الملف

الملف

منذ 4 أيام

الخطبة الفاطميّة في المسجد النبويّ

الخطبة الفاطميّة في المسجد النبويّ

وثيقة إلهية في إدانة الانقلاب على الأعقاب

 

قال تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾. [آل عمران:144]

في جوّ الانقلاب على الأعقاب، انشغل أكثر المسلمين عن تجهيز رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والصلاة عليه، ودفنه، وهو أعظم خلق الله تعالى على الإطلاق.. ولا يوازي فقده والفجيعة به.. فقدٌ ولا فجيعة..

وبماذا انشغلوا؟ اشرأبّت الأعناق للزعامة والرئاسة. انشغلوا بالدنيا التي طالما حذّرهم منها المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله وسلّم. ولم يبقَ في الصراط المستقيم إلّا ثلّة وقفت مع عليٍّ عليه السلام.

في جوّ الانقلاب على الأعقاب هذا.. كانت الوثيقة الكبرى.. الخطبة الفاطمية..

ولكي ندخل إلى بعض تفاصيل هذا الجوّ، وترتسم أمامنا بعض ملامحه، أنقل نصّاً عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، يحدّثنا عن أسباب الانقلاب على الأعقاب وبعض أخطر نتائجه. ينقل ابن أبي الحديد في (شرح النهج) ما يلي:

«قال له (لعليٍّ عليه السلام) قائل: يا أميرَ المؤمنين، أرأيتَ لو كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم وآنسَ القومُ منه الرُّشْد، أكانت العرب تسلّم إليه أمرها؟

قال: لا، بل كانت تقتلُه إن لم يفعل ما فعلتُ. إنّ العربَ كَرِهَتْ أمرَ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحسَدته على ما آتاه اللهُ من فضلِه، واستطالتْ أيّامه حتى قَذَفَتْ زوجتَه، ونفَّرتْ به ناقتَه، مع عظيم إحسانِه إليها (العرب) وجسيمِ مِنَنِه عندها. وأجمَعَت مذْ كان حيّاً على صَرفِ الأمرِ عن أهلِ بيتِه بعدَ موتِه، ولولا أنّ قريشاً جعلتِ اسمَه ذريعةً إلى الرئاسة، وسُلَّماً إلى العزّ والإمْرة، لمَا عبَدتِ اللهَ بعدَ موتِه يوماً واحداً، ولارتَدّتْ في حافرتِها...».

ويدلّنا هذا النصّ، بوضوح، على بعيد غور الانقلاب على الأعقاب. وهو ما يكشف أنّ جميع التناقضات القبلية والعشائرية في بيئة ممعِنة في الروح القبلية، قد تفجّر خزينها فجأة، فالتهمت نيرانها الإيمانَ المدَّعى، ولم يسلم من ذلك غير «الشاكرين» نعمةَ الإسلام والإيمان، والثبات في خطّ القرآن الكريم.

أمرٌ واحد، كان بالإمكان اعتماده والقيام به لمحاصرة هذه النار المضطرمة، فلا يكون بوسعها التهام إلّا مَن يصرّ على إلقاء نفسه في أتونها.

هذا الأمر هو أن تتصدّى شخصية مميّزة تحظى باحترام الجميع، ليست طرفاً متّهماً، أو يسهل توجيه التهمة إليه -ولو من دون مبرّر-  في مجال الطّمع بالرئاسة، فتفصحَ عن مكنون سريرة مَن لا ينطق عن الهوى، وتسجّل رأيه الصريح الواضح، وتطلق صرخته المدوية الهادرة في وجه الانقلاب على الأعقاب.

ولم يكن لهذا الموقف الإلهيّ، إلّا فاطمة عليها صلوات الرحمن.

إنّها بالإضافة إلى كل مقوّمات عظَمتها ومكانتها لدى الأمّة -رغم هذا الانقلاب على الأعقاب- ابنة المصطفى الحبيب الوحيدة. هي المعزَّاة به، وهي الذكرى، والأمانة، والوديعة.

وما دام الأمر كذلك، فإنّ باستطاعتها تسجيل الموقف الإلهيّ التاريخيّ حيث ترى ذلك مناسباً.

وعلى الآخرين أن يحذروا، ويتّخذوا ما بوسعهم من احتياطات، لا سيّما وأنّ الوضع لم يكن قد استقرّ بعد. فعشرة أيامٍ لا تكفي لإخراج الانقلابيّين من ذُعرهم، مهما بدت عناصر السيطرة على الوضع متوفّرة، ومهما كان ميزان القوى لصالحهم.

ولو أنّ عليّاً عليه السلام، جرّد سيفه «ذا الفقار» في مثل هذا الجوّ، لأمكنَه بكلّ تأكيد أن يُحرز نصراً دنيوياً، أيسره تسجيل موقف معارض بلون الدم، إلّا أنّه خارج سياق كلّ مواقفه الجهادية الحمراء التي كانت لصالح الرسالة. أمّا هذا فعلى حسابها، لأنّ الردة المستبطنة ستُحرَجُ فتَخرُج. والقوى العظمى، آنذاك، تتلهّف لمثل هذه الفرصة، كان على «ذي الفقار» أن يبقى في الغمد، وعلى صاحبه أن يصبر على الاستضعاف، ليبقى نور الرسالة في مرمى البصيرة.

وحيث إنّ بقاء الإسلام وحفْظ الذكر بأمر الله تعالى هو الهدف، فلم يكن ثمّة من مناص إلا الصبر على هذه «الطَّخْيَة العمياء».

وما استدعى صبْرَ عليٍّ عليه السلام، استدعى تصدّي الزهراء عليها السلام. فالقاسم المشترك بقاءُ نور الإسلام بحيث يمكن الاهتداء به إليه. فالموقفان وجهان لحقيقة إلهيّة محمّدية واحدة. بل هما موقفٌ واحد، كما لا يخفى.

في ضوء ما تقدّم، أصبح باستطاعتنا استنتاج بعض دلالات توجّه الصِّدّيقة الكبرى إلى المسجد النبويّ، لنراها بكلّ وضوح كما يلي:

1) أركان الانقلاب على الأعقاب مُحرَجون، فلا هم يستطيعون منع ذلك، ولا هم مطمئنّون إلى الإمساك بالوضع، وبالتالي إلى ما تؤول إليه الأمور.

2) الناس عموماً مَشدودون إلى هذا التطوّر النوعيّ، فقد خمدتْ له الأنفاس، وسكنت الأجراس، يتابعونه بمنتهى الاهتمام واللّهفة.

3) أعلن الانقلابيّون حالة التأهّب القصوى، واتّخذوا كلّ الإجراءات الممكنة، وجميع الاحتياطات المتصوَّرة تحسبّاً لكلّ طارئ. ولم يغب عن البال للحظة أن هذا الموقف قد يكون جزءاً من خطة متكاملة تبدأ بتهيئة المناخ عبر تأليب الجمهور، ولا يعرَف أين تنتهي.

4) المحور في ذلك كلّه، والذي يشكّل الهاجس الأكبر لأركان الانقلاب بشكل خاصّ، ماذا يمكن أن تقول فاطمة عن عليّ عليهما السلام، وهو قُطب الرحى؟ وما أدراك ما عليّ، وما أدراك ما فاطمة؟

وسيّان.. أقصُرت مدة هذه الدلالات أم طالت.. سيّان.. أكان انتشرَ خبر توجّه الصِّدّيقة الكبرى إلى المسجد وخطبتها فيه، قبل يوم مثلاً أو أكثر أو أقل.. فإنّ الفرقَ، على فرض طول المدة، أنّ فَتْكَ هذه العوامل في النفوس كان أشدّ ضراوة. وأما على فرض قِصر المدة، فإنّ الصاعقة لا يحول دون تأثيرها الصاعق، أنّ زمنَها لحظة..

في هذا الجو.. كان الموقف الإلهيّ..

ومن التّيه العقائديّ والضلال المبين في الصميم، أن نُسهم في طمس معالم كلّ هذه الدلالات، ونشترك في إنزال أهل بيت العصمة في غير مراتبهم التي رتّبهم الله فيها، فنعبث بكلّ هذه العظَمة ونحشرها تحت عنوان «عقاريّ» هو «فدَك»، في حين أن الخطبة لا تتضمّن، ولو مرّة واحدة، كلمة فدَك.

تبدأ بقولها عليها السلام: «أفي دين الله يا فلان..»، وهو استهلالٌ يكشف أنّها تحدَّثت عن ذلك باعتباره من أبرز ما يُفقد الانقلاب على الأعقاب مشروعيّته. فإنّ الجهل بدين الله تعالى، أو الجرأة عليه، لا يتركان عذراً لمعتذِر. ولدى التدقيق تجد أنّ كلّ حديثها عليها السلام، عن الإرث إنما هو بهذه اللّغة.

إنّ علينا أن نفسّر «فدَكاً» حيث نجد التصريحَ بها، ونفسّر ما يرتبط بها حيث لا نجد المصطلح، بالخلافة واستمرار الإسلام وخطّ النبوّة، لا العكس.

ربما استدعتْ حراجة الظرف أن يبادر الانقلابيّون على الأعقاب إلى جعل «فدَك» عنواناً لكلّ ما يُمكن أن يصدر عن الزهراء عليها السلام. وربّما استدعت هذه الحراجة نفسها أن تكون «فدك» أو الإرث عمومًا بالنسبة للصِّدّيقة الكبرى المدخلَ والمنطلَق، إلّا أن هذا لا يعني، على الإطلاق، أن يُدرج هذا الموقف الفاطميّ العظيم في سياق الخلاف على قِطعة من أرض خيبر أو الحجاز!

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  إصدارات

إصدارات

منذ 4 أيام

إصدارات

نفحات