الملف

الملف

09/10/2018

حوادث ما بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام

 

حوادث ما بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام

اقرأ في الملف

 

استهلال

دعاء سيّد الشهداء يوم عاشوراء

آثار النهضة الحسينيّة

الإمام الخميني قدّس سرّه

الآيات الكونية بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام

الحافظ ابن عساكر

قراءة في نتائج ثورة الإمام الحسين عليه السلام

العلّامة الشيخ شمس الدين

شرح خطبة السيدة زينب عليها السلام

العلامة السيّد محمّد كاظم القزويني

في محراب وارثِ وارث الأنبياء

المحقّق السيد محمد رضا الجلالي

الوقائع المتصلة بشهادة الإمام الحسين عليه السلام

الشيخ حسين كَوْراني

 

 

استهلال

 

عن الامام زين العابدين عليه السلام، قال: ضمني والدي عليه السلام إلى‌ صدره يوم قتل والدماء تغلي وهو يقول: «يا بني احفظ عني دعاء علمتنيه فاطمة عليها السلام، وعلمها رسول الله صلّى ‌الله عليه وآله وسلّم، وعلمه جبرائيل عليه السلام، في الحاجة والمهم والغم والنازلة إذا نزلت والأمر العظيم الفادح، قال ادعُ:

بِحَقِّ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، وَبِحَقِّ طه وَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، يَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى حَوَائِجِ السَّائِلِينَ، يَا مَنْ يَعْلَمُ مَا فِي الضَّمِيرِ، يَا مُنَفِّساً عَنِ الْمَكْرُوبِينَ، يَا مُفَرِّجاً عَنِ الْمَغْمُومِينَ، يَا رَاحِمَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ يَا رَازِقَ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ، يَا مَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّفْسِيرِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ وَ افْعَلْ بِي كذا وكذا».

دعوات الراوندي: ص 54

آثار النهضة الحسينيّة

أسرُ «آل الله» أزاحَ السفيانيّين عن مسرح التاريخ

  • الإمام الخميني قدّس سرّه

 * «كلّ ما لدينا هو من عاشوراء ومن هذه المجالس الحسينية»، كلمة لخّص بها قائد نهضة المستضعفين في هذا العصر الإمام روح الله الموسوي الخمينيّ قدّس سرّه، رؤيته لوقعة الطفّ، بأنّ الدماء الزكية التي أُريقت على أرضها بعثت الحياة في الأمّة الإسلامية، وقد تجلّى ذلك في محطّات التاريخ المختلفة التي تلت الواقعة المفجعة إلى يومنا هذا.

في ما يلي مقتطفات من كلمات للإمام الراحل يبيّن من خلالها نتائج  نهضة عاشوراء، نوردها نقلاً عن كتاب (عاشوراء في فكر الإمام الخميني)، من إصدارات «جمعية المعارف الإسلامية الثقافية» في لبنان.

«شعائر»

1) صون الإسلام بالنهضة الحسينيّة:

* «إنّ الّذي صان الإسلام وأبقاه حيّاً حتّى وصل إلينا نحن المجتمعين هنا، هو الإمام الحسين عليه السلام».

* «لولا نهضة الحسين عليه السلام، لتمكّن يزيد وأتباعه من عرض الإسلام مقلوباً للناس».

2) إحياء الإسلام بمحرّم:

* «إنّ شهادة سيّد الشهداء عليه السلام أحيتِ الدِّين، لقد استُشهد هو وأحيا الإسلام، ودفن النظام الطاغوتيّ لمعاوية وابنه يزيد».

* «ورد في الرواية أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: (حسينٌ منّي وأنا من حسين)، ومعنى ذلك أنّ الحسين عليه السلام، سيكون امتداداً لي، ويحيا الدِّين الّذي أُرسلتُ به على يديه، كلّ هذا من بركات شهادته».

* «لقد ضحّى الإمام الحسين عليه السلام، بنفسه وبجميع أبنائه وأقربائه، فقوّى الإسلام بشهادته».

* «..إرادة الله تبارك وتعالى شاءت -وما تزال- أن يُخَلَّد الإسلام المنقذ للشعوب والقرآن الهادي لها، وأن تُحييه دماء شهداء من أمثال أبناء الوحي، وتصونه من أذى الدهر، منذ بعث الحسين بن عليّ عليه السلام -عصارة النبوّة وتذكار الولاية- كي يُضحّي بنفسه وبأرواح أعزّته فداء لعقيدته، ومن أجل أمّة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم العظيمة، كي تبقى دماؤه الطاهرة تغلي على امتداد التاريخ، وتجري دفّاقةً لتروي شجرة دين الله، وتصون الوحي، وتحفظ معالم الدِّين».

3) منع الارتداد إلى الجاهليّة:

* «لولا سيّد الشهداء عليه السلام، لاستطاع هؤلاء تقوية نظامهم الطاغوتيّ وتدعيمه، ولأعادوا الوضع إلى ما كان عليه في الجاهليّة، لولا هذه الثورة المباركة لكنّا أنا وأنتم الآن مسلمين من النوع الطاغوتيّ، لا على النهج الحسينيّ... لقد أنقذ الإمام الحسين عليه السلام الإسلام».

* «..لولا عاشوراء لسيطر المنطق الجاهليّ لأمثال أبي سفيان..».

4) بثّ روح التضحية وعدم الخوف:

* «لقد أفهمنا سيّد الشهداء عليه السلام، وأهل بيته وأصحابه أنّ على النساء والرجال ألّا يخافوا في مواجهة حكومة الجَور، فقد وقفت زينب عليها السلام في مقابل يزيد وفي مجلسه، وصرخت بوجهه وأهانته، وأشبعته تحقيراً لم يتعرّض له جميع بني أميّة في حياتهم؛ كما أنّها عليها السلام، والسجّاد عليه السلام، تحدّثا وخطبا في الناس أثناء الطريق وفي الكوفة والشام، فقد ارتقى الإمام السجّاد عليه السلام المنبر وأوضح حقيقة القضيّة، وأكّد أنّ الأمر ليس قياماً لأتباع الباطل بوجه الحقّ، وأشار إلى أنّ الأعداء قد شوّهوا سمعتهم وحاولوا أن يتّهموا الحسين عليه السلام، بالخروج على الحكومة القائمة وعلى خليفة رسول الله!! لقد أعلن الإمام السجّاد الحقيقة بصراحة على رؤوس الأشهاد، وهكذا فعلت زينب عليها السلام أيضاً».

5) حفظ القرآن وجهود النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم:

* «لو لم تكن عاشوراء، ولولا تضحيات آل الرسول، لتمكّن طواغيت ذلك العصر من تضييع آثار بعثة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجهوده الشاقّة، ولولا عاشوراء لسيطر المنطق الجاهليّ لأمثال أبي سفيان الّذين أرادوا القضاء على الوحي والكتاب، فقد هدفَ يزيد -حثالة عصر الوثنيّة والجاهليّة المظلم- إلى استئصال جذور الحكومة الإلهيّة ظنّاً منه أنّه يستطيع، بواسطة تعريض أبناء الوحي للقتل والشهادة، أن يضرب أساس الإسلام، فقد كان يُعلن صراحة: (لا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل)..».

* «لولا تضحيات حرّاس الإسلام العظماء، واستشهاد أنصار أبي عبد الله عليه السلام البطوليّ، لشُوّهت صورة الإسلام على يد بني أميّة من جرّاء تعسُّفهم وبطشهم، ولذهبت جهود النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأصحابه المضحّين أدراج الرياح».

6) بيان التكليف وأساليب المواجهة:

* «لقد علّم سيّد الشهداء عليه السلام، الجميع ماذا ينبغي عليهم عمله في مقابل الظلم، والحكومات الجائرة..».

* «..لقد حدّد سيّد الشهداء عليه السلام، وأنصاره وأهل بيته تكليفنا؛ وهو التضحية في الميدان، والتبليغ في خارجه».

7) انتصار الدم على السيف:

* «..سيّد الشهداء عليه السلام قُتل أيضاً، ولكن هل هُزم؟ كلّا فلواؤه اليوم مرفرف خفّاق، في حين لم يبقَ ليزيد أثرٌ يُذكر».

* «..إنّ الشهادة المأساويّة والأسر الّذي تعرّض له آلُ الله، عرّضت عروش اليزيديّين وسلطتهم -الّتي أرادت محو أساس الوصيّ باسم الإسلام- إلى الفناء، وأزاحت السفيانيّين عن مسرح التاريخ إلى الأبد».

* «إنّ ما أوصل سيّد الشهداء عليه السلام، إلى ذلك المصير هو الدِّين والعقيدة، وقد ضحّى عليه السلام بكلّ شيء من أجل العقيدة والإيمان، وكانت النتيجة أن قُتل وهزمَ عدّوَه بدمه».

* «صحيح أنّ سيّد الشهداء قُتل، لكنّه لم يُهزم ولم يندحر، بل إنّه ألحق الهزيمة النكراء ببني أميّة؛ بحيث إنّه سلبهم القدرة على فعل أيّ شيء حتّى النهاية. لقد انتصر الدمُ على السيف..».

8) انتصار النهج:

* «لقد قُتل سيّد الشهداء، لكنّ نهجه ومدرسته ظلّت خالدة..».

* «يُعدّ شهر محرّم -بالنسبة لمدرسة التشيُّع- الشهر الّذي تحقّق فيه النصر اعتماداً على التضحية والدماء».

 

حتّى ظَننّا أنها هي!

الآيات الكونية بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام

  • الحافظ ابن عساكر*

* خلف بن خليفة عن أبيه، قال: «لمّا قُتل الحسين اسودّت السماء وظهرت الكواكب نهاراً، حتى رأيتُ الجوزاء عند العصر، وسقط التراب الأحمر».

* عن عليّ بن مسهر عن جدّته، قالت: «لمّا قُتل الحسين كنت جارية شابّة، فمكثَتِ السماء سبعة أيام بلياليها كأنّها علَقة».

*  خلّاد  -صاحب السمسم، قال: «حدّثتني أمّي، قالت: كنّا زماناً بعد مقتل الحسين، وإنّ الشمس تطلع محمرّة على الحيطان والجُدر بالغداة والعشيّ، قالت: وكانوا لا يرفعون حجراً إلّا وُجد تحته دم».

* الأسود بن قيس، قال: «احمرّت آفاق السماء بعد قتل الحسين ستّة أشهر، يُرى ذلك في آفاق السماء كأنّها الدم».

 *  عن عيسى بن الحارث الكندي، قال: «لمّا قُتل الحسين مكثنا سبعة أيّام إذا صلّينا العصر، فنظرنا إلى الشمس على أطراف الحيطان كأنّها الملاحف المَعصْفرة، ونظرنا إلى الكواكب يضرب بعضها بعضاً».

 *  عن  أبي قبيل، قال: «لمّا قُتل الحسين بن عليّ، كُسفت الشمس كسفةً بدت الكواكب نصف النهار، حتى ظننّا أنها هي». [أي القيامة]

 * عن محمّد بن سيرين، قال: «لم تكن تُرى الحمرة في السماء حتّى قُتل الحسين بن عليّ».

* جعفر بن سليمان، قال: «حدثتني خالتي أم سالم، قالت: لمّا قُتل الحسين بن عليّ، مُطرنا مطراً كالدم على البيوت والجدر. قال: وبلغني أنّه كان بخراسان والشام والكوفة».

*  عن بوّاب عبيد الله بن زياد: «أنّه لما جِيَء برأس الحسين، فوُضع بين يديه، رأيتُ حيطان دار الإمارة تسايل دماً».

* عن زيد بن عمرو الكنديّ، قال: «حدّثتني أم حيّان، قالت: يوم قُتل الحسين أظلمت علينا ثلاثاً، ولم يمسّ أحدٌ من زعفرانهم شيئاً فجعله على وجهه، إلّا احترق».

* عن يزيد بن أبي زياد، قال: «قُتل الحسين ولي أربع عشرة  سنة، وصار الورس [نبات يستخدم للصّباغ] الذي كان في عسكرهم رماداً، واحمرّت آفاق السماء، ونحروا ناقة في عسكرهم فكانوا يرون في لحمها النيران».

(تاريخ مدينة دمشق: 14/226)

 

ما كان في بيت المقدس صباحَ قُتل الحسين؟

في كتاب (مثير الغرام إلى زيارة القدس والشّام) للحافظ أحمد بن محمّد المقدسي الشافعي، المتوفّى سنة 765 للهجرة، قال:

«قال ابن شهاب الزهريّ: ..قدمتُ دمشق وأنا أريد الغَزو، فأتيتُ عبد الملك بن مروان لأسلّمَ عليه. فوجدتُه في قبّةٍ على فرش يفوق القايم، والناس تحته سِماطان، فسلّمتُ وجلست، فقال: يا ابنَ شهاب، أتعلمُ ما كان في بيت المقدس صباحَ قُتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب؟

قلت: نعم. قال: هَلُمّ!

فقمتُ من وراء النّاس حتّى أتيتُ خلفَ القبّة، وحوّل وجهه فأحنى علَيّ، وقال: ما كان؟

فقلت: لم يُرفَع حجرٌ من بيت المقدس إلا وُجِدَ تحتَه دمٌ.

فقال عبد الملك: لم يبقَ أحدٌ يعلَمُ هذا غيري وغيرك، فلا يُسمَعَنَّ منك.

قال الزّهريّ: فما تحدّثتُ به حتّى تُوفِّي».

 

ارتسام الحدّ الفاصل بين الإسلام والحكم الأموي

قراءة في نتائج ثورة الإمام الحسين عليه السلام

  • العلّامة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين رحمه الله

 

* «إنّ فاجعة كربلاء دخلت في الضمير الإسلامي آنذاك، وانفعل بها المجتمع الإسلامي بصفة عامّة انفعالاً عميقاً. ولقد كان هذا كفيلاً بأن يبعث في الروح النضالية الهامدة جذوة جديدة، وأن يبعث في الضمير الشّلو هزّةً تُحييه، وأن يبعث في النفس ما يبعثها إلى الدّفاع عن كرامتها».

المقالة التالية ملخّص الفصل الأخير من كتاب (ثورة الحسين عليه السلام: ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية)، للعلّامة الراحل الشيخ محمّد مهدي شمس الدين.

«شعائر»

 

يمكننا أن نلتمس نتائج ثورة الحسين عليه ‌السلام في الميادين التالية:

1) تحطيم الإطار الديني المزيّف:

لقد استغل الأمويّون الدِّين لإيهام رعاياهم أنّهم يحكمون بتفويضٍ إلهيّ، وأنّهم خلفاء رسول الله حقّاً، هادفين من وراء ذلك إلى أن يجعلوا من الثورة عليهم عملاً محظوراً وإن ظَلموا وجَوّعوا وشرّدوا المؤمنين، وأن يجعلوا لأنفسهم، باسم الدّين، الحقَّ في قمع أيّ تمرّد تقوم به جماعة من الناس، وإن كانت محقّة في طلباتها.

وقد استعانوا على ذلك بطائفة كبيرة من الأحاديث المكذوبة على النبيّ صلّى ‌الله ‌عليه‌ وآله، وقد وضعها ونسبها إلى النبيّ أولئك النفر من تجّار الدين، الذين كانوا يؤلّفون جهاز الدعاية عند معاوية بن أبي سفيان.

وقد كان حريّاً بهذه العقيدة -إذا عمّت جميع طبقات المجتمع، واستحكمت في أذهان الناس دون أن تُكافح، ودون أن يظهر في الناس مَنْ يفضح زيفها وبُعدها عن الدّين- أن تقضي تماماً على كلّ محاولة مقبلة يُراد منها تطوير الواقع الإسلامي، وتقويض أركان الحكم الفاسد الذي يُمارسه الأمويّون وأعوانهم.

لقد كان أضمن السُّبل لتحطيم هذا الإطار الديني، هو أن يثور عليه رجل ذو مركز ديني مُسَلَّم به عند الأمّة المسلمة بأسرها؛ فثورةُ مثل هذا الرجل كفيلة بأن تفضح الزخرف الدينيّ الذي يتظاهر به الحكّام الأمويّون، وأن تكشف هذا الحكم على حقيقته وجاهليّته وبُعده الكبير عن مفاهيم الإسلام. ولم يكن هذا الرجل إلّا الحسين عليه‌ السلام؛ فقد كان له في قلوب المسلمين جميعاً رصيدٌ من الحبّ والإجلال عظيم. وقد وضع موقفُ الأمويِّين من ثورة الحسين عليه‌ السلام خطّاً فاصلاً بين الدين الإسلامي والحكم الأموي، وأظهر هذا الحكم بمظهره الحقيقي، وكشف زيفَه.

2) الشعور بالإثم:

ما جرى على الإمام الحسين وأهل بيته وأنصاره أثار الشعورَ بالإثم في ضمير كلّ مسلمٍ استطاعَ نصرَه فلم ينصُره، وسمع واعيتَه فلم يُجبها. ولقد كان هذا الشعور أقوى ما يكون في ضمائر أولئك الذين كفّوا أيديهم عن نصره، بعد أن وعدوه النصر وعاهدوه على الثورة.

ولهذا الشعور بالإثم طرفان؛ فهو من جهة يحمل صاحبه على أن يكفّر عن إثمه الذي ارتكبه وجُرمه الذي قارفه، وهو من جهة أخرى يُثير في النفس مشاعرَ الحقد والكراهية لأولئك الذي دفعوا إلى ارتكاب الإثم.

وقد دفع الشعور بالإثم كثيراً من الجماعات الإسلاميّة إلى العمل للتكفير، وزادهم بغضاً للأمويِّين وحقداً عليهم. وكان التعبير الطبيعي للرغبة في التكفير وللحقد هو الثورة، وهكذا كان؛ فقد استُهدف الأمويّون بثوراتٍ أجّجها مصرعُ الحسين عليه‌ السلام، وكان باعثها التكفير عن القعود عن نصره، والرغبة في الانتقام من الأمويِّين.

3) الأخلاق الجديدة:

لقد قدّم الحسين عليه‌ السلام وآله وأصحابه -في ثورتهم على الحكم الأمويّ- الأخلاق الإسلاميّة العالية بكلّ صفاتها ونقائها، ولم يُقدّموا إلى المجتمع الإسلامي هذا اللون من الأخلاق بألسنتهم، وإنّما كتبوه بدمائهم وحياتهم.

لقد اعتاد الرجل العادي إذ ذاك أن يرى الزعيم القبلي أو الزعيم الديني يبيع ضميره بالمال، وبعرَض الحياة الدنيا. واعتاد أن يرى الجباه تعنو خضوعاً وخشوعاً لطاغيةٍ حقير، لمجرد أنّه يملك أن يَحرم من العطاء.

ولذلك فقد كان غريباً جدّاً على كثير من المسلمين آنذاك أن يروا إنساناً يُخيَّر بين حياة رافهة فيها الغنى وفيها المتعة، وفيها النفوذ والطاعة، ولكن فيها إلى جانب ذلك كلّه الخضوع لطاغية والإسهام معه في طغيانه، والمساومة على المبدأ والخيانة، وبين الموت عطشاً مع قتل الصفوة الخلّص من أصحابه وأولاده، وإخوته وأهل بيته جميعاً أمامه، ثمّ يختار هذا اللون الرهيب من الموت، على هذا اللون الرغيد من الحياة.

ولقد هزّ هذا اللون من الأخلاق، هذا اللون من السلوك الضميرَ المسلم هزّاً مُتداركاً، وأيقظه من سُباته المرَضيّ الطويل. 

4) انبعاث الروح الجهادية:

كانت الآفات النفسية والاجتماعيّة تحول بين الإنسان المسلم وبين أن يُناضل عن ذاته وعن إنسانيته، فجاءت ثورة الحسين عليه ‌السلام وحطّمت كلّ حاجز نفسي واجتماعي يقف في وجه الثورة.

كان الإطار الديني الذي أحاط به الأمويّون حكمَهم العفن الفاسد يحول بين الشعب وبين أن يثور، فجاءت ثورة الحسين عليه ‌السلام وحطّمت هذا الإطار وكشفت الحكم الأمويّ على حقيقته.

وكانت المُسلّمات الأخلاقية تحول بين الإنسان المسلم وبين أن يثور، كانت قوانينه الأخلاقية تقول له: حافظْ على ذاتك، حافظ على عطائك، حافظ على منزلتك الاجتماعيّة، فجاءت ثورة الحسين عليه ‌السلام، وقدّمت للإنسان المسلم أخلاقاً جديدة تقول له: لا تستسلم، لا تُساوم على إنسانيتك، ناضل قوى الشرّ ما وسعك، ضحِّ بكلّ شيء في سبيل مبدئك.

كان الرضى عن النفس يحول بينه وبين أن يثور، ويغريه بالقعود عن النضال. فجاءت ثورة الحسين عليه ‌السلام، وخلّفت في أعقابها لجماهير كثيرة شعوراً بالإثم، وتأنيباً للنفس وبرَماً بها، ورغبة عارمة في التكفير.

كانت كلّ هذه الأسباب تحول بين الناس وبين الثورة، فجاءت ثورة الحسين عليه ‌السلام، ونسفت هذه الأسباب كلّها، وأعدّت الناس إعداداً كاملاً للثورة.

 

 

لا تَطِشْ جهلاً!

شرح خطبة السيّدة زينب في مجلس يزيد

  • العلامة السيّد محمّد كاظم القزويني *

 

* ابتدأت السيدة زينب بنت أمير المؤمنين عليهما السلام خطبتها في مجلس يزيد، بأنْ عرّفت نفسها للحاضرين، وانتسبت إلى جدّها رسول الله سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالت:

-(الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على جدّي سيّد المرسَلين)

* ثمّ قالت:

-(صدَق اللهُ سبحانه، كذلك يقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾...).  (الروم:10)

أي أن عاقبة الذين أساؤوا إلى نفوسهم -بالكفر بالله وتكذيب رُسله، وارتكاب معاصيه- السوأى، وهي عذاب النار. وبسبب تراكم الذنوب والمعاصي حصل منهم التكذيب بآيات الله، وظهر منهم الاستهزاء بها وبالمقدّسات الدينية. 

 -(أظننتَ يا يزيد، حين أخذتَ علينا أقطارَ الأرضِ وضيّقْتَ علينا آفاقَ السماءِ، فأصبحنا لكَ في أسار، نُساقُ إليك سَوقاً في قطار، وأنت علينا ذو اقتِدار، أنّ بنا من الله هواناً، وعليكَ منه كرامةً وامتناناً)؟!

أظننت أنّ لك عند الله جاهاً وكرامة لأنك غلبتنا وظفرت بنا، وقتلت رجالنا، وسبيت نساءنا؟!

-(وظننتَ أنّ ذلك لِعِظَم خطَرك): أي: لعلوّ منزلتك؟

-(وجلالةِ قدرك): عند الله تعالى؟!

-(فشمختَ بأنفِك): أي رفعته تكبّراً.

-(ونظرتَ في عِطفِك): العِطف، بكسر العين، جانبٌ البدن، والإنسان المعجَب بنفسه ينظر إلى جسمه وإلى ملابسه بنوع من الغرور.

-(تضرب أصدرَيك فرحاً): يُقال: ضرب أصدرَيه، أي حرّك رأسه بكيفية خاصة تدلّ على شدّة الإعجاب.

-(وتنفض مذروَيك مرَحاً): يقال: جاء فلان ينفض مذروَيه: إذا جاء باغياً يهدد الآخرين.

-(حين رأيتَ الدنيا لك مستوسِقة): أي: مجتمعة.

-(والأمور لديكَ متّسِقة): أي: منتظمة.

-(وحينَ صفى لكَ ملكَنا، وخلُصَ لك سلطانُنا).

* بعد هذه المقدّمة والتمهيد قالت صلوات الله عليها:

 -(فمهلاً مهلاً، لا تَطِش جهلاً، أنسيت قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾؟!).  (آل عمران:178)

ثمّ خاطبته وذكّرته بأصله السافل، ونسَبه المخزي، فقالت:

-(أمِنَ العدل يا ابن الطُّلَقاء، تخديرُك حرائرَك وإمائك): تخديُر البنت: إقامتُها وراء السّتر.

-(وسَوقك بنات رسولِ الله سبايا، قد هتكْتَ ستورَهنّ، وأبدَيتَ وجوهَهُنّ، تحدو بهنّ الأعداءُ مِن بلدٍ إلى بلدٍ، ويستشرفهنّ أهلُ المناقل، ويتبرزْنَ لأهل المناهِل): المناقل: جمع منقل، وهو الطريق إلى الجبل. والمناهل: جمع منهل، وهو الماء الذي ينزل عنده.

-(ويتصفَّح وجوهَهنّ القريبُ والبعيدُ، والشريف والوضيع، والدنيء والرفيع): والحال أنّه -(ليس معهنّ مِن رجالهنّ وليّ، ولا مِن حُماتهنّ حميّ): كلّ هذه الجرائم التي صدرت منك، وبأمرك كانت:

-(عتوّاً منك على الله): العتوّ: هو التكبّر.

-(وجحوداً لرسولِ الله): الجحود: هو الإنكار مع العلم بأنّ هذا هو الواقع والحقّ. -(ودفعاً لِما جاء به من عند الله، ولا غروَ منك، ولا عجب من فعلك. وأنّى تُرتجى مراقبة ابن مَن لفَظ فوه أكبادَ الشّهداء، ونبَت لحمُه بِدماء السعداء؟): أي: كيف ومتى يتوقّع الخوف من الله تعالى.. من ابن مَن رمتْ مِن فمها أكباد الشهداء الأبرياء؟

-(ونصَب الحربَ لِسيّد الأنبياء، وجمَع الأحزاب، وشهر الحِراب، وهزّ السيوفَ في وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أشدّ العرب لله جحوداً، وأنكرهم له رسولاً، وأظهرهم له عدواناً، وأعتاهم على الربّ كفراً وطغياناً): عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: «يموت معاوية على غير ملّتي»، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: «لا يموتُ ابن هند حتّى يعلّق الصليب في عُنُقه». فلمّا مرض، علّق صليباً للتبرّك والاستشفاء! ثمّ جاء يزيد من بعده فكان يتفجّر حقداً على آل رسول الله صلّى الله عليه وآله.

-(ألا إنّها نتيجة خِلال الكفر): أي أن أفعالك حصيلة خِصال الكفر فيك.

-(وضِبٌّ يُجَرجرُ في الصّدرِ لِقتلى يوم بدر): الضِّب بكسر الضاد: الغيظ الكامن والحقد الخفيّ.

-(وكيف يستبطئ في بُغضِنا أهل البيت، مَن كان نظرُه إلينا شنَفاً وإحناً وضغناً): أي: كيف لا يُسرع إلى بغض أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، مَن كانت نظرته وعقيدته فيهم عقيدة الكراهة والحقد. والشنف والشنآن والإحْن والأضغان: معانيها متقاربة، والمقصود منها: شدّة الحقد والبغض.

-(يُظهِر كُفرَه برِسوله، ويُفصِح ذلك بلسانه وهو يقول فرحاً بقتل ولده، وسبي ذريّته، غير مُتحوّب ولا مُستَعظِم: لأهلّوا واستهلّوا فرحاً، ولقالوا: يا يزيد لا تُشَلّ): غير متحوّب: أي غير متأثّم أو غير متحرّج من القبيح. والحَوبة: مَن يأثم الإنسان في عقوقه.. كالوالدين. 

-(منحنياً على ثنايا أبي عبد الله يَنكتُها بِمِخصرتِه): ثنايا جمع الثنية: وهي الأسنان الأربع التي في مقدم الفم، ينكت: يضرب. مخصرة: العصا.

-(قد التمع السرور بوجهه، لَعمري لقد نكأتَ القرحة، واستأصَلتَ الشّأفة): نكأ القرحة: قشّرها بعد ما كادت تبرأ. استَأصل شأفته: أي أزاله من أصله. 

-(بإراقتك دم سيّد شباب أهل الجنّة، وابن يعسوب الدين، وشمس آل عبد المطّلب وهَتَفتَ بأشياخك، وتقرّبت بدمه إلى الكفرة من أسلافِك، ثمّ صرختَ بندائك، ولعمري لقد ناديتَهم لو شهدوك): يا يزيد! لقد تمنّيتَ أسلافك لو كانوا حاضرين كي يشهدوك ويشهدوا أخذك لثارهم، ولكنّ هذه الأمنية لا تتحقّق لك، فأسلافك موتى معذّبون في نار جهنّم.

-(ووشيكاً تشهدهم ولن يشهدوك، ولتودّ يمينُك شُلّت بك عن مِرفَقها وجُذّت): جُذّت: قُطعت أو كُسِرَت. والمعنى: في يوم القيامة، حين تُعاقب تلك العقوبة الشديدة، سوف تتمنّى أنّ يمينك كانت مشلولة أو مقطوعة حتى لا تستطيع أن تَضرب بعصاك ثنايا الإمام الحسين عليه السلام.

-(وأحبَبتَ أنّ أُمّك لم تحملكَ، وإيّاك لم تَلِد، حين تصير إلى سخطِ الله ومُخاصمك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. اللّهمّ خُذ بحقّنا، وانتقِم مِن ظالمِنا، واحلُل غضبَك على مَن سفك دماءَنا، ونقضَ ذمارَنا، وقَتلَ حُماتَنا، وهتك عنّا سُدولَنا): الذّمار: ما ينبغي حفظه والدفاع عنه، كالأهل والعِرض. سدول جمع سدل: السِّتر.

* وعادت عليها السلام بعد هذا الدعاء إلى يزيد توبّخه على فعلته الشنيعة غير آبهة بطغيانه، فقالت:

-(وفعلتَ فعلتَك التي فعلتَ، وما فرَيتَ إلّا جلَدك، وما جَزَرت إلا لحمَك): فَريتَ: شققتَ. جزَرتَ: قطعتَ.

-(وسَتَرِد على رسولِ الله بما تحمّلتَ من دمِ ذريّته، وانتهكتَ من حرمته، وسفكتَ من دماءِ عِترته ولُحمَته): اللُّحمة: القرابة. 

-(حيثُ يُجمعُ به شملهم، ويُلمّ به شعثَهم، وينتقمُ من ظالمِهم، ويأخذُ لهم بحقّهم من أعدائِهم): الشّعث: ما تَفرّقَ من الأمور أو الأفراد. 

-(فلا يستفزّنّك الفرحُ بقتلهم): أي: لا يُخرجك الفرح عن حالتك الطبيعيّة.  

-(﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ...﴾ وحسبُك بالله ولياً وحاكماً، وبرسول الله خَصماً، وبجبرئيل ظهيراً).

* ثمّ صعّدَت عليها السلام من لهجتها في تهديد يزيد وإنذاره، فقالت:

-(وسيَعلم مَن بوّأك ومكّنك من رِقابِ المسلمين أنْ بِئسَ للظالمين بدلاً، وأيّكم شرٌّ مكاناً وأضلّ سبيلاً. وما استصغاري قدرك، ولا استعظامي تقريعك، توهما لانتجاع الخطاب فيك): التَقريع: الضرب مع العُنف والإيلام. الدواهي جمع داهية: وهي المصيبة. 

-(بعد أن تركتَ عيونَ المسلمين به عَبرى، وصدورَهم عند ذكره حَرّى).

* ثمّ ذكرت سبب عدم احتمال تأثير خطابها في نفسيّة يزيد وحاشيته، فقالت عليها السلام:

-(فتلك قلوبٌ قاسية، ونفوسٌ طاغية، وأجسامٌ محشوّة بِسخَطِ الله ولعنةِ الرسولِ، قد عشّش فيها الشيطانُ وفَرّخ، فالعجبُ كلُّ العجبِ لِقتلِ الأتقياءِ، وأسباط الأنبياءِ، وسليلِ الأوصياءِ، بأيدي الطُّلَقاء الخبيثة، ونسلِ العَهَرة الفَجَرة؛ تَنطِف أكُفّهم من دمائنا، وتتحلّب أفواهُهم من لُحومنا): تنطِفُ: تقطرُ أو تسيل. تحلّب فوه أو الشيء: إذا سال. 

-(تلك الجُثث الزاكية، على الجَبوبِ الضّاحية): الجَبوب: وجه الأرض الصلبة. وقيل: الجَبوب: التُراب. الضاحية: يُقال ضحا ضَحواً: برز للشمس، أو أصابه حرّ الشمس، وأرض ضاحية الظلال: أي لا شجر فيها. إخبارٌ منها عليها السلام عن مصيبة بقاء الأجساد الطاهرة على وجه الأرض عدّة أيام.. من غير دفن، تصهرها الشمس بأشعّتها المباشرة.

-(تَنتابها العواسِل، وتُعفّرها أمّهات الفراعل): العواسل: السّباع والذئاب. والفراعل: الضّباع. ربّما تشير عليها السلام إلى أولئك الأفراد الذين ركبوا خيولهم ورضّوا جسد الإمام الحسين عليه السلام بعد شهادته.

-(فلئن اتّخذتنا مغنَماً، لتجدُ بنا وشيكاً مُغرماً حين لا تَجِد إلّا ما قدّمت يداك، وما الله بظلّامٍ للعبيد. فإلى الله المشتكى والمُعَوّل، وإليه الملجأ والمؤمّل): المُعَوّل: المُستعان.

* ثمّ عادت عليها السلام لتصبّ جاماً آخر من غضبها على يزيد، فقالت:

-(ثمّ كِد كيدك، واجهد جهدك): الكيد: إرادة مَضَرّة الغير خفية، والخُدعة، والمكر. والجهد، الوُسع والطاقة. 

-(فو الله الذي شرّفنا بالوحيِ والكتاب، والنبوّةِ والانتخاب، لا تُدرِك أمَدَنا، ولا تَبلُغ غايتنا، ولا تَمحو ذِكرنا): الأمد: الغاية والنهاية. 

-(ولا يُرحَضُ عنك عارُها): يُرحض: يُغسل.

-(وهل رأيُك إلا فَنَد، وأيّامك إلا عدَد، وجمعك إلا بدَد): الفَنَد: الخطأ في القول والرأي.

-(وأيّامُك إلّا عدَد): للتقليل. 

-(وجمعُك إلّا بدَد): بَدّدَ الشيء: فَرّقَه والتَبَدّد: التفرُّق. 

-(يوم ينادي المنادي: ألا لعنَ اللهُ الظالمَ العادي).

ثمّ.. بدأت السيدة زينب عليها السلام، تُمهّد لختام خطبتها الخالدة، فقالت:

-(والحمدُ لله الذي حَكَم لأوليائه بالسعادة، وخَتَم لأصفيائِه بِالشهادة، ببلوغِ الإرادةِ، نقلهم إلى الرحمةِ والرأفةِ، والرضوانِ والمغفرة، ولم يَشقَ بهم غيرُك):  إنّ الذي صار شقيّاً وتعيساً ومطروداً من رحمة الله.. هو أنت يا (يزيد).

-(ولا ابتُليَ بهم سواك، ونَسأله أن يُكمِلَ لهم الأجرَ، ويُجزلَ لهم الثّوابَ والذُّخرَ، 

ونسألُه حُسنَ الخلافة، وجميلَ الإنابة، إنّه رحيمٌ ودودٌ).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشرح مختصر نقلاً عن كتابه: (زينب الكبرى عليها السلام: من المهد إلى اللّحد). والخطبة رواها الشيخ الطبرسي في (الاحتجاج)، والسيد ابن طاوس في (اللّهوف)، وقد اعتمد السيد القزويني رحمه الله في شرحه رواية (الاحتجاج)

 

في محراب وارثِ وارثِ الأنبياء

كلامه أمضى من ألف سيفٍ وسيف

  • المحقّق السيّد محمّد رضا الجلالي*

إنّ المواقف الإلهية النبوية التي أبداها الإمام عليّ بن الحسين السجّاد عليه السلام بعد كربلاء، وهو في أسْر الأعداء، وفي الكوفة في مجلس أميرها، وفي الشام في مجلس ملِكها، لا تقلّ أهمية -من الناحية السياسية- عن الثبات في الميدان.

فالدور الذي أدّاه الإمام السجّاد عليه السلام، بمقاله الذي أفصح عن الحقّ ببلاغة معجِزة، أتمّ الحجّة على الجميع، بكلّ وضوح، وكشف عن تزوير الحكام الظالمين بكلّ جلاء، وأزاح الستار عن فسادهم وجورهم وانحرافهم عن الإسلام، وكان أنفذَ على نظام الحكم الفاسد، من أثَر سيفٍ واحد، يجرّده الإمام في وجه الظّلَمة.

كان وجوده أقضَّ لمضاجع أعداء الإسلام من ألف سيفٍ وسيف، لأنّ الإسلام إنّما يحافَظ عليه ببقاء أفكاره وقِيمه، والأعداء إنّما يستهدفون تلك الأفكار والقيَم في محاولاتهم ضدّه، وإذا كان شخص مثل الإمام موجوداً في الساحة، فإنّه -لا ريب- أعظم سدٍّ أمام محاولات الأعداء.

ولْنُصغِ إلى الإمام السجّاد عليه السلام في بعض مواقفه في فترة الأسر. فمِن كلامٍ له عليه السلام كان يعلنه وهو في قافلة السبي:

«..إنّ الله تعالى أكرمَ أقواماً بآبائهم، فحَفِظ الأبناءَ بالآباءِ، لقوله تعالى: ﴿..وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا..﴾ [الكهف:82]، فأكرمَهما. ونحنُ والله عترةُ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأكرِمونا لأجلِ رسولِ الله، لأنّ جدّي رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كان يقولُ في منبره: (اِحفَظوني في عِترتي وأهلِ بَيتي، فَمَن حَفِظَني حفظَه اللهُ، ومَن آذاني فعليهِ لعنةُ الله، ألا فلَعنةُ اللهِ على مَن آذاني فيهِم)، حتّى قالها ثلاث مرّات..».

وبهذه الصراحة، والقوّة، والبلاغة، عرّف الإمام السجّاد عليه السلام للمتفرّجين، ولمن وراءهم، هذا الركب المأسور، الذي نبزوه بأنّه ركب الخوارج! ففضح الدعايات، وأعلن بذلك أنّه ركبٌ يتألّف من أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وموقفٌ آخر له في مجلس يزيد، فقد أوضح فيه عن هويته الشخصية، فانبرى الإمام السجّاد عليه السلام، في خطبته البليغة الرائعة، التي لم يزل يقول فيها: «أنا ابنُ مكّة ومِنى.. أنا ابنُ زمزمَ والصّفا..»، وينتسب إلى النبيّ ومهبط الوحي والرسالة، معرّفاً بنفسه، وذاكراً أمجاد آبائه صلوات الله عليهم، «حتّى ضّج المجلس بالبكاء والنّحيب».

فأدّى كلام الإمام عليه السلام إلى أن تتبخّر كل الدعايات المضلّلة التي روّجتها السياسة الأموية، والتي تركّزت على أنّ الأسرى هم من الخوارج! فبدّل نشوة الانتصار إلى حشرجة الموتى في حلوق المحتفلين!

وفي التزام الإمام السجّاد عليه السلام، بذكر هويّته الشخصية فقط في هذه الخطبة، حكمةٌ وتدبيرٌ سياسيٌّ واعٍ، إذ لم يكن له في مثل هذا المكان والزمان، أن يتطرّق إلى شيءٍ من القضايا المهمّة، وإلّا كان يُمنع من الكلام والنطق، وأمّا الإعلان عن اسمه فهي قضية شخصية، وهو من أبسط الحقوق التي تُمنح للفرد، وإنْ كان في حالة الأسر.

لكن كلام الإمام لم يكن في الحقيقة إلّا مليئاً بالتذكير والإيماء، بل الكناية التي هي أبلغ من التصريح، بنسَبه الشريف، واتّصاله بالإسلام، وبرسوله الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وقد ذكّر الإمام عليه السلام، بكلّ المواقع الجغرافية، والمواقف الحاسمة والذكريات العظيمة في الإسلام، وربط نفسه بكلّ ذلك، فسرد -وبلُغة شخصية- حوادث تاريخ الإسلام، معبّرًا بذلك عن أنّه يحمل هموم ذلك التاريخ كلّه على عاتقه، وأنّه حامل هذا العبء، بكل ما فيه من قدسية، ومع هذا فهو يقف «أسيراً» أمام أهل المجلس!

وقد فهم الناس مغزى هذا الكلام العميق، فلذلك ضجّوا بالبكاء! فإنّ الحكام الأمويين إنّما حصلوا على مواقع السلطة من خلال ربط أنفسهم بالإسلام، فكسبوا لأنفسهم قدسية الخلافة!

وموقف آخر: في وسط ذلك الجوّ الخانق، وفي عاصمة الحاكم المنتصِر، وفي حالة الأسر، يرفع الإمام صوته، ليُسمِع الآذان التي أصمّها الضوضاء والصخب، في ما رواه المنهال بن عمرو، قال: «دخلتُ على عليّ بن الحسين، فقلت: كيف أصبحتَ، أصلحك الله؟!

فقال عليه السلام: ..فأنا أخبرُك؛ أصبَحنا في قومِنا بِمنزلةِ بني إسرائيل في آلِ فرعون، إذ كانوا ﴿..يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ..﴾ اوأصبحنا، شيخَنا وسيّدَنا يُتقرّب إلى عدوِّنا بِشتمِه، وبِسبِّه على المنابر. [أي يقتل الذكور ويُبقى الإناث على قيد الحياة]

وأصبحت قريشُ تعدّ أنّ لها الفضلَ على العربِ، لأنّ محمّداً منها، لا يُعَدُّ لها فضلٌ إلّا به. وأصبَحتِ العربُ مُقِرّةً لهم بذلك. وأصبحتِ العربُ تعدُّ أنّ لها الفضلَ على العجمِ، لأنّ محمّداً منها، لا يُعَدّ لها فضلٌ إلّا به. وأصبحت العَجمُ مقرّةً لهم بذلك.

فإنْ كانتِ العربُ صدَقَت أنّ لها الفضلَ على العجَم، وصدَقت قريش أنّ لها الفضلَ على العرِب لأنّ محمّداً منها، (فـ)إنّ لنا -أهلَ البيت- الفضلَ على قريش، لأنّ محمّداً منّا. فأضْحوا يأخذون بِحقّنا، ولا يعرفونَ لنا حقّاً. فهكذا أصبحنا، إنْ لم يعلَم: كيف أصبحنا؟!».

قال المنهال: فظننت أنه يُريد أن يُسمع من في البيت. (أي يُسمع الحاضرين ليبلغ لكلام إلى يزيد).

إلى غير ذلك من المواقف التي كان لها أثرٌ حاسم في تغيير سياسة يزيد تجاه هذا الركب المأسور،  بل الآسِر، حتى أرجعه إلى المدينة!

إنّ صاحب هذه المواقف الإلهية ذو روحٍ نبويّة علويّة، وإذا لم يُتحَ له بعد كربلاء أن يأخذ بقائمة السيف، فسنان المنطق في قبضته، يهتك به ظلام التعتيم الإعلامي المضلِّل! وقد اتّبع الإمام السجاد عليه السلام هذه الخطّة بحكمة وتدبيرٍ ربّانيّ عن علمٍ بالأمر، وعمدٍ له، وكشف عن أنّه انتهجه سياسة مدبّرة مدروسة.

وإذا قُتل الحسين عليه السلام، غريباً في كربلاء، فإنّ نداءاته ظلّت تدوّي عبر كلمات الإمام السجّاد عليه السلام في مسيرة الأسر، وفي قلب مجالس الحكّام الظالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مختصر عن كتابه (جهاد الإمام السجّاد عليه السلام)

 

الظليمةَ لأمّةٍ قتلت ابنَ بنت نبيّها

الوقائع المتّصلة بشهادة الإمام الحسين عليه السلام*

  • الشيخ حسين كَوراني

كانت شهادة الإمام الحسين عليه السلام باتفاق الروايات يوم عاشوراء عاشر المحرَّم، سنة إحدى وستّين من الهجرة النبوية، وهو ابن أربع وخمسين سنة وستة أشهر ونصف.

وفي تفاصيل هذه الجريمة التي أشفقت منها الملائكة قبل خلْق الخلق، يوم أطلعهم الله تعالى أنه جاعلٌ في الأرض خليفة، ما رُوي عن أبي عبد الله الصادق، قال عليه السلام:

«..وأقبلَ عدوّ الله سنان بن أنَس الإيادي وشمر بن ذي الجوشن العامري لعنهما الله في رجالٍ من أهل الشام حتّى وقفوا على رأس الحسين عليه السلام، فقال بعضهم لبعض: ما تنتظرون؟ أريحوا الرجل. فنزل سنان بن أنس الإيادي لعنه الله وأخذ بلحية الحسين عليه السلام وجعل يضرب بالسيف في حلقه وهو يقول: واللهِ إني لأَحتزّ رأسك، وأنا أعلم أنك ابن رسولِ الله وخيرُ الناس أباً وأماً...».

وعن منبت سنان القاتل، روي أن أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبيه أنَس: «والله حدّثني حبيبي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم..أن في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله». وكان ابنه سنان يومئذٍ طفلاً يحبو.

ولما خرج المختار رحمه الله هرب ابن أنس إلى البصرة، فالقادسية، فأخذه المختار على مقربةٍ منها، فقطع أطرافه، وقتله بما يستحقّ، لعنه الله.

الظليمةَ الظليمة!

عن عبد الله بن قيس، قال: كنت مع من غزا مع أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين وقد أخذ أبو أيوب الأعور السلمي الماء وحرزه عن الناس، فشكى المسلمون العطش، فأرسل فوارس على كشفه فانحرفوا خائبين.. فقال له ولده الحسين عليه السلام: «أمضي إليه يا أبتاه؟».

فقال: «امضِ يا ولدي».

فمضى مع فوارس فهزم أبا أيوب عن الماء، وبنى خيمته وحطّ فوارسه، وأتى إلى أبيه وأخبره. فبكى عليّ عليه السلام، فقيل له: ما يُبكيك يا أمير المؤمنين، وهذا أول فتحٍ ببركة الحسين؟

فقال: ذكرت أنه سيقتل عطشاناً بطفّ كربلا، حتّى ينفر فرسه ويُحمحم ويقول: «الظليمةَ الظليمة لأمّةٍ قتلتْ ابنَ بنت نبيّها».

فلما استُشهد الإمام الحسين عليه السلام، غار الفرس من بين أيدي القوم وامتنع عليهم، فوضع رأسه في دم الحسين عليه السلام، وأقبل يركض إلى خيمة النساء وهو يصهل. فلما نظر أخوات الحسين وبناته وأهل بيته رضوان الله عليهم إلى الفرس وليس عليه أحد، رفعوا أصواتهم بالصراخ والعويل.

سلْبُ ريحانة رسول الله!

وسُلب الحسين عليه السلام ما كان عليه! فأخذ قيس بن الأشعث بن قيس الكِنديّ قطيفةً له وكانت من خزّ؛ فسُمّي «قيس قطيفة».

وتقدّم إليه رجلٌ من بني تميم يقال له: الأسود بن حنظلة - لعنه الله - وأخذ سيفه، وتقدم إليه جعفر بن الوبر الحضرمي - لعنه الله - فأخذ قميصه فلبسه فصار أبرص، وأسقط شعره... وأخذ عمامته جابر بن زيد الأزدي فاعتمّ بها فصار مجذوماً، وأخذ درعه مالك بن بشر الكنديّ فلبسه فصار معتوهاً.

وارتفعت في ذلك الوقت غبرة شديدة سوداء مظلمة، فيها ريحٌ أحمر، لا يُرى فيها أثرُ عينٍ ولا قَدَم، حتى ظنّ القوم أنْ قد نزل بهم العذاب، فبقوا كذلك ساعةً ثمّ انجلت عنهم.

نهبُ خيام آلِ النبيّ

وأقبل القوم حتى أحدقوا بالخيمة، وأقبل الشمر بن ذي الجوشن - لعنه الله - حتى وقف قريباً من خيمة النساء، فقال لقومه: ادخلوا فاسلبوا... فدخل القوم فأخذوا كلّ ما كان في الخيمة، حتى أفضوا إلى قرْطٍ كان في أُذن (إحدى بنات الحسين عليه السلام) فأخذوه وخرموا أذنها، وخرج القوم من الخيمة وأضرموها بالنار.

وعنه قال: انتهيتُ إلى عليّ بن الحسين... وهو منبسطٌ على فراشٍ له وهو مريض، وإذا شمر بن ذي الجوشن في رجّالة معه يقولون: ألا نقتل هذا؟.... قال حميد: «فما زال ذلك دأبي أدفع عنه كلّ من جاء، حتى جاء عمر بن سعد، فقال: (ألا لا يدخلنّ بيتَ هؤلاء النسوة أحد، ولا يعرضنّ لهذا الغلام المريض، ومَن أخذ من متاعهم شيئاً فليردّه عليهم). فوالله ما ردّ أحدٌ شيئاً..».

ومال الناس على الورس والحُلل والإبل فانتهبوها.

رضُّ الصدر الشريف

في اليوم التاسع من المحرّم، أرسل عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد كتاباً مع الشمر بن ذي الجوشن، يأمره فيه بقتال الإمام الحسين صلوات الله عليه، ومما جاء في الكتاب: «..فإنْ قُتل حسينٌ فأوطِ الخيلَ صدره وظهره... وليس دهري في هذا أن يضرّ بعد الموت شيئاً، ولكن عليّ قولٌ: لو قد قتلتُه فعلتُ هذا به».

فلمّا استُشهد أبو عبد الله الحسين عليه السلام، نادى عمر بن سعد في أصحابه مَن ينتدب للحسين ويوطئه فرسه! فانتدب عشرة، منهم: إسحاق بن حياة الحضرمي وهو الذي سلب قميص الحسين فبرُص بعد، وأحبش - أو أخنس - بن مرثد الحضرمي، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضّوا ظهره وصدره.

قال الطبريّ: «فبلغني أن أحبش بن مرثد بعد ذلك بزمان أتاه سَهْمُ غَرْبٍ [أي لا يُدرى راميه] وهو واقفٌ في قتال، ففلق قلبه فمات».

وجاء هؤلاء العشرة عليهم لعائن الله حتى وقفوا على ابن زياد، فقال: من أنتم؟

قالوا: نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين... فأمر لهم بجائزة يسيرة.

وفي (اللهوف): «قال أبو عمر الزاهد: فنظرنا إلى هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعاً أولاد زناء. وهؤلاء أخذهم المختار فشّد أيديهم وأرجلَهم بسكك الحديد، وأوطأ الخيلَ ظهورهم حتّى هلكوا».

 

الرأس الشريف في الكوفة

بعد دخول موكب السبي النبويّ إلى الكوفة، أمر ابن زياد بعليّ بن الحسين عليه السلام وأهله فحُملوا إلى دارٍ جنب المسجد الأعظم، فقالت زينب بنت عليّ عليه السلام: «لا تدخلنّ علينا عربيةٌ، إلا أُم ولَد أو مملوكة، فإنّهنّ سُبينَ كما سُبينا».

ولما أصبح عبيد الله بن زياد بعث برأس الحسين عليه السلام فدِير به في سِكك الكوفة كلّها وقبائلها. ورُوي أنه صُلب رأس الحسين صلوات الله عليه بالصّيارف في الكوفة، فتنحنحَ الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله تعالى: ﴿..إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾، فلم يزدهم -أي الجلاوزة- ذلك إلا ضلالاً.

 وفي أثر، أنهم لما صلبوا رأسه على الشجرة سُمع منه: ﴿..وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾. وسُمع أيضاً صوته بدمشق يقول: «لا قوّةَ إلا بالله».

وعن زيد بن أرقم قال: «مُرَّ به علَيَّ وهو على رمح، وأنا في غرفة، فلمّا حاذاني سمعته يقرأ: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا﴾. فقَفَّ -واللهِ- شعري، وناديت: رأسُك واللهِ -يا ابن رسول الله- أعجبُ وأعجب».  (الكهف/13، الشعراء:227، الكهف/9)

ولما فرغ القوم من التّطواف به بالكوفة، ردّوه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى جماعةٍ من جلاوزته وسرّحه إلى يزيد بن معاوية، عليهم لعائن الله ولعنة اللاعنين في السماوات والأرضين.

 

دفنُ سيّد الشهداء عليه السلام وأهل بيته وأصحابه

قال المسعودي في (إثبات الوصية: ص 173): «أقبل زين العابدين عليه السلام في اليوم الثالث عشر من المحرّم لدفن أبيه، لأنّ الإمام لا يلي أمرَه إلا إمامٌ مثله».

وكان قومٌ من بني أسد يسكنون بالغاضرية، ولما أطمأنّوا برحيل جيش يزيد جاؤوا لدفن الحسين وأصحابه، ففاجأهم فارسٌ ملثّم، وهو الإمام زين العابدين، جاء من الكوفة بطريق المعجزة ليتولّى معهم مراسم دفن أبيه صلوات الله عليهما وآلهما.

وقد تعجّب بعضهم كيف حضر إلى كربلاء وهو أسيرُ قيوده في الكوفة! ولكنّهم صدّقوا أنه خرج من قيوده وذهب إلى عبد الملك في الشام! فقد نقل الزهريّ عن الموكلين بالإمام زين العابدين، الذين أخذوه إلى عبد الملك: «إنه لنازلٌ ونحن حوله لا ننام نرصدُه، إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلا حديدَه!

قال الزهريّ: فقدمتُ بعد ذلك على عبد الملك بن مروان، فسألني عن عليّ بن الحسين، فأخبرته. فقال لي: إنه جاءني في يومِ فَقَدَهُ الأعوان، فدخل عَلَيَّ فقال: (ما أنا وأنت)؟!

فقلت: أقِمْ عندي. فقال: (لا أحبّ)، ثمّ خرج، فواللهِ لقد امتلأ ثوبي منه خيفةً». (تاريخ دمشق: 41 / 372).

 

 

حفيد معاوية يتبرّأ من أفعال أبويه

لما هلك يزيد سنة 63 للهجرة ملك ابنُه معاوية. بُويع بعهدٍ من أبيه. وكان شابّاً ديّناً خيراً من أبيه. فوليَ أربعين يوماً...ومات وله ثلاث وعشرون سنة... وامتنع أن يعهد بالخلافة إلى أحد، وخلع نفسه؛ بأنْ صعد المنبر فجلس طويلاً، ثمّ حمد الله وأثنى عليه، ثمّ ذكر النبيّ صلّى الله عليه وآله بأحسن ما يذكَر به.

ثمّ قال: «يا أيها الناس، ما أنا بالراغب في الائتمار عليكم... إلا أن جدّي معاوية قد نازع في هذا الأمر مَن كان أولى به منه ومن غيره لقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وآله»، وأثنى على أمير المؤمنين عليه السلام ثناءً ينمّ عن سلامة عقيدته وتجذّرها. وصرّح بأن جدّه وأباه معذّبان لجرائمهما بحق آل رسول الله صلّى الله عليه وآله وقَتْل ذريّته.

ثم قال: «ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه، غيرَ خليقٍ بالخلافة على أمّةِ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، فركب هواه ... فشأنكم أمركم فخذوه، ومَن رضيتم به عليكم فولّوه، فلقد خلعتُ بيعتي من أعناقكم، والسلام»....

ثم نزل فدخل عليه أقاربه وأمّه، فوجدوه يبكي، فقالت له أمّه: ليتك كنتَ حيضةً، ولم أسمع بخبرك!! فقال: وددتُ واللهِ ذلك، ثم قال: ويلي، إنْ لم يرحمني ربّي.

ثم إن بني أمية قالوا لمؤدّبه عمر المقصوص أنتَ علّمتَه هذا ولقّنته إيّاه، وصدَدته عن الخلافة، وزيّنت له حبّ عليٍّ وأولاده، وحملتَه على ما وسَمَنا به من الظلم، وحسّنتَ له البِدع حتى نطق بما نطق، وقال ما قال.

فقال: واللهِ ما فعلتُه! ولكنه مجبولٌ ومطبوعٌ على حبّ عليّ، فلم يقبلوا منه ذلك، وأخذوه ودفنوه حيّاً حتى مات!

وعمرُ المقصوص، ترجمته مصادر الجرح والتعديل: فهو عمر بن نعيم العَنسي، الملقّب بالمقصوص، معلّم أولاد يزيد، يروي عن الصحابيّ أبي ذرّ الغِفاريّ.

وفي (تاريخ المختصر) للملطي: «لما بايعه -أي معاوية الثاني- الناسُ قال للمقصوص: ما ترى؟ قال: إما أن تعتدِل أو تعتزل».

وذكر بعض المؤرّخين أن معاوية الثاني عملَ كلّ ما بوسعه، وضحّى بمُلكه من أجل أن يخوِّله بنو أمية إعطاء الخلافة إلى صاحبها الشرعيّ؛ الإمام زين العابدين عليه السلام. ويُحتمل أن تكون علاقته بالإمام عليه السلام، من أيام أَسْرِه في دمشق، وبواسطة أستاذه عمر المقصوص الذي هو من تلاميذ الصحابيّ الجليل أبي ذرّ الغِفاري، لكنها كانت علاقة في غاية السرية، خوفاً من بطش يزيد!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* هذا المتن مقتبس عن مجموعة محاضرات لسماحة الشيخ حسين كَوراني ألقاها في المركز الإسلامي/ محرّم 1432

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

نفحات