حوارات

حوارات

منذ 4 أيام

حوار مع آية الله الشّاهرودي

حوار مع آية الله الشّاهرودي
من سيرة الشّهيد السّيّد محمّد باقر الصّدر قدّس سرّه
ـــــ إعداد: «شعائر» ـــــ

* مُقتطفات من حوار مطوّل أَجرَته مجلّة (شاهد ياران) الإيرانيّة (العدد الثامن عشر الخاصّ بالشّهيد السّعيد آية الله السيّد محمّد باقر الصّدر) في نيسان من العام 2007 م، مع المرجع الدّيني آية الله السيّد محمود الشاهرودي حفظه الله، بصفتِه مِن أَبرز وُكلاء الشّهيد الصّدر، وتلامذته الملازمين له حتّى العام 1979 م.
* أضاء السيّد الشّاهرودي في هذا الحوار (أعادت نشره معرّباً مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد السادس، تشرين ثاني 2009) على جوانب مهمّة ومُغيَّبة من الجهاد السّياسي والعطاء العلمي المتميّز للشّهيد الصّدر، موشّحاً إيّاها بحديثٍ عن مَلَكاته الأخلاقيّة الفاضلة في التّعامل مع الآخرين، لا سيّما مع تلامذته الّذين «كان الواحدُ منهم يعتبرُه أقربَ إليه من أبيه».
* النّصّ المنشور في باب «حوارات» من هذا العدد، نقلاً عن (الاجتهاد والتَّجديد) بترجمة الشيخ أحمد أبو زيد.

O عندما شَرَعنا في تحضير هذا العدد الخاصّ والمميَّز، رجعنا إلى كافّة المنشورات والمجلّات التي تمحوَرَت حول الشّهيد الصّدر، وعلى الرّغم من كونكم أكثر مَن عايَشَ الشّهيد الرّاحل واطّلاعِكم الواسع على عطائه الفكري، إلَّا أنّكم غبْتُم بشكلٍ واضح وملحوظ عن مسارح هذه المنشورات، حتّى شكّلتُم الحلقة المفقودة الّتي يلاحقها الباحثون في هذا المجال، فليَكُن سؤالنا الأوّل عن دواعي هذا الصَّمت المطبق ومبرّراته؟
السؤال الذي تفضّلتم به سؤالٌ ظريف، والحقيقة أنّ دواعي هذا الصَّمت عديدة:
أوّلاً: إنّ الحديث عن شخصيّات عظيمة ومرموقة من هذا القبيل ليس بالأمر الهيّن على الإطلاق.
ثانياً: إنّ ما تحلّى به الشّهيد الصّدر من خصال سياسيّة واجتماعيّة جعلت أكثر الّذين يكتبون عنه يَسعون إلى وَصْله والانتساب إليه بنحوٍ من الأنحاء، ثمّ إلى توظيف ذلك لصالح التّيّار السّياسي الذي ينتمون إليه، تماماً كما حصل مع الإمام الخميني. وكنتُ أنأى بنفسي عن دخول هذه الميادين؛ لأنّني كنتُ سأضطرُّ إلى نفي أمورٍ والمصادقة على أخرى، الأمر الذي كنتُ أحذر منه وأتجنَّبه، خاصّةً في السِّنين الأولى التي أَعْقَبت استشهاد الشّهيد الصّدر، مع ما حفلت به من ظروف خاصّة جدّاً واستثنائيّة مرتبطة بالحرب العراقيّة الإيرانيّة، والنّضال ضدّ نظام صدّام حسين. ولهذا رأيتُ أنّ الابتعاد عن هذه السّجالات هو الأفضل والأصلح للسّاحة السّياسيّة، وأنّ من الأفضل كذلك عدمَ تفعيل الخلافات ومنعَها من الظُّهور إلى السّطح.
وكما أَشرتُم، لربّما لم يَصدر حول الشّهيد الصّدر إلى اليوم أثرٌ جامعٌ مانع، كما أنّه لم يتمّ إلى اليوم البحث حول أبعاد شخصيّته. وكما سبقَ وذكرتُ، فإنّ الصّعوبة التي تَكتنف هذه المهمّة قد أقامت دون تحقيقها سدّاً؛ لأنّ المعرفة اللّازمة والاطّلاع الكافي ليسا بالأمر الهيِّن، إضافةً إلى التّجاذبات التي ظهرت بين عددٍ من الوجوه والأطياف السياسيّة.
هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإنّ انشغالي بأمور أخرى جعلني أفضّل عدم اقتحام هذه السَّاحة الوَعِرة، خاصّةً أنّه -وكما ذكرتُ- سيتوجّبُ عليّ ذِكرُ بعض الأمور ونقد البعض الآخر فيما لو تقرّر الدّخول إلى هذه الميادين، وهذا ما دعاني إلى عدم الإدلاء بأيِّ حديث يرتبط بحياة الشّهيد الصّدر الثّقافيّة والفكريّة، وعلى الخصوص السِّياسيّة.

بداية التّعرُّف على الشّهيد الصّدر

O حبّذا لو تحدّثتم لنا عن الظُّروف التي انتهت بكم إلى التّقرُّب من الشّهيد الصّدر إلى هذه الدّرجة، وبالتّالي الاطِّلاع العميق والوافر على شخصيّته وأفكاره؟
عندما كنتُ في الثّانوية، كان الشّهيد الصّدر قد بدأ يُعرف إلى الملأ -خاصّةً على صعيد طلَّاب الجامعات والجيل الصَّاعد- بوصفه فقيهاً شابّاً في مقتبل عطائه العلمي، مع ما يَحملُه من فكرٍ حديث، وقد ساهم في ترسيخ صورته ومكانته لدى هذه الطّبقة ما صدر عنه في تلك المرحلة، من قبيل كتاب (فلسفتنا) والمقالات التي ترصّعت بها مجلّة (الأضواء). أمّا بالنّسبة لي، فقد انتظمتُ بعد الثّانويّة في سِلْك الحوزة العلميّة، وإلى ذلك الحين كنتُ أعرفه مفكّراً إسلاميّاً، إلى أن وصلتُ إلى مرحلة السُّطوح -وعلى وجه التّحديد السُّطوح العليا- حيث حضرتُ على بعض طلّابه المرتبطين به، وقد قادني ذلك إلى ارتباطي به شخصيّاً، فعلاقة الأَستذة والتّلمذة تَحُوز على أهميّة بالغة في بنية النّظام الحَوْزوي، وقد نَجَم عن ذلك أن وُفِّقت للاطّلاع على الشّهيد الصّدر في بُعدَيْه: الفقهي والحوزوي.
ومن هنا، وبمجرّد أن أنهيت مرحلة السُّطوح التحقتُ بمحضر درسه، وكان ذلك في العام [1387 للهجرة = 1966م]، طبعاً كنتُ أتردّد على مجلسه حتّى قبل التِحاقي بالدّرس، وذلك من خلال المجالس التي كان يُتَعارف عقدُها في النَّجف الأشرف بين العلماء والفضلاء، وكان يعرفني من خلال معرفته بوالدي [السيّد علي الهاشمي الشاهرودي]، وكان والدي من العلماء الَّذين سارَعَت إليهم المنيّة، حيث رَحَل عن أربعين عاماً، وقد آلم رحيلُه الجميع، فقد كان من مقرِّري بحث السيّد الخوئي في الفقه والأصول، وكان أوّل مَن حرَّر له تقريراً، وحيث كان الشّهيد الصّدر من تلامذة السيّد الخوئي، فقد توطّدت علاقته بوالدي عن هذا الطّريق، وإن كان والدي أقدم منه انتساباً إلى درس السيّد الخوئي، حيث كان قد تتلمذَ عليه وصار من تلامذته المقرّبين ابتداءً من الدّورة التي سبقت الدّورة التي حضرها الشّهيد الصّدر.
وعندما تعرّف الشّهيد الصّدر عليَّ، أَشعرَني بمحبّته واهتمامه بشكلٍ ملحوظ، وكان -وإلى جانبه آخرون ممّن يعلمون أنّ المرحوم والدي قد رَحَل في سنٍّ مبكرة- على قناعة بأنّ عليَّ أن أستنَّ بسنّته وأَجري على منهاجه، وأَظهروا اهتمامَهم الخاصّ بي. ولهذا نَبَتَت براعم علاقتي بالشّهيد الصّدر قبل حضوري في مجلس درسه، ثمّ اشتدّ عُودها ورسخت بيننا قواعد المودّة وتوثّقت عُرى المصافاة بعد التحاقي بالدّرس. وكما سبق وأشرت، فإنّ العلاقة التي تربط الطالب بالأستاذ تحظى في الحوزات العلميّة بأهميّة خاصّة ولها رونقها المميّز؛ فإنّ الأستاذ يلعب في الحوزة دور المربّي والأب والمهذِّب في آنٍ واحد. طبعاً هذه الأدوار يلعبها الأساتذة المؤثّرون في الحوزات العلميّة تجاه طلّابهم.
لقد كانت قوى الشّهيد الصدر الجاذبة متعدّدة وراسخة، وكان لشخصيّته جاذبيّة استثنائيّة، وكانت أخلاقه في غاية الرّفعة، ناهيك عن محبّته الجيّاشة، خاصّةً تجاه طلّابه الذين لا أعتبر نفسي مبالغاً إنْ قلت: إنّ الواحد منهم كان يعتبره أقرب إليه من أبيه، وأشدَّ تأثيراً في حياته منه، وأكثر شفقةً عليه منه. هذه هي الحقيقة، وهكذا كانت علاقته بطلّابه، علاقةً متينةً جداً ووثيقة الأركان، يَسعى فيها إلى تربيتهم وترشيدهم من مختلف الزَّوايا.

البرنامج الدّراسي

وحيث إنّ أستاذنا الشهيد صاحب فكرٍ منظّم ويعمل وفق طرُق مبرمجة، فقد اعتمد في علاقته مع طلّابه برنامجاً محدّداً، وهذه المسألة وإنْ خفيت علينا في بداية الأمر، إلّا أنّنا سرعان ما اكتشفنا لاحقاً أنّه قد وَضَع لكلِّ شيءٍ خطّة مناسبة وبرنامجاً محدَّداً؛ فقد وَضَع إلى جانب درسه التّقليدي في الفقه والأصول صباحاً وعصراً برامجَ خاصّةً وفي غاية الأهميّة وفق الأسلوب التّقليدي نفسه، ولم نُدرك أهميّة هذه البرامج إلّا لاحقاً، حيث أدركنا عظَمة الدّور الذي لعبَته في توعيتِنا وتربيتنا.
من باب المثال: أنتم تعلمون كثرة العُطَل في الحوزة عادةً، حيث كانت تعطِّل في كلِّ مناسبات ولادات الأئمّة عليهم السلام ووفيّاتهم، وكان الشّهيد الصّدر يَستثمر هذه العُطَل -باستثناء بعضها كمناسبة عاشوراء ومناسبة الأربعين- للحديث عن تاريخ الأئمّة وتاريخ الإسلام، وما يرتبط بذلك من رُؤى يجب على العالِم المُعاصر أن يَتعرَّف عليها ويضطلع بها ويَعيَها، فكان يَجعل من صاحب المناسبة محوَراً يُدير حوله رحى حديثه، وقد أَسْفَر ذلك عن مجموعة من المحاضرات ربّما نافت على المائة.
O هل تمّ تسجيل هذه المحاضرات؟
نعم، لقد تمّ تسجيلها، وتمّ طبعُ بعضها، وكان بعض الطلّاب اللّبنانيّين قد أَخذ هذه المهمّة على عاتقه وتجشّم عناءها. وكان الشّهيد الصّدر نفسه قد طلب تسجيلها ثمّ تدوينها وعرضها عليه لمراجعتها ثمّ طبعها، إلَّا أنّ ذلك لم يتمّ وللأسف الشّديد، وكان قد بَحَث حول سيرة وحياة كلّ الأئمّة تقريباً بحثاً مفصّلاً.
وانطلاقاً ممّا ذكرتُه لتوّي من أنّه كان يتمتّع بذهنيّة منظّمة، فقد عَمَد إلى تقسيم سيرة وحياة الأئمّة عليهم السلام إلى عدّة مراحل، وهدف بشكل رئيس إلى تسليط الضَّوء على الدّور السّياسي الذي لعبوه في قيادة العالم الإسلامي، وحفظ ميراث رسول الله صلّى الله عليه وآله، والتَّصدّي للانحراف الذي غزا هذا العالم من الدّاخل والخارج، وفي تثبيت خطِّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وبقيّة الأئمّة الأطهار عليهم السلام، وكانت هذه التّعبيرات قد جرت على لسانه في مناسباتٍ سابقة. لقد دارت معظم أبحاثه في هذا الفلك، وكان -بفضل ثقافته التّاريخيّة الجيّدة- يَعتمد في الغالب على الرّوايات والمستندات والنّقولات التّاريخيّة المُثبتَة في المصادر المُعتبَرَة.
لقد كانت هذه الأبحاث بالفعل أبحاثاً لطيفة يفوحُ منها عطرُ الحياة، وقد خصَّ أمير المؤمنين عليه السلام بثلاث أو أربع محاضرات متكاملة، إلى جانب موضوعات أخرى تناول فيها صلح الإمام الحسن عليه السلام وفلسفته، نهضة الإمام الحسين عليه السلام وفلسفتها.
وبعد أن قسّم في هذه المحاضرات الأدوار التي أدّاها الأئمّة عليهم السلام إلى أربعة، قام بمعالجة الأسباب التي يُمكن أن تفسِّر وتبرّر تنوّع الأدوار هذا، وقام بتنظيمِها وترتيبِها بشكلٍ لطيف. كان هذا برنامجاً نَظَّمه الشّهيد الصدر إلى جانب البرنامج الرّسمي المعمول به في الحوزة، وأدار عجلَته بشكلٍ هادئ.
من البرامج الأخرى التي أدار رحاها في العطَل الدّراسيّة الأطوَل مدى -من قبيل عطلة شهر رمضان المبارك والعطلة الصّيفيّة- سلسلةٌ من الدّروس الفقهيّة المقارنة التي ألقاها على طلّابه، من قبيل الدروس التي ألقاها في شهر رمضان المبارك [عام 1387 للهجرة = 1966م] حول فقه المعاملات مقارناً بالمباحث الحقوقيّة المعاصرة التي عالجها الأستاذ السّنهوري وأمثاله، وكان يَستشهد بهذه الكتب ويَنقل منها ويشجّع طلّابه ويحضّهم على مطالعتها.
لم يكُن أستاذنا الشّهيد يَأْلُ جهداً في توسيع الأُفُق الذّهنيّة والفكريّة لطلَّابه، وكان يَسعى إلى كسر الطّوق الذي قد يؤطِّر اهتماماتهم ضمن أبحاث الحوزة المعهودة، محاولاً إخراجهم إلى أفُقٍ أكثر رحابةً، حيث الاهتمام بالأبحاث المعاصرة. ومن الأبحاث التي تعرّض لها أيضاً فقه الحكومة الإسلاميّة، إضافةً إلى الأحكام الفقهيّة الكبرى المرتبطة بالمجتمع.
إلى جانب هذه الأبحاث، كان لأستاذنا مجلسٌ أسبوعي -وأحتمل أنّه كان يوم الأربعاء- يبحث فيه الفلسفةَ الإسلاميّة وفقاً لمذهبه المعرفي الجديد ورؤيته الخاصّة، وبعد أن فَرغ من بحث الاستقراء، تناول بالبحث الفلسفةَ الإسلاميّة على ضوء ما انتهى إليه من نتائج مرتبطة بالاستقراء، وقام بهذا الصَّدد بتحضير مجموعة من الأبحاث، ثمّ دَوَّنها وراح يتداولها مع سبعة أو ثمانية من طلّابه الذين يَثق بهم ويَعتمد عليهم من أهل الدّقّة والرّأي المُلِمّين بمبانيه ومنظومته الفكريّة، إلَّا أنّ ذلك كان على أعتاب الثّورة الإسلاميّة فلم يُقدَّر لهذه الأبحاث الاستمرار. وكان هذا البحث من الأعمال الرّئيسيّة والمهمّة التي شَرَع بها.
طبعاً، كانت انطلاقة الشّهيد الصّدر في البحث حول الاستقراء من بحث الأصول، ثمّ سرعان ما خرج عن إطار الدّرس المُتعارَف، فعالَجَه على هامش درس الأصول وبشكلٍ مستقلٍّ عنه، إلى أن انتَهى إلى ما انتَهى إليه، وكان حريصاً على أخذ عطاءات الفلسفة المعاصرة بِعَين الاعتبار، فكان يُتابع على سبيل المثال فلسفة هيجل ضمن آخر ما نشر حوله في الشّرق والغرب.
وقد استطاع في الفترة الأخيرة من حياته الحصول على كتابٍ مفصَّل يشتمل بين دفّتيه على ترجمة لأدقّ أفكار فيلسوف «الدياليكتيك» المعروف هيجل، إلى جانب أفكار كارل ماركس، الذي كان وأنجلز مِن طُلَّابه، وقد استفاد الأخيران من فكرة «الدياليكتيك» وأدخلاها إلى الأبحاث التّاريخيّة ووظّفاها هناك. فبَحثُ «الدياليكتيك» والجدل يَنحدر من هيجل الذي تناوله من بُعده الفلسفي، بينما وظّفه طالباه: ماركس وأنجلز في تفسير التّاريخ والمجتمع.
لقد اتّسَمت أفكار هيجل بصعوبتها، ولم يكن فهمُها مُتيسّراً للجميع، وكان أستاذنا الشّهيد مهتمّاً بمتابعتها، وقد تمّ تأمين هذا الكتاب الضّخم فيما بعد، والذي كان أحد طلَّاب هيجل في مجال الفلسفة قد تجشّم عناء جمعه وتنظيمه في حياة أستاذه، وكان من الكُتُب المعتبَرَة في هذا المجال، وكان السّيّد الصّدر منكبّاً على مطالعته، وكثيراً ما يزيّنه بحواشيه، ويأتي لنا منه بمطالب يَطرحها في درسه المذكور، حيثُ كان يَسعى إلى فتح الأُفُق أمام أذهان طلّابه.
وإلى جانب الأبحاث العصريّة والاجتماعات وجلسات الاستفتاء التي كان يَفوح منها جميعاً عَبق العلم والفكر والتّنظير، والتي كانت مفعمةً بالسُّؤال والجواب، كان لديه مجالس أخرى، وهي عبارة عن مجالس الدّرس المعهودة. وقد شكّلت هذه المجالس وسُوحُ اللّقاء أرضيّةً مناسبةً وخصبةً لِتنمية الطلَّاب وإنباتهم نباتاً حسناً، وترشيدهم من مختلف الجهات والحيثيّات.
أمّا تعامله الأخلاقي، فهو مبعثٌ للعجب في الحقيقة، ينحدرُ منه ليتجلّى لك في شدّة تواضعه وتجافيه عن مقاعد الكِبر، وسَعْيه الحثيث نحو تربية الطلَّاب وامتحانهم وابتلائهم وتذكيرهم، محاوِلاً في ذلك تقديم النّموذج الذي يُحتذى به ويُضرب على قالبه. وكان شديد الأدب في تعامله، وفي تواضعه ولِين جناحه، في ذهابه وإيابه، مع أساتذته وأقرانه، وكان يَسعى إلى إبراز هذا الأدب وتسليط الضَّوء عليه. وخلاصة الكلام أنّه كان يحاول دائماً تربية الآخرين.


التّعبئة الثّقافيّة مَدخلاً إلى التّغيير

أمّا مضمار البحث السّياسي، فقد كان يَلِجُه واثقَ الخُطى ويعالج مسائلَه بشكلٍ مفصَّل، وكان يَتعامل مع موقف النِّظام العراقي إزاء الحوزة العلميّة والمرحوم السيّد محسن الحكيم بكلِّ دقّة وحساسية؛ وقبل استلام البعثيّين للحُكم [عام 1968م]، كان للسيّد الحكيم مكتبات إسلاميّة عامّة منثورة في أغلب المحافظات، وكانت تُعرَف بـ «مكتبات السيّد الحكيم». لقد كانت هذه المكتبات تحمل عنوان المكتبة، ولكنّها كانت في الواقع بالنّسبة إلى طلّاب الجامعات والعلماء المتواجدين في تلك المناطق، بمثابة المراكز التي تنتظم فيها الصُّفوف لإعلام ناشئة المسلمين بما يَجول حولَهم في العالم، ولممارسة أعمال الدّعوة والتّبليغ.
إلى جانب ذلك، فقد عرفت كلٌّ من النّجف وكربلاء احتفالاً ومهرجاناً سنويّاً ضخماً؛ يُقام في الأُولى في الثّالث من شعبان حول الإمام الحسين عليه السلام، وفي الثّانية في الثّالث عشر من رجب حول الإمام عليّ عليه السلام، وكان يتمّ -قبل الموعد المقرّر لإقامة المهرجان- استكتاب علماء المسلمين لتقديم مقالاتهم في المؤتمر، وكانت تؤلَّف بهذه المناسبات الكُتب وتُمنح الجوائز في مهرجانات حافلة تَحتشد فيها وفود العلماء؛ إذ كانت العادة أن يتواجد أساتذة الجامعات وعُلماء النّجف الأشرف من ذوي المكانات والمراكز الخاصّة. وكان احتفال النّجف يُعقَد في مركزٍ من مراكزها العلميّة، بينما يُقام احتفال كربلاء في حسينيّة أهالي طهران، فكان الإثنان يُعقدَان بالقرب من حرمَي النّجف وكربلاء اللّتين كانتا تعيشان في هاتَين المناسبتَين أجواء خاصّة، وتشهدان ظروفاً استثنائيّة.
O ما تصفونه شبيهٌ باحتفالات الخامس عشر من شعبان التي تشهدُها إيران؟
تماماً كما تفضّلتُم، ولكن بشكلٍ أعظم وأبهى، فقد كانت المدينة تزدان بِثياب بَهائها كما تَزدان العروس ليلة عرسها، وكانت الشّوارع تُكسى بأجمل الحلَل والأقمشة وأجملها، لقد كانت ظاهرةً عظيمةً وفريدةً من نوعها. كان السيّد الصّدر واحداً من مؤسّسِي هاتَين الظّاهرتَين -ظاهرة المكتبات وظاهرة المهرجانات- وكان له عادةً في هذه المهرجانات كلمةٌ وبحثٌ يُلقى، وكان هذا جزءاً من الأعمال السّياسيّة والاجتماعيّة التي كان مُهتمّاً بإنجازها والتّصدّي لها.
والذي أريد أن أَخلص إليه من النّقاط التي قُمْتُ باستعراضها هو أنّ أستاذنا الشّهيد كان يسعى بجدٍّ إلى تربية طلّابه وتنشئتهم نشأةً صالحة وفي بيئة فكريّة متينة، متماسكة وغير ضَحلة، مُعمِلاً في ذلك الرَّويّة ومُعتمِداً سياسةَ التأنّي والتّريُّث وعدم إثارة الضّجيج. وعندما تلتقي خصالٌ من هذا القبيل وتلتئمُ في أستاذٍ يفوحُ منه أريج العاطفة الجيّاشة، فمِن الطّبيعي أن يتحوّل إلى قبلة عشقٍ تؤمُّها أفئدة الطلَّاب والمُريدين. لقد كان بحقٍّ يتمتّع بجاذبيّةٍ خاصّة.

اخبار مرتبطة

  ملحق شعائر 8

ملحق شعائر 8

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

منذ 3 أيام

دوريات

نفحات