بصائر

بصائر

11/04/2013

عطَّلوا العقل وحكَّموا الهوى

﴿..بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾
عطَّلوا العقل وحكَّموا الهوى
ـــــ الفقيه المازندرانيّ (شارح أصول الكافي) ـــــ

المولى محمَّد صالح بن أحمد المازندرانيّ، عالمٌ ربّانيّ، من مشاهير حمَلَة الأحاديث، مَهَرَ في العلوم العقليّة والنّقليّة، ومن ألمعِ المحقّقين والمدقّقين. له عدّةُ مصنّفاتٍ قيّمة، منها: شرح (الكافي) للشّيخ الكلينيّ، شرح (مَن لا يَحضره الفقيه) للشّيخ الصّدوق، شرح (المعالم) و(الزُّبدة) في أُصول الفقه لابنِ الشّهيد الثّاني، وللشّيخ البهائيّ، وله حاشية على (شرح اللّمعة) للشّهيد الثّاني.هو تلميذُ المجلسيّ الأوّل وصهرُه على ابنتِه، توفّي ودُفن في أصفهان سنة 1086 للهجرة.هذا النّصّ منتخَب من شرحه قدّس سرّه على (الكافي)، في شرحِ معاني الآيتَين 43 و44 من سورة الفرقان المباركة.

قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ الفرقان:43-44
.

﴿أَمْ تَحْسَبُ..﴾
«أم» حرفُ عطفٍ في الاستفهام، ولها موضعان:
أحدهما:
أن تكون متَّصلةً بما قبلَها، وهي تقعُ دائماً معادلةً لألفِ الاستفهام ولا تُستَعمَل من دونها، تقول: أَزَيدٌ في الدّار أم عمروُ؟ وتعلم أنَّ الكائنَ فيها أحدُهما، وتَطلبُ التّعيين، والمعنى: أيّهما فيها؟ وشرطُها أن يكون أحدُ المستويَين يَليها، والآخر يَلي الهمزةَ بلا فَصْل.
والثّاني:أن تكون منقطعةً عمَّا قبلها، [غير معادلة لألف الاستفهام]خبراً كان أو استفهاماً. تقول في الخبر: إنَّها لَإبِلٌ أم شاةٌ يا فتى. وذلك إذا نظرت إلى [شيءٍ]
فتوهّمتَه إبلاً، فقلتَ ما سَبَق إلى وَهمِك، ثمّ أدركَك الظَّنُّ أنَّه شاة، فانصرفْتَ عن الأوّل وقلتَ: أم شاة، بمعنى: بَلْ شاةٌ هي، إلّا أنَّ ما يَقع بعد «بل» يقين، وما بعد «أم» مظنون.
وتقولُ في الاستفهام: هل زيدُ منطلقٌ أم عمروُ يا فتى؟ إنَّما أضربْتَ عن سؤالِك عن انطلاقِ زَيدٍ، وجعلتَه عن عمرو، والمعنى: بل عمرو مُنطلق.
إذا عرفْتَ هذا فنقول: «أم تَحْسَب» عطفٌ على قوله تعالى «أفأنتَ» في الآية المتَّصلة به في القرآن العزيز، وهي قولُه تعالى: ﴿أرأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهَهُ هَواه أفَأَنْتَ تكون عليه وكيلاً﴾ الفرقان:43 والاستفهام الأوَّل للتَّقرير والتَّعجيب، والثَّاني لإنكارِ الفاعل، والثَّالث لإنكارِ الفعل، و«أم» هَهنا ليست متَّصلةً لانتفاء الشَّرط المذكور، بل هي منفصلة، إضرابٌ عن الأوّل إلى ما هو أشدّ مَذَمَّةً منه، حتّى حقّ بالإضراب عنه [الأوَّل]إليه [الثّاني]
.
 
شرحُ معاني الآية
والمعنى: بل أتَحسب ﴿..أنَّ أكثرهم يسمعون..﴾ الفرقان:44 آياتِ القرآن والحُجَجَ المُنزَلة للتّحدّي بها، ﴿..أو يعقلون..﴾ الفرقان:44معانيها الدَّقيقة ولطائفَها الخفيَّة وحقايقَها الجليَّة؟ وفيه قطعٌ لاهتمامِه[لاهتمام المخاطَب]بشأنهم وطمعِه بإيمانِهم. وخصَّ الأكثرَ بالذِّكر لأنَّ منهم مَن عَرَف الحقَّ وآمَنَ به، ومنهُم مَن عَرَفَهُ وأنْكَرَه عناداً أو استكباراً أو خوفاً على فوات الرّياسة.

لماذا أضلُّ سبيلاً؟
﴿..إنْ هم إلَّا كَالأَنعام..﴾ الفرقان:44في عدمِ انتفاعِهم بما يَقرعُ آذانَهم من الآياتِ، وعدم تدبُّرِهم في ما شاهدوا من الدَّلائل والمعجزات. وفيه تنبيهٌ على أنَّ تميُّز الإنسان في الحقيقة عن غيره من الحيوانات ليس بِحَسب الصُّورة المَحسوسة، بل بِحَسب الحقيقة الإنسانيّة التي بها يُدرِكُ المعقولاتِ المفصّلة، ويُميِّز بين الحقِّ والباطل، فإذا فَسَدتْ تلك الحقيقة وبَطلَ فعلُها، ارتَفَع التَّميُّز وحَصَل التَّشابُه.
﴿..بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلَاً﴾ الفرقان:44
من الأنعام، لأنَّها تَنقادُ لِصاحبها وتُميِّزُ المُحسنَ إليها من المُسيء، وتَطلب ما يَنفعها وتَجتنبُ عمَّا يضرُّها؛ وهؤلاء لا ينقادون لربِّهم، ولا يميِّزون إحسانَه من إساءة الشّيطان، ولا يَطلبون ثوابَه الَّذي هو أعظمُ المنافع، ولا يَجتنبون عن عذابِه الذي هو أشدُّ المضارّ.
ولأنَّها [الأنعام] لم تَعتقد حقّاً، ولم تَكتسب خيراً، ولم تَعتقد باطلاً، ولم تكتسب شرّاً، بخلاف هؤلاء، فإنّهم اعتَقدوا باطلاً واكتَسَبوا شرّاً، ولأنَّ جهالتَها لا تضرُّ بأحدٍ، وجهالةُ هؤلاء تُهيج الفِتَن وتصدُّ النَّاس عن الحقّ، ولأنَّها تتخلَّصُ بالموت، ونفوسهم الشِّريرة باقيةٌ أبداً متألِّمة محزونة منكوسة إلى أسفل السَّافلين، ولأنَّها [الأنعام]
غير متمكِّنة من طَلَبِ الكمال، فلا تقصيرَ منها ولا ذمّ، وهؤلاء مقصِّرون مستحقُّون للبُعدِ عن حضرةِ القُدْس.
وتوضيح ذلك:
أنَّ لِلأنعام صورةً ظاهريّةً محسوسة، وحقيقةً باطنيّةً مُعَدّةً لأفعال مخصوصة، وآثار معلومة، وتلك الصُّورة دائماً مطابقةٌ لهذه الحقيقة لا تتعدَّاها إلى غيرها.
مثلاً: الأسدُ أسدٌ بحسب الصُّورة، وبحسب الحقيقة الباطنيّة السَّبعيّة. والذِّئبُ ذئبٌ بحسب الصُّورة، وبحسب الحقيقة الباطنيّة الضَّارية. والحمار حمار بحسب الصُّورة، وبحسب الحقيقة الباطنية النّاهقيّة، وتلك الحقيقة لا تَقدر أنْ تبطل آثارها وخواصّها بخلاف الإنسان، فإنَّه إنسانٌ بحسب الصُّورة، و[بحسب]الحقيقة الرُّوحانيّة القلبيّة، وهي مستعدَّةٌ لاكتساب الضِّدَّين؛ اكتسابِ الخيرِ والشَّرِّ، وقابِلةٌ للتّحلِّي بالفضائل والتَّدنُّس بالرَّذايل، فإذا اعتقدَ شيئاً أو فعلَ فعلاً واستمرَّ فيه صار ذلك مَلَكَةً تصدر منها الأفعالُ بسهولة، وتلك المَلَكَة صورةٌ باطنيّة، فإنْ كانت مَلَكَةَ الفضايل طابقت الصُّورةُ الظُّاهرةُ تلك الصورةَ الباطنة، ويترقَّى بذلك الإنسانُ إلى أنْ يَتَّصلَ بِمَلأ الرَّوحانيِّين، ويَصير من أصحابِ اليمين، ويُعَدّ من السَّابقين.وإنْ كانت مَلَكَةَ الرَّذايل والكُفْر والزَّندَقة، خالفت الصُّورةُ الظَّاهرة تلك الصورةَ الباطنة، ويتنزّل الإنسانُ بذلك إلى أسفل السَّافلين، ويصير من أصحاب الشَّمال ويُعَدُّ من الخاسرين. فصورتُه الظّاهرة صورةُ إنسان، وصورتُه الباطنة صورةُ كلبٍ أو خنزيرٍ أو سَبُعٍ أو شيطانٍ أو أخسّ منها، ولكن لا تُرى هذه الصُّورة في الدَّار الدّنيا لِكَوْنها دارَ التباسٍ، ودارَ تدليسٍ، ودارَ تكليف، إلّا مَن مَنَحَهُ اللهُ سبحانه وتعالى [القدرةَ على ذلك]
بزيادةِ بصيرةٍ قلبيّة -بمجاهداتٍ نفسانيّة، ورياضاتٍ جسمانيّة، ومكاشفاتٍ روحانيّة- فإنَّه قد يَظهر له هذه الصّورة على ما هي عليه في نفس الأمر، لكن لا من حيث إنَّه في هذا العالم، بل كأنَّه في عالَمٍ آخَر بين العالمَين.
ولقد رأى بعضُ الصَّالحين -ممَّن أصدِّقُه في عقايده وأعمالِه- جماعةً من النّاس في جنبِ كلِّ واحدٍ منهم كلبٌ بحقيقة الكلبيّة وصورتِه، له ذنَبٌ وأُذن وعينان ورأسٌ وفمٌ وشعرٌ مثل الكلب المشاهَد.
وأمَّا دارُ الآخرة، فلمَّا كان مَوْطِنَ بُروزِ الحقايق بِصُوَرها الذّاتيّة بلا التباس، يُحشَر بعضُ النّاسِ على صورةِ القرَدة والخنازير أو الكلاب أو الذّرّ؛ فأولئك لعدمِ المطابقة بين ظاهرِهم وباطنِهم، وإبطالِهم الحقيقةَ الإنسانيّة وإفسادِهِم قوّةَ الاستعداد للسَّعادة الأخرويَّة، أضلُّ من الأنعام، للمطابقة بين ظاهرِها وباطنِها، وعدم إبطالِها الحقيقة الحيوانيّة والقوَّة الاستعداديّة.
أفضلُ ما قسمَ اللهُ تعالى للعباد
مَا قَسَمَ اللهُ لِلْعِبَادِ شَيْئاً أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ، فَنَوْمُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ سَهَرِ الْجَاهِلِ، وإِقَامَةُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ شُخُوصِ الْجَاهِلِ، ولَا بَعَثَ اللهُ نَبِيّاً ولَا رَسُولاً حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْعَقْلَ ويَكُونَ عَقْلُه أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ عُقُولِ أُمَّتِه. ومَا يُضْمِرُ النَّبِيُّ فِي نَفْسِه أَفْضَلُ مِنِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، ومَا أَدَّى الْعَبْدُ فَرَائِضَ اللهِ حَتَّى عَقَلَ عَنْه، ولَا بَلَغَ جَمِيعُ الْعَابِدِينَ فِي فَضْلِ عِبَادَتِهِمْ مَا بَلَغَ الْعَاقِل. والْعُقَلَاءُ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿..ومَا يَذَكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ﴾ البقرة:269.رسول الله صلّى الله عليه وآله

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

منذ أسبوع

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

منذ أسبوع

إصدارات عربية

نفحات