فكر ونظر

فكر ونظر

11/05/2020

سراب الحداثـة

 

سراب الحداثـة

__ الشيخ حسين كوراني __

 

«وتبقى الحداثة ضرورة، ولكنّها حداثة العرض والتقديم، وأداة التناول وبلوغ الهدف».

هذه هي الخلاصة التي ختم بها سماحة الشيخ حسين كوراني مناقشته للحداثة التي يُروّج لها في عالم اليوم، بغية التلبيس على الحقائق الوجودية التي لا تتغيّر مع مرور الزمن، وظهور الوسائل التي اختصرت المسافات، وجاءت بما لم يكن بالحسبان.

المقالة التالية مختصر لما جاء في كتاب (في المنهج، المعصوم والنص) لسماحته.

 

أهمّ الموانع التي تحول دون «حسن التلقّي» من النصّ المعصوم، «سراب الحداثة»، الذي ﴿..يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا..﴾ النور:39.

وليس المقصود إنكار أنّ لكلّ زمن خصوصيّاته، بل المقصود رفض أن يلمع سراب هذه الخصوصيات فيخطف بريقها البصائر، ويستحكم عمى الألوان عن الحقيقة، فإذا الماضي كلّه قديم وتراث وفولكلور، وبداوة وسذاجة، وإذا الحداثة تعني الجِدَّة، والسائد، والمألوف، والأزرار الإلكترونية، والتحكّم من بُعد، واللغة الأجنبية، وما شابه.

إنّ الحداثة في حدّ ذاتها فكرة، تجري عليها سنن الأفكار، وليست سلعة، ليسوَّق لها على طريقة السلع الاستهلاكية.

والحداثة الفكرة تقول إنّها «نسبيّة»، ومن أبعاد نسبيّتها أنّ ما يراه البعض متخلّفاً، قد يكون بالنسبة إلى غيره حديثاً، وقد يكون هذا الغير هو المحقّ.

كما تنادي الحداثة بأعلى الصوت أنّ لها خصوصيتين:

1- كونها من عالم الحقيقة.

2-  وكونها الظاهر والوعاء الذي يمكن أن تقدّم به الحقائق الأخرى، وليست البديل عنها.

أمّا الأولى فتحتّم أن يُتعامل معها كما ينبغي أن يتعامل مع الحقائق باعتبارها أكبر من الزمان.

وأمّا الثانية فتمنع أن تستغلّ لتقديم الحقائق بواسطتها بحيث تبدو هي أكبر من سائر الحقائق، أو بحيث يبدو الزمان أكبر من كلّ حقيقة.

وهكذا تتبدّى الحداثة متواضعة تأخذ موقعها الطبيعي بين الحقائق وفي خدمتها.

الحداثة الحقّ، صفة لحقيقة ثابتة، أو متحوّلة. في الأولى تكون الحداثة صفة ملازمة دائمة، وفي الثانية ترحل الصفة عند انقضاء المدّة وبدء التحوّل.

وعندما يكون موضوع البحث «النصّ المعصوم» مخزن أسرار الحقيقة، فالأصل أنّ الحداثة صفة ملازمة دائمة، والاستثناء أنّها صفة مفارقة لما انقضى زمنه، لأنّه كان من المتحوّل.

وبما أنّ المحور في الكون كما أراد الله تعالى هو «الإنسان»، فالحداثة رهن ما يبلور جوهرة الإنسانية، والتخلّف هو ما يخدشها، فضلاً عن أن يشوّهها أو يمسخها.

من هنا يتّضح أنّ الحداثة التي تمتلك مسوِّغ الاهتمام بها، هي حداثة العَرْض والأسلوب، وهي تتّسع لحقائق جديدة مكتشفة، لا تصلح إلّا لتعزيزالحقائق الأسس التي هي الثوابت الحديثة أبداً.

ولا مانع أبداً من وصف هذه الحقائق المكتشفة بالحداثة، على أن يراعى في ذلك أمران:

أ‌- أنّ حداثتها تثبت في مكان آخر يبحث فيه عن موقعها من الحقيقة، ولا علاقة له بالبحث عن الحداثة وعدمها.

ب‌- أن تكون الحداثة وصفاً للاكتشاف وليس للحقيقة.

يوصلنا هذا إلى أنّ إضفاء الاستقلالية على مفهوم الحداثة، أو نشر وهم أنّ هذا المفهوم لا يتّسع للخطأ والتهافت نوعُ تدليس، ليس بدعاً من الفعل في عالم يقوم على ذلك.

والمرجع في تحديد أنّ هذا هو السائد الآن، هو الموضوعية والوجدان.

منطقيّ جدّاً أن يكون البحث عن كلّ جديد هدفاً يصبّ في خدمة الثابت، أمّا أن يصبح الثابت هو الوسيلة إلى حدّ أن يصبح الإنسان عرضة للمسخ بحجّة هذه الوسيلة، فهو أمر غير منطقي ولا مفهوم!

ويكفي أن نتأمّل في ما آل إليه أمر «الأسرة» في ظلّ الفهم السائد للحداثة، لندرك جدّية الخطورة في هذا المنحى المقتل.

تمسّ الحاجة إلى البحث عن الحداثة خارج أخطبوط «الدورة الأمريكية الفرعونية»، أمّا البحث عن الحداثة في سوقها فهو وارتهان الفكر للبلاط من وادٍ واحد.

ويقتضي التزام ذلك التشكيك بكل ما يروّج له الفرعون، إلى حيث نستحضر دائماً -بالارتكاز إلى اليقين الثقافي «ذهنية المؤامرة»- أنّ الرشد في خلافه.

أمَا آن لنا أن ندرك أنّ الحداثة التي يريدون ليست إلّا ستاراً أمنياً، حيناً، وقصفاً مركّزاً مدروساً أحياناً، يغطّي الهجوم الذي تتوالى أرتاله.

إنّ من يَصدُرُ من فكر وثقافة مضمارهما الوجود كلّه بعالمَي «الغيب» و«الشهادة»، لا تتصاغر نفسه أمام بريق مصطلح الحداثة، فهو بانتسابه إلى مدرسة الخلود أوسع مدى وأرحب أفقاً وأكبر.

ولا يعني ذلك أن لا يتعاطى شأن الحداثة، فهو في ما يسمو عليها مقيم، وإنّما يعني أن لا يفقد أمام بريقها شيئاً من توازنه، ويجيد وضعها في سياقها الطبيعي في خدمة الثابت.

تتناسب عظمة الإنسانية مع استقرارها في جنان الخلد، وهي في الدنيا «فهم فيها منعّمون»، وسكونها إليها مطمئنة راضية مرضية، أنّها في الصراط المستقيم الذي يوصلها إلى حيث يكون غدها في الغيب تظهيراً لهذا الاستقرار وهذا السكون.

ولا تتناسب عظمة الإنسانية أبداً مع القلق الدائم والاضطراب المقيم، واللهاث خلف الحديث لتطبيق النفس مع الحداثة.

لا بدّ من ركنٍ تأوي الإنسانية إليه، ومنه تنطلق في مضامير الكدح والرقيّ والتكامل، أمّا أن تظلّ حائرة، كلّما ظنّت أنّها استقرّت واعتصمت فاجأها الحدثان بما لم يكن بالحسبان، فهو أمرٌ يرقى إلى مصافّ ارتهان الإنسانية لدورة الفلَك. وهذا هو ما يتمّ التسويق له الآن عبر تلميع مصطلح الحداثة.

وتبقى الحداثة ضرورة، ولكنّها حداثة العرض والتقديم، وأداة التناول وبلوغ الهدف.

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

نفحات