الملف

الملف

30/12/2013

قراءةٌ في الكرامات النَّبويّة


 

 



 

اقرأ في الملف

استهلال ....................... من صِيَغ «الصّلوات» عن الإمام الصّادق عليه السّلام

أشعّةٌ من أحوال النّبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله ..... الفقيه القطب الرّاونديّ قدّس سرّه

من خصائص النّبيّ: أشجعُ أهلِ زمانه ................... إعداد: أسرة التّحرير

«..جاءت الشّجرة ولها دويٌّ شديد» ......................... ابن أبي الحديد المعتزليّ

 

 

استهلال

عن الإمام الصّادق عليه السّلام

«من أرادَ أنْ يسرَّ محمّداً وآلَ محمّدٍ عليهم السّلام فليَقُل في صلاته عليهم:

أللَّهُمَّ يا أجْوَدَ مَنْ أَعْطى وَيا خَيْرَ مَنْ سُئِلْ وَيا أرْحَمَ مَنْ اسْتُرْحِمْ
أللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ فِي الأوَّلِينَ وَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ فِي الآخِرِين
وَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ فِي المَلأَ الأعْلى

وَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ فِي المُرْسَلِين

أللَّهُمَّ أَعْطِ مُحَمَّداً الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ وَالشَّرَفَ وَالرِّفْعَةَ وَالدَّرَجَةَ الكَبِيرَة.

أللَّهُمَّ إِنِّي آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَلَمْ أَرَهُ فَلا تَحْرِمْنِي فِي القِيامَةِ رُؤْيَتَهُ وَارْزُقْنِي صُحْبَتَهُ وَتَوَفَّنِي عَلى مِلَّتِهِ وَاسْقِنِي مِنْ حَوْضِهِ مَشْرَباً رَوِيّاً سائِغاً هَنِيئاً لا أَظْمأُ بَعْدَهُ أَبَداً إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ.

أللَّهُمَّ إِنِّي آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَلَمْ أَرَهُ فَعَرِّفْنِي فِي الجِنانِ وَجْهَهُ. أللَّهُمَّ بَلِّغْ مُحَمَّداً صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ مِنِّي تَحِيَّةً كَثِيرَةً وَسَلاماً».

 

 

من الولادة حتّى ظهورِ أمر الدّعوة وانتشارِه

أشعّةٌ من أحوال النّبيّ الأعظم  صلّى الله عليه وآله

------- الفقيه القطب الرّاونديّ قدّس سرّه (ت: 573 للهجرة) --------

 

كلُّ سيرةِ الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله كراماتٌ ومعاجز، والمفارقة الأشدّ أن يصرّ بعضُ المؤمنين على تَغييب المعاجز والكرامات من سيرته صلّى الله عليه وآله، لسوء فهمِ معنى «بشريّة الرّسول» ناتجٍ عن الجموح إلى التّماهي مع «روح العصر» المُمعنِ في المادّيّة وإنكارِ الرّوح والعقل والقِيَم والغَيب عموماً.

استدعى ذلك إعادةُ التّذكير بملامح من سيرة النّبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله تداخَلتْ في جنباتها الكراماتُ النّبويّة، مع تركيزٍ على معجزةٍ أبرز من بين المعاجز الّتي طلبتها قريش منه صلّى الله عليه وآله.

 

·        رُوي أنّه صلّى الله عليه وآله:

 

* وُلد في السّابع عشر من شهر ربيع الأوّل عام الفيل يوم الاثنين، وقيل: يوم الجمعة ".." وهو محمّدُ بنُ عبد الله بنِ عبدِ المطّلب بنِ هاشم.

* ورُويَ عنه صلّى الله عليه وآله: «إذا بلغَ نَسَبي إلى عَدنان فَأَمْسِكوا، ثمّ قرأ: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ الفرقان:38، لا يعلمُهم إلّا اللهُ تعالى جَلَّ ذِكرُه».

* وأنَّ أباه تُوفّي وأمّه حبلى، وقدمتْ أمُّه آمنه بنت وهب على أخواله من بني عَديّ من النّجار بالمدينة، ثمّ رجعتْ به حتّى إذا كانت بالأَبواء ماتت. (الأبواء: قريةٌ بين المدينة ومكّة).

* وأرضَعته صلّى الله عليه وآله حتّى شبَّ: حليمةُ بنتُ عبد الله السَّعْدِيّة.

* وتزوّج بخديجة وهو ابنُ خمسٍ وعشرين سنة.

* وتُوفِّيَ عنه أبو طالب وله ستٌّ وأربعون سنةً وثمانية أشهر وأربعة وعشرون يوماً.

* والصّحيح أنَّ أبا طالب، رضي الله عنه، تُوفِّيَ عنه في آخر السّنة العاشرة من مبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ تُوفّيت خديجةُ بعد أبي طالب بثلاثة أيّام، فسمّى رسولُ الله صلّى الله عليه وآله ذلك العام عامَ الحزن، فقال: «ما زالتْ قريشُ قاعدةً عنّي حتّى ماتَ أبو طالب».

 

* وأقامَ بعدَ البعثةِ بمكّة ثلاثَ عشرة سنة، ثمّ هاجرَ منها إلى المدينة بعد أن استَتر في الغار، ثلاثةَ أيّام.

* ودخلَ المدينةَ يومَ الاثنين الحادي عشر من شهر ربيع الأوّل، وبقيَ بها عشرَ سنين، ثمّ قُبِضَ صلّى الله عليه وآله يومَ الاثنين لليلتَين بقيَتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة.

***

بدءُ نزول جبرئيل عليه السّلام

* ذكر عليُّ بن إبراهيم بن هاشم، وهو من أَجَلِّ رواةِ أصحابنا، أنَّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله لمّا أتى له سبعٌ وثلاثون سنةً كان يرى في نومِه كأنَّ آتياً أتاه فيقول: يا رسولَ الله -وكان بين الجبال يرعى غَنَماً- فنظرَ إلى شخصٍ يقول له: يا رسولَ الله، فقال: مَن أنت؟ قال: أنا جبرئيلُ أرسلَني اللهُ إليك ليتَّخذَك رسولاً، وكان رسولُ الله صلّى الله عليه وآله يكتمُ ذلك.

الوضوءُ والصّلاة

* فأنزلَ جبرئيلُ بماءٍ من السّماء، فقال: يا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قُمْ فَتَوَضَّأ، فعلَّمه جبرئيلُ الوضوءَ على الوجه واليدَين من المرفق ومسح الرّأس والرِّجلَين إلى الكعبَين، وعلَّمه الرُّكوعَ والسُّجود، فدخلَ عليٌّ عليه السّلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو يصلّي -هذا لمّا تمّ له صلّى الله عليه وآله أربعون سنة- فلمّا نظرَ إليه يصلّي قال: يا أبا القاسم، ما هذا؟ قال: هذه الصّلاةُ الّتي أمرَني اللهُ بها، فدعاه إلى الإسلام، فأسلمَ وصلَّى معه، وأسلمتْ خديجة، فكان لا يُصلّي إلّا رسولُ الله وعليٌّ صلوات الله عليهما وخديجةُ خلفَه. فلمّا أتى لذلك أيّام دخلَ أبو طالب إلى منزل رسول الله صلّى الله عليه وآله ومعه جعفر، فنظرَ إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وعليٍّ عليه السّلام بجَنبه يُصَلِّيان، فقال لجَعفر: يا جعفر، صِلْ جناحَ ابن عمِّك، فوقفَ جعفرُ بن أبي طالب من الجانب الآخَر.

زيد بن حارثة

ثمّ خرج رسولُ الله صلّى الله عليه وآله إلى بعضِ أسواق العرب فرأى زيداً [زيد بن حارثة حِبُّ رسول الله والد أسامة بن زيد، استُشهد في معركة اليرموك مع  الشّهيدين جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة]، فاشتراه لخديجة ووجده غلاماً كيِّساً، فلمّا تزوّجها وَهبَته له، فلمّا نُبِّئ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله أسلمَ زيدٌ أيضاً، فكان يُصلّي خلفَ رسول الله صلّى الله عليه وآله عليٌّ وجعفر وزيد وخديجة.

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ

* قال عليّ بن إبراهيم: ولمّا أتى على رسول الله صلّى الله عليه وآله زمان، عند ذلك أَنزل اللهُ عليه ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ الحجر:94، فخرجَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وقام على الحِجر، وقال: يا مَعشرَ قريش، يا مَعشرَ العرب، أَدعوكُم إلى عبادةِ الله وخَلْعِ الأندادِ والأصنامِ، وأَدعوكُم إلى شهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنِّي رسولُ الله، فَأَجيبوني تَملكوا بها العربَ، وتدينُ لكم بها العَجَمُ وتكونون ملوكاً، فاستَهزأوا منه وضحكوا وقالوا: جُنَّ محمّدُ بن عبد الله، وآذوه بألسنَتِهم.

ادفع إليكم ابني لتقتلوه، وتدفعون إليَّ ابنكم لأربِّيه

* وكان مَن يسمعُ من خبره ما سمع من أهل الكُتب يُسلمون، فلمّا رأت قريش مَن يدخل في الإسلام جَزعوا من ذلك، ومشوا إلى أبي طالب وقالوا: كُفَّ عنّا ابنَ أخيك، فإنّه قد سَفَّهَ أحلامَنا وسَبَّ آلهتَنا وأفسدَ شبابَنا وفَرَّقَ جماعتَنا، وقالوا: يا محمّد، إلامَ تدعو؟

قال: إلى شهادة أنْ لا إلهَ إلّا الله وخَلْعِ الأندادِ كلِّها.

قالوا: نَدَع ثلاثَ مائة وستّين إلهاً ونعبدُ إلهاً واحداً؟ وحكى اللهُ تعالى قولَهم: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ص:4-5 إلى قوله: ﴿..بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِص:8.

ثمّ قالوا لأبي طالب: إنْ كان ابنُ أخيك يحملُه على هذا: العُدم [أي الفقر] جَمعنا له مالاً، فيكون أكثرَ قريشٍ مالاً، فقال رسولُ الله صلّى الله عليه وآله: مَا لي حاجةٌ في المال، فَأَجيبوني تكونوا ملوكاً في الدّنيا وملوكاً في الآخرة، فتفرّقوا ثمّ جاؤوا إلى أبي طالب، فقالوا: أنت سيّدٌ من ساداتنا وابنُ أخيك قد فرَّق جماعتَنا، فَهَلُمَّ نَدفعْ إليكَ أبهى فتًى من قريش وأجملَهم وأشرفَهم، عمارة بن الوليد، يكون لك ابناً وتدفع إلينا محمّداً لنقتلَه، فقال أبو طالب: ما أَنصَفتموني، تسألوني أنْ أدفعَ إليكم ابني لتَقتلوه، وتدفعون إليَّ ابنَكم لأُربِّيه لكم، فلمّا آيَسوا منه كَفُّوا.

إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ

* وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله لا يكفُّ عن عيبِ آلهةِ المشركين، ويقرأُ عليهم القرآن، وكان الوليدُ بن المغيرة من حكّام العرب، يتحاكمون إليه في الأمور، وكان له عبيدٌ عشرةٌ عندَ كلِّ عبدٍ ألفُ دينار يَتَّجِرُ بها وملكَ القنطار وكان عمَّ أبي جهل، فقالوا له: يا عبدَ شمس، ما هذا الّذي يقول محمّد؟ أَسِحرٌ أم كهانة، أم خُطَب؟ فقال: دَعوني أسمعْ كلامَه.

فدنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وهو جالسٌ في الحِجر، فقال: يا محمّد، أنشِدني شِعرَك، فقال: ما هو بِشِعْرٍ، ولكنّه كلامُ اللهِ الّذي بعثَ أنبياءَه ورُسُلَه [به]، فقال: أُتْلُ، فقرأ: ﴿بسم الله الرَّحمن الرَّحيم﴾، فلمّا سمع «الرّحمن» استهزأَ منه، وقال: تدعو إلى رجلٍ باليمامة بِسم الرّحمن؟ قال: لا، ولكنّي أدعو إلى الله، وهو الرّحمنُ الرّحيم. ثمّ افتتحَ (حم السّجدة)، فلمّا بلغَ إلى قوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ فصّلت:13 وسَمِعَه اقشَعرَّ جِلدُه، وقامت كلُّ شَعرةٍ في بدنه، وقامَ ومَشى إلى بيتِه ولم يرجعْ إلى قريش، فقالوا: صبا أبو عبد الشّمس إلى دِينِ محمّد.

فاغتمّتْ قريش، وغدا عليه أبو جهل، فقال: فضَحتَنا يا عمّ.

قال: يا ابن أخي، ما ذاك وإنّي على دِين قومي، ولكنّي سمعتُ كلاماً صعباً تقشعرُّ منه الجلود.

قال : أَفَشِعْرٌ هو؟ قال: ما هو بشِعر.

قال : فخُطَب؟ قال: لا، إنَّ الخُطَبَ كلامٌ متّصل، وهذا كلامٌ منثورُ لا يُشبِهُ بعضُه بعضاً، له طُلاوة. [الطُّلاوَةُ، بالضَّمِّ: السِّحْرُ]

قال: فكهانة هو؟ قال: لا.

قال: فما هو؟ قال: دَعْنِي أُفكِّر فيه.

فلمّا كان من الغد، قالوا: يا عبدَ شمس، ما تقول؟

قال: قولوا: هو سِحْرٌ، فإنّه آخذٌ بقلوبِ النّاس، فأنزلَ اللهُ تعالى فيه:

﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ المدّثّر11-30.

 

* و".." عن عكرمة قال: «جاء الوليدُ بن المغيرة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال: اِقرأ عَلَيَّ، فقال: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ النّحل:90، فقال: أَعِد، فأعاد، فقال: واللهِ إنّ له لَحلاوةً وطُلاوة، وإنّ أعلاه لَمُثمِر، وإنّ أسفلَه لَمُغْدِق، وما هذا بقولِ بَشَر».

أبو طالب لحِمزة: خُذ السَّيف

* وكان قريش يجدّون في أذى رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكان أشدّ النّاس عليه عمُّه أبو لهب، وكان صلّى الله عليه وآله ذات يومٍ جالساً في الحِجر، فبعثوا إلى سِلَى الشّاة فألقوه على رسول الله صلّى الله عليه وآله فاغتمّ من ذلك، فجاءَ إلى أبي طالب، فقال: يا عمّ، كيف حَسَبي فيكم؟

قال: وما ذاك يا ابنَ أخ؟

قال: إنَّ قريشاً ألقوا عليَّ السِّلَى.

فقال (أبو طالب) لحمزة: خُذْ السَّيف. وكانت قريشُ جالسةً في المسجد، فجاء أبو طالب ومعه السَّيف، وحمزةُ ومعه السَّيف، فقال: أمرّ السِّلَى على سبالهم [جمع سبلَة وهي الشّارب]، ثمّ التفتَ إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقال: يا ابنَ أخ، هذا حَسَبُكَ منّا وفينا.

أللّهُمّ عليك الملأ من قريش

* وفي (صحيح) البخاريّ، عن عبد الله قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وآله ساجدٌ وحولَه النّاس من قريش ومعهم سِلَى بعير، فقالوا: من يأخذ هذا فيقذفُه على ظهرِه، فجاء عقبةُ بنُ أبي معيط، فقذفَه على ظهر النّبيّ صلّى الله عليه وآله، وجاءت فاطمة عليها السّلام فَأَخَذَتْه من ظهره ودَعَت على مَن صَنع ذلك، قال عبد الله: فما رأيتُ رسولَ الله دعا عليهم إلَّا يومئذٍ، قال: أللّهمّ عليك الملأُ من قريش. قال عبد الله: ولقد رأيتُهم قُتلوا يومَ بَدْر وأُلقوا في القَليب.

ضربَ بالقوس رأسَه، ثمّ احتملَه فجلدَ به الأرض

* وكان أبو جهل تعرّضَ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وآذاه بالكلام، فقالت امرأةٌ من بعض السّطوح لحمزة: يا أبا يَعلى، إنَّ عَمْرو بنَ هشام تعرَّضَ لمحمّدٍ وآذاه، فغضبَ حمزةُ ومرَّ نحو أبي جهل، وأخذَ قوسَه فضربَ بها رأسَه، ثمّ احتملَه فجلدَ به الأرضَ.

واجتمعَ النّاسُ وكادَ يقعُ فيهم شرّ، فقالوا: يا أبا يَعلى، صبوتَ إلى دين محمّد؟ قال: نعم، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الله وأنّ محمداً رسول الله. ثمّ غدا إلى رسول الله فقال: يا ابن أخ، أحقٌّ ما تقول؟

فقرأَ عليه رسولُ الله صلّى الله عليه وآله من القرآن، فاستبصرَ حمزةُ فثبتَ على دين الإسلام، وفرحَ رسولُ الله، وسُرَّ أبو طالب بإسلامِه وقال:

 

فَصَبراً «أبا يَعْلَى» على دِيْنِ أحمدٍ

وَكُنْ مُظهِراً للدِّين وُفِّقْتَ صَابِرا

وحُطْ مَن أَتَى بالدِّينِ من عند ربِّهِ

بصدْقٍ وحقٍّ لا تَكُنْ «حَمْزُ» كافرا

فقد سرَّني أنْ قلتَ إنّك مؤمنٌ

فَكُنْ لرسولِ الله في اللهِ ناصرا

ونادِ قُريشاً بالذي قد أتَيْتَهُ

جِهاراً وقلْ: ما كانَ أحمدُ ساحرا

 

***

العِذْقُ ينزلُ من النّخلة، ويأتي إلى رسول الله

".." عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: جاء أعرابيٌّ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وقال: بِمَ أعرفُ أنّك رسول الله؟ قال: أرأيتَ إنْ دعوتُ هذا العِذْقَ من هذه النّخلةِ فَأَتاني، أتشهدُ أنّي رسولُ الله؟ قال: نعم.

قال (ابنُ عبّاس): فَدَعا العِذْقَ ينزل من النّخلة حتّى سقطَ على الأرض، فجعلَ يبقرُ حتّى أتى النّبيَّ صلّى الله عليه وآله.

ثمّ قال (النّبيّ للعِذق): ارجِع، فرجعَ حتّى عاد إلى مكانه، فقال: أشهدُ أنّك لرسولُ الله، وآمن، فخرج العامريّ يقول: يا آلَ عامر بن صَعْصَعة، واللهِ لا أُكَذِّبه بشَيءٍ أبداً.

 

ذو الجناحين، جعفرُ بن أبي طالب

(جعفرُ بن أبي طالب، واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ، وأمّه [أي والدة جعفر] فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ. وكان لجعفر من الوَلد عبدُ الله، وبه كان يُكنَّى، وله العَقِبُ من وُلد جعفر، ومحمّد وعون لا عقبَ لهما، وُلدوا جميعاً لجعفر بأرض الحبشة في المهاجر إليها، وأمُّهم أسماء بنت عميس ".." وأخوا [أبناء جعفر] لأمّهم: يحيى بن عليّ بن أبي طالب ومحمّد بن أبي بكر. ".." أسلم جعفرُ بن أبي طالب قبل أن يدخل رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم دارَ الأرقم ويدعو فيها.

".." وهاجر جعفر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثّانية ومعه امرأته أسماءُ بنت عميس، وولدَت له هناك عبدَ الله، وعوناً، ومحمّداً. فلم يزل بأرض الحبشة حتّى هاجر رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم إلى المدينة، ثمّ قدم عليه جعفر من أرض الحبشة وهو بخَيبر ".." ولمّا رجع رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم من خَيبر تلقّاه جعفرُ بن أبي طالب، فالتزمَه رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وقبَّل ما بين عينَيه، وقال: ما أدري بأيّهما أنا أفرَح، بقدومِ جعفر أو بفتح خَيبر. ".."

عن محمّد بن أسامة بن زيد عن أبيه أسامة أنّه سمع النّبيَّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول لجعفر بن أبي طالب: «أشبَهَ خَلقُك خَلقي وأشبَهَ خُلقُك خُلُقي، فأنت منِّي ومن شَجرتي». ".."  حدَّثنا هشامُ بن سعد، عن جعفر بن عبد الله بن جعفر، عن جعفر بن أبي طالب أنّه تختَّم في يمينِه.

".." عن عبد الله بن جعفر قال: «بعثَ رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم جيشاً، واستعمل عليهم زيدَ بن حارثة وقال: إنْ قُتل زيدٌ أو استُشهِد فأميرُكم جعفرُ بن أبي طالب، فإنْ قُتل جعفر أو استُشهِد فأميرُكم عبدُ الله بن رواحة. فلَقوا العدوَّ ".." فأتى خبرُهم النّبيَّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، فخرج إلى النّاس فحمدَ اللهَ وأثنى عليه ثمّ قال: إنَّ إخوانَكم لقوا العدوَّ، فأخذَ الرّايةَ زيدُ بنُ حارثة فقاتلَ حتّى قُتل أو استُشهد، ثمّ أخذَ الرّايةَ جعفرُ بن أبي طالب فقاتلَ حتّى قُتل أو استُشهد، ثمّ أخذها عبدُ الله بن رواحة وقاتل حتّى قُتل).

(ابن سعد، الطّبقات الكبرى: ج 4/ ص 37)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من خصائص النّبيّ: أشجعُ أهلِ زمانه

مصارعةُ النّبيّ، ركانة وأبا الأشدِّ بن الجَمْحيّ

------- إعداد: أسرة التّحرير-------

في مجتمعٍ يعتمدُ منطقَ القوّة البدنيّة والفروسيّة، يكثرُ فيه الأشدّاء، فهذا «يعدلُ ألفَ فارس»، وهذا يقفُ على الجِلد فيعجزُ عن جَذْبِه من تحتِه عشرةٌ من الأشدّاء، وذاك «أفتكُ النّاس»، وآخَر «لم يَصْرَعْهُ أحدٌ قطّ، ولم يمسّ جلدُه الأرضَ مغلوباً قطّ»، من الطّبيعيّ أن تواجهَ النّبيَّ دعواتٌ للمصارعة.

ما يلي، نماذج من كُتب السّيرة في هذا المجال.

 

مصارعة النّبيّ «رِكانة»

 وكان رجلٌ من بني هاشم يُقال له: «ركانة»، وكان كافراً من أفتكِ النّاس يَرعى غنماً له بوادٍ يقال له: وادي «إِضَم». فخرج النّبيّ صلّى الله عليه وآله إلى ذلك الوادي فَلَقِيَه ركانة، فقال: لولا رَحِمٌ بيني وبينَك ما كلّمتُك حتّى قتلتُك، أنت الّذي تشتمُ آلهتَنا. ادعُ إلهَك يُنجيك منّي، ثمّ قال: صارِعني، فإنْ أنتَ صَرَعْتَني فلك عشرةٌ من غَنمي، فأخذَه النّبيُّ صلّى الله عليه وآله وصرعَه وجلسَ على صدره، فقال ركانة: فلستَ بي فعلتَ هذا، إنّما فعلَه إلهُك، ثمّ قال ركانة: عُدْ، فإنْ أنتَ صرعتَني فلك عشرةٌ أخرى تختارُها، فصرعَه النّبيّ صلّى الله عليه وآله الثّانية، فقال: إنّما فعلَه إلهُك، عُدْ فإنْ أنتَ صرَعتَني فلك عشرةٌ أخرى، فصرعَه النّبيّ صلّى الله عليه وآله الثّالثة.

فقال ركانة: خَذَلَتِ اللّاتُ والعُزّى، فدونَك ثلاثين شاةً فاختَرها.

فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وآله: ما أريدُ ذلك، ولكنّي أدعوكَ إلى الإسلامِ يَا رِكانة [وأنفس بكَ أن تصيرَ إلى النّار، وإنّك إنْ تُسْلِم تَسْلَم].

فقال ركانة: لا، إلّا أنْ تُريَني آيةً.

فقال نبيُّ الله صلّى الله عليه وآله: اللهُ شهيدٌ عليك الآن إنْ دعوتُ ربِّي فَأَريتُك آيةً لَتُجيبني إلى ما أدعوك؟ قال: نعم.

وقريبٌ منه شجرةٌ مثمرةٌ، قال (النّبيّ): أَقْبِلي بإذنِ الله، فانشقّت باثنَين، وأقبلتْ على نصفِ ساقِها حتّى كانت بين يدَي نبيّ الله.

فقال ركانة: أريتَني شيئاً عظيماً، فمُرْها فَلْتَرجِع.

فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وآله: أللهُ شهيدٌ إنْ أنا دعوتُ ربّي يأمرها فرَجعتْ لَتجيبُني إلى ما أدعوك إليه؟ قال: نعم.

فأمرَها فرجعت حتّى التأَمتْ بشِقِّها.

فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وآله: تُسْلِم؟

 فقال ركانة: أكرهُ أن تتحدّث [نساء أهل المدينة وصبيانُهم] أنّي إنّما أجبتُك لِرُعبٍ دخلَ في قلبي منك، ولكن فاختَر غنمَك، فقال صلّى الله عليه وآله: ليس لي حاجةٌ إلى غَنَمِك إذا أبَيْتَ أن تُسْلِم.

الرّاونديّ- قصص الأنبياء

مصحّحاً في موردين بين معقوفتين [ ]، على (إمتاع الأسماع) للمقريزيّ: 12/88

من هو «رِكانة»

* (ركانة) بكَسر الرّاء وتخفيف الكاف (الشّروانيّ- حواشي الشّروانيّ.. ج9/399).

* رِكانة بن عبد العزيز بن هاشم بن عبد المطّلب بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب: القرشيّ، المطلبيّ، صحابيّ، من مُسلمة الفتح، له أحاديث، وهو الّذي صارعَ النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، فصرعَه النّبيُّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم مرّتين أو ثلاثاً بحيث كان سببَ إسلامه. نزل المدينة وتُوفّي بها، في أوّل خلافة معاوية. وقيل في سنة اثنتَين وأربعين، وقيل سنة إحدى، وقيل في خلافة عمر بن الخطّاب وقال أبو نعيم: سكنَ المدينة، وبقيَ إلى خلافة عثمان. ويقال: إنّه لا نظيرَ له في الأسماء. روى عنه ابنه يزيد، وحفيده عليّ بن يزيد، ونافع بن عجير. وكان أشدّ النّاس بحيث يُضرب به المَثل، فيُقال للشّيء إذا كان ثقيلاً: أثقل من محمّد بن ركانة.

(السّخاويّ، التّحفة اللّطيفة في تاريخ المدينة الشّريفة: ج1/350)

***

 

مصارعة أبي الأشدّ الجَمْحيّ؟

جاء في كتاب (الرَّوض الأنِف في شرح السّيرة النّبويّة، ص 65):

«أبو الأشدّ بن الجَمْحيّ: فصل: وذكر ابنُ إسحاق قولَ أبي جهلٍ مستهزئاً: يزعمُ محمّدٌ أنّ جنودَ ربِّه الّتي يُخوِّفكم بها تسعة عشر، وأنتم النّاس، إلى آخر القصّة. وأهل التّفسير يَعزون هذه المقالة إلى أبي الأشدّ بن الجَمْحيّ، واسمُه: كلدة بن أُسيد بن خلف ".." وأنّه قال: اكفوني منهم اثنَين، وأنا أَكفيكم سبعةَ عشر، إعجاباً منه بنفسه، وكان بلغَ من شدّته في ما زعموا أنّه كان يقفُ على جِلد البقرة، ويُجاذِبُه عشرة ، ليَنتزعوه من تحت قدمِه، فيتمزّق الجِلد، ولا يتزحزحُ عنه، وقد دعا النّبيَّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم إلى المصارعة، وقال: إنْ صرعتَني آمنتُ بك، فصرَعَه رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم مِراراً ، فلم يُؤمن، وقد نسبَ ابنُ إسحاق خبرَ المصارعة إلى رِكانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطّلب، وسيأتي في الكتاب والله أعلم».

وجاء في ص 139:

«مصارعةُ رِكانة: فصل: وذكر حديث رِكانة ومصارعته النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وقد تقدّم مثلُ هذا الحديث عن أبي الأشدّ (بن) الجَمْحيّ، ولعلّهما أن يكونا جميعاً صارعا رسولَ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ".."».

* في تفسير (جوامع الجامع، 3/789) حول قوله تعالى ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌالبلد:5: «والضَّميرُ في ﴿أَيَحْسَبُ﴾ لبعضِ صنَاديدِ قُرَيْش الَّذين كانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم يُكَابِدُ منْهُم ما يُكَابِدُ، والمعنى: أَيَظُنُّ هذا المُتَعزِّزُ القَويُّ في قَومِهِ ﴿أنْ لَّنْ يَقْدِرَ﴾ على الانتقامِ منْهُ وعلى مكَافَأَتِهِ أَحَدٌ؟ ﴿يَقُولُ أهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً﴾ كَثيراً، يُريدُ: كَثْرَةَ ما أَنْفَقَهُ في ما كانُوا يُسَمُّونَها مَكَارِمَ الأَخلاقِ. ﴿أَيَحْسَبُ أنْ لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ حينَ كانَ يُنْفِقُ ما يُنْفِقُ رِيَاءَ النَّاسِ؟ يعني: أنَّ اللهَ كانَ يَراهُ، وقيلَ: هو أَبو الأَشَدِّ، رَجُلٌ من جُمَح وكانَ قويّاً، بحيثُ يَقِفُ على أَديمٍ عُكَاظِيٍّ فَيَجُرُّهُ العَشْرَةُ من تَحْتِهِ فيُقْطَعُ ولا يَبْرَحُ من مكَانِهِ».

**

في (زبدة التّفاسير، ج7/244) للملّا فتح الله الكاشانيّ، حول قوله تعالى ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَالمدّثّر:30:

 

«رُوي: أنّه لمّا نزلت ﴿عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ المدّثّر:30، قال أبو جهلٍ لقُريش: ثكلتكُم أمّهاتكُم، أسمعُ ابنَ أبي كبشة يخبرُكم أنّ خَزَنة النّار تسعة عشر، وأنتم الدَّهْمُ [الكثيرون عدداً] الشّجعان، أفيعجزُ كلُّ عشرةٍ منكم أن يبطشوا بِرَجُلٍ من خَزَنة جهنّم؟! فقال أبو الأشدّ بن أُسيد بن كِلدة الجَمْحيّ وكان شديدَ البطش: أنا أكفيكم سبعةَ عشر، عشرة على ظهري، وسبعة على بَطني، فَاكْفوني أنتم اثنَين. فنزلت: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً..﴾ المدّثّر:31 أي: وما جَعلنا الموكّلين بالنّار رجالاً من جنسِكم، بل ما جعلناهم إلَّا ملائكةً ليُخالفوا جنسَ المعذَّبين من الثّقلَين، فلا يأخذهم ما يأخذُ المجانسَ من الرّأفة والرِّقّة، ولا يَستروحون إليهم. ولأنّهم أقوى الخَلق بأساً، وأشدّهم غَضَباً لله، وأقواهم بَطشاً. وعن عمرو بن دينار: واحدٌ منهم يدفعُ بالدّفعةِ الواحدةِ في جهنّم أكثرَ من ربيعة ومضر. وعن النّبيّ صلّى الله عليه وآله: كأنّ أعينَهم البَرق، وكأنّ أفواهَهم الصّياصي [الحصون]، يجرّون أشعارَهم، لأحدهم مثلُ قوّة الثّقلين، يسوقُ أحدُهم الأمّة وعلى رقبتِه جَبل، فيرمي بهم في النّار، ويَرمي بالجبلِ عليهم».

**

المصارعة

جاء في كتاب: (نظام الحكومة النّبويّة، المسمّى التّراتيب الإداريّة، ج2/148) تحت عنوان (المصارعة):

ذكر ابنُ إسحاق في (سيرته)، وغيرُه، أنّه كان بمكّة رجلٌ شديدُ القوّة يحسن الصّراع، وكان النّاس يأتونَه من البلاد للمصارعة فيصرعُهم.

بينما هو ذات يومٍ في شُعبٍ من شعاب مكّة إذ لقيَه النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فقال له: يا «رِكانة» ألا تتّقي اللهَ وتقبل ما أدعوكَ إليه؟

 فقال له: يا محمّد، هل لك من شاهدٍ على صدقِك؟

 قال: نعم، أرأيتَ إنْ صرعتُك، أتؤمنُ باللهِ ورسوله؟

 قال: نعم يا محمّد، فقال له: تَهَيّأْ للمُصارعة، فقال تَهَيّأتُ.

 فدنا منه رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فصرعَه.

 قال (الرّاوي): فتعجّب «رِكانة» ثمّ سألَه الإقالةَ والعودةَ، ففعلَ به ذلك ثانياً وثالثاً، فوقف «ركانة» متعجّباً وقال: إنّ شأنَك لَعجيب.

رواه أبو نعيم والبيهقيّ عن أبي أمامة من طريقَين مرفوعاً ومُرسَلاً، و«رِكانة» المذكور هو ابنُ عبد يزيد بنِ هاشم بنِ المطّلب بن عبد مناف القرشيّ المكّيّ الصّحابيّ الّذي أسلمَ عامَ الفتح وتُوفّي في المدينة في خلافة معاوية عام 42، وكان شديدَ البأس قويّاً جسيماً معروفاً بالقوّة في المصارعة بحيث إنّه لم يصرعه أحدٌ قَطّ، ولم يمسّ جِلدُه الأرضَ مغلوباً قَطّ، وقد صحّ أنه صلّى الله عليه [وآله] وسلّم صارعَه فصرعَه. (قاله الخفاجيّ في النّسيم).

 وفي (حواشي ابن الطيّب الفاسيّ على القاموس) في «ركانة»: قصّتُه مشهورة وصرع النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم من أعظم معجزاته، وكان «ركانة» أصرعَ أهلِ زمانه، وكان من شدّته أنّه يقفُ على جِلد بعيرٍ ليِّنٍ جيّدٍ حين سَلْخِه فيجذبُه من تحتِه عشرة، فيتمزّقُ الجِلدُ ولا يتزحزحُ هو عن مكانِه كما في (شروح الشّفا) و(المواهب) وغيرهما.

وقال في كتاب (نظام الحكومة..): قلت: قصّة «ركانة» المذكورة رواها الحاكم في (مستدركه) عن أبي جعفر بن محمّد بن ركانة المصارع عن أبيه محمّد ".." وعندي رسالة لطيفة للحافظ السّيوطيّ سمّاها (المسارعة إلى المصارعة) ذكر فيها مصارعةَ النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لأبي ركانة من طُرق، ومصارعة صغار الصّحابة فيما بينهم ليَنجحوا في الإذن لهم في شهودِ الغَزو، وأنّ أهلَ مكّة كانوا لا يصارعون أحداً إلّا صَرعوه حتّى رَغِبوا عن ماء زمزم، ومن طُرُق، مصارعة الحَسن للحُسين عليهما السّلام بمَرأىً منه صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وقال في (نسيم الرّياض): على حديث رِكانة يقتضي جواز المصارعة، إلّا أنّهم قالوا بالمال حرام كالمسابقة عليه، أو أنّه من خصائصه عليه السّلام.

 

**

أدعو لكَ هذه الشّجرةَ الّتي تَرى فتَأتيني

تُجمعُ بعضُ نصوص قصّة رِكانة بين الحديث عن المصارعة وبين دعوة النّبيّ صلّى الله عليه وآله الشّجرة، وفي بعضها -كما تقدّم- الحديثُ عن دعوة النّبيّ صلّى الله عليه وآله «العِذْقَ» وهو من النّخلة كالعنقود من العنب، ويبدو أنّ تعدُّد حوادث المصارعة وتعدُّد دعوة الشّجرة تسبَّبا بتَداخل القِصص في بعض النّصوص.

ومن النّصوص الّتي وردَ فيها ذِكر دعوة النّبيّ الشّجرة، ما جاء في كتاب (الاكتفاء بما تضمّنه من مغازي رسول الله والثّلاثة الخلفاء، ج1/ 231) لسليمان بن موسى الكلاعيّ (ت: 634 للهجرة):

«وذكرَ محمّدُ بن إسحاق، عن أبيه قال: كان رِكانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلّب أشدَّ قريش، فخَلا يوماً برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فى بعض شِعاب مكّة، فقال له: يا رِكانة، ألا تتّقي اللهَ وتقبل ما أدعوك إليه؟! قال: لو أعلمُ أنّ الّذي تقول حقٌّ لاتّبعتُك.

فقال رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: أفرأيتَ إنْ صَرعتُك، أتعلمُ أنَّ ما أقولُ حقّ؟

قال: نعم. قال: فقُمْ حتّى أصارعَك. فقام إليه رِكانة فصارعَه، فلمّا بطشَ به رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أضجعَه لا يملكُ من نفسه شيئاً، ثمّ قال: عُدْ يا محمّد. فعادَ فصرعَه. فقال: يا محمّد، إنّ ذا لَلعَجَب، أتصرعني!! قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: وَأَعجبُ من ذلك إنْ شئتَ أنْ أُرِيكَه إن اتّقيتَ اللهَ واتّبعتَ أمري، قال: ما هو؟ قال: أدعو لكَ هذه الشّجرةَ التي ترى فتَأتيني. قال: ادعُها. فدعا بها، فأقبلتْ حتّى وقفتْ بين يدَي رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فقالَ لها: اِرجعي إلى مكانِك، فرجعتْ إلى مكانها، فذهب رِكانة إلى قومِه فقال: يا بني عبد مناف، ساحِروا بصاحبِكم أهلَ الأرض، فَوَاللهِ ما رأيتُ أسحرَ منه قطُّ. ثمّ أخبرهم بالّذي رأى وصنع».

وجاء في الهامش: انظُر الحديث في: (البداية والنّهاية) لابن كثير (3 / 103)، (دلائل النّبوّة) للبيهقيّ (6 / 250)، أبي داود في (المراسيل) (308)، البيهقيّ في (السُّنن الكبرى) (10 /18).

**

مصارعةُ رِكانة، وكيف أراهُ الشّجرةَ الّتي دعاها فأَقبلتْ

من المصادر الّتي وردَ فيها ذِكرُ مصارعة رِكانة مقترناً بذكر الشّجرة –كما ورد في نصّ القطب الرّاونديّ- كتاب (السّيرة النّبويّة) لابن كثير، ج2/81-83، فقد قال تحت عنوان:

«قصّة مصارعة رِكانة، وكيف أراه صلّى الله عليه [وآله] وسلّم الشّجرة الّتي دعاها فأقبلتْ،

قال ابنُ إسحاق: وحدَّثني أبي إسحاقُ بنُ يَسار قال: كان رِكانة بنُ عبد يزيد بنِ هاشم بنِ المطّلب بنِ عبد مناف أشدَّ قريش، فخَلا يوماً برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم في بعض شِعاب مكّة، فقال له رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: يا رِكانة، ألا تتّقي اللهَ وتقبل ما أدعوكَ إليه؟

قال: إنّي لو أعلمُ أنّ الّذي تقول حقٌّ لاتَّبعتُك.

فقال له رسول الله: أفرأيتَ إنْ صرعتُك، أتعلمُ أنّ ما أقول حقّ؟ قال: نعم. قال: فقُم حتّى أصارعَك.

قال: فقام ركانة إليه فصارعَه، فلمّا بطشَ به رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أضجعَه لا يملكُ من نفسِه شيئاً.

ثمّ قال: عُدْ يا محمّد. فعادَ فصرعَه. فقال: يا محمّد، والله إنّ هذا لَلْعَجب، أتصرعُني؟!

قال: وأعجبُ من ذلك إنْ شئتَ أُرِيكَه، إنِ اتَّقيت اللهَ واتَّبعتَ أمري.

قال: وما هو؟ قال: أدعو لكَ هذه الشّجرةَ الّتي ترى فتَأتيني. قال: فادعها.

فدعاها فأقبلتْ حتّى وقفت بين يدَي رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم. فقال لها: اِرجعي إلى مكانك! فرجعتْ إلى مكانها.

قال: فذهب رِكانة إلى قومه فقال: يا بني عبد مناف ساحِروا بصاحبكم أهلَ الأرض، فوَاللهِ ما رأيتُ أسحرَ منه قطّ! ثمّ أخبرَهم بالّذي رأى والّذي صنع.

هكذا روى ابنُ إسحاق هذه القصّة مرسلةً بهذا البيان.

وقد روى أبو داود والتِّرمذيّ من حديث أبي الحَسن العسقلانيّ، عن أبي جعفر بن محمّد بن ركانة، عن أبيه، أنّ ركانة صارع النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، فصرعَهُ النّبيُّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم. ثمّ قال التّرمذيّ: غريب. ولا نعرف أبا الحسن ولا ابنَ ركانة.

قلت: وقد روى أبو بكر الشّافعيّ بإسنادٍ جيّد، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: أنّ يزيد بن ركانة صارع النّبيَّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فصرعَه النّبيُّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ثلاثَ مرّات، كلّ مرّة على مائةٍ من الغَنم، فلمّا كان في الثّالثة قال: يا محمّد، ما وَضع ظهري إلى الأرض أحدٌ قبلك، وما كان أحدٌ أبغض إليَّ منك، وأنا أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الله وأنّك رسولُ الله. فقام عنه رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وردَّ عليه غنمَه.

وأمّا قصّة دعائه الشّجرة فأقبلت، فسيأتي في كتاب (دلائل النّبوّة) بعد السّيرة من طرقٍ جيّدة صحيحة في مرّاتٍ متعدّدة. إن شاء الله وبه الثّقة.

وقد تقدّم عن أبي الأشدّين أنّه صارع النّبيَّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فصرَعَه رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم».

* يلاحَظ أنَّ بعض المصادر تعبِّر عن الجمحيّ بـ «أبي الأشدّين»، كما ورد هنا في نصّ ابن كثير، وفي أكثرها على ما يبدو بـ «أبي الأشدّ بن الجَمحيّ» والظّاهر أنّ الأوّل تصحيف.

 

ولولا أبو طالبٍ وابنُه

من أساليب ابن أبي الحديد في إيصال الفكرة، دون أن يشيطَ بدمه، مختصَره المفيد حولَ كافل الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله في أصعبِ مراحل الإسلام.

قال ابنُ أبي الحديد: صنَّف بعضُ الطّالبيّين في هذا العصر كتاباً في إسلام أبي طالب، وبَعثَه إليّ

وسألَني أن أكتبَ عليه بخطّي نَظْماً أو نَثْراً، أشهدُ فيه بصحّة ذلك، وبوَثاقة الأدلّة عليه، فتحرَّجتُ أن أحكمَ بذلك حكماً قاطعاً، لِما عندي من التّوقُّف فيه، ولم أَستجِز أن أقعدَ عن تعظيم أبي طالب، فإنّي أعلمُ أنّه لولاه لَمَا قامت للإسلام دعامة. وأعلمُ أنّ حقّه واجبٌ على كلّ مسلمٍ في الدّنيا إلى أن تقومَ السّاعة، فكتبتُ على ظاهر المجلّد:

ولولا أبو طالبٍ وابنُه             لما مَثَل الدِّينُ شخصاً فقاما

فذاكَ بمكّةَ آوى وحامى                  وهذا بيَثربَ جسَّ الحِماما

تكفَّلَ عبدُ منافٍ بأمرٍ             وأَودَى فكانَ عليٌّ تماما

فقل في «ثَبِيرٍ» مضى بعد ما            قضى ما قضاه وأبقى «شماما»

فللَّه ذا فاتحاً للهدى              ولله ذا للمعالي خِتاما

وما ضرَّ مجدَ أبي طالبٍ         جَهولٌ لغا أو بصيرٌ تَعامى

كما لا يضرّ إياةَ الصّباحِ         مَن ظَنَّ ضوءَ النّهار الظّلاما

فوفيتُه حقَّه من التّعظيم والإجلال، ولم أجزم بأمرٍ عندي فيه وقف.

____

*«ثَبير» و«شمام» اسما جبلَين.

*إياة الصّبح: ضوءه، وأصلُه في الشّمس.

(شرح نهج البلاغة: ج 14/ ص 84)

 

 

 

 

 

 

 

 

مجيءُ الشّجرة كلّها، ورجوعُها، ثمّ كلّ نصفٍ منها

جَاءَتْ ولَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ - وقَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ

----- ابن أبي الحديد المعتزليّ-----

من المعاجز النّبويّة المُغيّبة، معجزةُ مَجيء الشّجرة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله بدعوتِه إيّاها، وقد تكرّر ذلك منه صلّى الله عليه وآله في عدّة موارد، أبرزها ما تحدّث عنه أمير المؤمنين عليه السّلام حين طلبَ الملأُ من قريشٍ هذه المعجزةَ بالخصوص.

ما يلي نصُّ كلامِ أمير المؤمنين عليه السّلام كما أوردَه ابنُ أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) مع تعليقه حول ذلك.

 

«ولَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صلّى الله عليه وآله لَمَّا أَتَاهُ الْمَلأُ مِنْ قُرَيْشٍ - فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً - لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ ولَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ - ونَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وأَرَيْتَنَاهُ - عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ ورَسُولٌ، وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ.

 فَقَالَ صلّى الله عليه وآله: ومَا تَسْأَلُونَ؟ قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا، وتَقِفَ بَيْنَ يَدَيْك.

 فَقَالَ صلّى الله عليه وآله: إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - فَإِنْ فَعَلَ اللهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَتُؤْمِنُونَ وتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟

قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ، وإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي "الْقَلِيبِ" [حفرةٌ أُلقِيَ فيها مَن قُتل منهم يومَ بدر] ومَنْ يُحَزِّبُ الأَحْزَاب.

 ثُمَّ قَالَ صلّى الله عليه وآله:

يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ - إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، وتَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ الله فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ، حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ الله.

والَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا، وجَاءَتْ ولَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ، وقَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ، حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وآله مُرَفْرِفَةً، وأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الأَعْلَى عَلَى رَسُولِ الله صلّى الله عليه وآله وبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وكُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ صلّى الله عليه وآله.

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً واسْتِكْبَاراً: فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا ويَبْقَى نِصْفُهَا.

فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا، كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وأَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وآله، فَقَالُوا كُفْراً وعُتُوّاً: فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ، فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ، فَأَمَرَهُ صلّى الله عليه وآله فَرَجَع.

فَقُلْتُ أَنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ الله، وأَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وإِجْلَالاً لِكَلِمَتِك.

فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ: بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ، عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ، وهَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا، يَعْنُونَنِي.

وإِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي الله لَوْمَةُ لَائِمٍ، سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وكَلَامُهُمْ كَلَامُ الأَبْرَارِ. عُمَّارُ اللَّيْلِ ومَنَارُ النَّهَار، مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ الله وسُنَنَ رَسُولِهِ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ ولَا يَعْلُونَ، ولَا يَغُلُّونَ ولَا يُفْسِدُونَ، قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وأَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ».

قال ابنُ أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة: ج 4، ص 320):

«وأمّا حديثُ الشّجرة فمشهورٌ مستَفاضٌ رواه المحدِّثون في كُتُبهم، وذكرَه المتكلَّمون في معجزاته، صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومنهم مَن روى ذلك مختصراً أنّه دعا شجرةً فأقبلت تخدُّ الأرض خدّاً. ونقلَه البيهقيّ في كتاب (دلائل النّبوّة)، وأمّا نداؤه، صلّى الله عليه وآله وسلّم، للشّجرة، وقوله لها: إنْ كنتِ تؤمنينَ بالله، إلى قوله: بإذنِ الله، فقد علمتَ أنّ الخطابَ مخصوصٌ في عُرف العقلاء لِمَن يعقل، لكنّه، صلّى الله عليه وآله وسلّم، لمّا وجّهَ نفسَه القُدسيّة من إعداد الشّجرة لِما يرومُ منها، وعلمَ أنّها واجبةُ الاستعداد بذلك لقبول أمر الله بما أرادَ منها، خاطبَها خطاب مَن يعقل استعارة ملاحظة لشِبهها بمَن يعقل في إجابة ندائه وإتيانه، وفائدةُ ذلك الخطاب أن يكونَ وجودُ ما رامَ منها عقيبَ خطابِه أغربَ، وفي نفوسِ الحاضرين أبلغَ وأعجب، فإذا كان وقوعُ تلك الحالِ بها غريباً كان كَونُها على تلك الحال وفقَ خطابِه ودعائه لها أغرب، لزيادة إيهامِ كَونها سمعتْ ذلك النّداء وعَقِلتْ ذلك الخطابَ، مع أنّها ليس من شأنها ذلك، وأعجب في نفوس السّامعين. ولذلك خرجَ هذا عن كونه سَفَهاً وعَبَثاً.

وقال الإمام الوبريّ رحمه الله: ونحو ذلك قوله تعالى ﴿وقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ويا سَماءُ أَقْلِعِي..هود:44».

 

 

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

02/01/2014

دوريّات

نفحات