تحقيق

تحقيق

30/12/2013

ماذا بقي من آثار الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله؟

ماذا بقي من آثار الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله؟

استمرار العدوان لِهَدْم معالم النّبوّة

ـــــ إعداد: د. أليس كوراني ـــــ

إِنَّهُ شَهْرُ رَبيع الأَوَّل، شَهْرُ ميلادِ خَيْرِ البَشَرِيَّةِ، ميلادِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللهِ صلّى الله عليه وآله الذي أَرْسَلَهُ اللهُ تَعالى هادِياً وَمُبَشّراً وَنَذيراً، فَكانَ رَحْمَةً لِلعالَمينَ... وَالمُسْلِمونَ يَحْتَفونَ بِهَذِهِ المُناسَبَةِ الجَليلَةِ، وَيُعَظِّمونَ شَعائِرَ اللهِ فيها، وكانوا، يقصدون المشاهد النّبويّة، قبل تخريبها، ويتبرّكون بلمسِها ومَسْحِ أركانِها لقَداستِها وجلالتِها وارتباطِها بخَاتم النّبيّين وسيّد المُرسَلين، إِلّا قِلَّةٌ قَليلَةٌ من الخَوارجِ عَلى الأمّة، زعمتْ أنّ الاهْتِمامَ بِمَوْلدِ النَّبِيِّ وَبِما يَمُتُّ بِهِ مِنْ صِلَةٍ، بِدْعَةٌ وَشِرْك، فَراحَتْ أَصْواتُها الشَّاذَّةُ تَدْعو إلَى عَدَمِ الاحْتِفالِ بِهَذا اليَوْمِ العَظيمِ، وإلى هَدْم الأَمكنةِ والمَقاماتِ المُقدّسة، فخرّبت وطَمَسَتْ كلَّ ما ارْتَبَطَ بِالنَّبِيِّ صلّى الله عليه وآله مِنْ منازل ومواقع ومساجد أثريّة، متسلّحةً بفتاوى مُريبة...

 

لا يخفى على عاقلٍ أهميّةُ الآثار في أيّ بلد، إذ تشكّل جسرَ عبورٍ إلى ماضيه، فتستحضر الأجيال صوَره، وتستنطقُه، ولا تقطع العلائق به لمرور الأزمان... فالأمم المتحضّرة، تحافظ على تراثها، وتستوحي منه ما يفيد أجيالها المقبلة، وتستمدّ منه ما تجسدّه تلك المعطيّات التّراثيّة على المستوى الرّوحيّ والمعنويّ... فكيف إذا كانت تلك الآثار تتعلّق بخاتم النّبيّين وسيّد المرسلين! أليس من الواجب المحافظة عليها بأشفار العيون بدلاً من هدمها وإقامة أبنية ومرافق فوقها؟!

على مرّ التّاريخ كانت السّلطات الإسلاميّة الحاكمة، منذ العهد الأوّل وحتّى مطلع القرن العشرين الميلاديّ، تهتمّ بالمعالم النّبويّة، وتسمح للنّاس، بخواصّهم وعوامّهم، بزيارتها والتّبرّك بها، فكانت القلوب قبل الأجساد تشدّ الرّحال إلى مكّة والمدينة، يجذبها الحبّ المحمديّ ويصعقُها العشق الإلهيّ بحضرة النّبوّة، وكأنّ رسول الله بينهم، يأملون شفاعته وحلول بركاته. والحرص على زيارة المشاهد الشّريفة للتّبرّك ليس جديداً، إذ اعتاد المسلمون، منذ عهودهم الأولى، إلى مسّ ما مسّه النّبيّ صلّى الله عليه وآله، فعلى سبيل المثال، ورد في صحيح البخاريّ: «...حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: رَأَيْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنَ الطَّرِيقِ فَيُصَلِّي فِيهَا وَيُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأَمْكِنَةِ».

 

 

وعليه، فإنّ الذين يأمرون بهدم آثار النّبيّ صلّى الله عليه وآله لا يؤمنون بالتّراث، ولا يعرفون قيمته التّاريخيّة والمعرفيّة، ولا يعظّمون مكانة رسول الله الأكرم، ولا يعيرون اهتماماً لقداسة النّبوّة... فالحجّةُ المدّعاة في الهدم محاربةُ الشّرك والبدع، واللّازمة المكرّرة عندهم: إنّ الآثار لها رمزيّة، وإنّ الرّمزيّة شرك، وإنّ مسَّ ضريح الوليّ، إن كان نبيّاً أو إماماً أو صالحاً، يعدّ شركاً، تَجِبُ محاربته من خلال هَدْمِه أو منع النّاس من الاقتراب منه والتّبرّك به؛ أما الدّوافع المبيّتة والخفيّة فتتمثّل بقطع ما يمتّ إلى نبيّ الإسلام بِصِلة خدمةً لأعدائه، وتغليبِ مصلحة الرّأسماليّين الذين انتفعوا بإقامة المشاريع التّجاريّة الكبرى في مهبطَي الوحي مكّة والمدينة المنوّرة... لذلك نراهم يعيثون فيهما تخريباً وتهديماً... علماً أنّ معالم النّبوّة بتاريخها وجغرافيّتها هي مِلكٌ لجميع المسلمين... ألم يقرأ هؤلاء ما ورد -على سبيل المثال وليس الحصر- في صحيح مسلم حيث يروي: «حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم كَانَ يَأْتِيهَا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا، فَتَبْسُطُ لَهُ نَطْعًا فَيَقِيلُ عَلَيْهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعَرَقِ، فَكَانَتْ تَجْمَعُ عَرَقَهُ فَتَجْعَلُهُ فِى الطِّيبِ وَالْقَوَارِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا؟ قَالَتْ: عَرَقُكَ أَدُوفُ بِهِ طِيبِي».

أوليست سيرةُ المسلمين أنّهم يفتخرون بكلّ ما مسّه النّبيّ ويتبرّكون بآثاره؟ لماذا ذكر البخاريّ -والحجّةُ على مَن يحتجُّ به- في (صحيحه) أنّ عبدالله بن الزّبير «أَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم تَمْرَةً فَلاَكَهَا ثُمَّ أَدْخَلَهَا فِي فِيهِ، فَأَوَّلُ مَا دَخَلَ بَطْنَهُ رِيقُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم»؟

 

الاهتمام بآثار النّبيّ وعِترته على مرّ الأزمان

وُلد رسول الله صلّى الله عليه وآله في مكّة المكرّمة، وبقي منزلُه الذي ولد فيه، موضعَ اهتمام المسلمين على مرّ الأجيال، وكانوا يتبرّكون بالبيت الذي عاش فيه مع أمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وبالمكان الذي وُلدت فيه فاطمة الزّهراء عليها السّلام، وعن ذلك يقول ابن جُبير في كتابه (تذكرة بالأخبار عن اتّفاقات الأسفار) المعروف بـ (رحلة ابن جبير): «ومن مشاهدها الكريمة [مكّة المكرّمة] أيضاً مولدُ النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، والتّربة الطّاهرة التي هي أوّل تربة مسّتْ جسمه الطّاهر، بُني عليها مسجدٌ لم يُرَ أحفل بناءً منه، أكثره ذهبٌ منزّل به. والموضع المقدّس الذي سقط فيه، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، ساعة الولادة السّعيدة المباركة التي جعلها الله رحمةً للأُمّة أجمعين محفوفٌ بالفضّة. فيا لها تربة! شرّفها اللهُ بأنْ جعلَها مسقطَ أطهر الأجسام ومولدَ خير الأنام، صلّى الله عليه وعلى آله وأهله وأصحابه الكرام وسلّم تسليماً. يُفتح هذا الموضع المبارك فيدخله النّاس كافّةً متبرّكين به في شهر ربيع الأوّل ويوم الاثنين منه، لأنّه كان شهر مولد النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وفي اليوم المذكور وُلد صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وتُفتح المواضع المقدّسة المذكورة كلّها. وهو يوم مشهودٌ بمكّة دائماً ".." وعلى مقربةٍ من دار خديجة، رضي الله عنها، المذكورة، وفي الزّقاق الذي الدّار المكرّمة فيه، مصطبةٌ فيها متّكأٌ يقصد النّاس إليها ويصلّون فيها ويتمسّحون بأركانها، لأنّ في موضعها كان موضع قعود النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم».

وفي موضعٍ آخر يقول ابن جبير عن بعض تلك المشاهد: «في يوم الاثنين الثّالث عشر منه [من شهر ذي القعدة] دخلنا مولد النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وهو مسجدٌ حفيلُ البنيان، وكان داراً لعبد الله بن عبد المطّلب، أبي النّبيّ ".." في وسطه رخامةٌ خضراءُ سعتُها ثُلثا شبر مطوّقة بالفضّة ".." ومسحنا الخدودَ في ذلك الموضع المقدّس الذي هو مسقطٌ لأكرم مولود على الأرض، ومَمَسٌّ لأطهر سلالة وأشرفها صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ونفعَنا ببركة مشاهدة مولده الكريم. وبإزائه محرابٌ حفيلُ القرنصة، مرسومةٌ طرّتُه بالذّهب ".." وهذا الموضع المبارك هو شرقيٌّ بالكعبة متّصلٌ بصفح الجبل. ويشرفُ عليه بمقربةٍ منه جبل أبي قُبيس ".." ودخلتُ أيضاً في اليوم المذكور دارَ خديجة الكبرى، رضوان الله عليها، وفيها قبّةُ الوحي، وفيها أيضاً مولد فاطمة، رضي الله عنها. وهو بيتٌ صغيرٌ مائلٌ للطّول ".." ومسحنا الخدودَ في هذه المساقط المكرّمة المخصوصة بمسّ بشرات المواليد الكرام، رضوان الله عليهم».

 

ويقول أيضاً: «وعندما تخرج من البلدة بنحو ميل تلقى مسجداً بإزائه حجرٌ موضوعٌ على الطّريق كالمِصطبة، يعلوه حجرٌ آخر مسنَدٌ فيه نقشٌ داثرُ الرّسم، يقال إنّه الموضع الذي قعد فيه النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم مستريحاً عند مجيئه من العُمرة. فيتبرّك النّاسُ بتقبيله ومسْحِ الخدود فيه، وحقّ ذلك لهم، ويستندون إليه لتنالَ أجسامُهم بركةَ لمسِه».

 

منزله المبارك يتحوّل إلى مكتبة!!

حوّلت الحكومة السّعوديّة في الأعوام الماضية منزل أمّ المؤمنين السّيّدة خديجة بنت خويلد رضوان الله عليها، وهو المنزل الذي عاشت فيه مع النّبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله، إلى جزءٍ من حمّامات عامّة لخدمة الحجّاج، استهتاراً بقِيَم المسلمين ومشاعرهم، وكذلك تحوّل العديد من الأماكن التّاريخيّة التي تعود لزمن الرّسول وعصر صدر الإسلام، إلى سوقٍ أو مكتبة، أو غدت مجرّد أرضٍ مبلّطةٍ بالرّخام. أمّا الموقع الذي ولد فيه النّبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله فأصبح سوقاً للمواشي قبل أن يجري تحويلُه إلى مكتبة.

طَمسُ معالم النّبوّة

* لم تكتف الحكومة السّعوديّة بذلك، بل خرّبت كلّ ما يمتّ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله بِصِلة، ففي المدينة المنوّرة أُدخلت «بئر بضاعة» في مواقف سيّارات الحرم، وأضحت مياهها تغذّي دورات مياه الحرم بدلًا من أن يشرب منها المصلّون، وهذه البئر بصق فيها النّبيّ صلّى الله عليه وآله ودعا لها، و«بئر أريس» التي سقط فيها خاتمه، و«بئر البصّة» التي صبّ فيها غُسالةَ رأسه الشّريف، وهي قريبةٌ من البقيع، وغيرها من الآبار، أمّا أرض معركة الخندق فإنّها سُفلت وأصبحت طريقاً للسّيّارات. وجرى هدمُ مساجد قديمة نُسبت إلى بعض الصّحابة، منها المساجد السّبعة المشهورة. كما هدُمت مشربة أمّ إبراهيم، منزل مارية القبطيّة زوجّة النّبيّ صلّى الله عليه وآله والموضع الذي ولدتْ فيه ابنه إبراهيم، والذي صلّى فيه، وكانت عبارة عن غرفة، وقد سُوّيت بالأرض.

وذكر مهندسون معنيّون بالشّأن الأثريّ للمدينة المنوّرة أنّ المخطّط الإرشاديّ الذي تتبعه أمانة المدينة المنوّرة ويهدف إلى تفكيكك الأحياء العشوائيّة، لم يكن عليه لزاماً اختراق ذلك الحيّ التّاريخيّ وغيره من المواقع، وكان بإمكانه اللّجوء إلى وسائل أخرى تفي بالخدمات التي ينتظر أن تؤمّنها ذات الطّرق المخترقة للحيّ التّاريخيّ.

وكانت جريدة الوطن السّعوديّة قد نشرت نهار الخميس الواقع في 25/8/2005م بأنّه بات من المؤكّد أن يأتي مخطّط المدينة الاستراتيجيّ الذي تنفّذه أمانة المدينة المنوّرة على أحد أهمّ الأحياء التّاريخيّة فيها. وقالت إنّه لم يتبقَّ سوى بضعة أمتار يتوقّع لها أن تلتهم في غضون الأشهر الثّلاثة المقبلة، معالمَ حيّ «الشّريبات» التّاريخيّ الذي يختزل حزمةً واسعة من المواقع الأثريّة المرتبطة بالسّيرة النّبويّة، والتي يعدّها المؤرّخون شاهداً حيّاً على عظمة الدّولة الإسلاميّة الأولى، عندما كانت المدينة المنوّرة عاصمتها.

ويجري التّركيز على هدم المساجد والمقابر والأماكن التاريخيَّة التي لها علاقة بالرّسول صلّى الله عليه وآله، وصحابته، وبما كان له علاقة بمجريات الرّسالة، وإنّ عمليّات الهدم تتمّ تحت عنوان توسيع المسجد الحرام والمسجد النّبويّ، لكي يتناسب مع الزّيادة الهائلة في أعداد الحجّاج كلّ عام...

** وفي مكّة المكرّمة وفي تخطيط توسعة المسجد الحرام، أمر المنفّذون بهدم بعض الأعمدة والقباب في الأروقة التي بُنيت في العصور المتأخّرة قُبيل هيمنة آل سعود على الحجاز [أشرنا إلى ذلك بشيءٍ من التّفصيل في تحقيق ذي الحجّة الفائت]، منها عامودٌ يرمز إلى المكان الذي يُعتقد أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله أُسري به منه إلى المسجد الأقصى، وآخر يدلّ على مكانٍ كان يتلو فيه القرآن الكريم، وجرى إزالة نماذج رائعة من التّصميمات المعماريّة، وقد انتقدت المجتمعات الإسلاميّة هذه العمليّات على نطاق واسع.

هذا، ويعتقد الكثير من منتقدي هدم هذه الآثار الإسلاميَّة بأنّ التّدفّق السّريع للاستثمارات الرّأسماليّة في مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة جعل المال والنموّ الاقتصاديّ هو بيت القصيد بالنّسبة إلى السّلطات السّعوديَّة في نهاية المطاف. وكان يمكن توسعة الحرم دون إلحاق الضّرر بأماكن لها قيمة وقداسة عند المسلمين بلحاظ معالمها النّبويّة، ويقول هؤلاء للعلماء الذين يفتون بعدم جواز تعظيم الأماكن: وهل يشفع لهم هذا بأن يبنوا حمّامات عامّة فوقها!؟ لماذا نغضب فقط عندما يسيءُ الغرب للرّسول برسومه ونتجاهل -بل نحاول تبرير- هذه الجريمة التي هي أعظم وأشدّ من الرّسوم كونها انطلقت من مشايخ الحَرَمين.

وقد ردّ أستاذ الشّريعة والقانون في جامعة الأزهر الشّيخ علوي أمين على السّلطات السّعوديّة التي ترى أنّ الآثار الإسلاميّة أحجارٌ لا قيمة لها، فأكّد أنّ هذه الأحجار والأماكن أخذت قيمة مع الزّمن، واكتسبت قداستها لارتباطها بالتّاريخ النّبويّ والإسلاميّ، وقال إنّ هدم هذه الآثار القيّمة تجعل الذّكريات تضيع، وبالتّالي يضيع جزء كبير من تاريخ الأُمّة الإسلاميّة، ودعا إلى ضرورة المحافظة على التّراث وتاريخ الإسلام لما يمثّله من رمزيّة ومكانة مهمّة.

 

 

الهدم في مكّة والمدينة زمنَ الوهّابيّين

حافظ المسلمون على الآثار النّبويّة والمساجد التّاريخيّة، وكانت موضعَ عنايتهم، يأتون إليها للتّبرّك وأداء الشّعائر الدّينيّة دون أن يدّعي أحدٌ أنّ التّبرّك بدعة تجبُ محاربتها من خلال إزالة المواضع التي يتمسّح بها الزّائر أو يصلّي فيها ركعاتٍ لله تعالى، لكنّ الأمور تبدّلت مع حكّام السّعوديّة الذين تبنّوا الفكر الوهّابيّ، ففي عام 1806م جرت عمليّات هدم منظّمة في مقبرة البقيع، وفيها توجد أضرحة العديد من آل البيت عليهم السّلام والصّحابة رضوان الله عليهم، وفي الحادي والعشرين من نيسان/أبريل عام 1925م سُوّيت جميع الأضرحة المشيّدة حول مقابر البقيع بالكامل، ثم تتالى هدم مواقع لآل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله والهاشميّين عموماً، من بينها مقابر شهداء غزوة أحد، بما فيها قبر حمزة بن عبد المطلّب، عمّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله، كما هُدم منزله، وقبّةُ الثّنايا (قبّة بُنيت لموقع دفن أسنان النّبيّ المكسورة في غزوة أحد)، كما هُدم قبر آمنة بنت وهب أمّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله.

وفي مكّة المكرّمة هُدّمت المواقع التي أشرنا إليها، وهُدّم بيت «الأرقم» وهو البيت كان يجتمع فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله سرّاً مع أصحابه لهدايتهم وبيان سُبل نشر الإسلام. ومن تلك الآثار التي جرى إزالتها أيضاً «مسجد الإجابة» خارج مكّة في شُعب بالقرب من «ثنية أذخر». أمّا قبور شهداء معركة بدر، فقد هُدمت وطُمست.

ويشير الدّكتور عبد الوهّاب إبراهيم أبو سليمان، عضو هيئة كبار العلماء في السّعوديّة، في كتابه (الأماكن المأثورة المتواترة في مكّة المكرّمة) إلى مسجد البيعة، ويقول عنه: «لا يزال موجوداً في بنائه القديم. قمتُ مع بعض الزّملاء بزيارته يوم كان متوارياً خلف جبل العقَبة قبل نسفه، فوجدناه مهملاً، نُزع بابه، ولم يُعطَ الاهتمام اللّائق بتاريخه في الإسلام».

ويتحدّث المهندس المعماريّ الحجازي سامي محسن عنقاوي بأسى عن القيمة العظيمة لتلك الآثار المطمَسة، وكيف أنّه لم يستطع إيقاف هدْم تلك الآثار، وعن محاولاته الفاشلة في ثَني المسؤولين عن قرارات الإزالة، وعن مواجهة السّلطة الوهّابيّة العنيفة ذات الاتجاه الواحد لكلّ مَن يطالب بالمحافظة على الآثار بحجّة التّخوّف دائماً من البِدَع والشّرك المحتمل حدوثُه بفعل بقائها، ولهذا فهي تعمد إلى سدّ باب الذّرائع قبل حدوث الوقائع! فهل الهدم والطّمس هو الحلّ المناسب لإطفاء البِدَع المحتمل حدوثُها من جرّاء بقاء بيت الرّسول الذي نزلت به الرّسالة وانبثق منه نور الإسلام!

وكان الدّكتور سامي العنقاوي قد أعاد اكتشاف بيت الرّسول صلّى الله عليه وآله بمكّة بالقرب من الحرم الشّريف، ووصف ذلك البيت المتكوّن من المدخل وثلاث غرف، منها غرفة الرّسول وأمّ المؤمنين خديجة وغرفة أولاد الرّسول والغرفة التي وُلدت بها السّيّدة الزّهراء عليها السّلام، وذكر كيف أنّه تدرّج بالبحث حيث صنّف الزّيادة التي بُنيت في العهد العبّاسيّ والأصليّة التي يعود تاريخها إلى أكثر من ألف وأربعمائة سنة، وأعدّ تقريراً عن هذا المكان الأثريّ وسلّمه إلى المسؤولين، ولكن المكان في النّهاية دُفن تماماً وأُضيف إلى السّاحات المحيطة بالحرم وبُني فوقه دورات مياه عامّة!

ويتساءل المهندس العنقاوي: ما ذنب هذه الآثار التي حُفظت على مدى 1400 عام؟ مشدّداً على أنّ الآثار في مكّة والمدينة هي مرآة تعكس سيرة الرّسول صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ونستطيع أن نرى فيها تاريخنا وماضينا وتراثنا. أمّا الآن فقد تفتّتت إلى شظايا، بل وأصبحت تختفي شظاياها ولم يتبقَّ إلّا القليل جدّاً، وقد تجاوزنا في ذلك الخطّ الأحمر.

ووجّه الدّكتور العنقاوي دعوةً للمسؤولين وهي هدم المرافق التي أقيمت فوق الموقع الأثريّ لبيت الرّسول صلّى الله عليه وآله وإبراز ذلك البيت مرّةً أخرى والمحافظة عليه، فهو بيتٌ من بيوت الله، وبقعةٌ مباركة، ولو كان هناك مكانٌ أفضل بَركةً لما اختار اللهُ سبحانه وتعالى أن يكون هذا البيت محلّ سُكنى الرّسول صلّى الله عليه وآله ونزولِ الوحي، وأكّد في مقابلة أُجريت معه أنّه يستطيع بالاستعانة بأجهزة وتقنيّات خاصّة تحديدَ الموقع، وأنّ الأمل ما زال موجوداً لظهور ذلك البيت. وطالب بتدخّلٍ فاعلٍ وقويّ يضع حدّاً لمثل هذه الأمور، ووقْف طمس آثار نبيّنا صلّى الله عليه وآله ومعالمنا وتاريخنا، سواء كان التّاريخ النّبويّ أو ما تلاه

.

 

حقّاً إنّه من المستغرب والمستهجن أن تقوم السّلطات السّعوديّة بطمس تاريخ المسلمين عبر هدم المعالم النّبويّة وتخريبها، في الوقت الذي تحافظ فيه على مدينة خيبر الأثريّة، ولا تسمح لأحدٍ بالمساس بها، وكيف تجرّأت على هدم أماكن سكنَ فيها أو مرّ عليها أعظمُ أنبياء الله وخاتمُ رُسلِه محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله.

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

02/01/2014

دوريّات

نفحات