بين الإقتداء النَّظَري والعَمَلي

بين الإقتداء النَّظَري والعَمَلي

منذ 0 ساعة

هل نُحبُّ الإقتداءَ ولا نَقتدي؟!

السيّد محمّد كريميان مولوي

لِلبحث النظريّ  في العدالة الإجتماعيّة آفاقُه الرَّحبة، إلَّا أنَّ البحث هنا عمليٌّ، يَنطلق من أهميّة أن يُدقِّق كلُّ فردٍ في طريقته في المأكل، والمَلبس، والإقتناء، هل يَتَخيَّر الأطعمة؟ هل الفقير حاضرٌ وشريك في مَصرفه؟ هل يَسترسِل في ذلك كلِّه، ويَنسى الفقير والتَّزكية، ومُواجهة الظُّلم، وتفريج كرب المظلومين، لا سيَّما الذين سَحَقَهم نِير الطَّواغيت، ويَحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفُّف.

ما هي نسبة إقتداء الفرد منَّا -أنا وأنت- بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، في موضوع «العدالة الإجتماعيّة»؟
إنْ تبيَّنت لنا نسبةٌ من هذا الإقتداء، فنكون أمام واجب المحافظة عليها والإستزادة. وإنْ تبيَّن أنَّ الإقتداء نظريّ، ولا وُجود لِنِسبةٍ عمليّةٍ منه، فلنَبحث في زوايا النّفس عن «حبِّ الإقتداء» فإن وجدناه قائماً في قلوبنا، فلنَحمد الله تعالى على ما هدانا، ولنؤسِّس على «حُبِّ الإقتداء» لِنَستزيد من بركاته، ولكن على قاعدة «وَهَبْنيَ الجِدَّ في خشيتك» وهي قاعدة شدّ الهِمّة، وعدم التَّسويف.
أمَّا إنْ وَجدنا أنّ «حبّ الإقتداء» ليس موجوداً، فالمرض عُضال، والخَطَر مُحْدِق، وعلينا المُسارعة إلى التَّوبة قبل فوات الأوان، والصِّدق في المبادرة إلى إعادة صياغة القناعات والمواقف في كلٍّ من المَحاوِر الأبرز للعدالة الإجتماعيّة، التي هي كما يلي:
1- إقامة العدل الإجتماعي في مملكة النَّفس. والمدخل إلى ذلك، أنْ يكون الشَّخص مُحِبَّاً لِلعدل يَحرص على الإلتزام به، ويَتدرَّج ليكون «عادلاً».
2- البَذْل والعطاء. أن يَخرج الفَرْد من قُمْقُم الـ«أنا»، فيُفكِّر بغيره، بدءاً من الأقربين، وصولاً إلى كلِّ محتاج، سواءً في المجال المادّي أو المعنوي، إلَّا أنَّ المال والموقف منه عنوانٌ يشير إلى كلِّ ميادين العطاء. 
3-  الموقف من الظُّلم. ظُلْم النَّفس، والأقربين، والأبعدين. الرِّضا بالظُّلم، وعدم حَمْل همِّ المظلوم، أم الجهاد الدَّائم لِرَفع الظُّلم.

إنْ وَجدنا أنّ «حبَّ الإقتداء» ليس موجوداً، فالمرضُ عُضال، والخَطَر مُحْدِق، وعلينا المُسارعة إلى التَّوبة قبل فوات الأوان.

* وقفة جادَّة مع النَّفس

على كلٍّ منّا –أيُّها العزيز- بعيداً عن ادِّعاء التّديُّن، أو التّزكية والتَّقوى، وبتواضعٍ وموضوعيّةٍ، أن يتأمَّل في نفسه، ويبحث في زواياها في المجالات الأربعة المُتقدِّمة، لِيَطرح عليها الأسئلة التالية:
 في مجال إقامة العدل في النَّفس:
هل يَجد أنّه حريص على بناء شخصيّته بناءً عادلاً؟
هل هو مع الحقِّ ولو كان الحقُّ عليه؟
هل يتألَّم للظُّلم الذي يَصدر منه، كَبعض ألمه -على الأقلّ- من الظُّلم الذي يَلحَق به من الآخرين؟
هل يُحِبُّ العاجِلة أكثر، أم أنَّه يُحبُّ الآجلة أكثر؟
وبما أنَّ وجود العدل في النَّفس يَتوقَّف على الموقِف من القناعة، فكيف هي نفسه في هذا المجال. هل هو مِن أهل الطَّمع، أمْ مِن أهل القناعة؟
أمْ أنَّه ما يزال في البدايات، يُحِبُّ القناعة، ويَحرص على تحقيق شيءٍ منها، وصولاً إلى حيث يَتَّصِف بالقناعة ويكون من القانعين؟
وما هو موقفه من الزُّهد؟
والحديث هنا ما يزال على المستوى النَّفسي، أيْ ما هو رأيه في أصل مفهوم الزُّهد؟ هل هو حقيقة يَستحيل تطبيقها؟! أم أنَّه يَتدرَّج فعلاً لِيَصِل إلى بعض مراتبها؟

* وفي مجال البَذْل والعطاء:

يُفكِّر الشَّخص منَّا في أنَّ حقيقة العطاء أَعمّ من بَذْل المال، ويقول لنفسه:
 - مَن لا يُعطي القليل من المال، سَيَكون أكثر حرصاً ومنعاً عندما يَتطلَّب الموقف الحقّ منه عطاءً من جهده، أو تنازُلاً عمَّا يَعتبره من شؤونه وكرامته، وإنْ لم يكن كذلك، فكيف إذا تطلَّب منه الموقف بَذْل الرُّوح.
- ما هو موقفك من الإنفاق المالي على الأسرة، والأقربين، والنَّاس جميعاً، بِحَسَب مراتب الإنفاق المالي المُحدَّدة في الشريعة.
- وماذا عن حُبِّ المال؟ هل هو الذي يَتلاطم مَوْجه العاتي في النَّفس، فيُحبُّه «حُبّاً جَمَّاً» لكنَّه يخفي ذلك، أو يُحاول التَّمَلُّص من التَّفكير به، أم أنَّه يُحبُّ الثَّوابَ والعملَ الصَّالِح والحَسَنات، أكثر من المال، ولكنّه يَهتمّ بتأمين المال كما أمر الله تعالى ومِن حِلِّه، لأنَّ المال حاجةٌ مُلِحَّة ليس محلُّها القلب، ولا طبيعة العلاقة بها هي طبيعة الحُبّ. مكان المال حيث يُعمل لتحصيله أو حيث يُنفق، أو يُرصَد ولا يُدَّخر.


ليسأل كلٌّ منَّا نفسه عن طريقته في الأكل واللّبس، وأثاث البيت، والمُقتنيات. ويسألها أيضاً عن موقفه من الفقير، ومن التَّعامل مع الفقير، وكيف يُترجِم ذلك في العمل.


* وفي مجال الموقف من الظُّلم:

ينبغي أنْ نبتعد عن الشِّعارات والتَّنظير، فنحن ضحايا عالَمٍ قائمٍ على الإدِّعاء والإستعراض. نبتعد عن ذلك لِيَسأل كلٌّ منَّا نفسه عن طريقته في الأكل واللّبس، وأثاث البيت، والمُقتنيات. ويسألها أيضاً عن موقفه من الفقير، ومن التَّعامل مع الفقير، وكيف يُترجِم ذلك في العمل.
ما هو موقفه من مفهوم  قِلَّة الأكل، وكثرة الصَّوم، وقِلَّة الكلام، وغضِّ السَّمع والبَصَر، وغير ذلك؟
هل يَحرص على إقامة العدل في عالم النّفس لِيَنطلق منه في دروب الحياة، ويؤسِّس عليه؟
هل يَستفزّه أن يعرف مظلوماً يَتلوَّى تحت نِير ظالِمٍ أو سِياطه؟
مَن لا يَمتلك حِسّاً مُرهفاً سليماً معافَىً، ضدَّ الظُّلم، لا يُمكنه أنْ يَصْدُقَ في حَمْلِ همِّ الفقير، وبالتَّالي لنْ يَتمكَّن من اعتماد طريقة عَيْشٍ قانِعة، بل سَيَتَدَرَّج في الإمعان في التَّرَف، والبِطنة، والجَشَع، والبُخل، وسُوء العاقِبة والمَصير.
ومَن يَسترسِل في المأكل وتَخيُّر الأطعمة، ونسائج القزِّ وحتّى الكِتَّان وغيرهما، لن يُمكِنه –عادةً- أن يُفلتَ من شِراكِ النَّفس الأمّارة والشَّيطان، وسَيَجِد نفسه أنَّه ليس من أعوان الظَّلَمَة فقط، بل هو منهم، تشمله كلّ صفات الظَّالِمين واستحقاقاتهم.
يَتَّضِح –إذاً- أنّ منظومة بِناء النَّفس قائمة على الموقف من الحقِّ والعدل، وأنّ طريقة الأكل والشُّرب واللّبس والسَّكَن، التي هي طريقة العَيْش، هي المدخل إلى سلامة النَّفس ومَنظومة المفاهيم والقِيَم التي تقوم عليها عمليّة التزكية، ومكارم الأخلاق.

المسؤول والهديّة
وأَعجبُ من ذلك طارِقٌ طَرَقَنا بِمَلْفوفَةٍ في وِعائِها، ومَعْجونَةٍ شَنِئْتُها، كأنَّما عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أوْ قَيْئِها، فقُلتُ: أَصِلَةٌ أمْ زَكاةٌ أمْ صَدَقَةٌ، فذلِكَ مُحَرَّمٌ علينا أهلَ البيتِ. فقالَ: لا ذَا ولا ذَاكَ ولكنَّها هديَّةٌ. فقلتُ: هَبِلَتَْكَ الهَبُولُ، أَعَنْ دِينِ اللهِ أَتَيْتَني لِتَخْدَعَني، أَمُخْتَبِطٌ أنتَ أمْ ذو جِنَّةٍ أمْ تَهْجُرُ. واللهِ لَوْ أُعطيتُ الأَقاليمَ السَّبعةَ بِما تحتَ أفلاكِها على أنْ أَعْصِيَ اللهَ في نملةٍ أَسْلُبُها جلْبَ شَعيرَةٍ ما فَعَلْتُ، وإنَّ دُنياكُم عندي لَأَهوَنُ مِن وَرَقَةٍ في فَمِ جَرادَةٍ تَقْضُمُها، ما لِعَلِيٍّ ولِنَعيمٍ يَفْنى ولَذَّةٍ لا تَبْقى. نَعُوذُ باللهِ مِن سُبَاتِ العقلِ وقُبْحِ الزَّلَلِ، وبِهِ نَستعين. 




اخبار مرتبطة

  الوثيقة الحَسَنيَّة الخالدة

الوثيقة الحَسَنيَّة الخالدة

  حافِظوا على ذخائرِ ضيافةِ الله

حافِظوا على ذخائرِ ضيافةِ الله

  دوريات

دوريات

منذ 0 ساعة

نفحات