من مناهجِ فَهْم الوحي عند أهل البيت

من مناهجِ فَهْم الوحي عند أهل البيت

26/08/2011

تفسيرُ القرآن بالقرآن

من مناهجِ فَهْم الوحي عند أهل البيت
تفسيرُ القرآن بالقرآن


------د. تحسين البدري*------

في سِياق فَهْم الوَحي الإلهي، كان لمدرسة أهل البيت عليهم السلام سَبْقُ التَّأسيس لِمناهج الفَهْم في ميدان التفسير. وللتعرُّف على ما قدَّمَتْه هذه المدرسة، من أنساق منهجيّة، سوف تبحث هذه المقالة للباحث الإسلامي في علوم القرآن الشيخ الدكتور تحسين البدري في واحدٍ من أبرز وأهمّ المناهج التفسيريّة، وهي: منهجُ تفسيرِ القرآن بالقرآن.
ماذا يعني هذا المنهج؟ وكيف ظهر كَعِلمٍ قائمٍ بذاته؟


مؤسِّسُ هذا المنهج: «منهج تفسير القرآن بالقرآن» هو رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقد تنوَّعت بالتّالي الرِّوايات الواردة عن الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام في هذا المضمار.
وباعتبار سِعة نطاق هذا المنهج، وشمول تعريف التَّفسير لمجالات قرآنيّة كثيرة، يُمكن ذِكر الموارد التَّالية التي وَرَدَت عن أهل البيت عليهم السلام ضمن العناوين التي تدخل في هذا المنهاج:

أوّلاً: تحديد النَّاسخ والمنسوخ، كما هو الحال في الرِّواية التالية:
عن زرارة بن أعين قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا ءاتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسفحين ولا مُتّخذي أخدانٍ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ المائدة:5، فقال: هذه منسوخة بقوله ﴿..ولا تمسكوا بعصم الكوافر..﴾ الممتحنة:10».

ثانياً: تحديد المُحكمات والمُتشابهات، وقد حدّد أهل البيت عليهم السلام الكثير من مُتشابهات القرآن ومُحكماته، بل في بعضها طرحوا قاعدة كليّة وضابِطة لِتحديد المُتشابهات والمُحكمات، من قبيل الرواية التالية: عن محمّد بن سالم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ أناساً تكلّموا في هذا القرآن بغير علم، وذلك أنّ الله تبارك وتعالى يقول: ﴿هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أُمّ الكتب وأُخَرُ متشابهات فأمّا الّّذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبِعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والرّاسخون في العلم يقولون ءامنّا به كلٌّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلاّ أولوا الألباب﴾ آل عمران:7. فالمَنسوخات من المُتشابهات، والمُحكمات من النَّاسخات..».

ثالثاً: إرجاع الآيات المُتشابهات إلى الآيات المُحكَمة لِتفسيرها، من قبيل الرواية التالية:
عن صفوان بن يحي قال: «سألني أبو قرّة المحدِّث أن أُدخله على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فاستأذنتُهُ في ذلك فأَذِنَ لي، فدخل عليه، فسأله عن الحلال والحرام والأحكام، حتّى بلغ سؤاله إلى التَّوحيد. فقال أبو قرّة: إنّا روينا أنَّ الله قسّم الرُّؤية والكلام بين نبيَّيْن، فقسّم الكلام لِموسى ولِمحمّد الرُّؤية، فقال أبو الحسن عليه السلام: فَمَن المبلِّغ عن الله إلى الثّقلين من الجنّ والإنس: ﴿لا تُدركُه الأبصار وهو يُدرك الأبصار وهو اللّطيف الخبير﴾ الأنعام:103، ﴿يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً﴾ طه:110، ﴿..ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير﴾ الشورى:11، أليس محمَّد؟ قال: بلى، قال: كيف يجيءُ رجلٌ إلى الخَلق جميعاً فيخبرُهم أنّه جاء من عند الله بأمر الله فيقول: ﴿لا تدركه الأبصار..﴾ الأنعام:103  و﴿..لا يُحيطون به علماً﴾ طه:110 و﴿..ليس كمثله شيء..﴾ الشورى:11، ثمّ يقول: أنا رأيتُه بعيني وأَحطتُ به علماً وهو على صورة البشر؟ أمَا تَستحون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا؛ أن يكون يأتي من عند الله بشيء، ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر.
قال أبو قرّة: فإنّه يقول: ﴿ولقد رءاه نزلةً أخرى﴾ النجم:13، فقال أبو الحسن: إنّ بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: ﴿ما كذب الفؤاد ما رأى﴾ النجم:11، يقول: ما كذب فؤاد محمّد ما رأت عيناه، ثمّ أَخبر بما رأى، فقال: ﴿لقد رأى من ءايت ربه الكبرى﴾ النجم:18، فآيات الله غير الله، وقال: ﴿..لا يحيطون به علماً﴾ طه:11، فإذا رأتْهُ الأبصار فقد أحاط به العلم، ووقعت به المعرفة.
فقال أبو قرّة: فتكذّب بالرّوايات؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: إذا كانت الروايات مُخالِفة للقرآن كذّبتُها، وما أجمع المسلمون عليه أنَّه لا يُحاط به علماً، ولا تُدركه الأبصار، وليس كمثله شيء».

رابعاً: تحديد المُطلَق والمقيّد، كما في الرِّواية التالية:
عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديثٍ قال: «قلت له: قوله تعالى ﴿لا يحلّ لك النساء من بعد ولا أن تبدّل بهنّ من أزواج ولو أعجبك حُسنهُنّ إلّا ما ملكت يمينك وكان الله على كلّ شيءٍ رقيباً﴾ الأحزاب:52، فقال: إنَّما عَنَى النِّساء التي حرّم عليه في هذه الآية: ﴿حُرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمّهاتُكُم الّاتى أرضعْنكم وأخواتكم من الرّضاعة وأمهات نسآئكم التي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جُناح عليكم وحلائل أبنآئكم الّذين من أصلبكم وأن تجمعوا بين الأُختين إلاّ ما قد سلف إنّ الله كان غفوراً رحيماً﴾ النساء:23».

خامساً: تحديد ترتيب نزول الآيات، كما في الرِّواية التالية:
عن عبد الرحمن، قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله ﴿..ويسئلونك ماذا ينفقون قُل العفو..﴾ البقرة:219، قال: ﴿والذين إذآ أنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتُروا وكان بين ذلك قواماً﴾ الفرقان:67، نزلت هذه بعد هذه».

سادساً: تحديد الوجوه والنَّظائر، أي تحديد المعاني المختلفة لِمُفردة أو تركيب خاصّ، وتحديد المفردات والتراكيب المُترادفة وهو ما يدعى بالنَّظائر. وقد وَرَد عن أهل البيت عليهم السلام موارد عديدة حدّدوا فيها وجوهاً ونظائر في القرآن، منها الرّواية التالية في (عيون الأخبار)، في باب ذكر مجلس الرضا عليه السلام عند المأمون مع أهل الملل والمقالات، وما أجاب به علي بن الجَهم في عصمة الأنبياء، بإسناده إلى أبي الصَّلت الهروي، قال: جمع المأمون لعليّ بن موسى الرضا عليه السلام إلى أن حكى قوله عليه السلام: «وأمّا قوله: ﴿وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظنّ أن لن نقدر عليه فنادى في الظّلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين﴾ الأنبياء:87، إنّما ظنّ به معنى استَيْقن أنَّ الله لن يُضيّق عليه رزقه. ألا تسمع قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وإذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهاننِ﴾ الفجر:16، أي ضيّق عليه رزقه، ولو ظنّ أنَّ الله لا يَقدِر عليه لكان قد كَفَر».

ملاحظة في منهج تفسير القرآن بالقرآن

إنّ استخدام هذا المنهج من قِبلَ أهل البيت عليهم السلام يكشف عن شرعيّته وأهميّته، وفي استخدامه إرشاد للعلماء لاستخدامه لغرض تفسير الكتاب. غاية ما في الأمر أنَّه نال شيئاً من التطرُّف، بحيث استغنى به البعض عن التفسير بالمأثور أو الرِّوايات.
تبعاً لهذا، فإنَّ من المناهج التي استخدمها أهل البيت عليهم السلام في تفسير القرآن هو منهج التفسير بالمأثور، وقد تمثّل هذا المنهج في الأمور التالية:
الأمر الأول: نقلَ الأئمّةُ عليهم السلام تفسيرَ بعضِ الآيات عن الرَّسول صلّى الله عليه وآله، وهذا النَّقل قد يكون من قبيل التَّفسير غير المباشر لبعض الآيات، كما في الرواية التالية:
عن سُلَيم بن القيس، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فحّاشٍ قليلِ الحياء، لا يبالي بما قال ولا بما قيل له، فإن فتّشتَه لم تَجِد إلَّا لغية أو شِركَ شيطان، قيل: يا رسول الله، وفي النّاس شِرك شيطان؟ فقال صلّى الله عليه وآله: أما تقرأ قول الله تعالى: ﴿واستفزِز من استطعت منهم وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلّا غروراً﴾ الإسراء:64».
وقد يكون من قبيل استنادٍ لبعض الأحاديث الواردة عن الرسول ذات الصّلة بتفسير الآية، من قبيل الرواية التالية: «".." ونزلت ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولىِ الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فرُدّوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً﴾ النساء:59، ونزلت في عليٍّ والحسن والحسين عليهم السلام: فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله في عليٍّ عليه السلام: مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه، وقال: أوصيكُم بكتاب الله وأهل بيتي، فإني سألت الله عزَّ وجلَّ أن لا يفرِّق بينهما حتى يُوردَهما عليَّ الحوض، فأعطاني ذلك، وقال: لا تعلِّموهم فهم أعلمُ منكم..» .
الأمر الثاني: نقلَ كلٌّ منهم التفسير عن مَن سبقه من أئمّة أهل البيت عليهم السلام، كما جاء ذلك في الرواية التالية:
عن عمرو بن شمر، عن الصادق عليه السلام، عن أبيه، قال: «قال عليّ بن الحسين في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿..فاصفح الصّفح الجميل﴾ الحجر:85، قال العفو من غير عتاب».
الأمر الثالث: لم يَرِدنا عن أهل البيت عليهم السلام نقلهم تفسيراً عن أحد الصَّحابة، رغم أنَّه وردنا عنهم النَّقل عن الصَّحابة في أمورٍ غير التَّفسير.

مصداقيّة التفسير بالمأثور لدى أهل البيت عليهم السلام

إنَّ استخدام هذا المنهج في التفسير من قِبَل أهل البيت يكشف –من دون شكّ- عن مصداقيّة وصحّة هذا المنهج، وإلّا لَما استخدموه.
هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر فإنّ منهج التفسير بالمأثور منهج دارج في التفسير عموماً ويقرّ به جميع المفسِّرين، إلَّا أنَّ تلمُّذ الإمام عليّ عليه السلام على يد الرسول صلّى الله عليه وآله أَضْفى على هذا المنهج الوارد عن أهل البيت مصداقيّة أكبر؛ فإنّ الكثير ممّا ورد عن الإمام عليّ عليه السلام لا بدّ من أن يكون قد تلقّاه عن الرسول صلّى الله عليه وآله، كما أنّ كُلّاً من الأئِمّة اللاّحقين تلقّى تفسيره وعِلمه عمّن سبقه من الأئمّة. هذا مضافاً إلى أنّ إقرار الأئمّة في الحديث المعروف: «إنّا إذا حدّثْنا قلنا: قال الله عزَّ وجلَّ وقال رسول الله». هذا الإقرار يعني أنَّهم ينقلون في أحاديثهم عن الرَّسول، حتى ما كانت تفسيراً للقرآن، كما يعني أنّ تفسيرهم -حتّى ما كان محذوف الإسناد عن الرَّسول– هو تفسيرٌ عن الرَّسول صلّى الله عليه وآله في النهاية.

* أستاذ في الحوزة العلمية، وباحث إسلامي من العراق

اخبار مرتبطة

  الصورة الملكوتيّة

الصورة الملكوتيّة

  دوريات

دوريات

27/08/2011

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات