بين ضِيافتَيْن

بين ضِيافتَيْن

منذ يومين

الشيخ حسين كوراني

بين ضِيافتَيْن                                                                               
الشيخ حسين كوراني
                                              
             «.. وداعَ مَن عَزَّ فراقُه علينا..»
من دعاء وداع شهر مضان.


بعد ضيافة الله في شهر رمضان، تبدأ أشهُر الحجّ، وهو ضيافة أسمى وأرفع اختصاصاً، يُعبَّر عنها عادةً بـ «ضيافة الرَّحمـٰن».
في ثقافة النَّصّ المعصوم، أنَّ اختيار المُشترِكين في دورة ضيوف الرَّحمـٰن، يَتمُّ في موسم ضيافة الله، ليؤسَّس -على الصَّوْم عن المفطِّّرات- للصَّوم عن «تروك الإحرام» في الحجّ، وهي أَوسَع دائرة، وأَطوَل مدَّة من النّهار، فهي تشمل «صوماً» في اللّيل والنّهار عن «مُنافيات» الإحرام لِلحجِّ و«تُروكه».
لِمعرفة مَوقِع هاتَين الضِّيافتَين -الدَّورتَين التَّثقيفيَّتَين- من عمليَّة التَّثقيف على مَدار السَّنة والعمر، يجدر التَّأمُّل الكُلِّي في خارطة منظومة البناء الثقافي الإسلامي، لِتَتَبدَّى ثلاث خصائص هي: الإستيعاب، والتَّنَّوُّع، وَوِحدة الهدف.
يعني الإستيعاب، أنَّ عمليَّة التَّثقيف مُكتملة، فهي حاضرة بعناية تامَّة على امتداد ساحة النَّفس والزَّمن. يُنافي التَّثَقّفَ، التَّثَلُّم، فكيف بالفراغات أو الفَجَوات.
ومعنى التَّنوُّع، تلبية الموادّ التَّثقيفيَّة لِكلِّ حاجات النَّفس وحالاتها الطبيعيّة، والمعرفيّة، والسُّلوكيّة، بما يَشمل السِّياحة الدِّينيَّة بِقسمَيها: السَّفر إلى المَعالم: ﴿قُلْ سِيروا في الأَرض﴾، أو سَفَر المَعالم إلى المُتأمِّل حيث يكون، لِيَتبصَّر دونما حاجة للضَّرب في الأرض: ﴿فَاعْتَبِروا﴾.
ويُراد بِوحدة الهدف، أنَّ كلّ مفردات عمليّة التَّثقيف الدِّيني، وموادّها، تَنتظِم في نَسَقٍ واحدٍ يَصبُّ في الهدف المركزي لِبعثة الأنبياء: مَكارم الأخلاق، وكمال الإنسان المُكرَّم.
نظرة مُتأنِّية في داخل بناء المنظومة الثَّقافيّة، بل في شبكة ترابطها القِيَميّ، بل في النَّسيج الداخلي لِكُلِّ مفردة وحدها، تكشف مشاهد من إعجاز البناء الثَّقافي الإسلامي، لِيَسْجد العقل والقلب مُردِّدَيْن: ﴿ألا يعلم من خلق وهو اللّطيف الخبير﴾ الملك:14.
سَيَجِد المُتأمِّل الموضوعي -بِيُسْرٍ- أنّ كلَّ عمليَّات التَّثقيف البَشَري وبرامجه الوضعيَّة قاصرة عن بلوغ أدنى السَّفح من عمليّة التَّثقيف بالهُدى الإلهي. يلحق بالوضعيّ ما يُنسَب إلى الأديان السَّابقة ممّا هو مُستنسَخٌ محرَّف.
تَخلُص المقارنة -هذه- إلى أنّ البشريّة لا تملك إلَّا بناءً ثقافيّاً وحيداً فريداً، هو البناء الثَّقافي الإسلامي، الذي حافظ على النَّقيِّ من تعاليم كلِّ الأديان السَّماويّة السَّابقة، وأضاف إليه الكثير الجديد، لِيَكتمل، ولِيَتَّصل الخِتام بالمَطلع: ﴿فإما يأتينكم مني هدى، فمن اتّبع هداي فلا يضلُّ ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشة ضنْكا، ونحشره يوم القيامة أعمى. قال ربِّ لمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها، وكذلك اليوم تُنسى﴾. طه:123-126

**


تَعتمد عمليّة البناء الثقافي الدِّيني، في مجال البَرمَجة استثمار الوقت كلّه لِصالِح الفِكر والثَّقافة، فالوقت في خدمة التَّرشيد والتَّثقيف، والإستجمام لَوْن ثقافة، وكذلك العمل، وليست الحياة الشخصيّة إلَّا فِقْه قلبٍ في خطِّ الثَّقافة والفِكر، فكيف هي -إذاَ- حياة الفرد العامَّة؟
تَأبى حقيقة الثَّقافة أن يكون لِلمُثقّف وقتٌ خارج ساحة الثَّقافة. يشبه ذلك انفصام السَّيف إلى قطعتَين. السَّيف المُثقَّف واحد النَّسَق، مُنساب الحدّ، لا يَحتمِل أدْنى ثَلمة فَكَيف بالفصام؟
يُطلُّ بنا ما تقدَّم على «الإستيعاب الثَّقافي» وامتداده على ساحة النَّفس ومساحة الزَّمن المُعافى من أُمِّيَّة البَتْر والإجتِزاء، لِيَتّصل بالخُلود. ثقافة الإنسان أكبر من الدُّنيا، لأنّ الإنسان أكبر من كلِّ مَدَيات الزَّمن وانسياب آناته المُتَصرِّمة في خدمة النَّفس التي انطوى فيها العالَم الأَكبر.
﴿إنَّ عدَّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً..﴾ التوبة:36. لِكلِّ شهرٍ منها برامجه الثقافيّة الخاصّة المُوزَّعة على الأيّام واللّيالي، والفترات، والسَّاعات، في نَظْمٍ مُعجز يُراعي تعزيز العقيدة، وصَوْنها من  الغُلُوِّ أو التَّقصير، وترشيد السُّلوك لِتَبقى في النَّفس صورة كلّ أمرٍ وشأنٍ «كما» هو بِواقعيّة حقيقيّة، لا يُكبِّر حجمها التَّمَكُّن، ولا يُصغِّره ضِيق ذات اليَد أو ضآلة الهِمَّة.
تتقاسم الأشهُر الإثني عشر، دوراتٌ تثقيفيّة مُتَساوِقة، كما يلي:

* دورة «ربيع الأوّل وربيع الثّاني» وعنوانها: «اتِّباعُ رسول الله». ﴿قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني، يُحببكم الله..﴾ آل عمران:33.
* دورة «جمادى الأولى وجمادى الثانية» وعنوانها: «الزَّهراء عليها السلام، والإمامة»: ﴿..قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودَّة في القربى..﴾ الشورى:23.
* دورة الأشهر الثّلاثة «رجب وشعبان، وشهر رمضان» وعنوانها: ﴿..لعلكم تتقون﴾ البقرة:21.
* دورة أشهر الحجّ: «شوّال وذي القعدة، وذي الحجّة» وعنوانها: «تَقوى القلوب».
* دورة «مُحرَّم وصَفَر»، وعنوانها الحقيقيّ وإن لم تُعرَف به: «دورة لقاء الله» من باب «إحدى الحُسنَيَيْن»، «النَّصر أو الشَّهادة»، في سبيل النَّاس، الذي هو -كما وصفه الشَّهيد الصَّدر الأوَّل- «سبيلُ الله».
في الدَّورتَين الأولى والثّانية يتمُّ التَّأصيل النّظري والعمليّ لِتثبيت النَّظريَّة: العقيدة، وتَنطلق منهما الدَّورات الثَّلاث الأخيرة، لِحِفْظ سلامة العقيدة في دروب القلب والحياة، وترشيد السُّلوك للثَّبات في خطِّ التَّزكية والتَّهذيب.


**


كما لا تَنفصِل دورة «أشهُر الحجّ» -شَوّال، وذي القعدة، وذي الحجّة- عن سابقتها دورة الأشهُر الثَّلاثة -رجب وشعبان وشهر رمضان- فهي كذلك لا تَنفصِل عن دورة مُحرَّم وصَفَر.
يَجمع هذه الدَّورات، ما يَقرأه الصَّائمون في أدعية شهر رمضان «وليلةَ القدْر، وحجَّ بيتِك الحرام، وقتلاً في سبيلك فَوفِّق لنا..».
في ضوء هذا التَّسلسُل في عمليّة البناء الثَّقافي الدِّيني، وبِلِحاظ الزَّمن الذي نحن فيه -بعد شهر رمضان- تَتَّضح الإجابة عن سؤال: ماذا بعد شهر رمضان؟
واجبنا المحافظة على رَصِيدنا من التَّزكية والعمل الصَّالح، لِنُواصل ما نَستقبل من أعمارنا بِرُوح شهر رمضان «الجِدّ» في خشية الله، وعبادته سبحانه، والتَّوطُّن في بحر الجماعة و«النّاس» والإستعداد لِبَذل المُهجة في مواجهة الظُّلم، وتحطيم الأغلال، في خطِّ عَوْلَمَةٍ حقيقيّةٍ مِحوَرها «الحجّ» و«ضيافة الرَّحمـٰن».

**


اخبار مرتبطة

  الصورة الملكوتيّة

الصورة الملكوتيّة

  دوريات

دوريات

منذ يوم

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات