قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

27/01/2017

(جامع السَّعادات) للمولى النراقي قدّس سرّه

 

(جامع السَّعادات) للمولى النراقي قدّس سرّه

قيمة استثنائية في الأدب الأخلاقي الإسلامي

ــــــــــــــــ قراءة: محمود ابراهيم ــــــــــــــــ

الكتاب: (جامع السّعادات)

المؤلّف: الفقيه الشيخ محمّد مهدي النراقي قدّس سرّه (ت: 1209 هجريّة)

الناشر: «إسماعيليان»، قمّ المقدّسة 1428 هجريّة

 

لو كان من بيانٍ مجمَل للأدب الأخلاقي الإمامي لكان لكتاب (جامع السّعادات) للمولى الجليل والفقيه العارف محمّد مهدي النراقي، المكانة الرفيعة والحضور المميّز في المجالَين النظري والعملي.

فما من قارئٍ لهذا الكتاب بأجزائه الثلاثة، إلا أن يمتلئ بما فيه من حِكَمَ وتوجيهات ومن آداب السّير والسّلوك. مع ذلك لا يلبث جُلّ مَن يقرأه إلا أن يعود إليه كرّةً أخرى قصْدَ الارتواء بعد ظمأ. فالذي جاءنا به المولى النراقي هو عصارة مجاهدات مديدة من النظر في العلوم الشرعية والعقلية والأخلاقية، فضلاً عن الاختبارات المعنوية والرياضيات الروحية التي عاشها خلال حياته الشريفة.

وإذا كان للشيخ الجليل من المؤلّفات ما يُغني المكتبة الإسلامية، ولا سيّما لجهة نُدرتها وعمق أبحاثها في مجال الأصول، والفلسفة، والكلام، والتحقيق، فإنّ خصوصية كتاب (جامع السعادات) تمنحه ميزةً استثنائية في ميدان النصوص الأخلاقية. ولذا يُمكن القول إن هذا الكتاب يندرج في عداد النصوص الخالدة في التراث العرفاني والأخلاقي للمدرسة الإمامية.

على أن الأهمية التاريخية والراهنة للكتاب أنه ظلّ على مدار الأحقاب الماضية واحداً من الضرورات المعرفية للأجيال المتعاقبة، خصوصاً في الفترات التي شهدت فيها المجتمعات الإسلامية تصدّعاتٍ وانهياراتٍ أخلاقية.

وممّا يضيف للكتاب قيمة خاصة أنه كتابٌ في عِلم العمل. وهذا هو عينُ ما قصده المولى النراقي من تأليفه. أي أنّ عمله هذا هو عملٌ تكليفيٌّ للترشيد العَمليّ والتطبيق اليوميّ أكثر ممّا هو تنظيرٌ فلسفيّ أو كلاميّ في التربية الأخلاقية.

 

التخلُّق العَملي

تبيِّن موضوعات الكتاب كيف أنّ المؤلّف ركّز على الجانب العمليّ في آداب السلوك كمبدإٍ جوهريٍّ في التديُّن السليم. فإنّ الأخلاق لا تُكتسب بالتعلّم وقراءة الكتب، وإنما هي صفات وملَكات لا تحصل للإنسان إلا بالتمرينات القويّة والتربية الطويلة، لا سيّما في أيام الطفولة وفي السنّ المبكرة قبل أن يفرض في الإنسان أن يكون أهلاً للقراءة.

ولو كانت قراءةُ الكتب وحدَها كافية، لكانت كُتب الأخلاق من أثمن ما خلق الله، ولأغنى البشرية كتابٌ واحدٌ يَفي بذِكر الأخلاق الفاضلة، بل لاكتفينا بالقرآن الكريم وحده، أو بنهج البلاغة، بعدَه، الذي تريدُ خُطبه ومواعظُه أن تصهر الناسَ في بوتقتها النورانية.

ومن هنا نجد السبيل إلى إنصاف الأخلاقيين وإعطاء مؤلّفاتهم حقّها من التقدير، ذلك بأنهم لم يعملوا عملاً لا نفْعَ فيه، بل الحقّ أن ما قدّموه له قيمته العظيمة، وكفى أن يتأثّر بدعوتهم بعضُ فتيانٍ كرامٍ بَرَرَة. وهذا التأثّر على قلّته له قيمة معنوية لا توازَنُ بشيءٍ في الدنيا، بل سَيرُ الحياة وتقدمّها يتوقّف مبدئياً على هذا التأثّر، وإنْ كان محدوداً. وما التقدّم الاجتماعي الذي يحصل في أمّةٍ في بعض الفترات من الزمن إلا نتيجةً من نتائج هذا التأثّر المحدود.

وكما يقول محقّق الكتاب، فإنّ قيمة (جامع السّعادات) كامنةٌ في الرّوح المؤمنة التي تقرأها في ثناياه. وإنّي لأتحدّى قارئ هذا الكتاب إذا كان مستعدّاً للخير أن يخرج منه غيرَ متأثّرٍ بدعوته، وهذا هو السرّ في إقبال الناس عليه وفي شهرته، والكتابُ نفسه يكشف لنا عن روحانية المؤلّف، وما كان عليه من خُلُقٍ عالٍ وإيمانٍ صادق.

وليس من شكٍّ في أن إعادة الاعتبار لهذا الكتاب، وما يوازيه من كُتبٍ تهتمّ بالمقاصد الأخلاقية والمعنوية هو من الضرورات الملحَّة في عصرنا الراهن. ذلك بأنّ انتشار هذا الكتاب بين الناس في هذا العصر سيكون له أثرُه المحسوس في توجيه أمّتنا نحو الخير.

 

 

هيكلية الكتاب

(جامع السعادات) وبصريح قول المؤلف يحتوي على قسمٍ من الحكمة العملية (الأخلاق)، ولا يتحدّث عن سائر أقسام الحكمة القديمة (كتدبير المنزل وسياسة المُدن)، لأنّ هدف التأليف هو إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق الإنسانية.

ويشتمل الكتاب على ثلاثة أبواب:

الباب الأوّل: في المقدّمات، ويتضمّن مواضيع كلّية لعلم الأخلاق ومبانيها، من قبيل تجرّد النفس وبقائها، وتأثير المزاج على الأخلاق، وتأثير التربية على الأخلاق، وشرف عِلم الأخلاق لشرف موضوعه وغايته. والنفس وأسماؤها وقواها الأربع، وأنّ غاية السعادة هو التشبّه بمبدأ الخلق.

الباب الثاني: في أقسام الأخلاق، ويشتمل على مواضيع كجنس الفضائل والرذائل، ويبحث فيه عن الفضائل الأربع (الحكمة، والعدالة، والشجاعة، والعفّة).

الباب الثالث: حول الأخلاق الحميدة، ويشتمل على مقدّمة وأربعة مقامات.

جاء في المقدّمة طريقة حفظ الاعتدال للفضائل الأخلاقية، ويبحث فيها عن معالجة النفس بنحوٍ عامّ ومعالجتها على وجهٍ خاصّ.

ويبحث في المقامات عن القوّة العاقلة، وما يتعلّق بقوّة الغضب من أمور، وعن رذائل وفضائل قوّة الشهوة، واستعراض الرذائل والفضائل للقوى الثلاث، أو ما يتعلّق بقوّتين منها دون أخرى.

هذا، ويستهل كتاب (جامع السعادات) مواضيعه في بحثَين:

الأوّل: موضوع تجرّد النفس، وهذا الموضوع يتقدّم باقي المواضيع في أكثر كُتب الأخلاق الإسلامية.

الثّاني: البحث في الخير والسعادة، لأنّ الغاية من تهذيب النفس هو الوصول إلى الخير والسعادة الأبدية.

ويؤكّد مؤلّف الكتاب، المولى النراقي رضوان الله عليه، أنّ الهدف من سَنّ القوانين وبعثة الأنبياء هو خروج الإنسان من المرتبة الحيوانية والشيطانية، وكسب المقامات العالية، ولن يتحقّق هذا إلاّ من خلال تحرّر الإنسان من الرذيلة (التخلية)، والتحلّي بفضيلة الأخلاق الحميدة (التحلية).

ثمّ إنّ تزكية النفس مشروطةٌ باستكشاف الخصائل المهلِكة والأخلاق المنجِية، وهذا هو أصلُ الحكمة الحقيقية التي مدحَ اللهُ تعالى مِن عباده مَن تحلّى بها، ومعرفتُها ضروريّةٌ في هذا السياق.

ويرى المحقّقون أن التقسيم المنهجيّ الخاصّ الذي انفرد به المولى النراقي في إنجاز عمله الموسوعيّ هذا، إنّما يشكّل خطّاً مبتكَراً في عالَم البحث الأخلاقي والأصولي. وثمّة من المحقّقين مَن يجِد في الكتاب فتحاً معرفياً جديداً في تحقيق منشأ حدوث خَلْقِ الفضيلة والرذيلة، لو اتّفق لغيره أن يترسّم خطاه، ويُتِمّ ما فتحه من هذا الباب من التحقيق، لتقدّم على يديه علم الأخلاق تقدّماً كبيراً.

وعلى أساس تحقيقه هذا أسقط فضيلة العدالة من حسابه، فلم يجعلها جنساً مقابلاً لأجناس الفضائل الثلاث الأخرى، وهي الحكمة والعفّة والشجاعة، باعتبار أن العدالة جامعةٌ لجميع الكمالات بأَسْرها، لا أنها في مقابلها، وقد فصّل هذا الرأي في الباب الثاني.

أهميّة الكتاب ومكانته

يعدّ كتاب (جامع السعادات) من أهم الكُتب في مجال الاخلاق، ومؤلّفه المولى النراقي كان متبحّراً في مجال الفلسفة الإلهيّة وعلم الأخلاق، وكان من المدرّسين المطّلعين في مجال العلوم الشرعية، والفقه، وأصول الفقه، والرجال، والرياضيات، وله مؤلّفات عديدة في هذا الخصوص.

ومن جملة مميزات هذا الكتاب بالمقارنة إلى ما سبقه من كُتب الأخلاق، أنّ أغلبها تؤكّد الجانبَ العقلي والنظري والفلسفي؛ مثل كتاب (أخلاق ناصري)، أو يغلب عليها الجانب النقلي والتطبيقي؛ مثل (إحياء علوم الدين للغزالي)، أمّا كتاب (جامع السعادات) فيجمع كِلا الجانبَين وبأسلوبٍ متميّزٍ وسَلِس.

ومن ميزات الكتاب أيضاً، أن مؤلّفه كان محيطاً ببعض النصوص المتقدّمة في علم الأخلاق، كما نقل في مواضيع الباب الأول والثاني أقوالاً عن الحكماء المتقدّمين أمثال فيثاغورس، وأفلاطون، وأرسطو، وأبي علي مسكويه.

وفي الخاتمة، تضيق هذه المقالة عن مقارنة هذا التأليف القَيِّم بالمؤلّفات الأخلاقية الأخرى. وقصدُنا أن هذا التقسيم من المؤلّف، وإرجاعَ الفضائل والرذائل إلى أسبابها، وجعْلَ مواضيع الأبحاث هي تلك القوى، وإحصاء أنواع الأخلاق بنوعَيها ولوازمها، كلّ ذلك مستجِدّ، وهي طريقة علميّة امتاز بها الكتاب.


اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

27/01/2017

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات