَ أهلِ بلائك، وفرّقتَ بيني وبينَ أحبّائِكَ وأوليائك، فهَبْنِي يا إلهي وسيّدي ومولايَ صبرتُ على عذابِك، فكيفَ أصْبِرُ على فراقِكَ، وهَبْني صبرتُ على حَرِّ نارِكَ فكيفَ أصبرُ عن النّظرِ إلى كرامتِكَ، أم كيفَ أسكُنُ في النّارِ ورجائي عَفوُك».

يقول الملا هادي السبزواري في (شرح الأسماء الحسنى: 30/1):

«أقول: انظروا معاشرَ المحبّين كيف أدرجَ عليه السلام، في هذا الدعاء فراقَ أحبّائه وأوليائه في فراقه [تعالى]. وإلّا فالظاهر أن يقال: فكيف أصبرُ على فراقك وفراق أحبّائك وأوليائك، إشارةً إلى أنّ فراقهم حيث هم أولياؤه ومنتسبون إليه فراقُه [تعالى]، ولهذا مَن أحبّهم فقد أحبَّ الله، ومَن أبغضَهم فقد أبغضَ الله، وذلك لأنّ مَن أحبّ شيئاً أحَبَّ آثاره....».

يضيف: «فالأثرُ بما هو أثرٌ ليس شيئاً بحياله، إنّما هو كالمعنى الحرفيّ ليس ملحوظاً باستقلاله، بل هو كالمرآة لملاحظة المؤثِّر، كما قال صلّى الله عليه وآله: (مَن رآني فقد رأى الحقّ)؛ فمحبّتُه عائدةٌ إلى محبّتِه، وعداوتُه عائدةٌ إلى عداوتِه... قال تعالى: ﴿..قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى..﴾». (الشورى:23)

وفي المحصّلة يُمكن القول إنّ:

* معرفة الزهراء عليها السلام هي الدِّين، وعلى معرفتها دارت القرونُ الأولى والأخيرة. فلا يُمكن الوصول إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله من غير طريق الزهراء عليها السلام، ولا يمكن الوصول إلى التوحيد الحقيقي إلّا بها، وهذا أوضحُ معاني «يرضى اللهُ لِرضاها».

* نقصُ هذه المعرفة بالصدّيقة الزهراء صلوات الله عليها نقصٌ في الدّين، وهو يجعل صاحب المعرفة الناقصة مهدّداً بزوالها، وزوالُها زوالُ الدين.

* مَن وجد في معرفته بالزهراء نقصاً وأنّه يتعامل معها عليها السلام، بما لا ينسجم مع عظَمتها المحمّدية، فعليه أن يبادر إلى تصحيح هذه العلاقة وإزالة هذا النقص.

* السائدُ في كثيرٍ من الأوساط نقصٌ ذريع، بل ومرعب في معرفة الزهراء عليها السلام، من قبيل تفسير حديث النبيّ «فاطمة أمّ أبيها»، بأنّها منحت أباها حناناً. أو أنّها الكاتبة الإسلامية الأولى، وأنّ مصحفها عبارة عن مفكّرة كانت تدوّن فيها بعض الروايات التي سمعتها من الرسول، أو نُقلت لها عنه صلّى الله عليه وآله.

الطريق إلى تصحيح المعرفة

ما معنى قول النبيّ صلّى الله عليه وآله: «يَرضى اللهُ لِرضاها»، وما معنى قوله صلّى الله عليه وآله: «حبُّ فاطمة ينفعُ في مائة موطنٍ، أَيْسَرُها القبرُ، والصِّراطُ، والميزان..»؟

معناه أنّ حبّ الزهراء حبُّ الله تعالى، وضعْفُ العلاقة بالزهراء عليها السلام ضعفُ العلاقة بالله تعالى، ونقْصُ المعرفة بالزهراء يعرّض المعرفة الناقصة للزوال، فيلتحق مَن حُرِم نعمة حبّها بصفوف أعدائها.

لذلك، وفي مجال تصحيح العلاقة والمعرفة بالصدّيقة الكبرى عليها السلام، تجب العناية الجادّة  بالعناوين التالية:

1) كثرة القراءة في ما كتبه العلماء المختصّون حول سيرتها ومنزلتها.

2) الدمعة على سيّد الشهداء عليه السلام.

3) المواظبة على الأعمال العبادية المرتبطة بالزهراء عليها السلام. قراءة زياراتها والأدعية المروية عنها، وكذلك أداء الصلوات المروية عنها. التوسّل والاستغاثة بها عليها السلام، والالتزام بدعاء القنوت المرويّ عن الإمام صاحب العصر والزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف، والذي تحدّث عنه المرجع السيد المرعشي:

«اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ وآلِه، اللّهمّ إنّي أسألُكَ بِحَقِّ فاطمةَ وأبيها وبَعْلِها وبَنِيها والسِّرِّ المُستَودَعِ فيها، أنْ تُصَلِّيَ على محمَّدٍ وآلِ مُحمَّدٍ، وأنْ تفعلَ بي ما أنتَ أهلُه، ولا تَفعل بِي ما أنا أهلُه، بِرحمَتِكَ يا أرحمَ الراحِمين».

4) التفكير والقراءة حول حُرمة المؤمن وحرمة المعصوم وحرمة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله، والتأمّل طويلاً ودائماً في دلالات أنّ عظَمة الزهراء عليها السلام محمّدية.

 

... وأمّا قبرُ فاطمة!

 «روي أنّها (الزهراء عليها السلام) قُبضت... وقد كمل عمرُها يوم قُبضت ثماني عشرة سنة... فغسّلها أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يحضرها غيره، والحسن، والحسين، وزينب، وأمّ كلثوم، وفضّة جاريتها، وأسماء بنت عميس، وأخرجها إلى البقيع في الليل، ومعه الحسنُ والحسين، وصلّى عليها، ولم يَعلم بها، ولا حضر وفاتها، ولا صلّى عليها أحدٌ من سائر الناس غيرهم... وعفى موضعَ قبرها، وأصبح البقيع ليلةَ دُفنت وفيه أربعون قبراً جدداً.

وإنّ المسلمين لمّا علموا وفاتها جاؤوا إلى البقيع، فوجدوا فيه أربعين قبراً، فأشكل عليهم قبرُها من سائر القبور، فضجّ الناس ولامَ بعضُهم بعضاً، وقالوا: لم يخلف نبيُّكم فيكم إلّا بنتاً واحدة، تموتُ وتُدفَن ولم تحضروا وفاتها ولا دفنها ولا الصلاةَ عليها! بل ولم تعرفوا قبرها!

فقال ولاةُ الأمر منهم: هاتوا من نساء المسلمين مَن يَنبشُ هذه القبور حتّى نجدَها فنصلّي عليها ونزور قبرها.

فبلغ ذلك أمير المؤمنين صلّى الله عليه، فخرج مغضباً قد احمرّت عيناه، ودرّت أوداجُه، وعليه قباؤه الأصفر الذي كان يلبسه في كلّ كريهة، وهو يتوكّأ على سيفه ذي الفقار، حتّى ورد البقيع، فسار إلى الناس مَن أنذرهم، وقال: هذا عليّ بن أبي طالب قد أقبلَ كما ترونه، يُقسم بالله لَئِن حُوِّل من هذه القبور حجرٌ، ليَضَعنّ السّيفَ في رقاب الآمِرين.

فتلقّاه «فلان» ومَن معه من أصحابه، وقال له: ما لك يا أبا الحسن؟! والله لَنَنْبِشَنّ قبرَها وَلَنُصَلِّيَن عليها.

فضرب عليّ عليه السلام، بيده إلى جوامع ثوبه فهزّه ثمّ ضرب به الأرض، وقال له: يا ابنَ السوداء، أمّا حقّي فقد تركتُه مخافةَ أن يرتَدَّ الناسُ عن دِينِهم، وأمّا قبرُ فاطمة، فوالّذي نفسُ عليٍّ بيدِه؛ لَئِن رُمْتَ وأصحابَك شيئاً من ذلك لأَسْقِيَنّ الأرضَ مِن دِمائِكم، فإنْ شئتَ فاعْرِض يا «فلان».

فتلقّاه «فلان» فقال: يا أبا الحسن، بحقّ رسول الله، وبحقّ مَن فوق العرشِ إلّا خليتَ عنه، فإنّا غيرُ فاعلين شيئاً تكرهه.

قال: فخلّى عنه وتفرّق الناس، ولم يعودوا إلى ذلك».

 

(الطبري «الإمامي»، دلائل الامامة : ص 136 – 137)

 

 

 

سَلُوه أن يَستوهبَ أمَتَه من الله

ثقافة التوسّل بالمعصومين عليهم السلام

___ الشهيد الأوّل قدّس سرّه ___

* ذكر الشهيد الأول قدّس سرّه عند حديثه عن فضل مسجد السَّهلة والصلاة والدعاء فيه، خبرَ حادثةٍ وقعت في زمن الإمام الصادق عليه السلام. وفيها ما يدلّ على عظَمة التوسُّل بالمعصومين عليهم السلام، والمكرُمات الإلهية المترتّبة عليه. وفي ما يلي نَصّ الحادثة كما أوردها الشهيد الأوّل في كتابه (المزار).

«شعائر»

 

«رُوي عن بشار المكاريّ، أنّه قال: دخلتُ على أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، بالكوفة وقد قدّم طبقَ رُطب طَبَرزُد وهو يأكل، فقال لي: يا بشّار، ادنُ فكُل.

قلت: هنّاك الله وجعلني اللهُ فِداك، قد أخذتني الغِيرة من شيءٍ رأيتُه في طريقي أوجعَ قلبي وبلغ منّي.

فقال لي: بحقّي عليك لمّا دنوتَ فأكلتَ.

قال: فدنوتُ وأكلتُ.

فقال لي: حديثَك.

قلت: رأيتُ جلوازاً يضربُ رأس امرأةٍ ويسوقها إلى الحبس، وهي تنادي بأعلى صوتها: المُستغاثُ باللهِ ورسولِه، ولا يُغيثها أحد.

قال: ولمَ فَعلَ بها ذاك؟

قال: سمعتُ الناس يقولون إنّها عثرتْ، فقالت: (لعنَ اللهُ ظالميكِ يا فاطمة)، فارتَكَب منها ما ارتَكَب.

قال: فقطع الأكل، ولم يزل يبكي حتّى ابتلّ منديلُه ولحيته وصدرُه بالدموع. ثمّ قال: قُمْ يا بشّار بنا إلى مَسجِدِ السّهلة، فنَدعُوَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، ونَسألهُ خَلاصَ هذهِ المَرأة.

قال: ووجّه (الإمامُ عليه السلام) بعضَ الشيعة إلى بابِ السّلطان، وتقدّمَ إليه بِأن لا يبرحَ إلى أن يأتيهِ رسولُه، فإنْ حَدَثَ بالمرأةِ حَدَثٌ صار إلينا حيثُ كنّا.

قال: فصِرنا إلى مَسجدِ السّهلة، وصلّى كلُّ واحدٍ منّا ركعتَين، ثمّ رفع الصّادق عليه السّلام يده إلى السّماء، وقال:

(أنتَ اللهُ الذي لا إلهَ إلّا أنتَ مُبدِئُ الخَلْقِ ومُعِيدُهُم، وأنتَ اللهُ الّذي لا إلهَ إلّا أنتَ خالِقُ الخَلْقِ ورازِقُهُم، وأنتَ اللهُ الّذي لا إلهَ إلّا أنتَ القابِضُ الباسِطُ، أنتَ اللهُ لا إلهَ إلّا أنتَ مُدَبِّرُ الأمُورِ وباعِثُ مَنْ في القُبورِ، وأنتَ وارِثُ الأرضِ ومَنْ عَلَيها.

أسألُكَ بِاسمِكَ المَخْزونِ المَكْنونِ الحَيِّ القَيّومِ، وأنتَ اللهُ لا إِلهَ إلَّا أنتَ عالِمُ السِّرِّ وأخْفَى، أَسألُكَ باسمِكَ الّذي إذا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ، وإذا سُئِلْتَ بِهِ أَعطَيتَ.

وأسألُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وأهلِ بَيتِهِ وبِحَقِّهِم الّذي أَوْجَبْتُهُ على نَفسِكَ أنْ تُصلِّيَ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحمَّدٍ، وأنْ تَقضيَ لي حاجتي السّاعةَ السّاعةَ السّاعة.

يا سامِعَ الدُّعاءِ يا سَيِّداهُ يا مَولاهُ يا غِياثاهُ، أسألُكَ بِكُلّ اسمٍ سَمّيْتَ بِهِ نَفسَكَ أوِ استَأْثَرْتَ بِه في عِلمِ الغَيبِ عِندَكَ أنْ تُصلِّيَ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وأنْ تُعَجِّلَ خلاصَ هذهِ المَرأة، يا مُقَلِّبَ القُلوبِ والأبصارِ، يا سَميعَ الدُّعاء).

 قال: ثمّ خرَّ ساجداً لا أسمعُ منه إلّا النّفَس، ثمّ رفع رأسه، فقال: قُم! فقد أُطلِقَت المرأة.

قال: فخرجنا جميعاً، فبينما نحن في بعض الطريق إذ لحق بنا الرجل الذي وجّهْنا إلى باب السلطان، فقال له (الإمام عليه السلام): ما الخبر؟

قال: لقد أُطلِق عنها.

قال: كيفَ كانَ إخراجُها؟

قال: لا أدري، ولكنّي كنتُ واقفاً على باب السلطان إذ خرج حاجبٌ فدعاها وقال لها: ما الذي تكلَّمتِ به؟

قالت: عَثَرتُ فقلتُ: (لعنَ اللهُ ظالميكَ يا فاطمة)، ففعلَ بي ما فعل. قال: فَأَخرجَ مائتي درهم، وقال: خُذِي هذهِ واجعَلي الأميرَ في حِلٍّ، فأبَت أنْ تأخذَها.

فلمّا رأى ذلك دخلَ وأعلم صاحبه بذلك، ثمّ خرج فقال: انصَرِفي إلى بيتك، فذهبَت إلى منزلها.

فقال أبو عبد الله عليه السلام: أَبَتْ أنْ تَأخذَ مائتَي درهم؟

قال: نعم، وهي والله محتاجةٌ إليها.

قال: فأَخرجَ مِن جَيبِهِ صرّةً فيها سبعة دنانير، وقال: اِذْهَبْ أنتَ بِهذهِ إلى مَنزلِها، فأقرِئْها منّي السّلامَ، وادفَعْ إليها هذهِ الدّنانير.

فقال: فذهبنا جميعاً فأَقْرَأناها منه السلام، فقالت: باللهِ أَقرأَنِي جعفرُ بن محمّدٍ السلام؟

فقلت لها: رَحِمَكِ الله، واللهِ إنّ جعفر بن محمّدٍ عليه السلام أَقرأَكِ السلام. فشهقتْ ووقعت مغشيّةً عليها.

قال: فصبرنا حتّى أفاقت، وقالت: أَعِدْها عليّ، فأعدناها عليها حتّى فعلت ذلك ثلاثاً، ثمّ قلنا لها: خُذي، هذا ما أرسلَ به إليك وأبشِري بذلك.

فأخذته منّا، وقالت: سَلُوهُ أنْ يَستَوْهِبَ أَمَتَهُ من الله، فمَا أعرفُ أحداً أَتوسَّل بِه إلى اللهِ أكبرَ منه ومن آبائه وأجداده عليهم السلام.

قال: فرجعنا إلى أبي عبد الله عليه السلام، فجعلنا نحدّثُه بما كان منها، فجَعل يبكي ويَدعو لها..». 

 

مُحَدَّثون من غير نبوّة

«في الحديث: (إنّ أوصياءَ محمّدٍ عَليهِ وعَليهِمُ السّلام مُحَدَّثُون)؛ أي تحدِّثُهم الملائكةُ، وفيهم جَبرئيل عليه السلام، من غير معاينة.

ومثلُه قولُه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ في كلّ أُمّةٍ مُحَدَّثينَ من غير نبوّة).

ومنه وفي وصف فاطمة عليها السلام: (أَيّتُها المُحَدَّثَةُ العَليمة)».

(الطريحي، مجمع البحرين: 469/1)

 

 

 

لماذا المطالبة بِفَدك؟

____ الشيخ محمّد علي التبريزي ____

في كتابه (اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء عليها السلام) يطرح المولى الشيخ محمّد علي التبريزي الأنصاري سؤالاً حول إصرار الصدّيقة الكبرى عليها السلام، على المطالبة بإرثها من رسول الله صلّى الله عليه وآله، في «فدَك والعوالي»، مع العلم بأنّ الدنيا لم تكن تعدل شيئاً عند آل البيت عليهم السلام، وهم الذين عُرضت عليهم خزائن الأرض فلم يقبلوها.

يقول رحمه الله:

 

«فما وجهُ هذا الإصرار في خصوص فدَك، حتى انتهى الأمر (بالزّهراء صلوات الله عليها) إلى الخروج إلى مجامع المهاجرين والأنصار.. ومكالمة والأبرار وغيرهم، وكذا البكاء والأنين عند جماعة الموافقين والمنافقين؟

والجواب عن هذا الأمر كما يظهر من الروايات:

هو أنّهم عليهم السلام، لم يكونوا مكلّفين إلّا بالعمل على طبق الصورة الظاهرية، والاتّصاف بلوازم البشرية، وتأذّيهم ممّا يخالف القواعد الشرعية أشدُّ من تأذّينا، لِما فيهم من الأسرار الباطنية، والسرائر الداخلية، مع ما في هذا الإصرار من الإشارة إلى فظاعة أمر تلك الولاية الباطلة.

والتنبيهُ على حقيقة (الغاصبين) من باب إتمام الحجّة، وإيضاح المحجّة، لئلّا يقول الناس يوم القيامة إنّا كنا عن هذا غافلين، أو كنّا نحن بهذا الأمر جاهلين، ليهلكَ مَن هلك عن بيّنة، ويحيى من حيَّ عن بيّنة.

بل كان معنى كلامها هذا في فدك راجعاً إلى الكلام في خلافة أمير المؤمنين عليه السلام، وكان في هذه المعركة العظمى، تمييزُ أهل الجنّة من أهل الجحيم.

ومن معاني بكائها عليها السلام في الباطن، التأسّف لأجل الهالكين من أمّة أبيها، والسالكين مسالك الضلالة الثاوين في مهاويها، إلى غير ذلك ممّا يظهر من الأخبار والآثار لمَن كان من أولي الأيدي والأبصار.

(بتصرف يسير)

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

27/01/2017

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات