الملف

الملف

منذ 0 ساعة

وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم

 

وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم

..وعاد الإسلام غريباً كما بدأ

 

 

استهلال

أحبُّ العباد إلى الله المتأسِّي بنبيّة

... إنّما كنتَ حاجتي من الدنيا

الشهيد الفتّال النيسابوري

النبيّ الأعظم.. مبدأُ الظّهور وغايتُه

الإمام الخميني قدّس سرّه

أرقى عهود الحُكم في تاريخ البشرية

الإمام الخامنئي دام ظلّه

..كتاباً مسجَّلاً نزلَ به جَبرئيل الأمين

الشيخ حسين كوراني

لولا صبرُ أمير المؤمنين، لارتدّت العرب قاطبة

السيد ابن طاوس قدّس سرّه

 

استهلال

أحبُّ العباد إلى الله المتأسِّي بنبيّة

من خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام يصف فيها منزلة الدنيا عند رسول الله صلّى الله عليه وآله:

«.. فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطْيَبِ الأَطْهَرِ صلّى الله عليه وآله وسلّم،

فَإِنَّ فِيه أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى.

وأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّه الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّه، والْمُقْتَصُّ لأَثَرِه.

قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً ولَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً. أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً.

 عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وعَلِمَ أَنَّ اللهً سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ، وصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ.

ولَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ ورَسُولُهُ، وتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ الله ورَسُولُهُ، لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلهِ، ومُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ ".."

فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً، ولَا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، ولَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وأَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ، وغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ. وكَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ».

(نهج البلاغة)

 


... إنّما كنتَ حاجتي من الدنيا

مجلسٌ في وفاة خاتَم الأنبياء صلّى الله عليه وآله وسلّم

ـــــــــــــــــــــ الفتّال النيسابوري رحمه الله ـــــــــــــــــــــ

* قال أمير المؤمنين عليه السلام: «.. فنَزلَ بي مِن وفاةِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ما لم أكُن أظنّ الجبالَ لو حَملتْهُ عنوةً كانت تَنهضُ به، فَرأيتُ النّاسَ مِن أهلِ بيتي ما بَينَ جازِعٍ لا يملكُ جَزعَه، ولا يَضبطُ نفسَه، ولا يَقوى على حملِ فادحِ ما نَزلَ بِه، قد أذهبَ الجزَعُ صبرَه، وأذهَلَ عقلَه... وحملتُ نفسي على الصّبرِ عندَ وفاتِه بلزومِ الصّمت، والاشتغالِ بما أمرَني به من تجهيزِه، وتَغسيلِه... والصّلاةِ عليه... وجَمْعِ كتابِ اللهِ وعهدِه إلى خَلْقِه...».

رواية اللحظات الأخيرة من حياة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله نوردها نقلاً عن كتاب (روضة الواعظين) للمحدّث الفتّال النيسابوري، الشهيد سنة 508 هجرية.

 «شعائر»

 

مجلسٌ في ذكر وفاة سيّدنا ومولانا صلّى الله عليه وآله وسلّم:

اِعلم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قُبض بالمدينة مسموماً يوم الاثنين، لليلتَين بقيتا من صفر سنة (إحدى عشرة) من هجرته، وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقيل: كانت وفاته في شهر ربيع الأول، وهذا شاذّ، والأول هو المعتمَد عليه.

فلمّا قُبض صلّى الله عليه وآله اختلف أهلُ بيته ومَن حضرهم من الصحابة في الموضع الذي يُدفن فيه. فقال بعضهم: يُدفن بالبقيع. وقال آخرون: في صحن المسجد.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ الله عزّ وجلّ لم يقبض نبيَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلّا في أطهرِ البقاع، فينبغي أن يُدفن في البُقعة التي قُبِض فيها». فاتّفقت الجماعة على قوله عليه السلام، ودُفن صلّى الله عليه وآله في حجرته.

* ورُوي «أنّ رجلين من قريش دخلا على عليّ بن الحسين عليهما السلام، فقال: ألا أُحدِّثكما عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟

فقالا: بلى، حدِّثنا عن أبي القاسم صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قال: سمعتُ أبي يقول: لمّا كان قبلَ وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، بثلاثة أيام، هبطَ جَبرئيل عليه السلام، فقال: يا أحمد، إنّ الله عزّ وجلّ أرسلَني إليكَ إكراماً وتفضيلاً لك وخاصّة... يا أحمد، هذا ملكُ الموتِ يستأذنُ عليك، لم يَستأذِنْ على أحدٍ قبلك، ولا يستأذنُ على أحدٍ بعدَك.

قال: ائذنْ له.

فأذِن له جبرئيل عليه السلام، فأقبل حتّى وقفَ بين يديه، فقال: يا أحمد، إنّ الله تعالى أرسلني إليك وأَمَرَني أنْ أُطيعَكَ فيما تأمرني؛ إنْ أمرتني بقبضِ نفسك قبضتُها وإنْ كرهْتَ تركتُها.

فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: أتفعلُ ذلك يا ملكَ الموت؟

قال: نعم، بذلك أُمرت، أن أطيعَكَ في ما تأمرُني.

فقال له جبرئيل: يا أحمد، إنّ الله عزَّ وجلَّ قد اشتاق إلى لقائك.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: امضِ لِمَا أُمِرْتَ به.

فقال جبرئيل: هذا آخر وطئيَ الأرض، إنّما كنتَ حاجتي من الدنيا.

فلمّا توفّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلا روحُه الطيبة، وجاءت التعزية، إذ جاءهم آتٍ يسمعون حسّه ولا يرون شخصه. فقال: السلام عليكم ورحمة الله، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..﴾، إنّ في الله عزاءً من كلِّ مصيبةٍ، وخَلَفاً من كلّ هالكٍ، ودَركاً من كلّ ما فات. فباللهِ ثقوا وإيّاه فارجوا، فإنّ المُصابَ مَن حُرِمَ الثّواب، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (آل عمران:185)

قال أمير المؤمنين عليه السلام: هل تدرونَ من هذا؟ هذا الخضرُ عليه السلام».

* قال ابن عباس: «لمّا مرض رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وعنده أصحابه. قام إليه عمّار بن ياسر، فقال له: فداك أبي وأمّي يا رسول الله، مَن يُغسّلك منّا إذا كان ذلك منك؟

قال: (ذاك عليّ بن أبي طالب؛ إنّه لا يهمّ بِعضوٍ من أعضائي إلّا أعانَتْه الملائكةُ على ذلك).

قال له: فداك أبي وأمّي يا رسول الله. فمَن يصلّي عليك منّا إذا كان ذلك منك؟

قال: (مَهْ رَحِمَك الله)، ثمّ قال لعليٍّ عليه السلام: (يا ابنَ أبي طالب، إذا رأيتَ روحي قد فارقتْ جسدي فاغسِلني وأَنْقِ غُسلي، وكفّنّي في طمريَّ هذَين... واحملوني حتّى تضعوني على شفير قبري. فأوّلُ مَن يصلّي عليّ الجبّار جلّ جلاله، من فوق عرشه. ثمّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في جنودٍ من الملائكة لا يُحصي عددَهم إلّا اللهُ جلّ وعزّ، ثمّ الحافّون بالعرش، ثم سكّان أهلُ السماء سماء، ثمّ جلّ أهل بيتي ونسائي الأقربون فالأقربون؛ يُومون إيماءً، ويسلّمون تسليماً، ولا تؤذوني بصوت نائحةٍ ولا بِرَنّة).

ثمّ قال: (يا بلال، هَلُمَّ عليّ بالناس)، فاجتمع الناس، فخرج رسولُ الله صلّى الله عليه وآله معتصّباً بعمامته متوكّئاً على قوسه، حتّى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: (معاشرَ أصحابي، أيّ نبيٍّ كنتُ لكم، أَلَم أُجاهد بين أظهُركم، أَلَم تُكسَر رباعيّتي، أَلَم يُعفَّر جبيني، أَلَم تَسِلِ الدماءُ على حرّ وجهي حتّى خضبتْ لحيتي؟ ألم أكابد الشدّة والجَهد مع جهّال قومي؟ ألم أربط حجرَ المجاعة على بطني؟).

قالوا: بلى يا رسول الله لقد ابتُليت، وكنت لله صابراً، وعن منكر بلاء الله ناهياً، فجزاك الله عنّا أفضل الجزاء.

قال: (وأنتم فجزاكم اللهُ خيرَ الجزاء... إنَّ ربّي عزّ وجلّ حكمَ وأقسمَ ألّا يجوزه ظلمُ ظالمٍ)... [ثمّ] دخل بيت أمّ سلمة، وهو يقول: (ربِّ سلِّم أمّةَ محمّدٍ من النّارِ، ويَسِّر عليهم الحساب...)، [ثمّ] قال [لأمّ سلَمة]: (نُعِيَت إليَّ نفسي هذه الساعة، سلامٌ لكِ منّي في الدنيا، فلا تسمعينَ بعد هذا صوتَ محمّدٍ أبداً).

فقالت أمّ سلمة: واحُزناه حُزناً لا تُدركه الندامةُ عليكَ يا (رسولَ الله).... [ثمّ] خرج رسولُ الله صلّى الله عليه وآله، وصلّى بالناس وخفّف الصلاة، ثمّ قال: (ادعوا لي عليَّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد). فوضع عليه السلام إحدى يديه على عاتق عليٍّ عليه السلام والأخرى على أسامة، ثمّ قال: (انطَلِقا بي إلى فاطمة). فجاءا به حتى وضعا رأسه في حِجرها، فإذا الحسنُ والحسين عليهما السلام يبكيان ويضطربان وهما يقولان: (أنفسُنا لنفسك الفِداء، ووجوهُنا لوجهك الوِقاء)، فعانقهما وقبّلهما، وكان الحسن عليه السلام يبكي أشدّ البكاء، فقال له: كفَّ يا حسن فقد شَقَقْتَ على رسولِ الله...».

* وعن عبد الله بن عباس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال في ذلك المرض: (ادعوا لي حبيبي)، فجعل يُدعى له رجلٌ بعد رجلٍ فيُعرِض عنه،. فقيل لفاطمة عليها السلام: إمضي إلى عليٍّ، ما نرى رسول الله صلّى الله عليه وآله، يريد غير عليّ.

فبعثتْ فاطمة إلى عليٍّ عليهما السلام، فلمّا دخل فتح رسول الله صلّى الله عليه وآله عينيه وتهلّل وجهُه، ثمّ قال: (إليَّ يا عليّ)، فما زال رسول الله يُدنيه حتّى أخذ بيده وأجلسه عند رأسه، ثمّ أُغمي عليه صلوات الله عليه وآله، فجاء الحسن والحسين عليهما السلام يصيحان ويضجّان ويبكيان حتّى وقعا على رسول الله، فأراد عليٌّ أن ينحّيهما عنه، فأفاق رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ قال: (يا عليّ دعني أشمُّهما ويشمّاني، وأتزوّد منهما ويتزوّدان منّي، أما إنّهما سيُظلمان بعدي ويُقتلان ظلماً، فلعنةُ الله على مَن يظلمُهما)، يقول ذلك ثلاثاً.

ثمّ مدّ يده إلى عليٍّ عليه السلام، فجذبه إليه حتّى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه... وجعل يناجيه مناجاةً طويلة حتى خَرجَت روحُه الطيّبة، صلّى الله عليه وآله، فانسَلَّ عليٌّ عليه السلام من تحت ثيابه، وقال: (عظَّم الله أجورَكُم في نبيِّكم، فقد قبَضَه اللهُ).

فارتفعت الأصوات بالضجّة والبكاء، فقيل لأمير المؤمنين عليه السلام: ما الذي ناجاك به رسول الله صلّى الله عليه وآله، حين أَدخلَك تحت ثيابه؟

فقال: (علّمَني ألفَ بابٍ، كلُّ بابٍ يفتح لي ألف بابٍ)»..

وكان سنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله يومئذ ثلاثاً وستيّن سنة، ومدّة نبوّته ورسالته ثلاثة وعشرون سنة، ثلاث عشرة سنة بمكّة، وعشرة بالمدينة.


 

مهمّته تَعاهُد إنسانية الخلق بالرعاية

النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله.. مبدأُ الظّهور وغايتُه

ــــــــــــــــــــــــــ الإمام الخميني قدّس سرّه ــــــــــــــــــــــــــ

* «وَصَلِّ اللّهمَّ على مبدأ الظّهورِ وغايتِه، وصورةِ أصلِ النّور ومادّتِه... الذي دَنا فرفضَ التّعيُّنات فتَدلّى فكان قابَ قوسَي الوجود، وتمامَ دائرةِ الغيب والشّهود، أو أدنَى الذي هو مقامُ العَماء، بل لا مقامَ هنا على الرّأي الأسنى، وعلى آلِه مفاتيحِ الظّهور ومصابيحِ النّور...».

هذه عبارات الصلاة على رسول الله وآله الأطهار التي ذكرها الإمام الخمينيّ في إجازته الفلسفية للميرزا جواد الهمداني. وفي ما يلي، مقتطفات من أبرز كلمات الإمام قدّس سرّه تناول فيها جملة مفاهيم مرتبطة بسيرة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله، نوردها نقلاً عن (صحيفة النور) بتصرّف يسير في الترجمة.

«شعائر»

 

أوّلُ ما نزل من القرآن الكريم على رسول الله صلّى الله عليه وآله هي الآيات الأولى من سورة العلق: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ..﴾. ليس (اقرأ باسم الله)، أو (اقرأ باسم الناس)، بل ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ..﴾.

والضمير يرجع إلى الرسول، أي ربّ الرسول، أي الذي ربّى الرسولَ الأكرم، وهو اللهُ تبارك وتعالى بكلّ الأسماء والصفات. هو ربُّ الرسولِ الأكرم؛ الإنسانِ الكامل. الذاتُ المقدسة للحقّ تعالى بكلّ الأسماء والصفات.

وأسماء الحقّ تعالى وصفاته محيطةٌ بكلّ الموجودات. وبعبارة أخرى، فإنّ كلّ الموجودات هي ظهورٌ للأسماء والصفات الإلهية. واللهُ تبارك وتعالى إذ يأمر: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ..﴾، أي اقرأ بهذا الاسم الذي يحتوي كلّ الأسماء والصفات، والمربّي بكلّ معنى التربية في عالم الطبيعة، وفي عالم ما وراء الطبيعة، التربية المناسبة لعالم المجرّدات وعالم الجبروت وكلّ العوالم، هذا هو ربّ الرسول صلّى الله عليه وآله.

والرسولُ مكلّفٌ بأن يقرأ، فأوّل ما أُمر به... هو القراءة والتعليم والتربية. وكأنّ المعنى: «إنّ هذا الربّ الذي هو ربّك والمحيطُ بكلّ الموجودات، يأمرك أن تقرأ وتربّي الناس على هذا الطريق»... الرسول مكلّفٌ بدعوة الناس إلى ربّ الرسول، إلى ربّ الرسول الأكرم، وربّ الرسول الخاتَم. ولأجل هذا نزل القرآن، ولأجل هذا جاء الإسلام، من أجل أن يتربّى الناس، فلولا التربية لكانوا أشدّ افتراساً وإيذاءً من كلّ الحيوانات. الإنسان موجودٌ إذا لم يخضع للتربية، فلن يُجاريه حيوانٌ ولا موجودٌ في العالم خطورةً وإيذاءً. كلّ الأنبياء بُعثوا لتربية هذا الموجود، الذي لو تُرك لحاله لأَفسد العالَم.

تكليف النبيّ صناعةُ الإنسان

لو لم يكن لبعثة النّبيّ صلّى الله عليه وآله من ثمرة إلّا وجود أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ووجود إمام العصر سلام‏ الله عليه، لكان هذا نجاحاً كبيراً للغاية.

لو أنّ الله تبارك وتعالى بَعث الرسول (فقط) لتربية مثل هؤلاء الناس المتكاملين لكان هذا جديراً، ولكنّهم أرادوا للجميع أن يكونوا على هذا (النحو)، لكنّ ذلك لم يحصل.

الإسلام مجموعة أحكام هدفُها بناء الإنسان. والقرآن كتابٌ لبناء الإنسان، هدفه أن يصنع بشراً. والرسول منذ أن بُعث وإلى حين رحيله عن الدنيا، كان بصدد صناعة الإنسان. كان مهتماً بهذا.

كلّ الحروب التي شهدها الإسلام كانت من أجل إدخال هؤلاء المتوحّشين المفترسين داخل حدود الإيمان، لم يكن في الأمر نزعة إلى التسلّط، ولهذا نرى في سيرة النبيّ الأكرم وسائر الأنبياء، والإمام عليّ سلام الله عليهم أجمعين، والأولياء العظام، نرى أنّه لم تكن هناك في سيرتهم نزعة تسلطية على الإطلاق. ولولا أداء الواجب والحرص على بناء هؤلاء البشر، لما قبلوا حتّى هذه الخلافة الظاهرية، ولتنحّوا جانباً، ولكنّه التكليف. فالتكليف الإلهي يجب أن يقبله حتّى يستطيع بناء الإنسان... (ولكن للأسف لم يُصبح) معاوية إنساناً، مثلما لم (يصبح) أبو جهل وأبو لهب وأمثالهم أُناساً صالحين.

أين حكّام الدول الإسلامية من سيرة نبيّهم؟

إنّ قادة الدول الإسلامية، على الرغم من ادّعائهم الإسلام واتّباع رسول الإسلام، غير أنّه لا يوجد بينهم وبين قادة الإسلام الحقيقيّين أيّ نوعٍ من التشابه والارتباط. إنّ المزاعم كثيرة بأنّنا أتباع الإسلام، ولكن الاتّباع يكون في العمل. كيف كانت سيرة الرسول، وكيف هي حياتكم؟ كيف عاش الرسول بين الناس، وكيف تعيشون أنتم بين الناس؟

كيف كانت علاقات الرسول مع الطواغيت، وكيف هي علاقاتكم مع الطواغيت، (فضلاً عن) أنّكم طواغيت صغار؟

كيف كان ارتباط الرسول مع مستضعفي العالم، وكيف ارتباطكم أنتم؟

كيف كانت حياة الرسول، وكيف هي حياتكم المادية؟

إنّ مجرد الادّعاء بالتبعية للرسول صلّى الله عليه وآله ليس كافياً. إنّ قادة الدول الإسلامية هم كذلك أيضاً. يقول الرسول للمسلمين أنِ اجتَمِعوا واتّحدوا معاً. ولكنّكم تفرّقون بينهم. يقول القرآن ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا..﴾ (آل عمران:103)، ولكنّكم اعتصمتم بحبل الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي. إنّ المزاعم كثيرة!

نحن في إيران لا ندّعي بأنّنا أتباعه بهذا المعنى، بل نقول بأنّنا راغبون في اتّباعه والسير على خطاه. أنتم تدّعون بأنكم أتباع الرسول، والقرآن يقول: ﴿..وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ..﴾ (البقرة:257)، مَن هم أولياؤكم الآن ومع مَن ارتباطكم؟ جماعة منكم مع هذه‏ الجهة وجماعة أخرى مع تلك الجهة. إيران لا تريد اتّباع هذا المعسكر أو ذاك، ولذلك يُمارسون الضغوط عليها..

 

أرقى عهود الحُكم في تاريخ البشرية

سيرة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم في كلام السيّد القائد

ـــــــــــــــــــــ إعداد: «هيئة التحرير» ـــــــــــــــــــــ

* «السنوات العشر التي قضاها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في المدينة تمثّل سِنيّ إرساء قواعد النظام الإسلاميّ، وبناء أنموذج الحكم الإسلاميّ لجميع أبناء البشرية على مرّ التاريخ الإنسانيّ في مختلف الأعصار والأمصار».

مختارات من كلمات وليّ أمر المسلمين الإمام السيد علي الخامنئي، تناول فيها محطات مفصلية من حياة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله، اخترناها من كتاب (إنسان بعمر 250 سنة)، الذي يوثّق سيرة المعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم أجمعين.

«شعائر»

 

* ... شرع رسول الله صلّى الله عليه وآله منذ اللحظة الأولى من البعثة في دخول مرحلة من الجهاد الشامل والبالغ المشقّة والمكابدة، استغرقت ثلاثةً وعشرين سنة... لقد كان جهاده صلّى الله عليه وآله وسلّم جهاداً... مع أناس لا يدركون من الحقيقة شيئاً، ومع ذلك المحيط الذي كان يعمّه ظلامٌ حالك ومطبق.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في (نهج البلاغة) في وصف ذلك: «في فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَا، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا». لقد كانت الفتن تهاجم الناس من كلّ جانب: حبّ الدنيا، واتّباع الشهوات، والظلم والجور، والرذائل الأخلاقية التي تقبع في عمق وجود البشرية، وأيادي الطغاة الجائرة التي كانت تمتدّ على الضعفاء بلا أدنى مانعٍ أو رادع.

إرساء قواعد النظام الإسلامي

* إنّ سيرة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم في مرحلة السنوات العشر لحاكميّة الإسلام في المدينة، تُعدّ من ألمع عهود الحكم طيلة التاريخ البشريّ، ولا نقول ذلك جزافاً، وإنّما يجب التعرّف إلى هذا العهد القصير والمليء بالنشاط، والذي له تأثيرٌ خارقٌ على تاريخ البشرية. إنّ المرحلة المدنيّة هي الفصل الثاني من عصر رسالة النبيّ، الذي امتدّ لثلاثة وعشرين سنة.

الفصل الأوّل، الذي كان مقدّمةً للفصل الثاني، كان عبارة عن ثلاث عشرة سنة في مكّة. أمّا السنوات العشر التي قضاها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في المدينة فهي تمثّل سنيّ إرساء قواعد النظام الإسلاميّ، وبناء أنموذج الحكم الإسلاميّ لجميع أبناء البشرية على مرّ التاريخ الإنسانيّ في مختلف الأعصار والأمصار. وهذا الأنموذج الكامل، لا نجد له نظيراً في أيّ حقبة أخرى.

البُعد العالمي للهجرة

* لقد كانت غاية النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من هجرته إلى المدينة هي مقارعة الواقع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ بظلمه وطاغوته وفساده الذي كان مهيمناً على الدنيا آنذاك، ولم يكن الهدف مكافحة كفّار مكّة فحسب، بل كانت القضية ذات بُعد عالميّ أيضاً.

كان النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم يتعقّب هذا الهدف، فكان يغرس بذور الفكر والعقيدة أينما وَجد الأرضية المساعدة لذلك، على أمل أن تنبتَ تلك البذور في الوقت المناسب. وكانت غايته من ذلك إيصال رسالة الحريّة والنهوض وسعادة الإنسان إلى كافّة القلوب. وذلك يتعذّر إلّا عن طريق إقامة النظام النموذجيّ القدوة. لذلك فقد جاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة لإقامة مثل هذا النظام النموذجيّ. لكن المدى الذي تسعى (فيه) الأجيال اللاحقة لمواصلة ذلك والاقتراب من هذا النموذج، منوطٌ بهِممها ومساعيها.

حزمٌ في لِين

* امتاز سلوك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتدبير والسرعة في العمل؛ فلم يدعِ الفرصة تفوت في أيّ قضية. كان صلّى الله عليه وآله وسلّم طاهراً قانعاً... معصوماً نقيّاً، وهذا بحدّ ذاته يمثّل أهم عوامل التأثير. إنّ التأثير بالعمل أوسع وأعمق بدرجات من التأثير باللسان.

لقد كان صلّى الله عليه وآله قاطعاً وصريحاً. بالطبع، عندما كان يواجه العدوّ كان يستخدم معه أسلوباً سياسياً يوقعه في الخطأ؛ فلقد كان يباغت العدوّ في الكثير من الحالات، سواء في المواقف العسكرية أم السياسية، لكنّه كان صريحاً وشفّافاً مع المؤمنين ومع قومه على الدوام، نقيّاً واضحاً... يُبدي المرونة في المواطن الضرورية، كما في قضية عبد الله بن أُبَيّ... ولم ينكث عهداً مع قومه أو مع الفئات التي عاهدها وإن كانوا أعداءً له، وخاصة مع كفّار مكّة، الذين نقضوا عهودهم فردّ عليهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ردّاً قاطعاً...

مواجهة التوحّش بالمعرفة

* إنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بنى الخلايا الأولى لجسد الأمّة الإسلامية بِيَده المقتدرة في تلك الأيّام العصيبة من تاريخ مكّة، فبنى قواعد الأمّة الإسلامية ورفع عمادها، فكان المؤمنون الأوائل، وأوّل من اعتنق الإسلام، وأوّل من كانت لديهم تلك المعرفة والشجاعة والنورانية التي مكنّتهم من الوقوف على حقيقة الرسالة النبويّة والإيمان بها، ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ...  (الأنعام:125)

لامس الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنامله الرقيقة شعاع تلك القلوب الوالهة، وفتح بيده القويّة أبواب الأفئدة على عالَمٍ رحبٍ من المعارف والأحكام الإلهية، فتفتّحت الأذهانُ والقرائح، وازدادت الإرادات صلابة، ودخلت تلك الثلةّ المؤمنة - التي كان يزداد عددها يوماً بعد يوم - في صراعٍ مريرٍ لا يمكن تصوّره في المرحلة المكّية. لقد تفتّحت هذه البراعم في بيئة لم تكن تعرف سوى القيم الجاهلية، فكان يسودها العصبية الخاطئة، ويعمّها الحقد العميق، وتتصارع بين جنباتها قوى القسوة والشرّ والظلم والشهوة...

 

.. كتاباً مسجَّلاً نزلَ به جَبرئيل الأمين

وصية النبيّ صلّى الله عليه وآله لأمير المؤمنين بالصّبر وكظْم الغيظ

ـــــــــــــــــــــــ الشيخ حسين كوراني ـــــــــــــــــــــــ

 *هذه المقالة عبارة عن تقرير محاضرة لسماحة العلامة الشيخ حسين كوراني ألقاها في شهر صفر 1438 هجريّة في «المركز الإسلامي»، بمناسبة ذكرى وفاة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله، وتناول فيها بالشرح والتعليق واحدةً من وصايا رسول الله التي حفلتْ بها الأيام الأخيرة من حياته الشريفة.

هذه الوصيّة الإلهيّة النبويّة مرويّة عن الإمام الكاظم عليه السلام؛ وهي ممّا أملاه النبيّ صلّى الله عليه وآله على أمير المؤمنين عليه السلام، ومن ثمّ هبطَ جبرئيلُ مع أمناء الله تعالى من الملائكة، وعُقد مجلسٌ لتسليم الوصية لأمير المؤمنين من الله عزّ وجلّ، بواسطة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وشهادة الملائكة، وحضور الصدّيقة الكبرى عليها السلام.

«شعائر»

 

بمقدار الحبّ يكون التفجّعُ على الفقيد الذي نحبّه، وبمقدار الحبّ والتفجّع يكون حرصُ الغائب عن ظروف وفاة الفقيد على معرفة كلّ التفاصيل التي أحاطتْ بوفاته، وعلى معرفة كلّ الملابسات التي تشابكت مع المرحلة الأخيرة من عمره.

والملاحظ أنّ الفترة من بدء التحضير لحجّة الوداع إلى شهادة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم - كما يصرّح الشيخ المفيد والشيخ الطوسي عليهما الرحمة - حصلت فيها أحداث نوعية جِسام على علاقة باستمرار خطّ النبوات على وجه الأرض، وعلى العلاقة بحركة التوحيد منذ بدايتها وإلى قيام الساعة.

واحدة من هذه الأحداث العظيمة التي حصلت في تلك الفترة الزمنية القصيرة وأعظمها «يوم الغدير»، وفيه خطبة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الطويلة جدّاً والمغيَّبة. وقع الخلاف على عبارةٍ فيها: «مَن كنتُ مولاهُ فهذا عليٌّ مولاه..»، وانشغل الكلّ بالخلاف في تفسيرها إلى حدّ أنّ الخطبة نادراً ما تُقرأ، مع أنّ الذي يحبّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويريد أن يكون معه في الدنيا والآخرة، وأن لا يفرّق اللهُ تعالى بينه وبينه، لا بدّ من أن يتتبّع كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من مفردات سيرته صلّى الله عليه وآله وسلّم.

هذه الأحداث النوعية العظيمة، بل العظمى، سجّلتها الوقائع التاريخية، وسجّلها الذين اعتنوا بحفظ سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا سيّما الأئمّة المعصومون عليهم السلام، فقد نقلوا إلى الأجيال التفاصيل الطويلة جدّاً حول هذه الفترة بالخصوص. والطابعُ العامّ لهذه النصوص أنّها كلّها كخطبة الغدير مغيّبة.

نجد مثلاً أنّ هناك العديد من الوصايا في تلك الفترة، ربّما تصل إلى العشرين وصية، وربما إذا تتّبعنا نجد أنّها أكثر من ذلك. وصايا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمير المؤمنين، وللزهراء عليهما السلام، لأهل البيت عليهم السلام، للصحابة، وفي فترة مرض النبيّ النصوص كثيرة جداً. ماذا حصل بالنسبة لجيش أسامة الذي كان ينبغي أن يخرج من المدينة؟ ماذا قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما ذهب إلى البقيع في زيارة الوداع لأهل البقيع؟ النصوص كثيرة جداً، والطابع العامّ لها أنّها مغيَّبة.

أسباب التغيّيب أحياناً الجهل، وأحياناً عدم الاهتمام بالتتبّع والتدقيق، وأحياناً الخطأ في فهم معنى «الوحدة الإسلامية»، فالوحدة الإسلامية لا تعني أن لا نبحث في شأنٍ من شؤون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل هذا يتناقض مع الوحدة بين المسلمين. فلنتنبّه إلى أنّ كلّ ما يتعلّق بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يدخل ضمن تصحيح العقيدة وفي صُلبها، ويجب أن نتحدّث عنه بروحٍ علمية ودون مسبقات. هذا واجبُ كلٍّ منّا ونحن نرى ضعف العلاقة العامّة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونرى سوء فهم الإسلام الذي حاول الشيطان وأولياؤه في كلّ وقت أن يقدّموا صورة مغلوطة عنه وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

واجبنا أن نبحث، فنحن نريد أن نعرف ماذا جرى على سيّد النبيّين صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو يريد من كلّ مسلم أن يدقّق في وصاياه.

في هذه الفترة أرسل صلّى الله عليه وآله وسلّم رسائل الى الأجيال، هذه الرسائل دُوّنت في وصايا، بالإضافة إلى ذلك هناك وصيّة إلهيّة نبويّة كما نفهم من رواية عن الإمام الكاظم عليه السلام، يسأل فيها الإمامَ الصادق سلام الله عليه عمّا حصل، وعن تفاصيل في هذه الوصية. في البداية أملى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الوصيّة، وكتبها أمير المؤمنين سلام الله عليه، ثمّ بعد أن كتب الأمير الوصية نزل جبرئيلُ مع أمناء الله تعالى من الملائكة، وعُقد مجلسٌ لتسليم الوصية لأمير المؤمنين من الله عزّ وجلّ، بواسطة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وشهادة جبرئيل وأمناء الله تعالى، عُقد مجلسٌ لهذا التسليم لا نظيرَ له لا من قبلُ ولا من بعد، ولم يكن حاضراً في هذا المجلس إلّا الزهراء عليها السلام بين السّتر والباب، لأنّها على علاقة بهذا الموضوع، على علاقة بـمسؤولية ومهامّ حُجج الله على الخلق. 

 

مجلس تسليم نصّ الوصيّة الإلهيّة النبويّة

هذه الوصية حولها عدّة روايات: رواية عن مجلس تسليمها، تَتْبعها روايات مختلفة عن مضمونها.

قبل أن أبدأ بعرض النصّ سواء من الرواية الأولى حول مجلس التسليم، أو من الروايات الثانية حول مضمون الوصية، أقف عند توثيق هذه النصوص، وهي منقولة «أصلاً»، و«الأصل» عبارة عن كتاب من الكتب الأساسية لأصحاب الأئمّة عليهم السلام، وهي التي أخذ منها علماؤنا؛ كالشيخ الصدوق، والشيخ الطوسي، وسائر العلماء.

هذا «الأصل» لشخصٍ اسمه عيسى بن المستفاد، وكنيته «أبو موسى الضرير». عيسى بن المستفاد يسأل الامام الكاظم عليه السلام، فيُجيبه أنّه سأل الإمامَ الصادق عليه السلام عن مجلس التسليم للوصية.

تحدّث العلّامة المجلسي عن توثيق هذه الرواية في كتاب (البحار)، وتحدّث عنها في (مرآة العقول). يقول في كتاب (البحار) بعد أن ينقل هذه الرواية من كتاب (الطُرَف) الذي يعرف بـ(الطرائف) للسيّد ابن طاوس: «انتهى ما أخرجناه من كتاب (الطُرف) ممّا أخرجه من كتاب الوصية لعيسى بن المستفاد».

يقول العلّامة المجلسي «أخرجناه»، استخرج النصّ من كتاب (الطّرف)، ومن كتاب (خصائص الأئمّة) للسيّد الرضي جامع (نهج البلاغة)، ثمّ يقول: «وأكثرها مرويٌّ في كتاب (الصراط المستقيم) للشيخ زين الدين البياضي..»، وهو من علماء جبل عامل.

ثمّ يضيف العلّامة المجلسي: «وعيسى وكتابه [أي كتاب الوصية] مذكوران في كتب الرجال، ولي إليه أسانيد جمّة».

إذاً، للعلّامة المجلسي عدّة طرق صحيحة توصله إلى عيسى بن المستفاد. وهو يتحدّث أيضاً عن نفس الموضوع في (مرآة العقول) يقول: «الحديث الرابع... معتبَر، أخذه [الكليني] من كتاب الوصية لعيسى بن المستفاد، وهو من الأصول المعتبَرة، ذكره النجاشي والشيخ في (فهرستيهما)، وأورد أكثر الكتاب السيّد ابن طاوس قدّس سرّه في كتاب (الطُّرف)، وما ذكره الكليني قدّس سرّه مختصر من حديث طويل قد أوردناه في الكتاب الكبير، وفيه فوائد جليلة وأمور غريبة».

ذكرتُ توثيق الرواية لأنّ في النصّ أموراً مهمّة جداً وعلى صِلة بمسألة الوصية بالصّبر بشكل خاصّ، أي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان مأموراً بالصبر، وجرى الحديث عمّا يجري على الزهراء عليها السلام، ويأتي معنا في الحديث عن مضمون الوصية أنّ كلّ ما فعله الأمير عليه السلام كان مأموراً به.

نصّ الرواية

الرواية كما وردت في الكافي: «عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُسْتَفَادِ )أَبِي مُوسَى الضَّرِيرِ( قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (الصادق): ألَيْسَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام كَاتِبَ الْوَصِيَّةِ ورَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلَّم الْمُمْلِي عَلَيْه وجَبْرَئِيلُ والْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ شُهُودٌ؟»,

فماذا كان جواب الامام الصادق عليه السلام؟

 يقول الامام الكاظم عليه السلام: «فَأَطْرَقَ طَوِيلاً». تذكّرَ الإمام الصادق عليه السلام غربةَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يتلوّى تحت وطأة المرض والسمّ، والجرأة التي حصلتْ عليه، حتّى لو  كانت بمستوى «غلَب عليه الوجع»، يتذكّر بدايةَ غربةِ أمير المؤمنين عليه السلام، وغربة الزهراء عليها السلام وأهل البيت وكلَّ ما جرى.

أطرق الإمام الصادق عليه السلام طويلاً، ثمّ قال: «يَا أَبَا الْحَسَنِ [أي الكاظم عليه السلام] قَدْ كَانَ مَا قُلْتَ، ولَكِنْ حِينَ نَزَلَ بِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم الأَمْرُ نَزَلَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْ عِنْدِ الله كِتَاباً مُسَجَّلاً، نَزَلَ بِه جَبْرَئِيلُ مَعَ أُمَنَاءِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ..».

هنا يطلب جبرئيل من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يُخرج كلّ من في البيت عدا عليٍّ عليه السلام، ثمّ يأتي في النصّ «وفاطمةُ بين السّتر والباب»: «فَقَالَ جَبْرَئِيلُ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ بِإِخْرَاجِ مَنْ عِنْدَكَ إِلَّا وَصِيَّكَ لِيَقْبِضَهَا مِنَّا، وتُشْهِدَنَا بِدَفْعِكَ إِيَّاهَا إِلَيْه ضَامِناً لَهَا».

لولا التقوى والورع، لو كان أمير المؤمنين عليه السلام يعتمد أسلوبَ الوصول إلى الحكم بالطرق المتّبعة حينها وعبر القرون، وليس من خلال الناس والتأييد الشعبي الجماهيري، وإقبال الناس على الفكرة، لو أنّه عليه السلام جرّد «ذو الفقار» كيف ستكون النتيجة على المستوى العسكري؟ ولكن – في المقابل - كيف ستكون على المستوى الفكري والثقافي؟ ستكون رِدّةً عن الإسلام، فلذلك أُمر بالصبر، لكنّ هذا الصبر كم يحتاج من الاتّصال بالله عزّ وجلّ، بحيث إنّه لو جمعنا كلّ جبال الدنيا وقارنّا وَقْعَها وهولها وثِقلها بلحظة من لحظات صبر الأمير على الهجوم على الدار، لم تكن نِسبة. لذلك منقبتُه في صبره يوم الهجوم على الدار أعظم من منقبة يوم الخندق - وضربةُ عليٍّ يومَ الخندق تعدلُ عبادةَ الثّقلين أو أفضل، بحسب اختلاف الرواية - لكن يوم الهجوم على الدار أعظم بكثير، ولا نسبة.

تثبيت هذا الوضع يحتاج أن يكون الأمرُ به في سجلٍّ نزل من الله عزّ وجلّ، وسلّمه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم للأمير عليه السلام، والملائكة أمناءُ الله شهود.

«فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم بِإِخْرَاجِ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مَا خَلَا عَلِيّاً، وفَاطِمَةُ فِي مَا بَيْنَ السِّتْرِ والْبَابِ.

فَقَالَ جَبْرَئِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ ويَقُولُ: هَذَا كِتَابُ مَا كُنْتُ عَهِدْتُ إِلَيْكَ وشَرَطْتُ عَلَيْكَ، وشَهِدْتُ بِه عَلَيْكَ وأَشْهَدْتُ بِه عَلَيْكَ مَلَائِكَتِي، وكَفَى بِي يَا مُحَمَّدُ شَهِيداً.

قَالَ: فَارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم. فَقَالَ: يَا جَبْرَئِيلُ، رَبِّي هُوَ السَّلَامُ ومِنْه السَّلَامُ وإلَيْه يَعُودُ السَّلَامُ، صَدَقَ عَزَّ وجَلَّ وبَرَّ، هَاتِ الْكِتَابَ. فَدَفَعَه إِلَيْه وأَمَرَه بِدَفْعِه إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلامُ، فَقَالَ لَه: اقْرَأْه. فَقَرَأَه حَرْفاً حَرْفاً..»، إلى هنا الرواية تحدّثنا عن مجلس التسليم.

متنُ الوصيّة

ماذا في الوصيةّ؟ تجيبنا عن ذلك روايات أخرى. «فَقَالَ [النبيّ صلّى الله عليه وآله]: يَا عَلِيُّ هَذَا عَهْدُ رَبِّي تَبَارَكَ وتَعَالَى إِلَيَّ وشَرْطُه عَلَيَّ وأَمَانَتُه، وقَدْ بَلَّغْتُ ونَصَحْتُ وأَدَّيْتُ.

فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيهِ السَّلامُ: وأَنَا أَشْهَدُ لَكَ، بِأَبِي وأُمِّي أَنْتَ، بِالْبَلَاغِ والنَّصِيحَةِ والتَّصْدِيقِ عَلَى مَا قُلْتَ، ويَشْهَدُ لَكَ بِه سَمْعِي وبَصَرِي ولَحْمِي ودَمِي.

فَقَالَ جَبْرَئِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ: وأَنَا لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ.

فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم: يَا عَلِيُّ، أَخَذْتَ وَصِيَّتِي وعَرَفْتَهَا وضَمِنْتَ للهِ ولِيَ الْوَفَاءَ بِمَا فِيهَا؟

فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيهِ السَّلامُ: نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، عَلَيَّ ضَمَانُهَا، وعَلَى اللهِ عَوْنِي وتَوْفِيقِي عَلَى أَدَائِهَا.

فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم: يَا عَلِيُّ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُشْهِدَ عَلَيْكَ بِمُوَافَاتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيهِ السَّلامُ: نَعَمْ أَشْهِدْ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم: إِنَّ جَبْرَئِيلَ ومِيكَائِيلَ فِيمَا بَيْنِي وبَيْنَكَ الآنَ وهُمَا حَاضِرَانِ مَعَهُمَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ لأُشْهِدَهُمْ عَلَيْكَ.

فَقَالَ: نَعَمْ لِيَشْهَدُوا وأَنَا بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي أُشْهِدُهُمْ. فَأَشْهَدَهُمْ رَسُولُ الله. وكَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ عَلَيْه النَّبِيُّ بِأَمْرِ جَبْرَئِيل..».

حقيقةً أكثر ما يفجع عند قراءة هذا النصّ أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام مظلوماً إلى هذا الحدّ، أن يقال: لا يُعقل أن يكون حصل هجومٌ على الدار، أن يتمّ الإنكار لهذا الصبر ولهذه المنقبة وتحويلها إلى مادّة تندُّر...

تتابع الرواية: «وكَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ عَلَيْه النَّبِيُّ بِأَمْرِ جَبْرَئِيلَ فِي مَا أَمَرَ الله عَزَّ وجَلَّ أَنْ قَالَ لَه: يَا عَلِيُّ، تَفِي بِمَا فِيهَا مِنْ مُوَالاةِ مَنْ وَالَى اللهَ ورَسُولَه، والْبَرَاءَةِ والْعَدَاوَةِ لِمَنْ عَادَى اللهَ ورَسُولَه، والْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ، عَلَى الصَّبْرِ مِنْكَ وعَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وعَلَى ذَهَابِ حَقِّي وغَصْبِ خُمُسِكَ وانْتِهَاكِ حُرْمَتِكَ؟

فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله».

يضيف الإمام الصادق كما ينقل عنه الإمام الكاظم عليهما السلام: «فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ..». هنا يحدّث أمير المؤمنين سلام الله عليه بما سمع جبرئيل يحدّث به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ممّا سيجري على الأمير وعلى الزهراء ومَن بعده: «والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَقَدْ سَمِعْتُ جَبْرَئِيلَ عليه السلام يَقُولُ لِلنَّبِيِّ: يَا مُحَمَّدُ، عَرِّفْه أَنَّه يُنْتَهَكُ الْحُرْمَةُ، وهِيَ حُرْمَةُ الله وحُرْمَةُ رَسُولِ الله، وعَلَى أَنْ تُخْضَبَ لِحْيَتُه مِنْ رَأْسِه بِدَمٍ عَبِيطٍ.

قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلامُ: فَصَعِقْتُ حِينَ فَهِمْتُ الْكَلِمَةَ مِنَ الأَمِينِ جَبْرَئِيلَ حَتَّى سَقَطْتُ عَلَى وَجْهِي، وقُلْتُ: نَعَمْ قَبِلْتُ ورَضِيتُ وإِنِ انْتُهِكَتِ الْحُرْمَةُ..»، انتهاك الحرمة هنا إشارة إلى ما يجري في الهجوم على الدار، إشارة إلى الزهراء الوديعة، حرمة الله وحرمة رسوله، «.. نَعَمْ قَبِلْتُ ورَضِيتُ وإِنِ انْتُهِكَتِ الْحُرْمَةُ، وعُطِّلَتِ السُّنَنُ، ومُزِّقَ الْكِتَابُ، وهُدِّمَتِ الْكَعْبَةُ، وخُضِبَتْ لِحْيَتِي مِنْ رَأْسِي بِدَمٍ عَبِيطٍ، صَابِراً مُحْتَسِباً أَبَداً حَتَّى أقْدمَ عَلَيْكَ.

ثُمَّ دَعَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم فَاطِمَةَ والْحَسَنَ والْحُسَيْنَ، وأَعْلَمَهُمْ مِثْلَ مَا أَعْلَمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِه، فَخُتِمَتِ الْوَصِيَّةُ بِخَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ لَمْ تَمَسَّه النَّارُ، ودُفِعَتْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السّلام».

 

من وصية السيد ابن طاوس لولده

لولا صبرُ أمير المؤمنين عليه السلام، لارتدّت العرب قاطبة

ـــــــــــــــــــــــــــــ إعداد: «شعائر» ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

حكى جماعةٌ من أصحاب التواريخ؛ منهم العبّاس بن عبد الرحيم المروزيّ، فقال ما هذا لفظه: «ولم يلبث الإسلام بعد موت النبيّ صلّى الله عليه [وآله] في طوائف العرب، إلّا في أهل المدينة وأهل مكّة وأهل الطائف، وارتدّ سائر الناس».

ثمّ شرح (المروزيّ) كيفية ارتداد الخلائق بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقال: «ارتدّت بنو تميم وغيرهم، وارتدّت ربيعة كلّها وكانت لهم ثلاثة عساكر؛ عسكرٌ باليمامة مع مسيلمة الكذاب، وعسكرٌ مع معرور الشّيباني وفيه بنو شيبان وعامّة بكر بن وائل، وعسكرٌ مع الحطم العبديّ... وارتدّ أهل اليمن، وارتدّ الأشعث بن قيس في كِندة، وارتدّ أهل مأرب مع الأسود، وارتدّت بنو عامر إلّا علقمة بن علافة..».

فكان هذا الارتداد يا ولدي من جملة موانع أبيك أمير المؤمنين عليه السلام، من منازعة (القوم) ومَن رغب في نيل الدنيا بطريقهم ممّن يرجو أن يحصل له منهم إذا حصلت لهم ولاية من الحطام ما لا يرجوه بولاية أبيك عليٍّ عليه السلام، لأنّهم عرفوا من النبيّ صلّى الله عليه وآله، أنّه لا يعمل بغير الحقّ الذي لا تصبر عليه النفوس.

فلو أنّ أباك أمير المؤمنين عليه السلام نازعهم منازعةً للمغالبة والمقاهرة، لأدّى ذلك إلى أن يصير أهل المدينة حرباً، وأهل الردّة ظاهراً، وكان أهل مكّة (الطلقاء) الذين ذُكر أنّهم ما ارتدّوا، قد أسلموا لمّا (باغتهم) النبيّ صلّى الله عليه وآله بالعساكر التي عجزوا عنها، وملَكهم قهراً وبغتةً على صفةٍ ما كانوا يقدرون على التخلّص منها، فكان إسلامُهم إسلامَ مقهورٍ، فمتى وجدوا مَن يساعدهم على زوال القهر عنهم، ما كان يُؤمَن معه ارتدادهم عمّا قُهروا عليه من الإسلام، فما كان يفي على ما ذكر المروزيّ وغيره ممّن ارتد من سائر أهل تلك البلاد إلّا الطائف، وأيّ مقدارٍ للطائف مع ارتداد سائر الطوائف.

فلولا تسكينُ أبيك أمير المؤمنين عليه السلام لذلك البغي والعدوان بترك المحاربة، ومساعدته أهلَ المدينة على الذين ارتدّوا على الإسلام والإيمان، وإطفائه تلك النيران، كان قد ذهب في ذلك الوقت الإسلام بالكليّة، أو كاد يذهب ما يُمكن ذهابه منه بتلك الاختلافات الرديّة، وهذه مصائبُ وعجائب أوجبها مسارعةُ مَن اجتمع (...) لطلب الدنيا السخيفة، والتوصّل فيها بالمغالبة والحيلة، وتركهم جدّك محمّداً صلّى الله عليه وآله بين أهله على فراش وفاته.

وكان من جملة حقوقه صلّى الله عليه وآله بعد وفاته، وخاصّة يوم الممات، أن يجلس المسلمون كلّهم على التراب لا على الرماد، ويلبسوا ما يلبسه أهل المصائب من السواد، ويشتغلوا ذلك اليوم خاصّة عن الطعام والشراب، ويشترك الرجال والنساء في النياحة والبكاء والمصائب، ويكون يوماً ما كان مثله في الدنيا ولا يكون... فكيف جاز في عقلٍ أو شرعٍ أن ينقضي ذلك اليوم بالمخاصمات على الحطام؟ فيا لها من نكبةٍ وفضيحة... تبكي منها القلوب والعيون!

ومن أعجب ما رأيته في كتب (القوم) وقد ذكره الطبريّ في (تاريخه) ما معناه: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تُوفّي يوم الاثنين ولم يُدفن إلى ليلة الأربعاء، وفي رواية أنّه صلّى الله عليه وآله بقيَ ثلاثة أيامٍ حتّى دُفن.

وذكر إبراهيم الثقفيّ في كتاب (المعرفة) في الجزء الرابع، تحقيقاً، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله بقي ثلاثة أيامٍ حتّى دُفن لاشتغالهم بولاية (فلان) والمنازعات فيها، وما كان يقدر أبوك عليٌّ عليه السلام أن يفارقه ولا أن يدفنه قبل صلاتهم عليه، ولا كان يأمن أن يقتلوه إنْ فعلَ ذلك، أو ينبشوا قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله ويُخرجوه و(يزعموا) أنّه دفنه في غير وقتِ دفنه، أو في غير الموضع الذي يُدفَن فيه، فأبعدَ اللهُ جلّ جلاله من رحمته وعنايته نفوساً تركته على فراش منيّته واشتغلتْ بولايةٍ كان هو أصلُها بنبوّته ورسالته، لتُخرِجَها من أهل بيته وعترته.

والله يا ولدي ما أدري كيف سمحتْ عقولهم ومروّتهم ونفوسُهم وصحبتهم، مع شفَقَته عليهم وإحسانه إليهم، بهذا التهوين، ولقد قال مولانا زين العابدين عليه السلام: «واللهِ لو تمكّنَ القومُ أنْ يطلبوا المُلْكَ بغير التّعلّق باسم رسالَتِه، كانوا قد عَدَلوا عن نبوّتِه» وبالله المستعان.

 

* (كشف المحجّة لثمرة المهجة)

 

 

من أسرار

الصلاة على محمّد وآل محمّد

للصلاة على النبيّ وآله صِيَغٌ كثيرة جداً، وتُعتبر هذه الصيغة من أبرزها. رواها الشيخ الصدوق عن الإمام الكاظم عليه السلام، وقد جاء في الرواية:

من صلّى على النبيّ بهذه الصلاة هُدِمَتْ ذنوبُه، وغُفِرَتْ خطاياه، ودام سرورُه، واستُجيبَ دعاؤه، وأُعْطِيَ مسؤولَه، وبُسِطَ له في رزقِه، وأُعينَ على عَدُوِّه، وهُيِّئَ لهُ سَبَبُ أنواعِ الخَيْرِ، ويُجْعَلُ مِن رُفَقَاءِ نَبِيِّهِ في الجِنانِ الأعلى. يقولهنّ ثلاث مرّاتٍ غدوةً، وثلاثَ مرّاتٍ عشيّة.

أللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ في الأوَّلينَ، وصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ في الآخِرِينَ، وصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ في الملأِ الأعلَى، وصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ في النَّبِيِّينَ والمُرسَلينَ. أللَّهُمَّ أعْطِ محَمَّداً صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وَسَلَّمَ الوَسِيلَةَ والشَّرَفَ والفَضيلَةَ والدَّرجَةَ الكَبيرةَ.

أللَّهُمَّ إنِّي آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ علَيْهِ وآلِهِ السَّلامُ وَلَمْ أرَهُ، فَلا تَحْرِمْني يَوْمَ القِيامَةِ رؤْيَتَهُ، وارْزُقْني صُحْبَتَهُ، وتَوَفَّني على مِلَّتِهِ، واسْقِني مِن حَوْضِهِ مَشْرَباً رَوِيّاً لا أظْمَأُ بَعْدَهُ أبداً، إنَّكَ على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ.

أللَّهُمَّ كمَا آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ أرَهُ، فَعَرِّفْنِي في الجِنانِ وَجهَهُ. أللَّهُمَّ أَبْلِغْ رُوحَ مُحَمَّدٍ عَنِّي تحيّةً كثيرةً وسَلاماً.

(الصدوق، ثواب الأعمال، ص 156)

 

 

 

اخبار مرتبطة

  حدود الله

حدود الله

منذ 0 ساعة

أحكام المسجد

  دوريات

دوريات

منذ 0 ساعة

دوريات

نفحات