فكر ونظر

فكر ونظر

12/09/2018

كربلاء، ومتاهات النفس البشرية

 

 

كربلاء، ومتاهات النفس البشرية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشيخ حسين كوراني* ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

كربلاء... ساحتُها النفس البشرية، والنفس كوفيةٌ إلّا ما رحِم ربّي.... ويناسب الوقوف على مشارف الكوفة ومشاهدها الفاعلة في صلب التاريخ والقلوب، التوفّر السريع على حقيقة الظاهرة الكوفية.

من أسوأ ألوان التسطيح الاكتفاء بالحديث عن الغدر الكوفيّ، وكأنّ الكوفة من كوكب آخر. ولا شكّ إطلاقاً في أنّ «عروق الكوفيّين قد وَشجتْ على الغدر»، كما ورد في كلام سيّد الشهداء عليه السلام، ولكن السؤالين المركزيَّين:

1) لماذا وشجت على الغدر هذه العروق؟

2) وهل يمكن أن يُبتلى غير الكوفيّ جغرافياً بذات المصير الكوفيّ؟

وكما لا يمكن التأريخ للكوفة بمعزل عن (نهج البلاغة)، فكذلك لا يمكن تحليل الظاهرة الكوفية إلّا في ضوئه، ليقود القلوب إلى كتاب الله تعالى وحديث المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله، فإنّ خطب الأمير عليه السلام التي حلّلت النفسية الكوفية، المصدر الأول لكلّ مقاربة لما جرى في هذه البقعة من أحداث جِسام، لم تقتصر أضرارها الفادحة على المسلمين وسائر الناس في ذلك العصر، بل تجاوزته إلى فادح الإضرار بمصائر العالمين إلى يوم القيامة.

في إحدى هذه الخطب يقول عليه السلام:

«قد استنفرتُكُم فلم تَنفِروا، ونَصحتُ لكُم فلم تَقبَلوا، فأنتُم شُهودٌ كَغُيّاب، وصمٌّ ذوو أسماع، أَتلو عليكُم الحكمةَ، وأَعِظُكُم بِالموعِظَةِ الحَسَنة، وأَحثُّكُم على جهادِ عدوِّكُم الباغين، فمَا آتي على آخِرِ مَنطِقي حتّى أراكُم مُتفّرِّقينَ أيادي سبأ، فإذا أنا كففتُ عنكُم عُدتُم إلى مجالِسِكم حلقاً عِزِين تَضربونَ الأمثال، وتَتناشَدون الأشعارَ، وتَسألونَ عن الأخبار، قد نَسيتُم الاستعدادَ للحربِ، وشَغلتُم قلوبَكُم بِالأباطيل، تَرِبَتْ أَيدِيكُم، أُغزوا القومَ قبلَ أن يَغزوكمُ، فواللهِ ما غُزِيَ قومٌ قطّ في عقرِ ديارِهِم إلّا ذَلُّوا، وأيْمُ اللهِ ما أراكُم تَفعلونَ حتّى يفعلوا، ولَوَددتُ أنّي لَقيتُهم على نيّتي وبصيرتي، فاستَرحتُ من مُقاساتِكُم..». (الغارات للثّقفي: 2/494)

ويقف عليه السلام بالأجيال على مكامن النفس الكوفية، فيقول:

" يا أهلَ الكُوفةِ، مُنِيتُ مِنكُم بِثلاثٍ واثنَتَينِ: صُمٌّ ذَوُو أَسماعٍ، وبُكْمٌ ذَوُو كَلامٍ، وعُمْيٌ ذَوُو أبصارٍ، لا أَحرارُ صِدقٍ عندَ اللّقاءِ، ولا إِخوانُ ثِقَةٍ عندَ البَلاءِ. تَرِبَتْ أَيدِيكُم! يا أَشباهَ الإِبِلِ غابَ عَنها رُعاتُها! كلّما جُمِعَتْ مِن جانبٍ تفَرّقَتْ من آخَر». (نهج البلاغة: خ 97، تحقيق صالح)

والتفريق بين الثلاث والاثنين تفريقٌ -إن شئتَ- بين الباطن والظاهر، بين ما عُقد عليه القلب المَرتكِس، وبين ما ترجَمَته الجوارح في الفعل والسلوك. أو فقل: إنّه تفريق بين السبب والمسبّب، لا فرق. فالصَّمم والبكم والعمى يفرغ الشخصية من مكارم الأخلاق المحمّدية، فإذا بها تشبه الأنعام بل أضلّ سبيلاً....

وتلك هي مشكلة الكوفة، ذلك المخيّم البدوي المترامي الأطراف، الذي وُفِّق أهلُه لجهادٍ لم يوفَّق له غيرهم، وصُبَّت عليه الدنيا صبّاً، ولم يرافق ذلك الحذرُ من سوء العاقبة والمنقلب.

وبمقدار ما امتازت الكوفة على غيرها من الحواضر بسابقة الجهاد الذي لم يقترن بالتزكية، امتازت بالتلوّن والتبدّل: إفراطاً في الإقدام، وإفراطاً في النكوص على الأعقاب. وقد كان وما يزال في كلّ حاضرة بعض السقوط الكوفيّ المدوّي، بل في كلّ نفسٍ إلّا ما رحم ربّي.

كانت حدود الكوفة وما تزال، حدود النفس البشرية، تُقبل على الهدى بِكلّها، ثمّ تعرض عنه بِكلّها، وهي تحسب أنّها تُحسن صنعاً، فقد تملّكها الغرور رويداً رويداً، ركوناً منها إلى إنّما أُوتيتْه على علمٍ عندها، فيخسف الله تعالى بها وبدارها الأرض.

ولم يكن ذلك ممكناً لولا المال الذي فتك بتلك القمم المجاهدة، فأوردها أودية الشيطان، فإذا الموقف رهن مَن يملأ الغرائر، ويُعظِم الرشوة. وبئس الورد المورود. سقط الكوفيّون في الامتحان الكربلائي، يوم غادروا بساطة العيش والقناعة، وتقطّعت أشلاء إيمانهم المستعار يوم كربلاء.

فليحذرِ القلبُ المجاهد من سوء المصير الكوفيّ الذي لا يستثني أحداً: إلّا من رحم رّبي. إنّه وليُّ الإحسان والنّعَم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* في محراب كربلاء: قراءة في التأسيس

 

كربلاء..والتكليف الشرعي

عندما تكون القيَم في خطر، ويتمّ تجاوز حدودها وطمس معالمها واقتحام مواقعها، ما هو حكم الرجل، والمرأة، والشابّ، والطفل؟

كانت للناس في زمن سيّد الشهداء مصالحهم ودنياهم وأُسَرهم، وكانوا يحبّون السلامة والدّعة. وكانت القيَم في خطر.. منهم مَن وقف مع التكليف، وهم الأقليّة، ومنهم مَن وقف ضدّ التكليف مع الهوى، وهم الأكثريّة.

خلقَ اللهُ الإنسان مختاراً.. يمكنه أن يكون تجلّياً للحقيقة بكلّ قيَمها.. ويمكنه أن يكون تجسيداً للباطل بكلّ متاهاته.. فالإنسان أبداً أمام مدرستَين: مدرسة القيم ومدرسة الأهواء، مدرسة العقل ومدرسة الغرائز، وهما: نَجْد الخير ونجد الشر..

وبديهيّ أن يتوقّف نجاح الإنسان في امتحان الاختيار على وضع الحقيقة في متناوله على مستويين:

الأوّل: بيان الحقائق..أي شرح القيَم وتفسيرها وتقديمها ضمن رؤية شاملة.

والثاني: تحديد معالمها التي إذا تمّ تجاوزها، يكون الإنسان قد تجاوز حدوده، وأضرّ بالقيَم..

الأوّل هو الرؤية التوحيدية للكون، والثاني هو الأحكام الشرعية.

يقع التكليف الشرعي في حياتنا عادةً على الهامش، وتلحّ علينا كربلاء، أن ندرك أنّ موقع التكليف الشرعيّ هو متن الحياة. ليست الشهادة إلّا تكليفاً شرعياً بتقديم الحياة الفردية في سبيل الله، لينعم المجتمع بالحياة في ظل التكليف الشرعيّ، أي في ظلّ حدود الله تعالى. وقد تكون هذه الحياة الفردية حياة المعصوم. وما أدراك ما المعصوم؟ وهذا يكشف بوضوح أنّ موقع التكليف الإلهيّ أسمى من كلّ الأشخاص مهما كانت عظمتهم..

من هنا ينبغي أن يكون المدخل إلى علاقة صحيحة بسيّد الشهداء عليه السلام. لقد استُشهد من أجل دين الله، ودين الله في البُعد العمليّ هو هذه التكاليف الشرعية التي هي الواجب والحرام والمستحبّ والمكروه والمباح، ومحال أن تُبنى علاقة بشهيد التكليف الإلهيّ الشرعيّ، على أنقاض التكاليف.

محال أن تُبنى علاقة بالحسين عليه السلام، مع الإمعان في التعدّي على حدود الله تعالى.

إنّ في كلّ تكليف شرعيّ رشّة من دماء الحسين، وليس ذبْح الحكم الشرعيّ على مذبح الهوى والشهوات إلّا فعلاً يزيدياً، يجعل صاحبه في عداد من شَرك في دم الحسين عليه السلام.

مقياس القُرب من الحسين مدى الالتزام بالتكاليف الشرعية. وبمقدار ما يكون تجاوزها والتعدّي على حدود الله، يكون البُعد عن سيّد الشهداء عليه السلام.

 

 

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

12/09/2018

دوريات

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

نفحات