لا تتمّ العبادة إلّا بمعونةٍ منه سبحانَه

لا تتمّ العبادة إلّا بمعونةٍ منه سبحانَه

منذ يومين

لا تتمّ العبادة إلّا بمعونةٍ منه سبحانَه


﴿مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين﴾
لا تتمّ العبادة إلّا بمعونةٍ منه سبحانَه
_______ إعداد: «شعائر»_______

يفسّر الشيخ البهائي قدّس سرّه في ما يلي الآيتين الرابعة والخامسة من سورة الحمد، متوقّفاً عند بعض المعاني المعمّقة؛ منها:
1- ما يترتّب على قراءتَي «مالِك» و«مَلِك»، وتخصيص مالكيّته أو ملكيّته تعالى ليوم الدين مع أنّه «مالك» و«ملِك» الأيّام كلّها.
2- تفصيل القول في المفعول المقدّم ﴿إيّاك﴾ لناحية تحديد الضمير فيه.
3- عرض وجوهٍ ثمانية في تقديم العبوديّة على الإستعانة في قوله ﴿إيّاك نعبدُ وإيّاك نستعين﴾، وخمسة وجوه في التكلّم بلسان الجمع لا الإفراد.

مالك ومَلِك

قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلَف ﴿مالك﴾، وقرأ باقي العشرة ﴿ملِك يوم الدين﴾، وقد يؤيّد القراءة الأولى بالإنطباق على قوله عزّ مِن قائل: ﴿يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذٍ لله﴾ الإنفطار:19. والثانية بأنّها أَدخلُ [ذات مدخليّة أقوى] في التّعظيم، وأنسبُ بالإضافة إلى يوم الدِّين، وأشدُّ طِباقاً بقوله جلّ شأنه: ﴿..لمن المُلك اليوم لله الواحد القهار﴾ غافر:16، وأنّه سبحانه وصف نفسه في خاتمة الكتاب بالملكيّة [بقوله: مَلِك الناس] بعد وصفه بالرُّبوبيّة، فيناسب الجريان في فاتحتِه على ذلك المِنْوال.
وما يتراءى من خدش هذا الوجه بمخالفته التّرتيب النُّزوليّ للتَّرتيب الحالي ليس بذاك، إذ يكفي سبقُ علمه عزّ وعلا باستقرار ترتيب القرآن على ما هو عليه الآن.
والمالك: مَن له التَّصرّف في الأعيان التي في حوزته كيف يشاء. والمَلِك: مَن له التَّصرّف في أمور العامّة بالأمر والنَّهي على سبيل الغَلَبة والإستيلاء.
 والدِّين: الجزاء، خيراً كان أو شرّاً، ومنه قولهم: «كما تدين تدان». والمرويُّ عن الباقر عليه السلام أنّ المراد به الحساب.
وإضافةُ إسم الفاعل إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به توسّعاً. والمراد: مالك يوم الأمور كلّها في ذلك اليوم. وسوّغ وصفَ المعرفة [الله] به [مالك يوم الدين]، إرادةُ المضيّ [الماضي]، تنزيلاً لمحقّق الوقوع [ما سيقع حتماً] منزلةَ ما وقع، على وتيرة: ﴿ونادى أصحاب الجنة..الأعراف:44، أو إرادة الإستمرار الثُّبوتي بناء على التَّنزيل المذكور وبقاء ذلك اليوم أبداً، وعلى التَّقديرَين [إرادة الماضي، أو الإستمرار] فالإضافة حقيقةً موجبةٌ للتَّعريف. [الإضافة الحقيقيّة هي نوعُ تعريف، والإضافة اللّفظيّة لا تفيد التعريف، فيصبح «مالك» –بالإضافة الحقيقية- معرفةً، ولذلك صحَّ أن يوصف به «الله» -في لله- الذي هو معرفةٌ]
 وأمّا القراءة الثانية [ملِك يوم الدين] فمؤونتها أخفّ، إذ هي من إضافة الصَّفة المشبّهة إلى غير معمولها [فالمعمول هو «الأمور كلّها»، أي ملِك الأمور كلّها في يوم الدِّين]، فهي [أي إضافة «ملك» إلى يوم الدِّين] حقيقيّة مثل: «كريم البلد»، إذ إضافتها اللّفظية [غير الحقيقيّة] منحصرةٌ في الإضافة إلى الفاعل لاشتقاقها من اللّازم، وهذا يصلح مؤيّداً خامساً لهذه القراءة. 
فإنْ قلتَ لِمَ لمْ يُجعل في القراءة الأولى [مالك يوم الدين] بدلاً [من الرّحمن الرّحيم] ليخفّ المؤونة أيضاً، فقد اختار المحقّقون جواز إبدال النَّكرة غير الموصوفة [هنا: «مالك» نكرة وليست موصوفة بل هي مضافة] من المعرفة [الرّحمن الرّحيم]، قلنا: لأنّ البدل [الحقيقي لا ما تدّعون] من المقصود بالنسبة والغرض [وهو الله في لله]، [-البدل الحقيقي- هو] أنّ الحمد ثابتٌ له جلَّ وعلا باعتبار هذه الصّفات [وهي ربُّ العالمين، الرّحمن الرّحيم، مالك يوم الدين]، وهو [أي هذا البدل الحقيقي] يفوت على هذا التقدير كما لا يخفى. [أي يصبح المعنى: الحمد لله المتّصف بأنه ربُّ العالمين والرّحمن الرّحيم، والبدل من ذلك هو «مالك يوم الدين»، فلم يعد الحمد له سبحانه لاتّصافه بصفات ثلاثٍ منها وثالثها «مالك يوم الدين»]. 
وتخصيص «اليوم» بالإضافة مع أنّه عزّ سلطانه ملِكٌ ومالِكٌ بجميع الأشياء في كلّ الأوقات والأيام، لتعظيم ذلك اليوم الهائل، ولمناسبة الإشارة إلى المَعاد، كما أنّ «ربّ العالمين» إشارةٌ إلى المبدأ، وما بينهما إشارةٌ إلى ما بين النَّشأتَين كما مرّ، ولأنّ المُلك والمِلك الحاصلَين في هذه النشأة لبعض الناس بحسب الظاهر، يزولان ويبطلان في ذلك اليوم، وينسلخ الخلائق عنهما انسلاخاً بيّناً، وينفرد جلّ شأنه بهما انفراداً ظاهراً على كلّ أحد.
وفي إجراء هذه الصفات الأربع عليه تعالى، تعليلٌ وتمهيدٌ لما اكتنَف بها سابقاً ولاحقاً من اختصاص الحمد [به] سبحانه، وقصْرِ العبادة والإستعانة عليه عزّ سلطانه دائماً، ولو بمعونة مقام التَّمدّح، إلى أنّ هذه الصفات هي الموجبة للتّخصيص والقصْر المذكورَين، وأنّ من لم يتّصف بها لا يستحقّ أن يُحمد فضلاً عن أن يُعبد، وفي ذكرها بعد اسم الذّات الدالّ على استجماع صفات الكمال، يلوح بأنّ من يحمده الناس ويعظّمونه إنّما يكون حمدُهم وتعظيمُهم له لأحد أمور أربعة:
1-  إمّا لكونه كاملاً في ذاته وصفاته.
2-  وإمّا لكونه مُحسناً إليهم ومُنعماً عليهم.
3-  وإمّا لأنّهم يرجون الفوز في الإستقبال والحال، بجزيل إحسانه، وجليل امتنانه عاجلاً وآجلاً.
4-  وإمّا لأنّهم يخافون من قهره وكمال قدرته وسطوته.
فكأنّه جلّ وعلا يقول: يا معشرَ الناس! إنْ كنتم تَحمدون وتُعظّمون للكمال الذاتي والصفاتي، فإنّي أنا الله، وإنْ كان للإحسان والتربية والإنعام، فأنا ربّ العالمين، وإن كان للرَّجاء والطَّمع في المستقبل، فأنا الرَّحمن الرَّحيم، وإن كان للخوف من كمال القدرة والسّطوة، فأنا مالك يوم الدِّين. "..". 

إيّاك نعبدُ وإيّاك نستعين

أكثر النُّحاة على أنّ «إيّا» هو الضمير، والكاف، والياء، والهاء الملحقة بها حروف زيدت لبيان الخطاب، والتكلُّم، والغَيبة، كتاء «أنت»، وكاف «رأيتك» "..".

والعبادة: أعلى مراتب الخضوع والتّذلّل، ولذلك لا يليق بها إلّا مَن كان مولياً لأعلى النِّعم وأعظمها؛ من الوجود، والحياة، وتوابعها، ومن قال إنّها لا تُستعمل إلّا في الخضوع لله تعالى، لعلّه أراد هذا، وإلّا فظاهره مصادمٌ لقوله تعالى: ﴿..وما تعبدون من دون الله حصب جهنم..﴾ الأنبياء:98. وأمّا ما رواه عمدة الإسلام رحمه الله في (الكافي) عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام: «مَن أصغى إلى ناطقٍ فقد عَبَدَه، فإنْ كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبدَ الله، وإنْ كان يؤدّي عن الشيطان فقد عبدَ الشيطان». فلعلّه ورد على سبيل المبالغة، أو أنّ العبادة فيه بمعنى الطّاعة.
وما في (مجمع البيان) من إنكار القول بأنّها بمعنى الطاعة، لعلّ المراد به إنكار كونها حقيقة فيها، فما في الصحاح وغيرها من تفسيرها بالطاعة لا ينافيه كما يُظنّ، فإنّ أكثر اللّغة كما قيل مجازات.

والإستعانة: طلب المعونة على الفعل، إمّا لتعذّر الإتيان به بدونها، أو لتعسّره. والمراد هنا، طلب المعونة في المهمّات وبأسرها، أو في أداء العبادة والقيام بوظائفها؛ من الإخلاص التامّ، وحضور القلب، وفي هذا نكتة أوردها في (التفسير الكبير) هي أنّ المتكلّم لمّا نسب العبادة إلى نفسه، أوهم ذلك تبجّحاً واعتداداً بما يصدر عنه، فعقّبه بقوله: ﴿وإيّاك نستعين﴾، يريد أنّ العبادة أيضاً لا تتمّ ولا تستتبّ إلّا بمعونة منه تعالى وتوفيق.

وتقديم العبادة على الإستعانة، يمكن أن يكون للإشارة إلى هذه الثلاثة، وللمحافظة على رؤوس الآي، ولأنّ العبادة من مدلولات الإسم المقدّس، إذ معناه المعبود بالحقّ، فكانت أحقّ بالقرب منه. ولأنّها مطلوب الله سبحانه من العباد، والمعونة مطلوبهم منه، فناسب تقديم مطلوبه على مطلوبهم، ولأنّ المعونة التامّة إنّما هي ثمرة العبادة ونتيجتُها -كما يظهر من الحديث القدسي: «ما يتقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ ممّا افترضتُ عليه، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمْعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويدَه التي يبطشُ بها»- ولأنّها [العبادة] أشدّ مناسبةً لما تُنبئ عن الجزاء.
والإستعانة أقوى اتّصالاً بطلب الهداية، ولأنّ التخصيص بالعبادة أوّل ما يحصل به الإسلام، وأمّا التخصيص بالإستعانة، فإنّما يحصل بعد الرسوخ التامّ في الدِّين، والترقّي في مراتب اليقين، فكان أحقّ بالتّأخير. ولأنّ العبادة وسيلة إلى حصول الحاجة، التي هي المعونة، وتقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة. فهذه وجوهٌ ثمانية لتقديم العبادة على الإستعانة.

 وتقديم مفعولَي العبادة والإستعانة عليهما للحصر، والتعظيم، والإهتمام، وتقديم ما هو مقدّم في الوجود، والإيماءِ إلى أنّ العابد والمستعين ومَن يحذو حذوهما، ينبغي أن يكون مطمح نظرهم أوّلاً وبالذّات هو الحقّ جلَّ شأنه، على وتيرة «ما رأيت شيئاً إلّا رأيت الله قبله»، ثمّ منه إلى أنفسهم لا من حيث أنّها ذواتُها، بل من حيث أنّها ملاحظةٌ له عزَّ وعلا ومنتسبةٌ إليه، ثمّ إلى أعمالهم؛ من العبادة، والإستعانة، والمناجاة وما شاكلها، لا من حيث صدورها عنهم، بل من حيث أنّها نسبةٌ شريفةٌ، ووصلةٌ لطيفة بينهم وبينه عزّ سلطانُه "..".
 وتكرير الضمير [إيّاك] للتّنصيص على التخصيص بالإستعانة، وإلّا لاحتمل تقدير مفعولها مؤخّراً، فيفوت دليل من يذهب إلى أنّ التخصيص إنّما هو لمجموع الأمرين، لا بكلّ منهما مع أنّه هو المطلوب، وللإستلذاذ بالخطاب، ولبسط الكلام مع المحبوب، كما في قول موسى على نبيّنا وعليه السلام ﴿..هي عصاي..﴾ طه:18.
وإيثار صيغة المتكلّم مع الغير على المتكلّم وحده، للإرشاد إلى ملاحظة القارىء دخول الحَفَظة، أو حُضّار صلاة الجماعة، أو كلّ ذرّة من ذرّات وجوده؛ من قواه، وحواسّه الظاهرة والباطنة، وغيرها، أو جميع ما حَوَته دائرة الإمكان، وانطوى عليه نطاق الحدوث، واتَّسم بسَمت الوجود، كما قال عزّ مِن قائل: ﴿..وإن من شيء إلّا يسبّح بحمده..﴾ الإسراء:44، وللإنذار بحقارة نفسه عند باب العَظَمة والكبرياء عن عرْض العبادة منفرداً، وطلب الإعانة مستقلّاً من دون الإنضمام والدُّخول في جملة جماعة يشاركونه في عرْض العبادة على ذلك الباب، وطلب الإعانة من ذلك الجناب، كما هو الدَأْب في عرْض الهدايا على الملوك، ورفع الحوائج، أو لقصدِ أنّه إنّما يتكلّم عن لسان غيره من المقرّبين، الذين لهم أهليّة المخاطبة وعرْض الحاجة لدى حضرة العزّة والجلال، وإنّما هو في مراحل عن الجريان على ذلك المنوال، أو لأنّ في خطابنا له عزَّ وعلا بأنّ خضوعنا التامّ واستعانتنا في المهمّات منحصران فيه جلّ شأنه لا يتجاوزان عنه إلى غيره، -مع خضوعنا الكامل لأهل الدنيا من الملوك والوزراء ومَن ينخرط في سلكهم- جرأةً عظيمة، وجسارةً بيّنة، فعدل في الفعلين عن الإفراد إلى الجمع، بُعداً عن هذه الشّنعة، لأنّه يمكن أن يقصد حينئذٍ تغليب الأصفياء الخُلّص على غيرهم، فيحترز عن تلك القرينة الظّاهرة، والتَّهوّر الشَّنيع بخلاف صيغة الإفراد.
وروي عن مالك بن دينار رضي الله عنه: «لولا أنّي مأمور من الله تعالى بقراءة هذه الآية ما كنت أقرأها قطّ لأنّي كاذبٌ فيها». وما أحسن قول رابعة العدويّة رضي الله عنها:

لك ألفُ معبودٍ مُطاعٌ أمرُه    دونَ الإلهِ وتدّعي التّوحيدا


أو لأنّ هنا مسألةً فقهيّة هي أنّ مَن باع أمتعة مختلفة، صَفْقَةً واحدة فكان بعضها مَعيباً، فإنّ المشتري لا يصحّ له أن يأخذ الصَّحيح ويردّ المَعيب، بل إمّا أن يردّ الجميع أو يقبل الجميع، فأراد العابد أن يحتال لقبول عبادته، ويتوصّل إلى نجاح حاجته، فأدرج عبادته النّاقصة المَعيبة في عبادات غيره من الأولياء والمقرّبين، وخلط حاجتَه بحاجات مَن عداه من الأصفياء المخلِصين، وعرض الجميع صفقةً واحدةً على حضرة ذي الجود والإفضال، فهو عزّ شأنه أجلُّ من أنْ يردّ المَعيب ويقبلَ الصّحيح، كيف وقد نهى عباده عن تبعيض الصَّفَقة، ولا يليق بكرمه ردّ الجميع، فلم يبقَ إلّا قبول الكلّ وفيه المطلوب. فهذه وجوهٌ خمسة في إيثار صيغة المتكلّم وحدَه، وبالله تعالى وحدَه الإعتصام.

اخبار مرتبطة

  قرن الإسلام، وعصرُ الشعوب

قرن الإسلام، وعصرُ الشعوب

  المُشايَعة والمتابَعة

المُشايَعة والمتابَعة

  دوريات

دوريات

منذ يوم

دوريات

نفحات