الملف

الملف

09/05/2013

أعْقَلُ النّاس، مَن بلغت أعمالُه الرُّشد

 
أعْقَلُ النّاس، مَن بلغت أعمالُه الرُّشد
أحْمَقُ النّاس، المُغتَرُّ بالدّنيا وهو يَرى تَقَلُّبَ أحوالِها
ـــــ الفقيه، الفيضُ الكاشانيّ قدّس سرّه (1007 - 1091هجريّة) ـــــ
 


* شيخٌ شاميٌّ كبير، حلَّ في مجلسِ أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام، على أبوابِ نشوبِ الحرب، وطلبَ منه عليه السلام أن يَعِظَه.
* تَماهى في هذا الشّيخ الشّاميّ -واتّحَدَ- طلبُ الموعظة، والاتّعاظ، فالجهاد والشّهادة، فإذا الموعظةُ التي سَمِعَها والتّرجمة العمليّة لاتّعاظه مدرسةٌ للأجيال في العلم والعَمل.
* تقدّم «شعائر» في ما يلي هذه الموعظة العلويّة في سياق سَرد حكايتِها الكاملة كما رواها -وشرحَ مفرداتِها- الفقيهُ الفيضُ الكاشانيّ في (الوافي: ج 26، ص 226).
 

قال الفيضُ الكاشانيّ: ".." عن موسى بنِ جعفر، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن الحسين، عن أبيه عليهم السلام قال: 

«بينا أمير المؤمنين عليه السلام ذاتَ يومٍ جالسٌ مع أصحابِه يُعبّيهم للحرب إذ أَتاه شيخٌ كبيرٌ عليه شحبة السّفر، فقال: أينَ أميرُ المؤمنين؟ فقيلَ: هوَ ذا هو، فَسَلَّمَ عليه، ثمّ قال: يا أميرَ المؤمنين، إنّي أَتيتُك من ناحيةِ الشّام، وأنا شيخٌ كبير، وقد سمعتُ فيكَ من الفضلِ مَا لا أُحصي، وإنّي أظنُّكَ ستُغتال، فعلِّمني ممّا علّمكَ الله.
قال: نَعم يا شيخ، مَن اعتدلَ يوماه فَهو مغبونٌ، ومَن كانتِ الدّنيا همّتَه اشتدّت حسرتُه عندَ فراقِها، ومَن كان غدُه شرَّ يومَيه فهو مَحروم، ومَن لم يبالِ بما زُوِيَ من آخرتِه إذا سَلِمَت له دُنياه فهو هالك، ومَن لم يَتعاهد النَّقْصَ من نفسِه غلبَ عليه الهَوى، ومَن كان في نقصٍ فالموتُ خيرٌ له. [يا شيخ، إنّ الدّنيا خَضِرةٌ حلوةٌ ولها أَهْل، وإنّ الآخرةَ لها أَهل، ظَلِفَت أنفسُهم عن مفاخرةِ أهلِ الدّنيا لا يتنافسون في الدّنيا، ولا يَفرحون بغضارتِها، ولا يَحزنون لِبُؤسِها.
يا شيخ، مَن خاف البياتَ قلَّ نومُه، ما أسرعَ اللّيالي والأيّامَ في عمرِ العَبد، فَاخزِنْ لسانَك، وَعُدَّ كلامَك يقلَّ كلامُك إلّا بخير].
يا شيخ، ارضَ للنّاس مَا ترضى لنفسِك، وائتِ إلى النّاسِ مَا تحبُّ أن يُؤتَى إليك.
ثمّ أقبلَ على أصحابِه، فقال: أيُّها النّاس، أمَا تَرونَ إلى أهلِ الدّنيا يُمسونَ ويُصبحونَ على أحوالٍ شَتّى، فبينَ صريعٍ يتلوّى، وبينَ عائدٍ ومَعُود، وآخرَ بنفسِه يجود، وآخرَ لا يُرجى، وآخرَ مُسَجّى، وطالبِ الدّنيا والموتُ يطلبُه، وغافلٍ وليسَ بمغفولٍ عنه، وعلى أثرِ الماضي يصيرُ الباقي.

فقال له زيدُ بنُ صَوحان العبديّ: يا أمير المؤمنين، أيُّ سلطانٍ أغلبُ وأقوى؟
قال: الهوى.
قال: فأيُّ ذُلٍّ أذلّ؟
قال: الحرصُ على الدّنيا.
قال: فأيُّ فقرٍ أشدّ؟
قال: الكفرُ بعدَ الإيمان.
قال: فأيُّ دعوةٍ أَضَلّ؟
قال: الدّاعي بما لا يَكون.
قال: فأيُّ عملٍ أفضل؟
قال: التّقوى.
قال: فأيُّ عملٍ أنجَح؟
قال: طَلَبُ ما عندَ الله.
قال: فأيُّ صاحبٍ شرّ؟
قال: المُزَيِّنُ لكَ معصيةَ الله.
قال: فأيُّ الخَلْق أشقَى؟
قال: مَن باعَ دينَه بدنيا غيرِه.
قال: فأيُّ الخَلق أقوى؟
قال: الحليم.
قال: فأيُّ الخَلقِ أَشَحّ؟
قال: مَن أخذَ المالَ من غير حِلِّهِ فجعلَه في غير حقِّه.
قال: فأيُّ النّاس أكيَس؟
قال: مَن أبصرَ رُشدَه من غَيِّهِ، فمالَ إلى رُشدِه.
قال: فمَن أَحلمُ النّاس؟
قال: الذي لا يَغضب.
قال: فأيُّ النّاسِ أثبتُ رأياً؟
قال: مَن لم يَغُرَّهُ النّاسُ من نفسِه، ومَن لم تغرّه الدّنيا بتشوُّفِها.
قال: فأيُّ النّاس أَحمَق؟
قال: المغترُّ بالدّنيا وهو يَرى ما فيها من تقلُّبِ أحوالِها.
قال: فأيُّ النّاسِ أشدُّ حسرةً؟
قال: الّذي حُرِمَ الدّنيا والآخرة ﴿ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ﴾.
قال: فأيُّ الخَلْقِ أَعمى؟
قال: الذي عملَ لغيرِ الله، ويطلبُ بعملِه الثّوابَ من عندِ الله.
قال: فأيُّ القنوعِ أفضل؟
قال: القانعُ بما أعطاه اللهُ عزّ وجلّ.
قال: فأيُّ المصائبِ أشدّ؟
قال: المصيبةُ في الدِّين.
قال: فأيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى اللهِ تعالى؟
قال: انتظارُ الفَرَج.
قال: فأيُّ النّاسِ خيرٌ عندَ الله؟
قال: أخوفُهم لله وأعملُهم بالتّقوى وأزهدُهم في الدّنيا.
قال: فأيُّ الكلامِ أفضلُ عندَ الله؟
قال: كَثرةُ ذِكرِه والتّضرُّع إليه بالدّعاء.
قال: فأيُّ القولِ أصدَق؟
قال: شهادةُ أن لا إلهَ إلّا الله.
قال: فأيُّ الأعمالِ أعظمُ عندَ اللهِ عزّ وجلّ؟
قال: التّسليمُ والوَرَع.
قال: فأيُّ النّاس أصدَق؟
قال: مَنْ صَدَق في المواطن.
[في ساحات الجهاد].


ثمّ أقبلَ على الشّيخ، فقال:يا شَيخ، إنّ الله عزّ وجلّ خلقَ خَلْقَاً ضيّقَ الدّنيا عليهم -نظرَاً لهم- فَزَهَّدَهم فيها وفي حُطامِها، فَرَغِبوا في دار السّلامِ الّتي دَعاهم إليها، وصَبروا على ضيقِ المعيشةِ وصبَروا على المكروه، واشتاقوا إلى ما عندَ اللهِ من الكرامة، فبَذلوا أنفسَهم ابتغاءَ رضوانِ الله، وكانت خاتمة أعمالِهم الشّهادة، فَلقوا اللهَ وهو عنهم راضٍ، وعلموا أنّ الموتَ سبيلُ مَن مضى ومَن بَقِي، فتَزوّدوا لآخرتِهم غيرَ الذَّهبِ والفضّة، وَلَبِسوا الخَشِن، وصَبروا على البَلوى، وقدّموا الفَضل، وأحبّوا في اللهِ وأبغَضوا في اللهِ تعالى، أولئكَ المصابيحُ وأهلُ النّعيم في الآخرة. والسّلام


قال الشّيخ: فَأَينَ أذهبُ وأَدَعُ الجنّةَ وأنا أراها وأرى أهلَها معكَ. يا أميرَ المؤمنين، جَهِّزني بقوَّةٍ أتقوّى بها على عدوِّك. فَأَعطاه أميرُ المؤمنين عليه السلام سلاحاً وحملَه، فكان في الحربِ بين يدَي أميرِ المؤمنين عليه السلام يضربُ قُدُماً وأميرُ المؤمنين عليه السلام يعجبُ ممّا يصنع.
فلمّا اشتدّتِ الحربُ أقدمَ فرسَه حتّى قُتِلَ رحمَه الله، وأتبعَه رجلٌ من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام فوجدَه صريعاً وَوَجدَ دابّتَه وَوَجدَ سيفَه في ذراعِه، فلمّا انقضتِ الحربُ أُتِيَ أميرُ المؤمنين عليه السلام بدابّتِه وسلاحِه، وصلّى عليه أميرُ المؤمنين، وقال: هذا واللهِ السّعيدُ حقّاً، فتَرحّموا على أخيكم
» .
(الفيض الكاشانيّ، الوافي: ج 26، ص 226)



قال الفيض الكاشانيّ: (بيان:
* «التّعبئة»: التّهيئة. و«الشّحبة» -بالشّين المعجَمة والحاء المهملة والباء الموحّدة- بمعنى تغيُّر اللّون لعارضٍ من مَرَضٍ أو سَفَر.
* و«الاغتيال»: الإهلاك. يُقال: اغتالَه إذا أخذَه من حيث لا يدري.
* «شرّ يومَيه»: يعني شرّاً من يومِه.
* «زُوِيَ»: صُرِف وقُبِض، وفي بعض النُّسَخ، «رزي» بتقديم المُهملة، بمعنى نُقِص وتعاهدَ النّقصُ طلبَه وتداركَه.
* و«الصّريع»: المصروعُ لمرضٍ أو جراحةٍ أو غيرهم.
* و«التّلوّي»: الانفتالُ والانثناءُ، يعني ساقطٌ من المرضِ يتقلّبُ من جانبٍ إلى آخر.
* و«الجُودُ بالنّفس» كنايةٌ عن انتزاع الرّوح. وسجّيتُ الميتَ تسجيةً، إذا مددتُ عليه ثوبَه وسترتُه.
* و«النّجح»: الظَّفَرُ بالحوائج، و«الشُّحّ»: البُخل، و«الكَيس»: خلافُ الحُمق.
* و«التَّشوُّف للشّيء» -بالمعجمة والفاء: طموحُ البصرِ إليه.
* و«التّزيّن له في المواطن»: أي المواطن كلّها، يعني في الشدّة والرّخاء والفقر والغِنى إلى غير ذلك.
* و«التّجهيز» تهيئةُ ما يحتاج إليه.
* «قُدُماً» أي متقدّماً، ويُقال: رجلٌ قُدُم -بضَمّتين- أي شجاع. ومَضَى قُدُماً: إذا لم يُقِم ولم يحتَبس).
 

**

* أوردَ الفيضُ هذه الموعظة نقلاً عن (مَن لا يحضرُه الفقيه)، وأوردَها المجلسيّ في (البحار: ج 74، ص 376) نقلاً عن (معاني الأخبار)، و(الأمالي) للصّدوق رحمه الله، وبالرّجوع إلى كُتُب الشّيخ الصّدوق الثّلاثة يتّضح أنّها وردت في (الفقيه: ج 4، ص 381) ولم تَرِد فيها فقرة: «يا شَيخ، إنّ الدّنيا خَضِرةٌ حلوة..» إلى قولِه عليه السلام: «..إلّا بخير»، وكذلك وردَتْ في (معاني الأخبار: ص 198)، إلّا أنّها في (الأمالي) وردَتْ بزيادةِ هذه الفقرة، التي تجدها أعلاه بين قوسَين[ ]. 

اخبار مرتبطة

نفحات