مرابطة

مرابطة

منذ 4 أيام

الخيمة والسوق

الخيمة والسوق

  • محمّد حسنين هيكل

هذا النّص المختصر من أحد فصول كتاب (نهايات طُرق - العربي التائه 2001) للصحفي المصري الراحل محمّد حسنين هيكل، يصوّر جانباً من يوميات هنري كيسنجر -وزير الخارجية الأميركي في حينه- عقب حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 بين الكيان الصهيوني، والجيشين السوري والمصري.

محلّ الشاهد من هذا النص، التعريف بسياسات التفاوض المعتمدة من قبل الأنظمة العربية، في «مسعاها لحلٍّ عادلٍ للقضية الفلسطينية»، بدءًا من مطلع السبعينات، حتى يومنا هذا.

«شعائر»

 

أدرك «هنري كيسنجر» من اليوم الأول أن القوات المصرية والسورية حقّقت هَدَفها الإستراتيجي وهو «كسر نظرية الأمن الإسرائيلي»، بصرف النظر عن أيّ تطورات جرت في ميادين القتال. وعندما توجّهت «جولدا مائير» لمقابلته في واشنطن، فإن «كسينجر» لم يتردّد في أن يصارحها بالحقيقة.

قال لها: «القتال انتهى لصالحك، ولكن العرب كسبوا إستراتيجياً، وعلينا جميعاً أن نفهم ذلك»، لكنها ظلّت طول الليل تعاند، وحاول لساعات متأخرة أن يشرح لها الفارق بين القتال والحرب، وأنها في تلك الجولة التي انتهت، ربحت القتال وخسرت الحرب. لكنها بقيت تعاند مثل «بقرة هندية نامت وسط الطريق، وأعاقت حركة المرور فيه»، والتعبير لكسينجر نفسه.

قبل أن يجيء «هنري كيسنجر» إلى الشرق الأوسط في نوفمبر/ تشرين الثاني 1973 حاول أن يثقّف نفسه لمهمّته. وبصفته وزيراً لخارجية الولايات المتحدة ومستشار الأمن القومي لرئيسها، فإن كيسنجر راح يطلب من كلّ مَن يعرف من مساعديه ومن زملائه السابقين أن يمدّوه بأوراق تساعده على تناول الأزمة التي فاجأته.

وفي ظرف عدة أيام تلقّى كيسنجر عشرات من الأوراق، وعندما كان يُعدّ أوراقه ليأخذها معه في السفر، رأى أن لا يحتفظ في حقيبة يده إلّا بما هو «ألزم اللازم».

حمل معه ورقة مختصرة من صفحة واحدة عنوانها: «الخيمة والسوق»، كانت الورقة في ملخّصها تقول لـ«هنري كيسنجر»: ما ينفعك الآن هو أن تتذكّر «تقليدين» من «ثقافة» الحياة العربية:

* «تقليد الخيمة»: وفيها شيخ يتوسّط مجلساً يحيط به، وعندما تدخل عليه فسوف تجد من حوله كثيرين يدخلون ويخرجون ويهمسون في أذنه، ويهزون رؤوسهم، وقد ترى أحدهم يتوجّه أمامك إلى رجل آخر في الخيمة لينقل إليه شيئاً وهو يشوّح بإحدى يديه. كلّ تلك مؤثّرات شكلية وصوتية. ركّز نظرك على الشيخ وامدحه وبالِغ في مدحه، وبمقدار ما تُعطيه مما عندك، فسوف يعطيك مما عنده!

* «تقليد السوق»: والتفاوض فيه ليس علماً، وإنّما هو فنّ المساومة يمارسه أصحابه بـ«مزاج» و«استمتاع»، وهم في العادة يبدأون أيّ صفقة بسعر مبالغ فيه، وحين تُراجِعُهم تعلو أصواتهم ليُقسموا لك أنهم لم يبالغوا، على أنهم من أجل خاطرك سوف يتهاودون، لكنها كلمتهم الأخيرة سوف يقولونها وأنت حرّ. وحين تسمعها وتؤكّد لهم أنها ما زالت أعلى مما أنت مستعد لدفعه، سوف يعودون لك مرة أخرى حالفين (وبالطلاق ربّما) أنّ ذلك خارج قدرتهم، لأنّ قبولهم به خسارة محقّقة.

لا تصدّق كلامهم، وتمسّك بما تظنّه معقولاً وصمّم عليه، وسوف تجدهم يتنازلون أمامك خطوة بعد خطوة (ولو بَدَت الخطى متثاقلة!)، وعليك وحدك أن تقدّر بإحساسك -من دون أيّ دليل يساعدك- إذا كانوا قد وصلوا إلى القاع الذي لا يقدرون بعده على النزول، وأنه ما زال -تحت القاع الظاهر- قاعٌ آخر لم ترَه من أول نظرة أو من النظرة الثانية!

وفي المفاوضات بعد ذلك على اختلاف محطاتها: من أسوان إلى كامب دافيد، ومن أوسلو إلى طابا... وحتى إعلان شرم الشيخ مطلع سنة 2001م، سبعاً وعشرين سنة بالكامل، جَرَت فيها المفاوضات مع العرب على طريقة «الشيخ» و «الخيمة».

«شيخ» في مجلس داخل «خيمة»، وحوله جَمع من الناس، وإشارات وإيماءات، وهمس أسرار وتمتمات خافتة، ثم يقول «الشيخ» كلمته، ويهزّ الجميع رؤوسهم بالموافقة!

و«سوق» صاخبة بصراخ وصياح، وأسعار تعلو وتهبط، وأَيمان مغلّظة تؤكّد ونداءات بالتحذير تُقاطع بين فترة وأخرى بأنّها «الفرصة الأخيرة وإلا انتهى الكلام»، وصانع «السلام» وتاجره متمسّك، والمشتري أمامه يتراجع، و«السوق» بلا قوانين.

والمشكلة أن أحداً لا يعرف بالضبط «قيمة السلعة المعروضة» -«صانع السلام» وتاجره يعرف سقفه- لكن «الشيخ» في «خيمته» لا يعرف أرضه، والسوق في زحامه لا يعرف قاعه!

وهكذا تتواصل المساومة، وحين يظهر «قاع» عربّي -يَتَبَدّى وراءه لسوء الحظ- وبمواصلة الضغط قاعٌ ثانٍ يغرق. لكن الولايات المتحدة ما زالت تظنّ أنها قادرة (لا أحد يعرف متى؟) على عقد صفقة تراها معقولة! وأن العرب سوف يقبلونها في النهاية.

 

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

منذ 4 أيام

دوريات

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

منذ 4 أيام

إصدارات عربية

نفحات