فكر و نظر

فكر و نظر

10/12/2018

من موانع تهذيب النفس

من موانع تهذيب النفس

التهاون في الأحكام الشرعية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشيخ حسين كَوْراني* ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراد بـ«التهاون في الأحكام الشرعية» هو عدم الوقوف عند حدود الله تعالى التي حدّدها، سواءً أكان بالأخذ بالأقلّ، أو الأكثر.

وأوضح مظاهر التهاون بالأحكام الشرعية، الفصل بينها وبين تهذيب النفس، بمعنى أنّ مَن يدرسها و«يتفقّه» في الدين، إذا تنبّه إلى أهمية النفس، يبدأ بالبحث عن درس الأخلاق، وعن «الأستاذ»، وعن النصائح والمواعظ، وعن البرنامج العملي، والأوراد والأذكار، في غفلة مطبقة عن أنّ كلّ ما يبحث عنه يتحقّق، بأجلى صوره، إذا رفع مستوى التزامه بالأحكام الشرعية.

أمّا مَن لا يدرس الأحكام، ويتنبّه إلى عظيم منزلة التحلّي بمكارم الأخلاق؛ فإنّ أمره في الإعراض عن الأحكام الشرعية أوضح، وإنْ كان الأوّل أشدّ غرابة، وربما خطورة.

الفصل بين الوسيلة والهدف

تتّضح الأضرار الجسيمة الناشئة من هذا الفصل، بالتأمّل في أنّ الهدف من بعثة المصطفى الحبيب، تتميم مكارم الأخلاق. أي أنّ جميع الأنبياء كانوا معنيين، بالدرجة الأولى، بمكارم الأخلاق، وخاتَمهم معنيّ بذلك بصورة أكمل وأتمّ.

وبالتالي، فإنّ جميع الأحكام الشرعية التي جاء بها الأنبياء تصبّ في هدف بناء الشخصية الاجتماعية الموحّدة المتحلية بالأخلاق الفاضلة. وفي هذا السياق تشكّل الأحكام الشرعية التي جاء بها رسول الله محمّد صلّى الله عليه وآله، الوسيلة الأفضل لبناء هذه الشخصية المتحلّية بأفضل مراتب الأخلاق التي يمكن أن تبلغها البشرية.

وهذا يعني بوضوح استحالة الوصول إلى مكارم الأخلاق المحمّدية إلّا من خلال الالتزام الجاد والواعي بتطبيق الأحكام في كلّ صغيرة وكبيرة، وأنّ الفصل بينهما هو في بعض أبعاده فصلٌ بين الوسيلة والهدف.

تقديم غير الأحكام عليها

ثمة ظاهرة خطيرة أخرى، غير ما تقدّم، هي القناعة بأنّ غير الأحكام أكثر أهمية منها في تهذيب النفس، بمعنى أن يهتم الشخص بالتفكير بالموت، ومطالعة كُتب الوعظ، وصولاً إلى الاهتمام بالعرفان والحديث عن مصطلحات السير والسلوك، أو «الكمال المطلق»، و«الفناء في الله»، و«جمْع الجمع» وما شابه، وهو لم يُتقن بعد الأحكام التي يكثر ابتلاؤه بها! ولا هو بصدد تعلّمها!! ما يجعله -إذا بقيَ كذلك- مصداقاً لقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾. [الكهف:103-104]

التصوّف والعرفان المذمومان

من المهمّ جداً التأمّل في ألوان تهذيب النفس المختلفة عبر العصور، لنكتشف بعمق أنّ المائز بين الحقّ والباطل كان دائماً في التزام الحكم الشرعي وعدم التزامه.

إنّ التصوّف المذموم والعرفان المذموم هو ما لا يُبنى على قاعدة التقيّد بمنتهى الدقة بأحكام الشرع الشريف. والعرفان الممدوح هو المبنيّ على التقيّد التامّ بكلّ الأحكام الشرعية.

فلو بلغ شخص مرتبة تبدو متقدّمة جداً في الكشف والكرامات، ولم يكن شديد التقيّد بالأحكام الشرعية، فكشفُه وكراماته مردودان عليه لا قيمةَ لهما في الميزان الإلهيّ، الذي لا وزنَ له غير الحقّ، ولا حقّ إلّا على أساس أحكام الله تعالى.

«دقة الالتزام بالحكم الشرعيّ» هو عنوان المعركة حامية الوطيس التي خاضها فقهاء مدرسة أهل البيت، وما يزالون، ضد التصوّف والعرفان بصورهما المذمومة التي كانت، وما تزال، منشأ أخطار كبيرة.

تلك حدود الله

بالتأمّل في القرآن الكريم، تتّضح المكانة التي أولاها الله تعالى للأحكام الشرعية، فهي حدود الله تعالى، وهو تعبيرٌ بالغ الدلالة.

قال سبحانه: ﴿..تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾. [البقرة:229] [انظر أيضاً: البقرة:187؛ النساء:13-14؛ الطلاق:1]

وحول تعريف «الحدّ».. ورد في (تفسير التبيان:2/247) للشيخ الطوسي: «وأصلُ الباب المنْع. والحدّ: نهايةُ الشيء التي تمنع أن يدخلَه ما ليس منه، وأن يخرج عنه ما هو منه».

وكما لا يجوز الاهتمام بالأخلاق والتهاون في الأحكام، لا يجوز العكس، أي الاهتمام بالأحكام وإهمال الأخلاق وتهذيب النفس.

قال الشيخ محمّد المشهدي في (كنز الدقائق:1/564)، مفسّراً الآية المتقدمة: «عقّب النهيَ بالوعيد مبالغةً في التهديد. واعلم أنّ كلّ ما حدَّ اللهُ تعالى: فالإفراط فيه والتفريط كلاهما تعدٍّ. و كذلك كلّ ما يفعله أهل الوسوسة في الشرع بغير مأخذ، ويسمّونه احتياطاً وتقوى، تعدّ عن حدود الله، ومَن يفعله ظالم..».

وقال  العلامة الطباطبائي في (الميزان:2/234) في تفسير الآية إياها: «..الاقتصار في العمل بمجرّد الأحكام الفقهية والجمود على الظواهر ... فإنّ في ذلك إبطالاً لمصالح التشريع، وإماتةً لغرض الدين وسعادة الحياة الإنسانية، فإنّ الإسلام، كما مرّ مراراً، دينُ الفعل دون القول، وشريعة العمل دون الفرض (والتنظير)، ولم يبلغ المسلمون إلى ما بلغوا من الانحطاط والسقوط إلّا بالاقتصار على أجساد الأحكام، والإعراض عن روحها وباطن أمرها..».

في وصايا العلماء

يقول المقدّس الشيخ حسين قلي الهمداني: «لا يخفى على الأخوة في الدين أنّه لا طريق إلى القُرب من حضرة ملك الملوك جلّ جلاله غير الالتزام بالشرع الشريف في جميع الحركات، والسكَنات، والتكلّمات، واللّحظات، وغيرها.

والسيرُ بالخرافات الذوقية... كما هو دأب الجهّال والصوفية، خذلهم الله جلّ جلاله، لا يُوجب إلّا بعداً، حتى أنّ الشخص إذا التزم بعدم حفّ الشارب... فإنّ عليه أن يفهم، إذا كان مؤمناً بعصمة الأئمّة الأطهار صلوات الله عليهم، أنّه سيبتعد عن حضرة الأحدية. وهكذا في كيفية الذّكر بغير ما ورد عن السادات المعصومين عليهم السلام.

بناءً على هذا يجب أن يقدّم الشرع الشريف ويهتمّ بكلّ ما جاء الاهتمام به فيه. وما استفدته -أنا الضعيف- من العقل والنقل هو أنّ أهم الأشياء لطالب القُرب الجِدّ والسعي التام في ترك المعصية.

وما لم تؤَدَّ هذه الخدمة فلا ذِكرُك ينفع حال قلبك بأيّ نفع، ولا فِكرك، ذلك... وإذا تحقّق عندك أنّ ترك المعصية أول الدين وآخره، ظاهره وباطنه، فبادر إلى المجاهدة..».

ويختم الشيخ الهمداني رضوان الله عليه بالقول: «الحاصل، لا طريق إلى القُرب، إلّا بشرعٍ شريف، في كلّ كليّ وجزئيّ». (تذكرة المتّقين: ص 185  و191)

النتائج

ما يريد هذا الحديث أن يخلص إليه، هو التالي:

* التعامل مع الأحكام الشرعية، من منطلق أنها البرنامج العبادي الوحيد الذي يُمكّن من الوصول إلى تهذيب النفس والتحلّي بمكارم الأخلاق المحمّدية، بمعنى أن كلّ برنامج عبادي لا ينطلق منها ولا يهتدي بهُداها فليس من الإسلام بشيء، ويتلخّص هذا البرنامج العبادي الربّاني بكلمتين: «تركُ المعاصي».

* يضاف إلى ذلك أصلٌ أصيل، هو أنّ بناء التديّن على أساس حبّ الله تعالى، يتلازم مع حبّ ما يحبّه، وإن لم يكن واجباً. وكراهية ما يكرهه، وإن لم يكن حراماً.

* إنّ نظرة في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأهل البيت عليهم السلام، وأصحابهم الأبرار، والعلماء بالله تعالى، من فقهاء الإسلام، تكشف عميق حضور الأحكام الشرعية كلّها في حياتهم، الأمر الذي يُلزمنا بتطبيق أنفسنا مع ما كانوا عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مضمون محاضرة لسماحته في حوزة الإمام الخميني (دمشق، 8 ذو القعدة 1423)

 

فتْكُ اللّسان بالقلب

يقول العالم الربانيّ الشيخ حسين قلي الهمداني:

«أيها العزيز... اللهُ الكريمُ الرحيم، جعلَ لسانَك مخزنَ جبلِ النور؛ أي ذِكرَ اسمِه الشريف، فمن عدم الحياء أن يكون مخزنُ السلطان ملوّثاً بالنجاسة وقاذورات الغِيبة والكَذِب والفُحش.... مخزنُ السلطان يجب أن يكون مملوءاً بالعِطر وماء الورد.

إذا لم تكن دقيقاً في المراقبة، فلن تعرف أيّة معاصٍ ترتكب... وأيّ جراحاتٍ مُنكَرة تُوقِعها في قلبك، بسيف لسانك وسنانه. إذا كنتَ لم تُقتل حتّى الآن، فذلك جيّد جداً».

 (مختاري، سيماء الصالحين، ترجمة الشيخ حسين كوراني: ص 87)

 

اخبار مرتبطة

  ايها العزيز

ايها العزيز

  دوريات

دوريات

10/12/2018

دوريات

  اجنبية

اجنبية

10/12/2018

اجنبية

نفحات