الملف

الملف

19/08/2017

في آداب زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم

استمطارُ سحائب الجود

في آداب زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم

§        الفقيه الملَكي التبريزي

إنّ الّذي عليه عقيدة أهل الإسلام كافّة أنّ نبيّنا صلوات الله وسلامه عليه وآله أشرفُ خلق الله، وأنّه سيّد خلق الله، وأنّه حبيب الله. وورد في المعتبرة عنه صلّى الله عليه وآله أنّه أوّل خلق الله، وأنّه دنا في معراجه من ربّه مقاماً لم يقدر جبرئيل أن يصاحبه، وأنّه ﴿..دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾، دنوّاً واقتراباً من العليّ الأعلى، وأنّه اسمُ الله الأعظم، وأنّه صاحب الوسيلة والحوض، والشفاعة الكبرى، وأنّه المَثلُ الأعلى، وأنّه واسطةٌ بين الله تعالى وجميع الممكنات، وأنّه الحجابُ الأقرب، وطرفُ الممكن.

 

 

وبالجملة، يُعرف أنّه من الله تعالى بمكانة يغبطه بها الأوّلون والآخرون، من الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقرّبين، وأنّه لا يمكننا أن نصل إلى كُنه معرفته.

وأمّا معرفة حقّه فيكفي في ذلك حديث «لولاك»، وأنّه علَّة غائيّة لجميع الخليقة، وأنّه رحمةٌ للعالمين.

وإذا عرفتَ جلالته وحقّه، وعلمتَ أنّه حيّ عند ربّه ينظر إلى زوّاره ويسمع سلامهم، ويعرف ضميرهم، ويستغفر لذنوبهم، ويشفع في حوائجهم، فعند ذلك تزوره كأنّه حيّ يراك ويشافهك، ولا يشغلك شيء عن التوجّه إليه.

واعلم علماً يقيناً أنّه صلّى الله عليه وآله، أكرم جميع الخلائق، وأجود من كلّ جواد كريم. جوادٌ عطوف، شفيقٌ رفيق، ودودٌ رؤوف، وقد وصفه الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ القلم:4.

وتفكَّر فيما ناله منك من الجفاء والإيذاء، حيث تُعرض عليه أعمالك، ويرى معاصيك وذنوبك، ويتأذّى بذلك، وكم من أذيّةٍ ومكروهٍ قد أوصلتَ إلى قلبه الشريف بسوء عملك، فأوجعتَ صدره العزيز بقبيح أعمالك. وليكن عليك سمةُ الحياء عند زيارتك، واعتذر إلى كريم فنائه وجنابه، لا محالة عن ذلك.

طلب الإذن بالدخول

والمشتاق لا يحتاج إلى تعليم مراسم الوداد، فلا بدّ للزائر المشتاق أن يعامل الجميع في طريق زيارته معاملة المحبّ، فيرفق بالزوّار والأكرة والخدّام والدوابّ، ويتحمّل أذاهم ويخدمهم، بل ولا يرى إيذاءهم أذيّة، وينفق عليهم ويكرمهم حتّى يقرب من بلد المزور... وإذا شُرّف برؤية المشهد المقدّس، يخرّ ساجداً لله ويقوم مسلِّماً وباكياً بإظهار الشوق، ويقدّر في نفسه زمن حياته صلّى الله عليه وآله، وأنّه كان يتوطَّن في هذه البلدة، ويمشي في سِكَكها، ويسكن دُورَها، وأنّ هذه المحالّ مواضع أقدامه الشريفة، ومواطن جسده المبارك. ويتبرّك بدخول البلد.

ثمّ يغتسل ويلبس أنظف ثيابه، ويتطيّب بما يقدر عليه، ويقصد حرمه على سكينةٍ ووقار، ويمشي إليه ويقرّب بين خطاه، مسبّحاً، حامداً، مهلِّلاً، مكبّراً، مصلّياً، ويقدّر أنّه بمرأى منه صلوات الله عليه وآله، يراه وينظر إلى حركاته، وخطرات ضميره ويشاهد مراتب أشواقه، وحسرات قلبه وأحزانه. ويتوجّه بكلّه إليه ويهتمّ أن لا يخطر غيره، صلوات الله عليه وآله، بقلبه ولا ينظر في طريق زيارته إلى أحد، بل إلى شيء من الأشياء ليشغله عن حضور قلبه.

وإذا وصلتَ إلى باب الحرم، فاعلم أنّك قصدت ملكاً عظيماً لا يطأ بساطَه إلّا المطهّرون، ولا يؤذَن لزيارته إلّا الصدّيقون، وأنّك أردت حرماً لا يدخله الأنبياء والمرسلون والملائكة المقرّبون بغير إذن، فاستأذِن بقلبك ولسانك اللهَ جلّ جلالُه، ثمّ استأذن حضرة رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ خلفاءه وأوصياءه، لا سيّما باب مدينة علمه، والبقيّة من خلفائه، ثمّ استأذن ملائكة الله الموكَّلين بحرمه الشريف، وهَبِ القدوم إلى بساط خدمته، وحضور مجلسه، فإنّك على خطرٍ عظيمٍ إن غفلتَ.

وقبّل عتبته الشريفة، وادخل قائلاً: «بسمِ اللهِ وبالله، وفي سبيلِ الله، وعلى مِلَّةِ رسولِ الله، الحمدُ لله الَّذي هدانا لهذا وما كُنّا لنهتديَ لولا أنْ هدانا الله».

معنى التسليم على النبيّ صلّى الله عليه وآله

ثمّ امش بسكينةٍ وخشوعٍ وذكرٍ حتّى تقفَ قبالَ الضريح المقدّس، وقبِّله وسلّم عليه بحقيقة السلام، وعلى آله وآبائه وعترته على التفصيل والترتيب.

 

 

واعلم أنّ «السّلام» من أسماء الله تعالى أودعه خلقَه، ليستعملوا معناه في معاملاتهم، فمَن لم يقدر على أن يستعمل معنى «السّلام» مع نبيّه، فهو لا يقدر أن يستعمله مع أحدٍ من الناس، واستعماله مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، أن يعامله معاملةً لا تؤذيه ولا تسوؤه لا محالة. وهل يعقل أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وآله - مع ما فيه من الشفقة على أمّته - معاصيك الكبيرة ولا يسوؤه ذلك، ولا يتألَّم منها.. فأين منك «السّلام»؟

أبواب الدخول على رسول الله صلّى الله عليه وآله

وبالجملة زيارته، صلوات الله عليه، أمرٌ عظيم، وقد رُوي في ذلك أنّه يزور زائره مرّتين، ويجب على الزائر بحكم العدل أن لا يحضر هذا المحضر العظيم إلّا بعد توبةٍ صادقة مطهِّرة له لا محالة من المخالفة الفعليّة.

فإنْ لم يوفّق لذلك، فله أن يدخل من غيرها من الأبواب الّتي دخل منها غيره من المقيّدين في أَسر الهوى، والمكبّلين المنهمكين في الرّدى، فظفروا بالتجاوز والصفح الجميل، والفضل النبيل، من أبواب الاعتراف، والاعتذار والحياء، والتوسّل والاستغفار، والالتجاء والاضطرار.

فإن لم تسمح نفسه باحتمال لوازم هذه الأبواب، فلا محالة من أن يدخل من باب عدم القنوط من الإجابة. وتدعو الله جلّ جلاله بالرجاء في استعطاف قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله.

وإذا رغب الله جلّ جلاله في عطوفته عليك، يُقبل عليك رسول الله صلّى الله عليه وآله بالقبول والإجابة، والعطف والرحمة، ويضمّك إلى كنَف رأفته وحنانه، ويكون عليك كالأب العطوف، والأمّ الرؤوف، يلبّيك بالجواب، ويُجيبك عن الخطاب، فتظفر بالمراد وفوق المراد، وتُفلح أبد الآباد.

واعلم يقيناً أنّه صلّى الله عليه وآله رحمةُ الله للعالمين، فإنْ حُرمت من فيضه الأقدس، ومن نوره الأزهر، فذلك لمانعٍ من جهتك، ولا يمنع من ذلك الذنوب - وإن كثُرت - حتّى يوجد خللٌ من جهة الإيمان، فجدّد إيمانك، واستعِذ بالله من الكفر والشرك الجليّ.

ولكنْ قد تكون ظُلمة المعاصي مانعةً من درك فيوضات زيارته الشاملة لك، وتعمى عن مشاهدة أنواره الواصلة إليك، فإنْ كان لك قلبٌ وفطنة، لا بدّ تُدرِكُ ذلك، وتعلم ببعض آثاره لا محالة، فإنّ شفقته صلّى الله عليه وآله لأمّته المؤمنين الموالين لعترته معلومة، وإن كانوا عصاةً، كيف وشفاعته للعصاة.

وللزائر الوافد المسلّم عليه المناجي إيّاه، والمشتكي استكانته لديه، حقوقٌ زائدةٌ لا تضيع لديه، يعرف ذلك كلُّ مَن أخبر عن أخلاقه الكريمة حالَ حياته، ومعاملته مع عموم المسلمين، وخصوص الوافدين، والرافعين إليه حوائجهم، وحال وفاته أَولى بذلك من حال الحياة، لزيادة القرب من منبع الفيض والنور.

وهل يظنّ أحدٌ من أمّته أن يقصده مسلمٌ مؤمنٌ من مسافة نائية، ويأتيه من شُقّة بعيدة، شوقاً إلى زيارته، وراجياً قبوله ونواله، متقرّباً إلى الله جلّ جلاله بولايته وولاية عترته، فيرجعَ خائباً من نواله، ومحروماً من جُوده وكرمه؟ لا يُظنّ ذلك بأعراب البوادي، فكيف بأكرم الخلائق كلّهم، ومظهر رحمة الله، والمتخلّق بأخلاقه سبحانه.

رجوع البدن وإقامةُ القلب

وكيف كان، يجب على زوّاره، صلوات الله عليه وآله، أن يظنّوا بفضله وكرمه وفيضه كلَّ ظنٍّ حسَن، ويستمدّوا من معين زيارته، وأنوار إقباله، ويستضيئوا من إشراق إقبال وجهه، فانّه يُضيء كلّ ظلمة، ويفيض لكلّ الخليقة، ويكفي للعالمين، لأنّه نور الله الأنور، وضياؤه الأزهر، وفيضه الأقدس.

وأطِل الوقوف بحضرته، ولا تملَّ منه لأنّ العاقل لا يملّ من الانتفاع، وزُرْ عند ضريحه المقدّس سيّدة النساء عليها السّلام، واعمل في زيارتها مثل ما مرّ في زيارته، فإنّها بضعةٌ منه وهي كريمته وحبيبته.

واقصد بعد زيارتهما زيارة أئمّة البقيع عليهم السلام نحو ما قصدت زيارته، وزرهم كما مضى في زيارته، فإنّهم بمنزلة نفسه صلّى الله عليه وآله وسلّم، مَن أطاعهم فقد أطاعه، ومَن أحبّهم فقد أحبّه، ومَن خضع لهم فقد خضع له، لا فرق بينهم وبينه، فإنّهم خلفاؤه وذرّيّته، وكلّهم نورٌ واحد.

واحرص ألّا ترجع من حضرته إلّا بعد ظهور آثار الإذن. وليكن الراجع بدنك وأنت مع قلبك وروحك وفكرك مقيمٌ عند حضرته وغير مفارقٍ خدمته، وكلّما انتهيتَ إلى آخر السِّكك، وأردتَ أن تدخل سكَّةً أخرى فارجع وأشِر إلى حضرته بالسلام، حتّى تدخل منزلك.

واستقصِ أيّامَ وقوفك بالمدينة المنوّرة زيارةَ المواضع الشريفة التي رُوي وقوفه بها ودخوله عليها، وكذلك جميع مشاهدِ أهل بيته عليهم السلام.

 

المصدر: المراقبات: ص 326 – 340، مختصر.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

19/08/2017

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات