موقف

موقف

05/09/2013

الموتُ أعظمُ الدّواهي


الموتُ أعظمُ الدّواهي

«..لضحكتُم قليلاً ولبكيتُم كثيراً»

_______الفقيه الشّيخ محمّد مهدي النّراقيّ قدّس سرّه_______

اِعلم أنَّ الموتَ داهيةٌ من الدَّواهي العظمى، ومن كلِّ داهيةٍ أشدُّ وأدهى، وهو من الأخطار العظيمة والأهوال الجسيمة، فمَن عَلمَ أنَّ الموتَ مصرعُه، والتُّرابَ مضجعُه، والقبرَ مقرُّه، وبطنَ الأرضِ مستقرُّه، والدُّود أنيسه، والعقارب والحيَّات جليسه، فجديرٌ أنْ تطولَ حسرتُه وتدومَ عَبْرَتُه، وتنحصر فيه فكرته وتعظم بليّته، وتشتدَّ لأجله رزيَّته، ويَرى نفسَه في أصحاب القبور ويعدّها من الأموات. إذ كلّ ما هو آتٍ قريب، والبعيدُ ما ليس بآتٍ. وحقيقٌ ألَّا يكون ذكرُه وفكرُه وغمُّه وهمُّه وقولُه وفعلُه وسعيُه وجِدُّه إلَّا فيه وله؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لو أنَّ البهائم يعلمون ما تَعلمون ما أكلتُم منها سميناً»، وقال صلّى الله عليه وآله لقوم يتحدَّثون ويضحكون: «اذكروا الموت، أما والّذي نفسي بيده، لو تَعلمون ما أَعلم لضحكتُم قليلاً ولبكيتُم كثيراً». ومرَّ صلّى الله عليه وآله بمجلسٍ قد استعلاه الضّحك، فقال: «شُوبوا مجلسكم بِذكرِ مكدِّر اللّذّات. قالوا: وما مكدِّرُ اللّذّات؟ قال: الموت». [الشَّوْبُ: الخلط]

ثمَّ غفلة النّاس عن الموت لقلّة فكرهم فيه وذكرهم له، ومَن يذكره ليس يذكره بقلبٍ فارغ، بل بقلبٍ مشغولٍ بشهوات الدُّنيا وعلائقها، فلا ينفع ذِكرُه في قلبه. فالطَّريق فيه: أن يفرِّغ القلبَ من كلِّ شيءٍ إلَّا من ذكرِ الموت الّذي بين يدَيه، كالّذي يريد أن يسافر [من بلده] إلى بلدٍ بعيدٍ وما بينهما مفازة خطرة، أو بحرٌ عظيمٌ لا بدَّ أن يركبه، فإنَّه لا يتفكَّر إلَّا فيه، ومَن تفكَّر في الموت بهذا الطَّريق وتكرَّر منه ذلك، لَأَثَّر ذكرُه في قلبه، وعند ذلك يقلُّ فرحُه وسرورُه بالدُّنيا، وتَنزجِرُ نفسُه عنها، ويَنكسر قلبُه، ويَستعدّ لأجله. وأَوْقَع طريقٍ فيه: أن يُكثر ذكر أقرانه الّذين مَضوا قبله، ونُقلوا من أُنْسِ العشرة إلى وحشة الوحدة، ومن ضياء المُهود إلى ظلمة اللُّحود، ومن ملاعبة أولادهم  إلى مصاحبة الهوامّ والدِّيدان، ويتذكَّر مصرعهم تحت التّراب، ويتذكَّر صُوَرَهم في مناصبهم وأحوالهم، ثمّ يتفكَّر كيف مَحا التُّرابُ الآن حُسْنَ صورتهم، وكيف تبدَّدت أجزاؤهم في قبورهم، وكيف أَرملوا نساءهم وأَيتموا أولادهم وضيَّعوا أموالهم وخَلَت منهم مساكنُهم ومجالسُهم وانقطَعت آثارُهم و[أقفرَت] ديارُهم، فمهما تذكَّر رجلاً رجلاً، وفصَّل في قلبِه حاله وكيفيّة حياته، وتوهَّمَ صورته، وتذكَّر نشاطه وأمله في العيش والبقاء، ونسيانَه الموت، وانخداعه بمؤثّثات الأسباب [المؤثّث: المُوَثَّر]، وركونه إلى القوّة والشّباب، وميله إلى الضّحك واللّهو، وغفلته عمّا بين يديه من الموت الذّريع والهلاك السّريع، وأنّه كيف كان يتردَّد، والآن قد تهدَّمت رجلاه ومفاصله، وكيف كان ينطق وقد أكل الدُّودُ لسانَه، وكيف كان يضحك وقد أكل التُّرابُ أسنانَه، وكيف دبَّر لِنفسِه الأمور، وجَمَع من حطام الدُّنيا ما لا يتَّفق احتياجه إليه على مرِّ الأعوام والشُّهور، وكَرِّ الأزمنة والدُّهور؛ ثمَّ يتأمَّل أنَّه مثلُهم، وغفلته كَغفلتِهم، وسيصير حالُه في القبر كَحالِهم.

فمُلازمة هذه الأفكار وأمثالها، مع دخولِ المقابر وتشييعِ الجنائز ومشاهدةِ المرضى، تُجدِّد ذكرَ الموت في قلبه حتّى يغلب عليه، بحيث يصير الموت نصب عينَيه، وعند ذلك ربّما يستعدّ له ويَتجافى عن دارِ الغرور. وأمّا الذِّكر بظاهرِ القلب وعذَبَة اللّسان [عَذَبةُ اللّسان: طَرَفُه الدّقيق]، فقليل الجدوى في التّنبيه والإيقاظ. ومهما طاب قلبُه بشيءٍ من أسباب الدُّنيا، فينبغي أن يتذكَّر في الحال أنَّه لا بدَّ من مفارقته، كما نُقل أنَّ بعض الأكابر نَظَر إلى داره فأعجَبَه حُسنها، فبكى وقال: «والله لولا الموت لكنتُ بها مسروراً».

 

 

 

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريّات

دوريّات

05/09/2013

دوريّات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات