نعمةُ الشكر على النِّعمة

نعمةُ الشكر على النِّعمة

منذ يومين

نعمةُ الشكر على النِّعمة

قراءةٌ في جوهر الدّين
نعمةُ الشكر على النِّعمة
________السيّد محمّد حسين رئيس زاده*________


عندما ننظر وندقِّق في العالم الذي حولنا وفي أنفسنا نجد بأنَّ نِعَم‌ الله في الخلق كثيرة. تقول الآية الكريمة: ﴿..وإن تعدوا نعمة‌ الله لا تحصوها..﴾ إبراهيم:34. بطبيعة الحال، ليس المراد بأنَّ جميع أفراد البشر الموجودين في برهة معينة‌ من الزمان لا يستطيعون أن يحصوها، بل المراد أنّ كلّ البشر من النبيّ آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة، إذا اجتمعوا على ذلك، واستفادوا من كلِّ الوسائل المعدَّة للإحصاء، فإنّهم لا يستطيعون إحصاءَها. والدّليل على ذلك:
أوّلاً: أنَّ العطاء ونزول النعمة من الله تعالى مستمرّ ولا نهاية له، وما لا نهاية له لا يُمكن إحصاؤه. توضيح ذلك: إنَّ ما سوی الله هو ممكن الوجود، وقِوامُ عالم الإمكان بواجب الوجود. بمعنی أنَّ وجود الممكن رهنٌ بإعطاء الوجود له من الواجب، وما دام العالم الممكن موجوداً، فالعطاء يتحقّق، وتنزل النعمة من واجب الوجود.
ثانياً: إنَّ إحصاء النعمة أيضاً هي من النِّعم الإلهيّة. ففي كلِّ نعمة يجري إحصاؤها، تحصل نعمة جديدة أخرى. ولذلك نقرأ في مناجاة الشاكرين للإمام السجَّاد عليه السلام: «فآلاؤكَ جَمَّةٌ ضَعُفَ لِسانِي عَنْ إحْصائِها، وَنَعْماؤكَ كَثِيرةٌ قَصُرَ فَهْمِي عَنْ إدْراكِها فَضْلاً عَنْ اسْتِقْصائِها، فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ وَشُكْرِي إِيَّاكَ يَفْتَقِرُ إِلى شُكْرٍ؟ فَكُلَّما قُلْتُ: لَكَ الحَمْدُ، وَجَبَ عَلَيَّ لِذلِكَ أَنْ أَقُولَ: لَكَ الحَمْدُ».
فَنِعَمُ الله لا تُعَدّ ولا تُحصى، ومن أبرز نِعمه تعالى بعثةُ الأنبياء وهداية الإنسان. فالله عزّ وجلّ مَنَّ على الإنسان بإعطائه هذه النعمة: ﴿لقد منّ الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولاً من انفسهم يتلو عليهم آياته..﴾ آل عمران:164، و﴿يمنون عليك ان اسلموا قل لا تمنوا عليَّ اسلامكم بل الله يمن عليهم ان هداكم للإيمان..﴾ الحجرات:17.
والسرُّ في ذلك أنّ إتمام النعمة يرتبط ببعثة الأنبياء وإرسال الرُّسُل والهداية الإلهيّة للبشر: ﴿..اليوم اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي..﴾ المائدة:107.
ثالثاً: على ‌الرّغم من قدرة الإنسان على ‌تلبية حاجاته الماديّة عن طريق ما يتوصّل إليه من تصنيع بعض الأجهزة والمعدّات، لكنّه لا يمكن أن يحدِّد مصيره أو يهتدي الى طريق الكمال والسعادة بواسطة نفسه. لأنَّ التوصُّل إلى الكمال والسعادة يتوقَّف على معرفة عالم ما بعد الموت، وعلى بعض التساؤلات التي تدخل في معرفة‌ هذا العالم.
إنَّ الإجابة على هذه الأسئلة -بالإثبات أو النفي- تتوقّف على معرفة عالم ما بعد الموت، ولا يمكن للإنسان أن يتعرَّف على هذا العالم، لأنَّ وسائل معرفته المتمثِّلة بالحواسّ والتجربة والعقل إنّما هي وسائل ماديّة تتعلّق بعالم ما قبل الموت، ولا يمكن استخدامها للتعرُّف على العالم الآخر. ولا أحد من البشر أخبَرَنا بما حدث له بعد الموت، ولم نجرِّبه نحن أيضاً. إذاً، فوسائل معرفة الإنسان محدودة بهذا العالم المادّي ولا يمكنها أن تلبِّي حاجاته الأخرى. وهنا تأتي ضرورة الدِّين، والهداية الإلهيّة، إذ بغيابها يعجز الإنسان عن الهداية ومعرفة‌ طريق الكمال. وبهذا قال تعالى: ﴿..الحمد لله الذي هدانا..﴾ الأعراف:43.
رابعاً: لا يستطيع الإنسان أن يسلك طريق الكمال بما عنده من العلم والتجربة‌، بل يحتاج الى الدِّين وبعثة الرُّسل ليزكُّوه ويعلِّموه الكتاب والحكمة. لكن لا بدَّ من الإشارة هنا الى عدّة ثوابت:
الأولى: تحديد أنَّ دائرة نفوذ الدِّين هو أمرٌ بيد الله تعالى، لذا لا يحقّ للإنسان أن يحدِّد مدى ‌احتياجه إلى الدِّين وقوانينه بأن يقول: إنِّني أحتاج إليه في هذا القسم من حياتي، وأمّا في القسم الآخر فإنّني أستطيع -مثلاً- أن أَعتمد على علمي، وتجربتي. ذلك أنّ نسبة الإنسان إلی الدِّين كنسبة المريض إلی الطبيب الحاذق؛ المريض لا يحقّ له أن يحدِّد أو يقيِّد كيفيّة معالجة الطبيب لمرضه، لأنّه جاهل بالطِّب. كذلك الإنسان ليس عالماً بالطريق ويحتاج إلی الهداية الدّينيّة، فلا يحقّ له أن يقيِّد الدِّين في دائرة محدودة، فيقول في هذا القسم -مثلاً في علاقته بالله- أحتاج إلى‌ هداية ‌الله، أمّا في مجال العلاقات مع الآخرين ومع الطبيعة فلا أحتاج إلى الدستور والقانون الإلهي. ذلك لأنَّ الإنسان لا يمكنه أن يعرف مدى تأثير أعماله السياسيّة والإجتماعيّة على حياته ما بعد الموت -سلباً أو إيجاباً- لأنّه عاجز عن إدراك هذا الأمر، فعليه أن يتوجّه إلى ‌الدِّين، والدِّين هو الذي يحدِّد دائرة نفوذه وتدخُّله في مجالات حياة الإنسان وسلوكه وليس العكس. بناءً على ذلك، على المؤمن أن يعرف الدِّين حتّى يميِّز بين الأمور التي شملها الأمر والنَّهي الإلهيّين، والأمور التي تمَّ فيها تفويض الأمر الى الإنسان.
الثانية: بطلان العلمانيّة. الأخذ بالعلمانيّة بحجّة أنَّ الدّين لا يحقّ له التدخُّل في الشؤون السياسيّة والإجتماعيّة كما قالت به جماعة غير صحيح، لأنّنا -كما قلنا- لا يحقّ لنا أن نحدِّد مدى صلاحيّة‌ الدِّين في التدخُّل في شؤون الإنسان.
الثالثة: عدم تديُّن البشر لا يضرّ الله عزّ وجلّ. الخالق المُتَعال لا يحتاج إلى التزام الناس بالدِّين وعبوديّته؛ فمَن انحرف عن الدِّين لا يضرّ الله ولا يسبِّب له الخسارة، بل الضَّرر والخسارة ترجع إلى الإنسان أوّلاً وبالذات.
الرابعة: ضرورة الشكر علی الدِّين. إذا قلنا بأنَّ الدِّين والهداية‌ الإلهيّة هما من النِّعم الإلهيّة، فإنَّ الدِّين يدخل في القاعدة الكلّية، وهي: ﴿..لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد﴾ إبراهيم:7. وشكرُ كلِّ شيءٍ بِحَسبه، والشكر علی الدِّين هو الإلتزام الإعتقادي والعملي بطقوس الدِّين وقوانينه.
الخامسة: جوهر الدِّين. جوهر الأديان السماويّة هو العبوديّة لله تبارك وتعالى، والعبوديّة هي طاعة مَن أَمَر الله سبحانه وتعالى بإطاعة أمره من الأنبياء صلوات الله عليهم وولاة الأمر المعصومين عليهم السلام، وكذلك المُعيَّنين من قِبَل المعصومين في زمن الغَيْبة، وهم الفقهاء، والأولياء الفقهاء.
لقد كانت دعوة الأنبياء مركَّزة على العبوديّة لله تعالى، وهي محوَر الصراع بين الأنبياء والطُّغاة. إنَّ الطُّغاة يدعون الناس إلى طاعة أنفسهم، والأنبياء يدعونهم إلى طاعة الله، وهذا الصراع مستمرّ إلى يوم القيامة، وما دام هناك حقٌّ وباطل، وينتهي بانتصار أهل الحقّ على الباطل ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون﴾ الأنبياء:105. إنّ كلّ حركة تنتمي إلى مدرسة الأنبياء عليهم السلام، ميزتها أنّها تدعو الناس إلى طاعة الله والخروج عن سيطرة الطاغوت.

ما دامت هذه الحركة تسير في نهج الأنبياء ومسيرتهم، لا بدّ وأن يستمرّ العداء بينها وبين الطُّغاة والمستكبرين. وهذا هو سرّ الموقف العدائي الذي تتَّخذه دول الشرق والغرب تجاه الثورة الإسلاميّة في إيران بقيادة الإمام الخميني الراحل رضوان الله عليه والسيّد القائد الخامنئي حفظه الله.

مع تجربة الثورة الإسلاميّة في إيران

 إنَّ الثورة الإسلاميّة قامت على أساس إحياء الإسلام وتطبيق تعاليمه، حيث ضحَّى الشعب الإيراني وقدَّم الكثير من الشهداء والمصابين من أجل ثبات أُسُس الإسلام وتعاليمه، وكان نداء الثورة وشعارها هو سيادة القِيَم الإسلاميّة في إيران والعالم أجمع، تمهيداً لظهور الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وتشكيل حكومة إسلاميّة عالميّة.
هذه الثورة تحقَّقت بقيادة رجال الدَّين والمرجعيّة الدينيّة، وَدَعت الشعب إلى التمسُّك بالإسلام وتطبيق قوانينه، وحرّرته من التبعيّة للطاغوت والإستكبار العالمي. إذاً، فسِرُّ العداء الذي يكنُّه الغرب للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ومحاربته لها، يكمن في شموليّة الثورة وعالميّتها.
إنَّ الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة تواجه اليوم شتّى الضغوطات التي تُمارَس ضدّها من قِبَل قوى الإستكبار العالمي، المتمثَّلة في المحاصرة الإقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة، والهجوم الإعلامي والثقافي، وممارسات العنف ضدّها كالإغتيالات والتهديدات. لكنَّنا متأكِّدون بأنَّ الثورة الإسلاميّة، إنْ تمسَّكَت بأهدافها المقدَّسة ودافعت عن قِيَمها، سوف تواصل مسيرتها المقدَّسة وتنتصر، لأنّنا نؤمن بالوعد الإلهي بنصرة المؤمنين، حيث لَمَسنا هذا الدّعم الإلهي منذ بداية الثورة الإسلاميّة وحتى يومنا هذا، فلولا التأييد الإلهي لَمَا استمرّت الثورة الإسلاميّة. 
المهمّ هو مسيرة الثورة الإسلاميّة الحقّة، وما حقَّقَته من تطوُّر ونمو مستمرّ في مجال الإقتدار والإكتفاء الذاتي، مقابل ما تواجهه أمريكا والكيان الصهيوني من ضعف وفشل على مختلف الصُّعُد. إذا ما قارنّا بين وضع النظام الإسلامي في إيران ووضع الإستكبار العالمي خلال مسيرة الثلاث والثلاثين سنة، نجد أنَّ القدرة العسكريّة والعلميّة والتكنولوجيّة والإقتصاديّة والسياسيّة للثورة الإسلاميّة هي في حالة تطوُّر ونموٍّ مستمرّ، مقابل ما يواجهه الغرب من تراجع في البُنْية العسكريّة والسياسيّة والإقتصاديّة. فقبل ثلاثين سنة مثلاً، كانت الثورة الإسلاميّة تتمتّع بقدرات عسكريّة محدودة، أمّا اليوم فقد توصّلت إلى مرحلة الإكتفاء الذاتي على مختلف الصُّعُد، وواجهت العديد من المشاكل والمؤامرات مِن قِبَل دول العالم الغربي والشرقي (الإتّحاد السوفياتي البائد).
في بداية إنتصار الثورة الإسلاميّة، كان الإستكبار العالمي يفرض معادلة الذِّئب والحَمَل في هيمنته على العالم، لكنّ الثورة الإسلاميّة إستطاعت بثباتها وبالإنتصارات التي حقَّقتها، وبتمسُّكها بالقِيَم الإسلاميّة الدّينيّة، أنْ تغيِّر مقاييس هذه المعادلة وتُبيِّن زيفها وكذِبها. ﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا﴾ الجن:16. ﴿ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون﴾ فصلت:30.
 
*المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان  




اخبار مرتبطة

  قرن الإسلام، وعصرُ الشعوب

قرن الإسلام، وعصرُ الشعوب

  المُشايَعة والمتابَعة

المُشايَعة والمتابَعة

  دوريات

دوريات

منذ يومين

دوريات

نفحات