أحسن الحديث

أحسن الحديث

منذ 3 أيام

وظائفُ تلاوةِ القرآن وأسرارُها

وظائفُ تلاوةِ القرآن وأسرارُها
حظُّ القلب الإتّعاظُ والتّأثّر
____ إعداد: سليم علي أحمد____



في رسالته الموسومة بـ (التّنبيهات العَليّة على وظائف الصّلاة القلبية) والمطبوعة ضمن (رسائله) يفصّل الشهيد الثاني زين الدين الجُبعي العاملي قدّس سرّه الكلام حول تعقيبات الفرائض، ويستهلّها بالحديث على آداب تلاوة كتاب الله المجيد ضمن ثمانية عناوين هي: حضور القلب. التدبّر. التّفهّم. التخلّي عن موانع الفهم. تخصيص القارئ نفسه بالخطاب. التأثّر. الترقّي. التبرّي.  

وإنْ عقّبتَ بشيءٍ من القرآن، فينبغي أن تتدبّر بعضَ وظائفه لتقوم بشروطه، وتمتثل مرسومَ حدوده، كما ينبغي ذلك لكلّ قارئ. وما ورد في ثواب قراءة القرآن والحثّ عليه يخرج ذكرُه عن موضوع الرّسالة، فَلْنذكر مهمّ وظائفه ملخّصاً وهي أمور:

الأوّل: حضور القلب وتركُ حديث النّفْس. قِيل في تفسير قوله تعالى: ﴿يا يحيى خذ الكتاب بقوة..﴾ مريم:12، أي بجدّ واجتهاد، وأخذُه بالجدّ أن يتجرّد عند قراءته بحذف جميع المُشغلات والهموم عنه.

الثاني: التدبّر. وهو طورٌ [أي حالة] وراء حضور القلب، فإنّ الإنسان قد لا يتفكّر في غير القرآن، ولكنّه يقتصر على سُماع القرآن وهو لا يتدبّره. والمقصود من التّلاوة التدبّر. قال سبحانه: ﴿أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ النساء:82، وقال تعالى: ﴿..ورتّل القرآن ترتيلاً﴾ المزّمل:4، لأنّ الترتيل يُمكِّن الإنسان من تدبُّر الباطن. وقال النبي صلّى الله عليه وآله: «لا خيرَ في عبادةٍ لا فقه فيها، ولا خيرَ في قراءةٍ لا تدبُّر فيها». وإذا لم يُمكن التدبّر إلّا بالترديد، فليُردّد. قال أبو ذرّ رضي الله عنه: «قام رسول الله صلّى الله عليه وآله ليلةً يردِّد قوله تعالى: ﴿إنْ تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم﴾ المائدة:118».

 الثالث: التّفهُّم، وأن يستوضح من كلّ آيةٍ ما يَليق بها، إذ القرآن يشتملُ على ذكر صفات الله تعالى وأفعاله، وأحوال أنبيائه والمكذّبين لهم، وأحوال ملائكته، وذِكر أوامره وزواجره، وذكر الجنّة والنار، والوعد والوعيد. فليتأمّل معاني هذه الأسماء والصّفات، لِيَنكشف له أسرارُها، فإنّ تحتها أسرارَ الدقايق وكنوزَ الحقايق. قال الله تعالى: ﴿قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مدداً﴾ الكهف:109. وقال عليٌّ عليه السلام: «لو شئتُ لَأَوْقَرْتُ سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب». وعن ابن مسعود: «من أراد أن يعلم علم الأوّلين والآخرين فعليه بالقرآن».
فمن لم يتفهّم معاني القرآن في تلاوته وسماعه، ولو في أدنى المراتب دخل في قوله تعالى: ﴿أولئك الذين طبع الله على قلوبهم..﴾ النحل:108، وقوله: ﴿أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها﴾ محمّد:24.

الرابع: التخلّي عن موانع الفهم. فإنّ أكثر الناس مُنعوا من فهم القرآن لأسبابٍ وحُجبٍ أسدلَها الشيطانُ على قلوبهم فحُجِبت عن عجائب أسراره. قال صلّى الله عليه وآله: «لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت». ومعاني القران وأسراره من جملة الملكوت.

والحُجُب الموانع منها:
1- الإشتغال بتحقيق الحروف، وإخراجُها من مخارجها والتشدّق بها من غير ملاحظة المعنى. وقيل: إنّ المتولّي لحفظ ذلك شيطانٌ وُكِّل بالقراءة ليصرف عن معاني كلام الله تعالى، فلا يزال يحملُهم على ترديد الحروف، ويخيّل إليهم أنّه [الحرف] لم يخرج من مخرجه، فيكون تأمّله مقصوراً على مخارج الحروف. فمتى ينكشف له المعاني؟ وأعظم ضحكةً للشيطان [على] من كان مُطيعاً لمثل هذا التلبيس.
2- أن يكون مبتلًى من الدنيا بهوًى مُطاع، فإنّ ذلك سببٌ لظُلمة القلب، كالصّدأ على المرآة، فيمنع جلية الحقّ أن يتجلّى فيه، وهو أعظمُ حجابٍ للقلب، وبه حُجِب الأكثرون، وكلّما كانت الشهوات أكثر تراكماً على القلب، كان البُعد عن أسرار الله تعالى أعظم، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله: «الدّنيا والآخرة ضرّتان»، فَبِقدر ما يتقرّب من إحداهما يبتعدُ من الأخرى.

الخامس: أن يخصّص نفسه بكلّ خطابٍ في القرآن؛ مِن أمرٍ ونَهي، أو وعدٍ ووعيد، ويقدِّر أنّه هو المقصود، وكذلك إنْ سمع قصص الأوّلين والأنبياء عليهم السلام، وعلم أنّ مجرّد القصّة غير مقصود، وإنّما المقصود الإعتبار، ولا يعتقد أنّ كلّ خطابٍ خاصٍّ في القرآن أراد به الخصوص، فإنّ القرآن وساير الخطابات الشرعية واردة على طريقة «إيّاك أعني واسمعي يا جاره»، وهي كلُّها نورٌ وهدى ورحمة للعالمين، ولذلك أمر الله تعالى الكافّة بشكر نعمة الكتاب فقال: ﴿..واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به..﴾ البقرة:231. وإذا قدّر أنّه المقصود لم يتّخذ دراسة القرآن عملاً، بل قراءةً كقراءة العبد كتابَ مولاه الذي كَتبه إليه، ليتدبّره ويعمل بمقتضاه. قال حكيم: «هذا القرآن أتانا من قِبل ربّنا بعهوده نتدبّرها في الصلاة، ونقف عليها في الخَلوات، ونعدّها في الطّاعات بالسُّنن المتّبعات».

السادس: التأثّر. وهو أن يتأثّر قلبُه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كلّ فهمٍ حالٌ ووجْدٌ يتّصف به عندما يوجّه نفسه في كلّ حالٍ إلى الجهة التي فهمَها؛ من خوفٍ، أو حزنٍ، أو رجاء، أو غيره، فيستعدّ بذلك وينفعل، ويحصل له التأثّر والخشية. ومهما قوِيت معرفتُه كانت الخَشية أغلب الأحوال على قلبِه، فإنّ التضيّق غالبٌ على العارفين، فلا يرى ذكر المغفرة والرّحمة إلّا مقروناً بشروطٍ يقصر العارفُ عن نيلِها، كقوله تعالى: ﴿وإنّي لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثمّ اهتدى﴾ طه:82، فإنّه عزّ وجلّ قَرَنَ المغفرة بهذه الشروط الأربعة. وكذلك قولُه تعالى: ﴿والعصر * إنّ الإنسان لفي خسر﴾ العصر:1-2، إلى آخر السورة، وذكر فيها أربعة شروط. وحيث أوجز واختصر ذكر شرطاً واحداً جامعاً للشرايط فقال تعالى: ﴿..إنّ رحمة الله قريبٌ من المحسنين﴾ الأعراف:56، إذ كان الإحسان جامعاً لكلّ الشرايط.
وتأثُّر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المَتلوّة، فعند الوعيد يتضاءل من خشية الله، وعند الوعد يستبشر فرحاً برحمة الله، وعند ذكر الله وأسمائه يتطأطأ خضوعاً لجلاله، وعند ذكر الكفّار في حقّ الله ما يمتنع عليه كالصاحبة، والولد، يغضُّ صوته، وينكسر في باطنه حياءً من قُبح أفعالهم، ويكبّر الله ويقدّسه عمّا يقول الظالمون، وعند ذِكر الجنّة ينبعث بباطنه شوقاً إليها، وعند ذكر النار ترعد فرائصُه خوفاً منها. ولمّا قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لابن مسعود: «اقرأ عليّ». قال: ففتحتُ سورة النساء، فلمّا بلغت ﴿فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً﴾ النساء:41، رأيتُ عينيه تذرفان من الدّمع، فقال لي: «حَسْبُك الآن»، وذلك لاستغراق تلك الحالة لقلبه المقدّس بالكلّية، والقرآن إنّما يُراد لهذه الأحوال، واستجلابها إلى القلب، والعمل بها. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إقرأوا القران ما ائتلفت عليه قلوبُكم ولانت عليه جلودُكم، فإذا اختلفتم فلستم تقرؤنه»، وقال الله تعالى: ﴿..الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربّهم يتوكّلون﴾ الأنفال:2، وإلّا فالمؤونة في تحريك اللّسان خفيفة.
ورُوي أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله ليعلّمه القرآن، فانتهى إلى قوله تعالى: ﴿فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره﴾ الزلزلة:7-8، فقال: يكفيني هذا وانصرف. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «انصرفَ الرّجلُ وهو فقيه».
وأمّا التّالي باللّسان، المُعرضُ عن العمل، فجديرٌ أن يكون المراد بقوله تعالى: ﴿ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيمة أعمى﴾ طه:124. وإنّما حظُّ اللّسان تصحيح الحروف بالتّرتيل، وحظُّ العقل تفسير المعاني، وحظُّ القلب الإتّعاظُ والتأثّر بالإنزجار والايتمار. [أن يأتَمِر]

السابع: الترقّي. وهو أن يوجّه قلبَه وعقله إلى القبلة الحقيقية، فيستمع الكلام من الله تعالى لا من نفسه. ودرجاتُ القراءة ثلاثة:
* أدناها: أن يقدّر العبد كأنّه يقرأ على الله عزّ وجلّ، واقفاً بين يديه، وهو ناظرٌ إليه ومستمعٌ منه، فيكون حالُه عند هذا التقدير؛ السؤالُ والتضرّعُ والإبتهال.
* والثانية: أن يشهد بقلبه كأنّه سبحانه وتعالى يُخاطبُه بألطافه، ويُناجيه بإنعامه وإحسانه، وهو في مقام الحياء والتعظيم لمِنن الله والإصغاء إليه، والفهم منه.
* الثالثة: أن يرى في كلام المتكلّم وفي الكلمات الصّفات، ولا ينظر إلى قلبِه، ولا إلى قراءته، ولا إلى التعلّق بالإنعام من حيث هو مُنعَمٌ عليه، بل يقتصر الهمُّ على المتكلِّم، ويُوقف فكرَه عليه، ويستغرق في مشاهدته، وهذه درجة المقرّبين، وعنها أخبر جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام بقوله: «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يُبصرون». وقال أيضاً وقد سألوه عن حالةٍ لحقتْه في الصّلاة حتى خرّ مَغشيّاً عليه، فلمّا أفاق قيل له في ذلك، قال: «ما زلتُ أردّد هذه الآية على قلبي حتّى سمعتُها من المتكلِّم بها، فلم يثبت جسمي لمُعاينةِ قدرتِه».
 
الثامن: التبرّي. والمُراد به أن يتبرّأ مِن حوله وقوّته، فلا يلتفت إلى نفسه بعين الرضا والتزكية، فإذا تلا آيات الوعد ومَدْح الصالحين حذف نفسه عن درجة الإعتبار، وشهد فيها المُوقنين والصدّيقين، ويتشوّق إلى أن يُلحقَه اللهُ بهم. وإذا تلا آيات المَقت والذمّ للمقصّرين شهدَ نفسه هناك، وقدّر أنّه المخاطَب خوفاً وإشفاقاً. وإلى هذه المرتبة أشار أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين عليه السلام في الخطبة التي يصف فيها المتّقين بقوله: «وإذا مرّوا بآيةٍ فيها تخويفٌ أصغَوا إليها مسامع قلوبهم، فظنّوا أنّ زفيرَ جهنّم في آذانهم..». ومَن رأى نفسه بصورةِ التقصير في القراءة كان ذلك سببَ قربِه، ومَن شاهد نفسه بعين الرضا فهو محجوبٌ بنفسه.
فهذه نبذةٌ من وظائف القراءة وأسرارها، وفّقنا الله لتلقّي الأسرار، وألحقنا بعباده الأبرار.

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  دوريات

دوريات

24/03/2012

  كتب أجنبية

كتب أجنبية

نفحات