الملف

الملف

14/07/2018

أخلاقيات الحوار في الإسلام


أخلاقيات الحوار في الإسلام

مبدأ التراحم الخلّاق في عالم الاختلاف

_____ العياشي الدراوي* _____

برهنت الثقافة العربية الإسلامية على قدرة لافتة على الإنصات إلى الآخر، والانتهال من منجزات الحضارات الأخرى. وهذا يعود إلى الحضور العميق والراسخ للخطاب الإلهي وللحديث الشريف والتوجيه النبويّ في ثقافة الأمّة. حيث إنّ الدعوة الإلهية عبر النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله إلى التراحم والدفع الأحسن هي أساس وجوهر البعثة النبوية الشريفة، كما في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ».

هذه المقالة للباحث الإسلامي المغربي د. العياشي الدراوي تتناول البعد الأخلاقي والعقائدي لثقافة الحوار في الإسلام.

«شعائر»

لو عدنا إلى تاريخ صدر الإسلام وإلى ثقافته يتّضح أنّ تفعيل هذه القيم والمبادئ كان سائداً في التعايش الحضاري بين المسلمين وبين غيرهم، وأنّ تواصل الحوار بينهم في المعتقد والفكر ظلّ يوجّه العلاقات بينهم وبين الشعوب والأمم التي جاوروها، أو بسطوا سلطانهم عليها؛ ذلك أنّ المسلمين استطاعوا أن يؤسّسوا حضارة استظلّ بفيئها النصارى واليهود والمجوس وسواهم، واندمجوا في مؤسساتها، وتعاونوا مع المسلمين في تسيير عجلاتها، واستطاعوا أن يجعلوا من التعاون وقبول الاختلاف في العقيدة والثقافة ركائز للاستقرار العام.

ومن مظاهر ذلك، بقاء أهل الديانات المختلفة في المجتمعات المفتوحة؛ كالنصارى واليهود والمجوس على عقائدهم، باستمرار معابدهم. ولو كان المسلمون خلال حكمهم قد استأصلوا هؤلاء وقضوا على عقائدهم، من باب التعصب والإقصاء، لما كان قد بقي لهم اليوم أي أثر في بلدانهم.

وبهذا جسّد المسلمون في عصورهم الذهبية أفضل تجسيدٍ سماحة الإسلام، ووسطيته، وقيامه على العقل المستنير، الذي لم يجد حرجاً في قبول المخالف والتعايش معه دونما تعالٍ ولا استكبار. وبفضل هذه الروح العقلانية والنقدية البناءة، ظهر على يد علماء المسلمين نوع من التأليف والدراسة يتعلق بالحوار بين الأديان، عن طريق المناظرات والجدل العقلي، هدفه الإقناع والاقتناع، والعمل بدعوة القرآن إلى سبيل الحق والحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.

وإذا كان القرآن الكريم كما هو معلوم قد بنى دعوته للحوار على الإقرار بصدق الرسالات السماوية السابقة، وعلى دعوة أهلها إلى كلمة سواء، وعلى طلب الحق وتحصيل العلم به، ونبذ التقليد الأعمى، فقد فتح الباب على مصراعيه أمام المسلمين للتعايش مع الأمم ذوات الحضارات والأديان السماوية، وعلى توخي المقاصد الإنسانية المشتركة، والأخذ بالأفضل في عمار الأرض، وتحقيق العدل بين البشر، وهذا ما فعله المسلمون مع سائر الثقافات والحضارات التي اطلعوا عليها.

التراحم في عالم الاختلاف

وعلى هذا الأساس، فإنّ من أولى مقتضيات تحديد طبيعة العلاقة بين (الأنا) و(الآخر) وفق الرؤية الإسلامية، إعادة النظر في مفهوم الآخر وتمثلاته في العقل المسلم، من جهة، ومن جهة أخرى إعادة تقويم وعي الذات بذاتها بعيداً عن منطق المركزية الدينية والتفوق الثقافي والحضاري .

لقد جاء الدين الإسلامي رحمة للعالمين: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾؛ لذا فهو خطاب لكلّ الناس على اختلاف اجناسهم وألسنتهم وألوانهم وانتماءاتهم، يدعوهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة، لكن مع وجود هذه الدعوة ترك لهم الحرية في الاختيار، بحيث يؤمن مَن يؤمن به عن إرادة حرة، ويجحد به من يجحد عن تلك الإرادة أيضاً، من دون أن يُكره عليه؛ ما يعني أنّ الاعتقاد بدين من الأديان لا يمكن أن يتم على أساس الإجبار والإكراه، ولا تحت السلطة والعنف، لقوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ.. البقرة:256، وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ يونس:99. وبهذا سوف يؤول الأمر إلى صنفين من الناس، صنف يتّخذ من الإسلام ديناً له، وصنف يتّخذ له أدياناً أخرى، أو يختار ألّا يكون له أيّ دين.

ومن الركائز الأساسية التي يتأـسس عليها التعريف بالدين الإسلامي والدعوة إليه، الحوار مع المختلفين؛ ذلك أن الدعوة ليست عرضا جافاً يقتضي القبول أو الرفض في صمت، وإنما هي «دعوة حوارية تفاعلية» تقوم على الاستفسار والاستدلال، والقبول والرد، وما شابه ليكون الأمر تدافعاً في الرأي ومقارعة بالحجة، حتى تستبين الحقيقة لمن يطلبها ويبتغيها، فلا يكون تضلل ولا خداع ولا تلبيس، ولينتهي الأمر إلى قبول عن قناعة أو رفض عن قناعة كذلك. وعندما يأخذ كلٌّ الموقع الذي ارتضاه عن إرادة وحرية، فإنّ الحوار لا ينقطع بين الجانبين، وإنما يستأنف على مستوى آخر هو مستوى التعاون فيما هو مشترك من الأمور المرتبطة بخدمة مصلحة الإنسان وتحقيق منفعته، بصرف النظر عن دينه ومعتقده؛ وهو حوار موّه بقواعد تقوم على الاعتراف بالآخر واحترامه، وعلى صيانة كرامته الإنسانية من أن ينالها التحقير والتبخيس، أو أي ضرب من ضروب الانتهاك؛ إن معنوياً أم مادياً .

وغنيّ عن البيان في هذا السياق أنّ «التعارف»؛ باعتباره مسلكاً كونياً، يتأسس في محدداته المعرفية الأولى على عنوان «وحدة الإنسانية». وهذا المبدأ يشتق ويستمد قيمته من المبدأ الأعلى؛ أي «وحدانية الله سبحانه» باعتباره المبدأ والغاية في الوقت نفسه؛ فأن تكون موحِّداً معناه أنك تعيش وضوح الرؤية في تصوّرك عن الكون والحياة، وما دامت الوحدانية صفة الله  عزّ وجلّ،  وهو سبحانه الخالق، فلا بدّ أن تمتد صفة الوحدة الإلهية إلى كل البشر؛ لأنهم من خلقه. وتأسيساً على هذا، فالإسلام من حيث هو دينٌ كونيٌّ، ومن حيث هو أسبق من غيره من المذاهب والنحل في الدعوة إلى العيش معاً، هو من عنده المقدرة التركيبية وإعادة المعنى والتدبير المعرفي لضوابط تدبير الاختلاف؛ لأن العناصر الوضعية والاصطفاءات الحصرية معوّقات لتشكُّل التعارف في عالم اليوم، ومدعاة للتصادم والتنابذ.

ومعنى هذا أنّ سلوك مسلك التعارف؛ كما رسمه الدين الإسلامي وحدّده، يقتضي ضوابط محددة، وشروطاً مخصوصة، بوجودها يتحقّق المقصد العام منه، وبغيابها يختلّ الفعل بأسره؛ ذلك أنّ التعارف المبني على التواصل والتعاون الذي تنشده الرؤية الإسلامية من العلاقة مع الآخر، يتعين أن يكون منضبطاً بمقتضيات قيم العدالة والمساواة والأخوة الإنسانية والحرية والوفاء بالعهود والالتزامات، وبالتالي، فإنّ أيّ إخلال بهذه القيم هو حكم ببطلان هذه العلاقة وفقدانها الشرعية الإلهية والمصداقية الإنسانية؛ لأنّ القيم في النظرية الإسلامية لا تتجزّأ، ولا ينفي بعضها بعضاً. وإنما هي بمثابة منظومة تتفاعل عناصرها مجتمعة ويؤثر كل عنصر ضمنها في بقية العناصر، مثلما يتأثر هو بها.

فمثلاً، يتعذر التعارف ويستحيل في ظل النفسية المتوجّسة من الآخر والناظرة إليه بعين الدونية والاحتقار، فليس يقدر على التعارف مَن ظنّ نفسه الأفضل، أو ليس للحياة أنموذج أسلم ولا أكمل من طريقته هو؛ فيمتنع السلوك الإيجابي المتجاوب، وتتحول دواعي الاجتماع الكوني الإنساني إلى أسباب الافتراق والتباعد. وتبعاً لهذا، فإنّ من الضوابط الأساسية التي تعمل على توليد التعارف السليم المتوازن وتوطيده، إزالة الخوف من الآخر، ومحاولة معرفة ذاتيته في سياق الوحدوية العالمية، فضلاً عن تقاسم شرطيات الالتقاء والتذكير بها باستمرار على قاعدة السلم والسلام، والاعتقاد بأنّ مخزون البشرية قيمياً ليس محصوراً في نطاق أرضي واحد، وإنّما هو مبثوث موزّع في جنبات الوجود العرضية جميعها.  الأمر الذي من شأنه أن يخلق التحول الإنساني إلى الكونية، بديلاً عن الموضعية والوضعية، فتتكوّن لدى الإنسان نظرية وجود مرتبطة بالله سبحانه، بوصفه خالقاً ومصدراً للكتاب والحكمة، فتتشكل عقلية الإنسان وأخلاقياته في ضوء هذا الارتباط الإلهي. ومن ثمة يترفّع هذا الإنسان عن نزعته الغريزية البهيمية الدونية العابرة، ويصير مرتبطاً بمنظومة إلهية من القيم، هي نقيض التعالي في الأرض والإفساد فيها، مهما كانت المبررات النفعية، ونزعتها غير الأخلاقية، وتمركزها حول الذات الفردية.

وعلى خلاف هذا، فإن التوجّس والنظر بريبة إلى المخالف، يُبقي روح الضغينة كامنة في الذات متربصة بها، فيعاق التعارف ويُمنع؛ لأنّ كلّ طرف يتبين الفرصة ليجهز على الآخر، موجهاً في ذلك بعقلية اقصائية ومنطق إلغائي، وهنا يتكوّن العنف من حيث طبيعته من ثلاث تجليات: كراهية، وتهميش، وحذف للآخر؛ كفكرة كمونية شيطانية أنا خير منه تتطوّر إلى التصرّف باللسان، بعدم اعتماد الخطاب الإنساني، من الهمز واللمز والاحتقار والسخرية والتنابز بالألقاب، وتنتهي باليد والسلاح لأذيّة الآخر وإلغائه، لتصل في تصعيدها الأعلى وجرعتها القصوى، إلى التصفية الجسدية، وإلغاء جحوده المادي والمعنوي معاً.

 

* باحث ومفكر من المغرب

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

14/07/2018

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات