لفْظ الجلالة «الله» و«الرّحمن الرّحيم»

لفْظ الجلالة «الله» و«الرّحمن الرّحيم»

25/12/2011

انعكاسُ أشعّة المَعنى على اللّفظ

لفْظ الجلالة «الله» و«الرّحمن الرّحيم»
انعكاسُ أشعّة المَعنى على اللّفظ
___________ إعداد: «شعائر»____________


يتناول الشيخ البهائي قدّس سرّه في هذه الفصول من تفسيره لسورة الفاتحة، معنى لفظ الجلالة المقدّس، ويستعرض الآراء المختلفة لناحية اشتقاقه من «أَلِهَ» أو «وَلِهَ» وغيرها، ولكونه اسمَ علمٍ أم اسمَ جنس، ويشير إلى موارد تفخيمه وترقيقه. ثم يُبيّن كذلك الفرق بين صفتَي الله سبحانه: الرّحمن والرّحيم، وسبب تقديم الأولى على الثانية في القرآن الكريم.  


اختلف كلامُ أهل الكمال، وتشعّبت المذاهب والأقوال في لفظ الجلالة المقدّسة، كما اضطربت الأنظار والآراء، وتاهت أفكار العقلاء، في مدلولها المحتجِب بأنوار العَظَمة والجلال عن خفافش الوهم والخيال، فكأنّه قد انعكس بعضُ أشعّة المعنى على اللّفظ فبُهرت أبصار المتطلّعين إلى طريقه، وتلجلجت ألسنتُهم عند بيانه وتحقيقه.
فقيل هو لفظٌ عِبري، وقيل سرياني، وأصلُه «لاها»، فعُرِّب بحذف الألف الأخيرة وإدخال الألف واللام عليه.
وقيل هو عربيّ وأصله «إلَه»، حُذفت الهمزة [منه] وعوّضت عنها الألف واللام، ومن ثمّ لم يسقطا حال النداء، ولا وصلت تحاشياً عن العوض أو جزئه، وخُصّ القطع به [بالنداء] لتمحّضها [الألف واللام] حينئذٍ في العوضيّة تحرّزاً عن اجتماع أداتَي التعريف. وقيل بل حَذفُها مَقِيس على تخفيفها، فالتعويض من خواصّ الاسم المقدّس، وهو [أي إله] في الأصل اسمُ جنسٍ يقع على كلّ معبود، ثم غلَب على المعبود بالحقّ.
وأمّا لفظ الجلالة المقدّسة، فلم يُطلق إلّا على المعبود بالحقّ تعالى وتقدّس، ثمّ اختُلف في اشتقاق «الإله»، فقيل من أَلَهَ كعَبَدَ وزناً ومعنى، إلَهَةً كعبادة، وأُلوهةً وأُلوهيّةً بالضمّ. وهو بمعنى المألوه، كالكتاب بمعنى المكتوب. وقيل من أَلِهَ بالكسر بمعنى تحيّر، لِتَحَيُّر العقول فيه. وقيل بمعنى سَكَنَ لأنّ الأرواح تسكن إليه، والقلوب تطمئنّ بذكره. وقيل بمعنى فزع من أمر تُرك عليه، ومنه ألهه غيرُه، إذا أزال فزعه وأجاره، لأنّ العابد يَفزع إليه وهو يجيره في الواقع أو في زعمه الباطل. وقيل بمعنى أولع، إذ العباد مُولَعون بذكره والتضرّع إليه. وقيل من وَلِه بالكسر إذا تحيّر وتحبّط [تخبّط] عقلُه، وكان أصله ولاه، فقلبت الواو همزة لنَقل كسرتها. وقيل أصل لفظ الجلالة لاه، مصدر لاها وَلَهاً إذا احتجب وارتفع، لأنّه سبحانه مُحتجِبٌ عن إدراك الأبصار والبصاير، ومرتفع عن كلّ شيء وعمّا لا يليق بعزّ شأنه وسموّ سلطانه. وقيل هو عَلَمٌ للذات المقدّسة، واستُدلّ عليه بوجوه:
1- منها أنّه يُوصف ولا يوصف به، ومن ثمّ جعلوه في قوله تعالى: ﴿..إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي..﴾ إبراهيم:1-2، الله عطف بيان لا نعتاً. ويرد عليه أنّه لا يستلزم العَلَميّة، ولا ينفي كونه اسم جنس. وأيضاً، فالصفات الغالبة تُعامل معاملة الأعلام في كثير من الأحكام.
2- ومنها أنّ العرب لم تترك شيئاً من الأشياء التي يُحتاج في المحاورات إلى التعبير عنها إلّا وضعتْ له اسماً، فكيف يُترك مُوجِدُ الأشياء وخالقُها من دون اسم؟! ويرد عليه ما ورد أوّلاً على الأوّل.
3- ومنها أنّه سبحانه يُوصف بصفات خاصّة به جلّ شأنه، فلا بدّ له من اسم مختصّ به تجري عليه تلك الصفات، إذ الموصوف أخصّ أو مساوٍ. ويرد عليه ما ورد ثانياًَ على الأوّل.
4- ومنها أنّه لو كان وصفاً كما يقال من أنّه موضوع لمفهوم واجب الوجود المنحصر في فرد، لم يكن قوله «لا إله إلا الله» مفيداً للتوحيد مثل «لا إله إلّا الرّحمن»، إذ قد يكون حينئذٍ مفيداً لانحصار الإله في هذا المفهوم الكلّي، ويمكن أن يكون قائله معتقداً أنّ لذلك المفهوم أفراداً كثيرة. وربّما يُعارَض بأنّه لو كان علَماً لفردٍ معيَّن من مفهوم واجب الوجود، لم يكن ﴿قل هو الله أحد﴾ التوحيد:1، مفيداً للتوحيد، بجواز أن يكون ذلك المفهوم فردين أو أكثر في نفس الأمر، ويكون لفظ الجلالة علَماً لأحدهما، مع أنّهم جعلوا السورة من الدلايل السمعيّة للتوحيد. ويمكن أنّ أوّل هذه السورة إنّما هو دليل سمعيّ على الأحديّة التي هي عدم قبول القسمة بأنحائها، وأمّا الواحدية بمعنى نفي الشريك، فإنّما يُستفاد من آخرها، أعني قوله جلَّ وعلا: ﴿ولم يكن له كفواً أحد﴾ التوحيد:4، وبالنظر إلى ذلك سُمِّيت سورة التوحيد.
* وذهب جماعة إلى أنّ لفظ الجلالة في الأصل وصفٌ، لكن لمّا لم يُطلق على غيره جلّ شأنه أصلاً لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وصار له تعالى كالعلَم، أُجريَ مجراه، وليس في الحقيقة علَماً. واستدلّوا على بطلان القول بالعَلَمية بوجوه:
1- منها أنّ معنى الإشتقاق هو كون أحد اللّفظين مشاركاً للآخر في المعنى والتركيب، وهذا حاصل بينه وبين الأصول المذكورة قبيل هذا.
2- ومنها أنّه لو كان علماً أفاد ظاهر قوله تعالى، ﴿وهو الله في السماوات..﴾ الأنعام:3، معنى صحيحاً، لإشعاره حينئذ بالمكانية، تعالى الله عنها علوّا كبيراً، بخلاف ما لو كان وصفاً بمعنى المعبود بالحقّ. وفيه، أنّ الإسم قد يُلاحَظ معه معنًى يصلح به لتعلّق الظرف، كما يلاحظ في حاتم معنى الكرم، وفي الأسد معنى الإقدام، فليلاحظ هنا المعبود بالحقّ، لاشتهاره سبحانه بذلك في ضمن هذا الاسم المقدس.
3- ومنها أنّ ذاته تعالى من حيث هي، من دون اعتبار أمر حقيقي أو غيره، غير معقولة للبشر، فلا يمكن أن يُدلّ عليها بلفظ. وأُورد عليها أنّ أقصى ما يلزم منه عدم تمكّن البشر من وضع العلَم له جلّ شأنه، لا ما هو المُدّعى من أنّه ليس له سبحانه علَم. وقد صحّ أنّ أسماءه توقيفية، فيجوز أن يصنع هو لذاته المقدّسة عَلَماً. على أنّ القول بعدم تمكّن البشر من وضع العلَم محلّ كلام، إذ يكفي في وضع الإسم تعقّل المسمّى بوجه يمتاز به عمّا عداه.
ولِقائلٍ أن يقول: غرضُ المستدِلّ أنّ وضْع العلَم بخصوصيّة الذات المقدسة لا يليق بالحكمة لجريانه مجرى العَبث، لأنّ الغرض من الوضع هو التفهيم والتفاهم، لكنّ الدلالة على الذات المقدّسة بالعَلَم بحيث يُفهم منه معنى العَلَمي غير ممكنة، وإحضار المسمّى بشخصه في ذهن السامع عند إطلاق العَلَم ممّا لا سبيل إليه في ما نحن فيه، فإنّا معاشر البشر لا يخطر ببالنا عند سماع العَلَم نفس الموضوع له، أعني الذات المقدّسة أصلاً، لتقدّسها عن التلوّث بالحضور على وجه التشخّص في أذهاننا، بل لا يتعقّله جلّ شأنه إلّا بصفات، وسُلوب، وإضافات يمكنها [أذهاننا] فهم معانيها.
والظاهر أنّ هذا ليس مختصّاً بنا، بل الملائكة أيضاً مشاركون لنا في القصور عن إدراك المعنى العَلَمي، فقد ورد في الحديث أنّ الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وأنّ الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم.
وأمّا حكاية تمَكُّن البشر من وضع العَلَم للذات المقدّسة فلا يَخفى ما فيه، فإنّها إنّما يدرك بمفهومات كلّية منحصرة في فرد، فيكون اللّفظ موضوعاً في الحقيقة لمفهوم كلّي لا بجزئي حقيقي، فلا يكون علَماً، وإنّ جعْلَ المفهوم الكلّي آلة للوضع، وجعلَ الموضوع له الخصوصيّة التي تصدق عليها هذا المفهوم، كما قيل في هذا وأسماء الإشارة، وما هو من ذلك القبيل فتأمّل وتبصّر.

اللّام في لفظ الجلالة

تفخيمُ لام الجلالة المقدّسة طريقة شايعة لا يجوز خلافُها، وذلك إذا انضمّ ما قبلها أو انفتح، لا إذا انكسر. وربّما قيل بالتفخيم في الأحوال الثلاثة، ونُقل ذلك عن بعض القرّاء، وربّما أوهمه كلام الكشّاف. وحذْفُ الألف منها لَحنٌ تبطل به الصلاة، وإنّما ورد في الشعر للضرورة. ولا ينعقد به اليمين عندنا، إذ ليس مِن الأسماء المختصّة ولا الغالبة.
وفصَّل بعض الشافعية فقال: «أمّا اليمين الصريح -وهو عندهم ما ينعقد بمجرّد التلفّظ بالإسم، ولا يحتاج معه إلى أن ينوي الحالف الذات المقدّسة، كالحَلف بالأسماء المختصّة به تعالى، كالخالق والرّحمن- فلا ينعقد به. وأمّا اليمين الكنايتي -وهو عندهم ما يحتاج به إلى النيّة [نيّة] المذكور، كالحلف بالأسماء المشتركة، كالحيّ، والسميع، والبصير- فينعقد معها».
وأمّا أصحابنا رضي الله عنهم، فلا يُجوّزون الحَلف بالأسماء المشتركة غير الغالبة، ويعتبرون القصد المذكور في المختصّة والغالبة معاً، وتفصيل ذلك في كُتب الفقه، والله أعلم.


الرّحمن الرّحيم

الرحمة، رقّةٌ في القلب وتأثّرٌ يقتضي التفضّل والإحسان، ويُوصَف بها سبحانه باعتبار غايتها التي هي فعل، لا باعتبار مبدئها الذي هو الإنفعال، تَنزّه جلّ شأنه عنه. وأكثر أسمائه تعالى تُؤخَذ بهذا الاعتبار؛ كالرّحمن الرّحيم، وهما صفتان مشبّهتان من رحم بعد جعله لازماً بمنزلة الغرايز، بنقله إلى رُحم بالضمّ، والأظهر منعُ صرف «رحمن» لإلحاقه بالغالب في بابه، لا لتحقّق الشرط من انتفاء فعلانة، باختصاصه بالله سبحانه، لأنّه عارِض مع انتفاء الشرط عند من اعتبر وجود فَعلى، وهو أبلغ من «الرحيم»، لأنّ زيادة المباني تُنبئ في الأغلب عن زيادة المعاني، كما في قطَع وقطَّع، وهي هنا إمّا باعتبار الكمّ، وعليه حملوا ما ورد في الدعاء المأثور «يا رحمن الدّنيا ورحيمَ الآخرة»، لشمول رحمة الدّنيا للمؤمن والكافر، واختصاص رحمة الآخرة بالمؤمن.
وإمّا باعتبار الكيفيّة، وعليه حملوا ما ورد في الدّعاء أيضاً «يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا» لحسابه نعيم الآخرة بأجمعها، بخلاف نعيم الدنيا. وأنت خبير بأنّ زيادة المعنى في المشتقّ يكون بزيادة مدلوله التضمّني، أعني المعنى المصدري، ولا ريب في أنّ رحمة الآخرة كما هي زائدة على رحمة الدنيا كيفاً، فهي زائدة عليها كمّاً أيضاً، لتواترها، وعدم انقطاع أفرادها. بل لا نسبة للمتناهي، وهذا يقتضي عدم استقامة الاعتبار الأوّل في الدعاء الأوّل، لكنّهم اعتبروا فيه زيادة أفراد متعلّق المعنى المصدري، أعني «المرحومين»، ولعلّهم عدّوا جميع أنواع الرّحمة الواصلة إلى الشخص الواحد رحمةً واحدة. ثمّ لمّا كان «الرحمن» بمعنى البالغ في الرحمة غايتها، اختصّ بالله سبحانه، ولم يُطلق على غيره، لأنّه هو المتفضّل حقيقة، ومَن عداه طالبٌ بلطفه وإحسانه إمّا ثناءً دنيوياً، أو ثواباً أُخروياً، أو إزالة رقّة الجنسية، أو إزاحة خساسة البُخل وحبّ المال. ثمّ هو كالواسطة، فإنّ ذات النعمة وسَوقها إلى المنعم، وإقداره، وتمكينه من إيصالها، إلى غير ذلك، كلّها منه جلّ شأنُه وعَظُمَ امتنانُه.
 وإلى الاختصاص المذكور وشمول المؤمن والكافر، يومي ما روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه قال: «الرّحمن اسمٌ خاصٌّ لصفةٍ عامّة، والرّحيم اسمٌ عامّ لصفةٍ خاصّة».
وتقديمه على الرحيم مع اقتضاء الترقّي العكس، لتقدّم رحمة الدنيا، وللمحافظة على رؤوس الآي، ولأنّه لاختصاصه بالله سبحانه صار كالواسطة بين العلَم والوصف، فناسب توسّطه بينهما. ولأنّ الملحوظ أوّلاً في باب التعظيم والثناء هو عظايم النعماء وجلائل الآلاء، وما عداه يجري مجرى التتمّة والرديف.
وفي ذكر هذه الأسماء في «البسملة» التي هي مفتتح الكتاب الكريم، تحريكٌ لسلسلة الرّحمة، وتأسيس لمباني الجود والكرم، وتشييدٌ لمعالم العفو والرأفة، وإيماء إلى مضمون «سبقتْ رحمتي غضبي»، وتنبيهٌ إلى أنّ الحقيق بأن يُستعان بذكره في مجامع الأمور، هو المعبود الحقيقي البالغ في الرحمة غايتَها، والمولّي للنعم بجملتها عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها.
هذا، وربّما يوجد في كلام بعضهم أنّ في وصفه جلّ شأنه بالرحمة الأخروية ردّاً على المعتزلة، القائلين بوجوب إيصال الثواب إلى العباد في مقابل سوابق أعمال الخير الصادرة عنهم، فإنّ الوجوب عليه جلّ شأنه لا يجامع التفضّل والإحسان اللذين هما معنى الرحمة بالنسبة إليه سبحانه، وأنت خبير بأنّهم لا يقولون بأنّ جميع ما يصدر عنه تعالى من النعم الأخروية واجبٌ عليه، لِيلزمهم أن لا يكون جلّ شأنه متفضّلاً بشيء منها. وإنّما مذهبُهم وجوب بعض تلك النعم، أعني التي استحقّها المكلّفون في مقابلة [مقابل] الأعمال الصادرة عنهم، والآلام الواصلة إليهم. وأمّا باقي أنواع النعم وأصناف الإحسان، التي لا يحصر قدرها ولا يقدر حصرها، فهم لا يُنكرون أنّها تفضّلٌ منه جلّ شأنه، وإحسانٌ وترحّمٌ وامتنان.

 

اخبار مرتبطة

  آلُ محمّد صلّى الله عليه وآله  بين الحُبِّ والنّصب

آلُ محمّد صلّى الله عليه وآله بين الحُبِّ والنّصب

  سببُ ازديادِ حُبِّ الدّنيا

سببُ ازديادِ حُبِّ الدّنيا

  دوريات

دوريات

25/12/2011

دوريات

نفحات