مرابطة

مرابطة

03/12/2013

زمنٌ عربيٌّ ضائعٌ بلا بوصلة


مشاريع أجنبيّة لعددٍ من بلدان المنطقة

زمنٌ عربيٌّ ضائعٌ بلا بوصلة

----- صبحي غندور* -----

لا مكان للتّنبُّؤات في الإعلام والسّياسة، وإنّما هناك توقّعاتٌ تكون مبنيّةً على تحليلٍ موضوعيٍّ للواقع، يحاول قراءةَ المستقبل من خلال ما هو متوفّر من معلوماتٍ عن هذا الواقع وعن القوى المؤثّرة فيه سلباً أو إيجاباً، ومن خلال القراءة السّليمة أيضاً للماضي وتجاربه، حتّى لا يتمّ تكرارُ الأخطاء نفسها. وفي هذا السِّياق، فإنَّ الوقائع العربيّة الرّاهنة تسير في تداعياتها إلى احتمالاتٍ لا تبشِّرُ بالخير، ما لم يتمّ وقف عناصرها السّلبيّة.

قد يرى البعضُ أنَّ عنوان تحدّيات هذه المرحلة يجبُ أنْ يتَمَحْوَر حول مسألة الحرّيّة، سواء أكان ذلك في حرّية الوطن من الاحتلال، أو حرّية المواطن من الاستبداد الدّاخليّ. لكنّ رغم صحّة هذا الأمر من النّاحية المبدئيّة، فإنَّ أساسَ المشكلةِ في الواقع العربيّ الرّاهن هو تراجعُ مفهوم «الوطن»، وتعثُّر تطبيق حقّ «المواطَنة». ولعلّ بما يحدث الآن في عدّة بلدانٍ عربيّة، أمثلةٌ حيّة على مَكْمَنِ المشكلة السّائدة في المجتمع العربيّ.

فاحتلالُ أيِّ بلدٍ في العالم لا يكون ناجماً عن قوّةِ المحتلِّ وجَبَروتِه فحَسْب، بل أيضاً عن ضعفٍ في جسم البلد الّذي خَضَع للاحتلال، وهو أمرٌ بات يُعرف بمصطلح «القابليّة للاستعمار أو الاحتلال». وبالتّالي فإنَّ كلّاً من العنصرَيْن -قوّة الغازي، وضعف المَغزوّ- يؤدّي إلى تقوية الآخر. هكذا كان الحال في الحروب العربيّة - «الإسرائيليّة»، وما سبَقَها من حقبة الاستعمار الأوروبّيّ مطلعَ القرن العشرين، عقبَ الحرب العالميّة الأولى.

إذاً، الاحتلالُ هو نتيجةٌ، وليس السّببَ حصراً لمأساةٍ عربيّة هنا أو هناك. ومواجهةُ الاحتلال لا تكون بالمواجهات العسكريّة وعمليّات المقاومة ضدّ الجيش المحتلّ فقط، بل أيضاً -وربّما تكون هذه هي المواجهة الأهمّ- في إسقاط الأهداف السّياسيّة للمحتلّ، وفي بناء قوّةٍ ذاتيّةٍ تُنهي عناصر الضّعف الّتي فَتَحَت البابَ لِنيرِ الاحتلال.

إنَّ الضّعفَ العربيّ المتراكِم منذ مطلع القرن العشرين الماضي، هو بناءٌ تدريجيٌّ كانت أسُسُه انعدام التّوافق، بعد انتهاء حقبة الحكم العثمانيّ، على مفهوم «الأمّة العربيّة»، وبالتّالي تجزئة المستعمر الأوروبّيّ للمنطقة العربيّة، وقيام أوطانٍ غاب فيها الولاءُ الوطنيُّ الواحد، وسادَت في معظمها أوضاعٌ طائفيّةٌ وقبليّةٌ، فامتزَجَت التّجزئةُ العربيّةُ بين الأوطان مع الانقسامات الدّاخليّة في كلِّ وطنٍ. وأصبح أبناءُ كلّ بلدٍ عربيٍّ يتساءلون حين يقعُ بلدُهُم في أزمة: «أين العرب؟»، لكنّهم لا يتساءلون قبل الأزمة أو بعدها: «لِمَ لا يكونُ هناك اتِّحادٌ عربيٌّ، أو في الحدّ الأدنى تكاملٌ عربيّ؟!».

لقد كان ممكناً أنْ تعيشَ البلادُ العربيّة ظروفاً أفضل لو كانت المشكلة فقط في غياب التّنسيق والتّضامن في ما بينها، لكنَّ عمقَ الأزمة الرّاهنة يكمنُ في تَراكمِ التّجزئة مع الخَلَلِ في البناء الدّاخليّ، سواء أكان ذلك على الصّعيد السّياسيّ والدّستوريّ، أم على الأصعدة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، حيث الفقر، وندْرَة العدالة، وارتفاع نِسْبة الأمّيّة، ومحدوديّة فُرَص العمل، وزيادة هجرة الكفاءات إلى خارج الأوطان العربيّة.

هناك الآن في المنطقة العربيّة، حالةٌ شبيهة بما حدث في مطلع القرن العشرين من إعادة رسم الخرائط السّياسيّة والجغرافيّة لبلدان المنطقة، في ظلّ الهيمنة الخارجيّة عليها وعلى مقدّراتها. وهناك أيضاً في المنطقة الآن حالةٌ فكريّة وسياسيّة مماثلة لحال العرب آنذاك من حيث انعدام التّوافق على مفهوم «الأمّة» والهويّة المشتركة، وأيضاً الانقسامات الدّاخليّة على أُسس طائفيّة وقبليّة وعرقيّة.

وهناك في الأفق، مشاريع أجنبيّة لعددٍ من بلدان المنطقة تقوم على إعادة تركيبها بأُطُرٍ سياسيّةٍ ودستوريّةٍ جديدة، تحملُ الشَّكلَ الفيدراليّ الدّيموقراطيّ، لكنّها تتضمَّن بذور التّفكّك إلى كانتوناتٍ مُتصارِعةٍ في ظلّ الانقساماتِ الدّاخليّةِ والدَّورِ «الإسرائيليّ» الشّغّالِ في الجانبَين: الخارجيّ الأجنبيّ والمحلّيّ العربيّ، لِدفعِ الواقع العربيّ إلى خدمة المشاريع «الإسرائيليّة» بإشعالِ حروبٍ أهليّةٍ عربيّةٍ شاملة.

نحو وعيٍ عربيٍّ إسلاميٍّ جامع

إنَّ «إسرائيل» هي في قلب المنطقة العربيّة، ولها طموحاتٌ إقليميّة تتجاوز حتّى المشاريع الأميركيّة والغربيّة عموماً، رغمَ توافقِ المصالح أحياناً مع هذه القوى. ولا يُعقَل أن تكون «إسرائيل» فاعلةً في أميركا وأوروبا وإفريقيا وشرق آسيا، ولا تكون كذلك في محيطها الإقليميّ الّذي منه انتزَعَت الأرضَ، وعليه تريدُ بناءَ إمبراطوريّتها الخاصّة!

وكم هو مؤسفٌ أن تكون الخيارات المستقبليّة للمنطقة قائمةً على واحدٍ من مشروعَين فقط: مشروع «نظام شرق أوسطيّ جديد» دَعَمَتْه واشنطن منذُ حقبةِ التّسعينات ويحاول صياغة كياناتٍ عربيّةٍ جديدةٍ تقوم على الفيدراليّة الدّاخليّة وعلى التّطبيع مع «إسرائيل»، أو المشروع «الإسرائيليّ» العامل من أجل حروبٍ أهليّةٍ عربيّةٍ، والّذي يستهدفُ قطفَ ثمارِ الزّرعِ الحاصل في المنطقة منذ مطلع عقد الثّمانينات!

هناك الآن حاجةٌ قصوى إلى وقفةٍ مع النّفس العربيّة قبل فوات الأوان، وهناك حاجة إلى فكرٍ عربيٍّ جامعٍ، يَتجاوزُ الإقليميّة والطّائفيّة والمذهبيّة، ويقوم على الدّيمقراطيّة، وعلى نَبْذِ العنف، واعتماد مرجعيّة النّاس ومصالحها في إقرار النّصوص والدّساتير والقوانين.

هناك حاجةٌ ملحّة إلى الفرزِ بين «الدّيمقراطيّين العرب» لمعرفةِ مَن يعمل مِن أجلِ الحفاظ على النّسيج الوطنيّ الواحد، ومَن يعملُ من أجل خدمة مشاريع أجنبيّة، تُحقّق مصالح فئويّة مؤقّتة.

هناك ضرورةٌ عربيّةٌ وإسلاميّةٌ للتّمييز بين مَن يقاوم فعلاً في المكان الصَّحيح، وبالأسلوب السّليم، الاحتلالَ وأهدافَه، وبين مَن يُمارس العنفَ المسلَّحَ داخليّاً، ويَخدمُ سياسيّاً المحتلَّ ومشاريع الحروب الأهليّة العربيّة.

هناك حاجةٌ إلى بناءٍ عربيٍّ جديدٍ، يَجمعُ بين الفهمِ السّليم للأمّةِ العربيّةِ الواحدة، القائمة على خصوصيّاتٍ متنوّعةٍ، وبين الولاءِ للوطنِ الواحد القائم على أُسُسٍ سليمةٍ في الحكم والمواطَنة.

هناك حاجةٌ إلى الاتِّفاق على «البوصلة المشتَرَكة»، كأساسٍ لإنقاذِ الأمّةِ من حال الضّياع في هذا الزّمن العربيّ الضّائع!

_________________________________

* مدير «مركز الحوار العربيّ» في واشنطن - مختصَر

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

05/12/2013

دوريات

نفحات