حوارات

حوارات

15/11/2017

القرآن الكريم هو التدوين الأول لسيرة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله


منطلقات البحث العلمي في السيرة النبوية

العلامة المحقّق السيد جعفر مرتضى العاملي:

القرآن الكريم هو التدوين الأول لسيرة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله

ــــــــــــــــــــــــــ إعداد: «شعائر» ــــــــــــــــــــــــــ

إنّ البحث العلمي الأمين في السيرة النبويّة العطِرة مسؤولية يفرضها واجب التأسّي بالنبيّ الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ التحدّي اليوم هو في تظهير الأبعاد الواقعية لهذه الشخصية المحورية في عالم التكوين والاجتماع الإنساني، خصوصاً في ظلّ حملات التشويه التي ما برحت تتوالى منذ العصر الأوّل للرسالة إلى يومنا هذا؛ متمثّلةً بالنهج التكفيري الذي يُفسد في الأرض بدعوى رفع راية الإسلام ونبيّ الإسلام.

في ما يلي، جوانب من دراسة قيّمة لسماحة العلامة المحقّق السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه (منطلقات البحث العلمي في السيرة النبوية) تقدّمها «شعائر» بصيغة السؤال والجواب.

 

* ما أهمّية دراسة السيرة النبوية في واقعنا المعاصر؟

لا ريب في أنّ للتاريخ أهمّيته وتأثيره في حياة الشعوب والأمم. ولكنّ تاريخ نبيّنا الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم يبقى هو الأعظم أهمّيةً، والأقوى تأثيراً، خصوصاً بالنسبة للشعوب الإسلامية عبر العصور. ويرجع ذلك إلى طبيعة العلاقة التي تربط الناس بالإسلام بما له من شمولية، ودقّة متناهية، ثمّ بنبيّ الإسلام صلّى الله عليه وآله، الذي يمثّل التجسيد الحيّ، والأسوة والقدوة للناس، في أدقّ الأمور وأقلّها، وأعظمها خطراً وأجلّها. فمن الطبيعي إذاً، أن يكون لسيرته صلّى الله عليه وآله تأثير أساسيّ ومصيري في كلّ الواقع الذي يعيشه الناس، وفي مختلف جهات وجودهم.

ولأجل ذلك نقول: إنّ أيّ شيء يسجّله التاريخ لنا عن نبيّنا الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، قد تكون له أبعاد ودلالات مختلفة ومتفاوتة كمّاً وكيفاً، فقد نجده مرتبطاً - كُلاًّ أو بعضاً - بالسلوك، وبالفقه، وبالموقف السياسي، وبالتعامل التربوي. وله دلالات اعتقادية، وتأثيرات عاطفية، وارتباط بالعلاقات الاجتماعية، وكذلك بتفسير القرآن، وبالرجال، والدراية، وباللغة، والأنساب، والجغرافيا، والطبّ، وما إلى ذلك.

وهذا ما يؤكّد لنا أنّ البحث في السيرة النبوية هو الأشدّ حساسيةً وخطراً؛ لأنّ أيّ خطأٍ أو إفراط أو تفريط فيه سيترك آثاره على عقائد، وسياسات، وسلوك الناس، ومجمل حياتهم، وشخصّيتهم الفردية والاجتماعية.

* هل ما بأيدينا من مادّة تاريخية يكفي الباحث في السيرة النبوية لتكوين صورة أمينة عن شخصية النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؟

إنّ ممّا لا شكّ فيه هو أنّنا نملك ثروة تراثية هائلة، لم يتسنّ مثلها لأيّ أمّة أخرى، وذلك لشموليّتها ودقّتها، وتوفّر عناصر الصحّة فيها. وهي تكفي - لو نالت حقّها من الدراسة والتمحيص - لإعطاء صورة واقعية، متقاربة الملامح، ليس في الخطوط العامّة وحسب، وإنّما في كثيرٍ من التفاصيل الدقيقة لحياة نبيّنا الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحتّى بالنسبة للكثير من الأحداث التي مرّت بالمسلمين، بل بالأنبياء السابقين عليهم السلام أيضاً.

ويُعتبر القرآن الكريم هو المصدر الأغنى والأصفى، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو التدوين الأوّل الصحيح لنصوص سيرة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله، ولغيرها من شؤون وقضايا. ثمّ هناك ثروة هائلة من النقول - وكثيرٌ منها يرتقي إلى درجة التواتر القطعي - التي تكفّلت بالتأريخ لمختلف الموضوعات، خصوصاً ما يحكي لنا منها مواقفه صلّى الله عليه وآله، وأقواله، وأفعاله، ومناسكه، وعباداته، وسياساته، وغير ذلك من شؤون تنوّعت واتّسعت لتستقطب كافة مناحي الحياة وجهاتها.

وهذه السعة والشمولية قد أنتجت انتشار المادّة التاريخية في مختلف الكتب والموسوعات، مثل : كتب العقائد، والرجال، والفقه، والأنساب، والتفسير، وعلوم القرآن، واللّغة، والشعر، والأدب، والجغرافيا، وغير ذلك من علوم إنسانية إسلامية، كُتبت بعد ظهور الإسلام، هذا فضلاً عن كتب التاريخ والسيرة.

 

* ما هي أبرز العقبات التي تواجه الباحث في السيرة النبوية لناحية طبيعة المادّة التاريخية في المجاميع المختلفة؟

إنّ ما نقله الناقلون خاضعٌ في دقّته وعمقه لمستويات إدراك وتوجّهات واهتمامات هؤلاء الناقلين، ونوع ثقافاتهم. وقد تلْمس في بعضها درجة من السذاجة والسطحية تُفقدها صلاحية الاستدلال بها، أو الاعتماد عليها في بلورة صورة واقعية، منسجمة المعالم عن الحدث الذي يراد التأريخ له.

أمّا كُتب التاريخ ؛ فعدا عن أنّها قد جاءت انتقائية لأسباب مختلفة، فإنّها قد اكتفت بعرض الروايات للوقائع، وفق تسلسل زمني، أو وفق هيكلية معينة، من دون أن تهتمّ بدوافع الحدث ومحفّزاته القريبة، فضلاً عن ربطه بسائر المؤثّرات والأسباب، أو الظروف والمناخات التي أنتجته، أو أثّرت فيه بصورة أو بأخرى، أمّا النتائج والآثار، فهي غائبة كلّياً أو تكاد عن ذهن الراوي، أو المؤرّخ، إلّا فيما شذّ وندر، وحيث لا يجد أيّ حرج أو تثريب في الإشارة إلى شيء من ذلك.

أمّا الذين كتبوا السيرة، فقد وقعوا في محذورَي الإفراط والتفريط، حينما اهتمّ فريق منهم فقط بالناحية الفضائلية، وكأنّ النبوّة حالة شخصية فردية تعني الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله دون كلّ أحدٍ سواه.

واهتمّ آخرون بالموقف السياسي، والحاكمية، والقرار، والدولة، أو بالحروب. فلم يكن ثمّة نظرة شمولية بمستوى شمولية الأسوة والقدوة للنموذج الإسلامي الأوّل، والأكمل والأمثل.

وغنيٌّ عن القول إنّ بعض النقول لم تصل إلينا سليمة ولا قويمة، بل تعرّضت للتحريف وللتزييف، عن عمد، أو عن غير عمد، حيث لم يقتصر الرواة على نقل خصوص ما تيقّنوه من أحداث وشؤون، بل أضافوا إليه الكثير من المظنونات، والحدسيّات، أو المختلَقات التي صنعتْها الأهواء، والعصبيّات، والمصالح الخاصّة، والسياسات التي رأت أنّ من مصلحتها نسبة ذلك إلى الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليكتسب بذلك شرعية وقداسة، تُبعده عن الريب، وتجعله يحظى بالرضا والقبول من مختلف الفئات والطبقات.

 

 

* لأيّ مدى تسبّبت سياسات الحكّام المتعاقبين في تشويه الصورة الناصعة لنبيّ الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم؟

كان لهؤلاء الحكّام مساهمات واسعة في هذا المجال. وذلك في ظلّ سياساتهم التي اتّبعوها أو تابعوها، والقاضية بعدم السماح بتدوين الحديث، أو روايته إلّا لأشخاص بخصوصهم. ثمّ عدم السماح بالعمل ببعض السُّنن، ولا بالسؤال عن معاني القرآن ومراميه. وذلك بعد أن فرضوا على كبار الصحابة الإقامة في مدينة الرسول ومنعهم من السفر إلى سائر البلاد.

ومضت الأحقاب والأجيال، حتّى نشأ الصغير، وهرم الكبير على هذه السياسات، التي رافقت السياسات الصارمة القاضية بإبعاد الأمّة عن المصدر الأوثق والأصدق والأصفى للمعارف على شموليتها وتنوّعها. وهم أهل البيت عليهم السلام، وتهجين أطروحتهم، وممارسة رقابة دقيقة على كلّ ما يصدر عنهم، أو ينتهي إليهم.

ثمّ لم يقتصر الحكّام على المرتزقة، ووعّاظ السلاطين في تسويق ما زعموه أنّه دين وعلم ومعرفة وتاريخ.. بل تجاوزوا ذلك إلى ما هو أخطر، وأمَرّ وأدهى، حيث كانت الجريمة الحقيقية هي تمكينهم مُسْلِمةَ أهل الكتاب من نشر ترّهاتهم وأباطيلهم، التي لم تسلم منها لا العقائد، ولا المفاهيم، ولا القِيم، وحتّى أحكام الشريعة والدين، وذلك حينما فتحوا لهم مساجد المسلمين ليقُصّوا على الناس من إسرائيليّاتهم.. وكان كبار رجال الدولة حتّى الخلفاء يحضرون مجالس القصص تلك، فزادت بذلك جرأتُهم التي تنامت وتكرّست في ظلّ حديث مزعوم نسبوه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج!

وأصبحت الإسرائيليات والأهواء - خصوصاً أهواء الحكام - دِيناً. وأصبح الانحراف شريعةً. ومضت القرون والأحقاب بما فيها، وصار الكثير من ذلك جزءاً من حياة الناس اليومية، وتأثّر به تفكيرهم، ومفاهيمهم وعاداتهم، ثمّ أصبح جزءاً من تاريخهم الذي اعتبروه سديداً ومجيداً.

* ما هي المعايير والضوابط التي ينبغي أن يأخذ بها من يتصدّى للبحث في السيرة النبوية؟

الوسائل والمعايير التي يفترض بالباحث أن يعتمدها في حصحصة الحقّ في هذا المجال هي نفسها تلك التي يعتمدها عقلاء البشر كافّة، على اختلاف نِحَلهم واتّجاهاتهم ومذاهبهم. فالبحث السندي مثلاً، معتمدٌ لدى الجميع، فلا يأخذ أحدٌ بنقل من اشتهر بالكذب، أو بكثرة الغلط أو النسيان. ولا ممّن يتّهم بأنه لا يتورّع عن التزوير، أو التحوير، بهدف تأييد أو تفنيد هذا الاتجاه أو ذاك.

كما أن عقلاء البشر كافة، وكذلك الباحثون في التراث، يرفضون الاعتماد على المضمون الذي يتنافى مع ما هو مشاهد بالعيان جغرافياً، كما لو ادّعى: أن بغداد في مصر، أو مع الثابت كونياً، كما لو ادّعى أن الأرض مسطّحة، أو أنّ الشمس تدور حول الأرض. أو يناقض الثابت تاريخياً، كدعوى أن بخت نصّر قد عاش في القرن الثامن عشر، وكذا لو كان مخالفاً للضرورة العقلية.

* هل من توصيات لكم إلى من يرغب في خوض غمار البحث العلمي في السيرة والتاريخ؟

آخر ما نقوله في ما يرتبط بما يفرضه البحث العلمي النزيه والمنصف هو ضرورة المقارنة بين النصوص المختلفة، وملاحقة كلّ شارة وواردة، ثم تلمّس المبررات الموضوعية لاختيار أيّ واحد منها، ثم الاستفادة الصحيحة منه في الموقع المناسب، في رسم لمحات الصورة الحقيقية، حيث يجعلها أكثر صفاءً ونقاءً، وأشد تألّقاً وإشراقاً.

ثمّ لا بدّ من ربط الأمور بمناشئها، والدوافع بغاياتها، والأحداث بما لها من عِلل ومحفّزات، ومن آثار وتأثّرات، من دون أن يكون ثمّة إخلال بالتصوّر العام المستند إلى الحقائق المرتكزة على الثوابت الصحيحة، والمعايير والضوابط المقبولة والواضحة.

كلّ ما سبق، مع التزام الدقّة في التعبير، باختيار أقرب الألفاظ وأيسرها دلالة على المقصود، إذ لا بدّ من التزام جانب الحذر من استعمال المجازات والكنايات، التي ربّما تؤثّر على إدراك الحجم الطبيعي للحدث، أو للحالة العامّة، والظروف التي احتضنته، أو ساهمت في صنعه. وذلك من أجل تمكين الآخرين من أن يعيشوا الفكرة في محيطها الطبيعي. ومن دون أي تكلُّف أو إجهاد.

ولا ننسى أخيراً أنّ إثراء البحث التاريخي بالنصوص والشواهد، ثمّ تنوّع المصادر فيه، والحصول على ثقة الآخرين، بأنّه ليس ثمّة تجاهل لنوع معيّن من النصوص، ولا سعي للتعتيم عليها، أو التقليل من أهمّيتها، إنّ ذلك وسواه يعطي البحث في السيرة النبوية، بل في كلّ بحث تاريخي أو غيره قيمة كبيرة، ويجعله جديراً بأن يُسهم في بناء الإنسان، ويعطيه دوراً حسّاساً، ومؤثّراً، في حاضره وفي مستقبله على حدّ سواء.

 

اخبار مرتبطة

  تقرير

تقرير

18/11/2017

تقرير

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

نفحات