في الترشيد الإجتماعي

في الترشيد الإجتماعي

30/03/2006

النفس البشرية شديدة الدقة، بعيدة غور المسارب، إلى حد أن معرفة الإنسان لنفسه ليست يسيرة التناول، فكيف بمعرفة نفس غيره؟ وهو مايحتم الصدور في كل مقاربة للنفس وشؤونها من مصدر تخصصي سمح له بولوج هذا السر الإلهي(النفس)وهو أمر

النفس البشرية شديدة الدقة، بعيدة غور المسارب، إلى حد أن معرفة الإنسان لنفسه ليست يسيرة التناول، فكيف بمعرفة نفس غيره؟ وهو مايحتم الصدور في كل مقاربة للنفس وشؤونها من مصدر تخصصي سمح له بولوج هذا السر الإلهي(النفس)وهو أمر منحصر بالمعصوم، وما علينا إن أردنا الإبحار في محيطات النفس إلا اعتماد سفن النجاة.{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.

بسم الله الرحمن الرحيم
 
من وحي حاجة مؤسساتنا التعليمية:
كليات في باب الترشيد الإجتماعي
الشيخ حسين كوراني


1-   لاحدود لاستصلاح الإنسان إلا مايقيمه الفرد بنفسه سداً دون صلاحه. ذلك أيسر ما ينبغي أن تستوضحه بجلاء من قاعدة أن الله تعالى يقبل التوبة من المسرف على نفسه الذي يمضي عمره في المنكر، ثم يتوب توبة حقيقية في أواخر عمره، بل قد يبلغ قبول التوبة حد تبديل السيئات حسنات! وهو مبدأ لانظير له في كل قوانين الدنيا، حيث للمواطنية الصالحة شروط ونُظم، لاتصل إطلاقاً إلى مسح ماضي المرتكب للجرائم مهما كان التبدل الذي بلغه واستقرعليه.
يتفرع على ذلك:
أ- أن موقع الإنسان عند الله تعالى فوق مانتصور بكثير، ويكفي أن الله تعالى يصرح بأنه خلق السماوات والأرض والكواكب للإنسان، وأن الإنسان خلق للبقاء لاللفناء.  يجب البحث عن حقوق الإنسان في الإسلام دون سواه، ودون الإصغاء إلى الدعاوى العريضة خارج المنظومة الدينية السليمة.
ب- ويتفرع على ذلك أن عملية الإستصلاح تستحق أن تكون رسالة الحياة، نضحي من أجلها بكل غالٍ ونفيس. بل إن استصلاح نفس واحدة يستحق ماتقدم: ".. خير لك مما طلعت عليه الشمس".
ج- ويتفرع عليه أيضاً – وهو بيت القصيد- أن تكون قداسة حفظ كرامة الشخص، المحور الذي يتحكم باختيار كل أساليب الترشيد والعلاج الإجتماعيين.
يعني ذلك بوضوح ضرورة اجتناب أي حديث عن الشخص الذي نتابع موضوعه لمصلحته، بطريقة تحط من قدره، فذلك بالتأكيد منافٍ لموقع الإنسان المكرم، وهوبالتالي مناقض للمصلحة التي هي المنطلق.
2-    أن النفس البشرية شديدة الدقة، بعيدة غور المسارب، إلى حد أن معرفة الإنسان لنفسه ليست يسيرة التناول، فكيف بمعرفة نفس غيره؟ وهو مايحتم الصدور في كل مقاربة للنفس وشؤونها من مصدر تخصصي سمح له بولوج هذا السر الإلهي( النفس) وهو أمر منحصر بالمعصوم، وما علينا إن أردنا الإبحار في  محيطات النفس إلا اعتماد سفن النجاة. { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.
 { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}.
ويتوقف هذا جذرياً على معرفة تفسير النبي وآله صلى الله عليه وعليهم، لآيات القرآن الكريم المرتبطة بمجال البحث، ومعرفة الحديث الشريف الثابت عنهم في مجالات النفس والمجتمع، فكل الصيد في جوف الفرا، وما وراء عبادان قرية.
3-   لايعني ماتقدم أن توصد الأبواب في وجه محاولات غير المعصوم، بل يعني أن غير المعصوم لايمكن أن يكون مرجعاً مختصاً فيؤخذ رأيه قاعدة ومنطلقاً، ولامانع من الإطلاع على كل مايقوله العاملون في الحقل الإجتماعي- النفسي، على قاعدة الرجوع في صوغ النتائج العملية إلى المختص وهي قاعدة يحكم بها العقل.
توضيح ذلك:
يواجه المعني بالترشيد الإجتماعي لنفسه وغيره، مهمتين: تشخيص الحالة. وتقديم العلاج. وفي المجالين يمكن الإفادة من معطيات علوم النفس والإجتماع على أوسع نطاق ممكن، ولكن بشرط عدم اعتبارها مرجعاً، وحَكماً فصلاً، وكأنها الوحي المنزل.
 وسنجد أن ذلك يكسب المتابع مخزوناً كبيراً يساعده على حسن التلقي من النص المعصوم: القرآن الكريم، والحديث الشريف، أما الإكتفاء بالمعطيات المذكورة فهو إقحام وترجيحٌ لرأي غير المختص في مجال تخصصي شديد التميز. إنه أشبه مايكون بترجيح رأي الحداد في حقل علم الذرة.
4-        لابد في مقام التشخيص من ملاحظة مدى الخطإ الذي ينتج من:
أ‌-   الجموح التلقائي - غالباً-  إلى قراءة سطح الصورة النفسية- الإجتماعية، أو عدم التنبه – رغم عمق التحليل- إلى كل أطياف هذه الصورة المركبة غالباً أيضاً.
ب‌-  والجموح كذلك  إلى إرجاع المشكلة النفسية إلى عامل واحد، وسبب متفرد.
كثيراً ماتكون الظاهرة المرضية النفسية خليطاً من الصور المتداخلة التي قد يَخدع بعضها فيَحجب غيرَه. وكثيراً مايكون سبب هذه الظاهرة مركباً هو الآخر رغم أنه قد يبدو وبعد شيء من التدقيق الأولي، بسيطاً لايتكون إلا من بُعدٍ واحد.
مثال الأول: تغييب الجبن أو الشجاعة عن تظهير الصورة ورسم ملامحها. أوتغيب انطباع الشخصية بثقافة الإستهلاك التلفزيونية المبتذلة من الصور المتحركةإلى "أحدث" سموم هوليود.( وهو عنوان كلي يكشف إدخاله في الحساب وتتبعه عن ملامح متعددة طبعت - بسببه - هذه الشخصية وتلك). 
 ومثال الثاني:  تفسير حالات شاذة بالفقر مثلاً، بما يستتبعه من حرمانٍ، خصوصاً في مجتمع استعراضي.
5-   يمكن الحكم بنجاح عملية الترشيد من خلال استجابة المعالج الفورية، مع إبقاء احتمال النكوص وارداً، ولايمكن الحكم بفشلها من خلال عدم الإستجابة الفورية، فاستصلاح الأرض قد يستدعي أحياناً دورة زمنية طويلة، فكيف باستصلاح النفس، ومن الخطإ الفادح أن نتوقع الإستجابة الفورية دائماً ونصدم لعدم تحققها، فالتربية ليست ( كبس أزرار) بل هي بذر الحقيقة في النفس في المناخ الأفضل، وتعاهدها بالرعاية المتناسبة معها.
6-   يرقى إلى عظيم مرتبة استصلاح الإنسان، خطير شروط الوقاية التي تجب مراعاتها لمنع انتشار العدوى من المريض، أو من محاولة تركيب العلاج إلى المعالج. فكما يتحتم تجنيب الطبيب الذي يعاني من درجة ما من نقص المناعة لجو العملية الجراحية الحساسة، كذلك يتحتم تجنيب المعالج النفسي- الإجتماعي، شيخاً أو غيره - لكل مايمكن أن يتسبب بانتشار المرض لدى محاولة علاجه، وإلا فسنقع في مايناقض الهدف المقدس الذي نذرنا أنفسنا له.
ومما يتفرع على ذلك عنوانان بارزان:
الأول: امتلاك المتصدي للعلاج النفسي- الإجتماعي للمناعة النفسية بحدها الذي يخرجه من كونه عرضة للتأثر السلبي بما يواجه، وهو أمر يمكن الحديث فيه عن ضوابط
 كلية، من قبيل: حسن السلوك، الزواج، كفاءة التحليل والإستنتاج. الدقة في رعاية الأحكام الشرعية.
وتبقى هذه الضوابط بعمومها وضبابيتها في الغالب، ضمن دائرة الحدود الدنيا، أما الحدودالعليا فهي رهن أمانة المتصدي، ونجاحه في مجال عمله.
7-   لايمكن للموحد أن ينطلق في مجالات أي تخصص إلا على قاعدة التوحيد، وخلاصة التوحيد أن أزمّة الوجود كلها وخصوصاً القلوب بيد الله تعالى الذي أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها، فأمر المريض مثلاً بالرجوع إلى الطبيب، ولكنه لم يأمر باعتبار الطبيب مسبب الأسباب، بل لابد لدى الرجوع إلى الطبيب من ملاحظة أنه إن اهتدى إلى حل، فليس ذلك إلا بعض عطاء الله تعالى.
8-   ولئن كان هذا المبدأ عاماً فإنه في ميدان العلاج الإجتماعي- النفسي – وهو هنا محل الحديث-  شديد الخصوصية لسببين:
الأول: أن كل الأمراض النفسية الفردية والإجتماعية مرتبطة جذرياً بالطاعة والمعصية. { بما كسبت قلوبكم. بما كسبت أيديكم. بما كسبت أيدي الناس}.
الثاني: استحالة العلاج النفسي بمعزل عن زوال الإعراض عن الله تعالى.
9-       والنتيجة هي: أن يكون التوجه إلى الله تعالى حاضراً دائماً في صميم عملية التشخيص والبحث عن العلاج. 
10-   ويتفرع على ذلك اعتماد الذكر والعبادة عموماً في عملية العلاج  في جميع  مراحلها، وهو باب واسع جداً في النصوص الإسلامية إلا أنه يكاد يكون مغيباً، ويرجع تغييبه إلى قرارٍ خاطيء منا باعتبار الغيب- بحسب الشائع -  نقيضاً للعقل، مع أن الإيمان به  أشد ثمرات العقل نضجاً واكتمالاً.
11- كما يعرف المختص العلاقة بين "الريموت كنترول"  وبين التلفاز، يعرف المختص في النفس البشرية العلاقة بين سورة ألم نشرح لك صدرك مثلاً، وبين سعة الصدر والتخلص من الكمد والضيق.
وكما يحارب الجاهل العلم فيتهم في المثال الأول المخترع بالشعبذة، يحارب الجاهل العلم فيتهم في المثال الثاني من يربط بين الكلام والشفاء فيتهمه بالطوباوية والرجعية. وليس غريباً أن يصدر هذا الإتهام من غير المؤمن، إلا أن الغرابة لاينقضي منها العجب في أن يصدر ممن يقرأ: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. أو يقرأ: استنزلوا الرزق بالصدقة. وهذان مجرد مثالين، كالقبس من الشمس.
12-  للرشد الإجتماعي وصلاح النفس مسار متكامل كما حدده الإسلام، تتضافر فيه عوامل متعددة، علَّها تشكل المناخ الذي يتكفل بإيداع بذار الصلاح في تربة النفس العجائبية.
ويشمل هذا المسارمايلي:
أ- الدعاء بصلاح الذرية.
ب-  حرص الأبوين على الطاعة خاصة في جو تشكيل الأسرة على أسس السلامة النفسية كما يريدها الله تعالى.
ج- استقبال الأم تكوَّن جنينها بعناية خاصة، وذلك بمزيد الحرص على الطاعة، والذكر، واستقبال الأب هذه المرحلة بمزيد من العناية باللقمة الحلال، والطاعة والذكر أيضاً.
د- مستحبات مرحلة الولادة. ومن أهمها العقيقة: أللهم لحمه بلحمها وعظمه بعظمها الخ. ولاينشأ الفهم المادي لذلك وأمثاله من النص بل من المسبقات التي تفرض عليه بحكم الخلل في مادية تفكير المتلقي. ينبغي حمل كل النصوص المشتركة الدلالة بين النفس والجسد على ماتحتمله دون بتر، بل ينبغي ملاحظة أن جوهر النصوص الإسلامية صريحة بما يجكم به العقل من أن كل عناية بالجسد تدور مدار العناية بالنفس البشرية.
هـ- العناية بتحصين البيت ومن فيه ومافيه بالذكر والأدعية والأحراز الخاصة، ولاسيما تعقيبات الصلاة، خصوصاً مايرتبط من ذلك بالإستعاذة: أعيذ نفسي وأهلي الخ
و-  العناية ببناء العلاقة بخارج البيت على أسس الرحمة والبذل والإيثار، فإن لذلك أثراً بالغاً على السلامة النفسية بمعناها الشمولي، وفي هذا السياق تقع ثقافة الصدقة بالبسمة والكلمة والموقف، ومنه الموقف المالي بل لايشكل إلا بعداً ثانوياً من أبعاده، تتوقف قيمته على عدم إتباع الموقف المالي بأدنى خدش معنوي. 
13-   في ضوء ماتقدم، يتحتم أن نبحث عن المشكلة النفسية في القناعات سواء الأسباب منها أو النتائج، ولاتقتصر القناعات على صاحب المشكلة، بل تنشأ قناعاته من جوه الذي انشد إليه إما البيت أو خارجه. إن دراسة عوارض شجرة، لاتنفصل إطلاقاً عن دراسة مكونات التربة، والماء، والمناخ، كما لاتنفصل عن دراسة تفاعل نتائج تلك العوامل ودور هذا التفاعل في تفاقم الظاهرة المرضية، في هذه الشجرة. كذلك هو الحال في شجرة سلوكية طيبة أو خبيثة.
14-  مما نفهمه عادة في المشاكل النفسية، أن من عاش يتم الحنان، يجب التعويض عليه بفيض الحنان، ومما يجب أن نفهمه في هَدْي المعصوم أن من قصَّر في تحصين نفسه وبيته وأسرته، فإن عليه( أعم من الإستحباب والوجوب) أن يعَوِّض ذلك بالعقيقة عن كل فرد، أو نية ذلك ليقوم به عند الإستطاعة، والصدقة عما مضى، وتخليص ماله من الحرام، أو الشبهة، والخروج من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، وكثرة الإستغفار والذكر. خصوصاً الإستعاذة.
يلفتنا ذلك إلى أهمية أن يشمل الترشيد الإجتماعي تقوية علاقة المرشد بمنبت من يعالج مشكلته، فربما أمكن علاج بعض الظواهر فيه من خلال علاجها في منبته.
15- يشكل المدخل إلى التأسيس لترشيدٍ نفسي – اجتماعي، الوقوف طويلاً وبكل موضوعية عند الرؤية التوحيدية في العلاقة بين الطاعة وفلاح التزكية، وبين الذنب وخيبة التدسية { قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها}. وسيكون لزاماً كما هو واضح الوقوف خلال ذلك عند قدرة الفعل الإستراتيجي لعلاقة النفس السليمة بربها عز وجل على عظيم التحول في النفس والمجتمع بسرعة أين منها سرعة الضوء.
16-  ومن الضروري التذكير بإلحاح على أن المدخل الطبيعي الذي يتيح هذه الفرصة الإلهية في التحول، إدراك أن الدين هو الحب: وهل الدين إلا الحب؟  وأن حب الله تعالى للناس هو الأساس، وليس العكس. وهنا يلتقي الختام بالمطلع: موقع الإنسان عند الله تعالى وعظيم أهمية استصلاحه.
17- ولايعني ذلك تغييب عامل الخوف في الترشيد، لكنه أبداً خوف من المحب الأكبر والأعظم، من وسعت رحمته كل شيء، الذي يخوفنا حناناً منه ورأفة، كما تخوِّف الأم وليدها من المخاطر.
على قاعدة الحكمة: وضع الشيء في موضعه، يجب رفع منسوب التخويف، في الحالات التي يغلب فيها طيش اللامبالاة، ويجب رفع منسوب الحب في الحالات التي يغلب فيها كمد اليأس المدمر.
18-  يجب التنبه إلى أن الوحدة من أخطر أمراض العصر، فقد أصبح لزاماً على الفرد في الغالب أن يعيش في البيت وحده، فالأم – عادة -  مشغولة أو غير قادرة على تجاذب أطراف الحديث مع ابنها ولا حتى ابنتها، والأب مشغول دائماً حتى في البيت بسهراته مع غير أسرته أو معها على شاشة التلفزيون، والمدرسة ليست غالبا المدرسة، بل هي محل لتحصيل الشهادات الفرصة الوحيدةلاعتراف المجتمع بهذا المخلوق! عبر مجازر نفسية واجتماعية.
 هذا الفراغ الذي يعيشه الفرد، خصوصاً في سن المراهقة، يفرض عليه أن يشكل قناعاته مبكراً، ويتصرف على أساسها!
 من هنا تبرز أهمية تبادل الحديث مع الناشئة خصوصاً، وإفساح المجال لهم ليتحدثوا، ويناقشوا، ويصغوا إلى وجهات نظر متعددة.
 

والحمد لله رب العالمين

اخبار مرتبطة

نفحات