الملف

الملف

24/08/2014

الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام ثامن الأئمّة الأسباط والنّقباء

الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام

ثامن الأئمّة الأسباط والنّقباء

اقرأ في الملف

استهلال

من الصّلوات الكبيرة المرويّة عن الإمام العسكريّ عليه السّلام

النَّصّ على إمامة الإمام الرّضا عليه السّلام

الشيخ المفيد قدّس سرّه

دولةُ بني العبّاس في صحيفة «ابن الحنفيّة»

السّيّد جعفر مرتضى

وثائق مهمّة عن «ولاية العهد»

الشّيخ باقر شريف القَرشي رحمه الله

 

استهلال

 

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى عَلِيِّ بْنِ مُوسى الرِّضَا، الَّذِي ارْتَضَيْتَهُ وَرَضَّيْتَ بِهِ مَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِكَ، اللَّهُمَّ وَكَما جَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلى خَلْقِكَ، وَقائِماً بِأَمْرِكَ، وَناصِراً لِدِينِكَ وَشاهِداً عَلى عِبادِكَ، وَكَما نَصَحَ لَهُمْ فِي السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ، وَدَعا إِلى سَبِيلِكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، فَصَلِّ عَلَيْهِ أَفْضَلَ ما صَلَّيْتَ عَلى أَحَدٍ مِنْ أَوْلِيائِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ إِنَّكَ جَوادٌ كَرِيمٌ.

 

(المجلسي، بحار الأنوار: 91/76)

 

  

تَفادياً لمخاطر ظاهرة «الواقفة»

النّصّ على إمامة الإمام الرّضا عليه السّلام

------ الشّيخ المفيد قدّس سرّه -------

باب ذكر الإمام القائم بعد أبي الحسن موسى (الكاظم) عليه السّلام من ولده، وتاريخ مولده، ودلائل إمامته، ومبلغ سنّه، ومدّة خلافته، ووقت وفاته وسببها، وموضع قبره، وعدد أولاده، ومختصر من أخباره.

ما يلي تحرير هذا الباب من (كتاب الإرشاد: ص 274)، بتصرّفٍ يسير، مع إضافة حول اسم أمّ الإمام الرّضا عليه السّلام، وإضافة فقرة من تتمّة حديث أورده الشّيخ المفيد وأشار إلى بقيّته.

 

قال الشّيخ المفيد عليه الرّحمة: وكان الإمام بعد أبي الحسن موسى (الكاظم) بن جعفر(الصّادق) ابنه أبا الحسن عليّ بن موسى الرّضا عليهما السّلام:

1- لفضله على جماعة إخوته وأهل بيتِه، وظهور علمه وحلمه ووَرعه واجتهاده، واجتماع الخاصّة والعامّة على ذلك فيه ومعرفتهم به منه.

 2- وبنصّ أبيه على إمامته عليه السّلام من بعده وإشارته إليه بذلك دون جماعة إخوته وأهل بيته.

وكان مولده بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة. وقُبض بطوسٍ من أرض خراسان، في صفر من سنة ثلاث ومائتين، وله يومئذ خمسٌ وخمسون سنة، وأمّه أم ولد يقال لها: أمّ البنين. وكانت مدّة إمامته وقيامه بعد أبيه في خلافته عشرين سنة.

توضيح: قال الشّيخ الصّدوق في (عيون أخبار الرّضا عليه السّلام: ك1، ص 26):

«.. ذكرت حميدة (أمّ موسى بن جعفر عليهما السّلام): أنّها رأت في المنام رسول الله صلّى الله عليه وآله، (يقول) لها: يا حميدة، هبي (نجمة) لابنك موسى فإنّه سيولد له منها خير أهل الأرض، فوهبتها له، فلمّا وَلدت له الرّضا، عليه السّلام، سمّاها الطّاهرة، وكانت لها أسماء، منها نجمة، وأروى، وسَكَن وسُمان وتُكْتَم».

***

أضاف الشّيخ المفيد:

ممّن روى النّص على الرّضا عليّ بن موسى عليهما السّلام بالإمامة من أبيه والإشارة إليه منه بذلك، من خاصّته وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته: داود بن كثير الرَّقّي، ومحمّد بن إسحاق بن عمّار، وعليّ بن يقطين، ونعيم القابوسي، والحسين بن المختار، وزياد بن مروان، والمخزوميّ، وداود بن سليمان، ونصر بن قابوس، وداود بن زربيّ، ويزيد بن سُلَيط، ومحمّد بن سنان.

1-   عن داود الرَّقّي قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السّلام: جُعلت فداك، إنّي قد كبرت سنّي فخُذ بيدي وأنقِذني من النّار، مَن صاحبُنا بعدَك؟

 قال: فأشارَ إلى ابنِه أبي الحَسن فقال: «هَذا صاحِبُكُمْ مِنْ بَعْدِي».

2-       عن محمّد بن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي الحسن الأول عليه السّلام: ألا تدلّني على مَن آخذُ عنه ديني؟

فقال: «هَذا ابْنِي عَلِيٌّ، إِنَّ أَبي أَخَذَ بِيَدِي فَأَدْخَلَنِي إِلَى قَبْرِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَقَالَ لِي: يا بُنَيَّ، إِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلا قالَ: ﴿..إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..﴾، وَإِنَّ اللهَ إِذا قالَ قَوْلاً وَفَى بِهِ».

3-   قال عليُّ بن يقطين: كنتُ عند العبد الصّالح (الإمام الكاظم عليه السّلام) فقال لي: «يا عَلِيَّ بْنَ يَقْطين، هَذا عليٌّ سَيِّدُ وُلْدِي، أَما إِنّي قَدْ نَحَلْتُهُ كُنْيَتِي»، وفي رواية أخرى «كُتُبِي»، فضرب هشام براحتِه جبهتَه، ثمّ قال وَيْحَك، كيف قلتَ؟ فقال عليّ بن يقطين: سمعتُه واللهِ منه كما قلتُ، فقال هشام: إنّ الأمر، واللهِ، فيه من بعدِه.

4-  عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال: «ابْنِي عَلِيٌّ أَكْبَرُ وُلْدِي، وَآثَرُهُمْ عِنْدِي، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيَّ، وَهُوَ يَنْظُرُ مَعِي في الجَفْرِ، وَلَمْ يَنْظُرْ فيهِ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ».

5-  عن الحسين بن المختار قال: خرجتْ إلينا ألواحٌ من أبي الحَسن موسى عليه السّلام وهو في الحبس: «عَهْدِي إِلَى أَكْبَرِ وُلْدِي أَنْ يَفْعَلَ كَذا وَأَنْ يَفْعَلَ كَذا، وَفُلانٌ لا تُنِلْهُ شَيْئاً حَتَّى أَلْقاكَ أَوْ يَقْضِي اللهُ عَلَيَّ المَوْتَ».

6-   عن (زياد بن مروان القنديّ) قال: دخلتُ على أبي إبراهيم (الكاظم) وعنده أبو الحسن (الرّضا) ابنه عليهما السّلام، فقال لي: «يا زِيادُ، هَذا ابْنِي فُلانٌ، كِتابُهُ كِتابِي، وَكَلامُهُ كَلامي، وَرَسولُهُ رَسولِي، وَما قالَ فَالقَوْلُ قَوْلِي».

7- عن محمّد بن الفضيل قال: حدّثني المخزوميّ - وكانت أمّه من وُلد جعفر بن أبي طالب - قال: بعثَ إلينا أبو الحسن موسى فجمعَنا، ثمّ قال: «أَتَدْرونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟»، فقلنا: لا، قالَ: «اشْهَدُوا أَنَّ ابْنِي هَذا وَصِيِّي، وَالقَيِّمُ بِأَمْرِي، وَخَليفَتِي مِنْ بَعْدِي، مَنْ كانَ لَهُ عِنْدِي دَيْنٌ فَلْيَأْخُذْهُ مِنْ ابِنْي هَذا، وَمَنْ كانَتْ لَهُ عِنْدِي عِدَةٌ فَلْيَتَنَجَّزْها مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ لِقائي فَلا يَلْقَنِي إِلّا بِكِتَابِهِ».

8-  عن داود بن سليمان قال: قلتُ لأبي إبراهيم عليه السّلام: إنّي أخاف أن يحدثَ حدثٌ ولا ألقاك، فأخبِرني مَن الإمامُ بعدَك؟ فقال: «ابْنِي فُلانٌ»، يعني أبا الحسن (الرّضا) عليه السّلام.

9-   عن نصر بن قابوس، قال: قلتُ لأبي إبراهيم عليه السّلام: إنّني سألتُ أباك: مَن الذي يكون من بعدك؟ فأخبرَني أنّك أنت هو، فلمّا تُوفِّي أبو عبد الله عليه السّلام، ذهبَ النّاسُ يميناً وشمالاً، وقلتُ بكَ أنا وأصحابي، فأخبِرني مَن الذي يكون بعدَك من وُلدك؟ قال: «ابْنِي فُلانٌ»، يعني أبا الحسن (الرّضا) عليه السّلام.

10-  عن داود بن زربيّ قال: جئتُ إلى أبي إبراهيم (الكاظم) عليه السّلام بمال، فأخذَ بعضَه وتركَ بعضَه، فقلتُ: أصلحكَ الله، لأيّ شيء تركتَه عندي؟ فقال: «إِنَّ صاحِبَ هَذا الأَمْرِ يَطْلُبُهُ مِنْكَ»، فلمّا جاء نعيُه بعثَ إليَّ أبو الحسن الرّضا عليه السّلام فسألَني ذلك المال، فدفعتُه إليه.

 

11-  عن أبي إبراهيم (الكاظم) عليه السّلام أنّه قال في السّنة التي قُبض عليه فيها: «إِنِّي أُؤخَذُ في هَذِهِ السَّنَةِ، وَالأَمْرُ إِلى ابْني عَلِيٍّ سَمِيِّ عَلِيٍّ وَعَلِيٍّ، فَأَمّا عَلِيٌّ الأَوَّلُ فَعَلِيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ، وَأَمّا عَلِيٌّ الآخَرُ فَعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ - صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ - أُعْطِيَ فَهْمَ الأَوَّلِ وَحِلْمَهُ، وَنَصْرَهُ، وَوَرَعَهُ، وَوِرْدَهُ، وَدينَهُ، وَمِحْنَةَ الآخَرِ وَصَبْرَهُ عَلى ما يَكْرَهُ...». في الحديث بطوله.

 

وبما أنّ الشّيخ المفيد قد صرّح بأنّه لم يُورد الحديثَ كلّه، نرجع إلى (الكافي) لنجد فيه بقيّة هذا الحديث، ونختار منها ما يلي:

«.. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ هَارُونَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ. ثُمَّ قَالَ لِي: يَا يَزِيدُ، وإِذَا مَرَرْتَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَلَقِيتَهُ، وَسَتَلْقَاهُ، فَبَشِّرْهُ أَنَّهُ سَيُولَدُ لَه غُلَامٌ أَمِينٌ مَأْمُونٌ مُبَارَكٌ، وَسَيُعْلِمُكَ أَنَّكَ قَدْ لَقِيتَنِي، فَأَخْبِرْهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا هَذَا الْغُلَامُ جَارِيَةٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مَارِيَةَ، جَارِيَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أُمِّ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُبَلِّغَهَا مِنِّي السَّلَامَ فَافْعَلْ.

قَالَ يَزِيدُ: فَلَقِيتُ بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلامُ، فَبَدَأَنِي فَقَالَ لِي: يَا يَزِيدُ، مَا تَقُولُ فِي الْعُمْرَةِ؟ فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ذَلِكَ إِلَيْكَ، وَمَا عِنْدِي نَفَقَةٌ. فَقَالَ سُبْحَانَ اللهِ، مَا كُنَّا نُكَلِّفُكَ وَلَا نَكْفِيكَ، فَخَرَجْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَابْتَدَأَنِي فَقَالَ: يَا يَزِيدُ، إِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ كَثِيراً مَا لَقِيتَ فِيه جِيرَتَكَ وَعُمُومَتَكَ. قُلْتُ: نَعَمْ، ثُمَّ قَصَصْتُ عَلَيْهِ الْخَبَرَ. فَقَالَ لِي: أَمَّا الْجَارِيَةُ فَلَمْ تَجِئْ بَعْدُ، فَإِذَا جَاءَتْ بَلَّغْتُهَا مِنْه السَّلَامَ.

فَانْطَلَقْنَا إِلَى مَكَّةَ فَاشْتَرَاهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ، فَلَمْ تَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلاً حَتَّى حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ ذَلِكَ الْغُلَامَ. قَالَ يَزِيدُ: وكَانَ إِخْوَةُ عَلِيٍّ يَرْجُونَ أَنْ يَرِثُوه فَعَادُونِي إِخْوَتُهُ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ جَعْفَرٍ: وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّه لَيَقْعُدُ مِنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ بِالْمَجْلِسِ الَّذِي لَا أَجْلِسُ فِيه أَنَا..».

12-   عن ابن سنان، قال: دخلتُ على أبي الحسن موسى (الكاظم) عليه السّلام من قبل أن يَقدم العراقَ بسَنة، وعليٌّ (الرّضا) ابنُه جالسٌ بين يدَيه، فنظر وقال: «يا مُحَمَّدُ، إِنَّهُ سَيَكونُ في هَذِهِ السَّنَةِ حَرَكَةٌ فَلا تَجْزَعْ لِذَلِكَ».

قال: قلتُ: وما يكون جعلَني اللهُ فداك، فقد أقلقتَني؟

قال: «أَصيرُ إِلى هَذِهِ الطّاغِيَةِ، أَما إِنَّهُ (لَا يَبْدَأُنِي) مِنْهُ سُوءٌ وَلا مِنَ الذي يَكونُ مِنْ بَعْدِهِ».

قال: قلتُ: وما يكون، جعلني اللهُ فداك؟

قال: «يُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ».

قال: قلتُ: وما ذاك، جعلني اللهُ فداك؟

قال: «مَنْ ظَلَمَ ابْنِي هَذا حَقَّهُ وَجَحَدَهُ إِمامَتَهُ مِنْ بَعْدِي، كانَ كَمَنْ ظَلَمَ عَلِيَّ بْنَ أَبي طالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلامُ، إِمامَتَهُ وَجَحَدَهُ حَقَّهُ بَعْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ».

قال: قلتُ: واللهِ لئن مدّ اللهُ لي في العمر لأُسَلِّمَنّ له حقَّه، ولَأُقِرَّنّ بإمامتِه.

قال: «صَدَقْتَ - يا مُحَمَّدُ - يَمُدُّ اللهُ في عُمُرِكَ، وَتُسَلِّمُ لَهُ حَقَّهُ، وَتَقِرُّ لَهُ بِإِمامَتِهِ وَإِمامَةِ مَنْ يَكونُ مِنْ بَعْدِهِ».

قال: قلتُ: ومَن ذاك؟

قال: «ابْنُهُ مُحَمَّدٌ».

قال: قلتُ: له الرِّضى والتّسليم.

 

 

دولة بني العبّاس في صحيفة «محمّد ابن الحنفيّة»

أسرار تأسيس الإمبراطوريّة

------- السّيّد جعفر مرتضى------

 

نقل ابنُ أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافيّ، أنّه قد صحّت الرّواية أنّه: لمّا مات عليٌّ أمير المؤمنين عليه السّلام، طلب محمّد بن الحنفيّة من أخوَيه: الحسن، والحسن ميراثَه من العلم، فدفعا إليه صحيفة، لو أطْلعاه على غيرها لهلَك، وكان في هذه الصّحيفة ذِكرٌ لدولة بني العبّاس. فصرّح ابن الحنفيّة لعبد الله بن العبّاس بالأمر، وفصّله له.

في هذا السّياق كتب سماحة العلّامة المحقّق السّيّد جعفر مرتضى، في كتابه (الحياة السّياسيّة للإمام الرّضا عليه السّلام)، واقتطفنا منه هذه المقالة باختصار وتصرّف، ومنه إدخالُ بعض الهوامش في المتن.

«شعائر»

 

الظّاهر أنّ صحيفة ابن الحنفيّة انتقلتْ منه لولده أبي هاشم، وعن طريقِه وصلت إلى بني العبّاس. ويقال: إنّها قد ضاعت منهم أثناء حربهم مع مروان بن محمّد الجعديّ، آخر خلفاء الأمويّين. وقد ذُكرت هذه الصّحيفة في كلام بني العبّاس، وخلفائهم كثيراً "..".

متى بدأ العبّاسيّون دعوتهم، وكيف؟

 الذين بدأوا بالدّعوة أوّلاً هم العَلَويّون، وبالتّحديد من قِبل أبي هاشم، عبد الله بن محمّد الحنفيّة، وهو الذي نظّم الدّعاة، ورتّبَهم، وقد انضمّ تحت لوائه: محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب، وغيرهم.. وهؤلاء الثّلاثة هم الذين حضروه حين وفاته، وأطلعَهم على أمر دُعاتِه.

وقد قرأ محمّد بن عليّ، ومعاوية بن عبد الله تلك الصّحيفة، المشار إليها آنفاً، ووجد كلٌّ منهما ذكراً للجهة التي هو فيها.

ولهذا نلاحظ: أنّ كُلّاً من محمّد بن عليّ، ومعاوية بن عبد الله، قد ادّعى الوصاية من أبي هاشم، ما يدلّ دلالة واضحة على أنّه لم يخصّص أيّاً منهما بالوصيّة، وإنّما عرّفهما دعاتَه فقط.

".." وبعد موت معاوية بن عبد الله (بن جعفر بن أبي طالب)، قام ابنه عبد الله يدّعي الوصاية من أبيه - من أبي هاشم - وكان له في ذلك شيعة، يقولون بإمامته سرّاً حتى قُتل. وأمّا محمّد بن عليّ بن العبّاس فقد كان بمنتهى الحنكة والدّهاء، وقد تعرّف - كما تقدّم - من أبي هاشم على الدّعاة، واستطاع بما لديه من قوّة الشّخصيّة، وحُسن الدّهاء أن يسيطر عليهم، ويستقلّ بهم، ويُبعدهم عن معاوية بن عبد الله، وعن ولده، و يبعدهما عنهم. واستمر محمّد بن عليّ يعمل بمنتهى الحذر والسّريّة. وقد اختار خراسان، فأرسل دعاته إليها.

لا بدّ من ربط الثّورة بأهل البيت

كان لا بدّ للعبّاسيّين من ربط الثّورة والدّعوة بأهل البيت عليهم السّلام، حيث إنّهم كانوا بحاجة إلى أن لا تقابَل دعوتهم بالاستغراب والاستهجان،  حيث إنّهم لم يكونوا معروفين في أقطار الدّولة الإسلاميّة المُترامية الأطراف، ولا كان يعرف أحدٌ لهم حقّاً في الدّعوة لأنفسهم، كما هو الحال بالنّسبة إلى العلويّين، ما يجعل الدّعوة لهم مع وجود العلويّين مستغربة ومستهجنة.

وبالفعل لقد شيّد الخراسانيّون، الذين كانوا يحبّون أهل البيت، عليهم السّلام، أركانَ دولة بني العبّاس، وقامت خلافتُهم على أكتافهم، واستقامت لهم الأمور بفضل سواعدهم، وأسيافهم.

تخوُّف العبّاسيّين من العلويّين

وقد كان الخلفاء من بني العبّاس يدركون جيّداً مقدار نفوذ العلويّين، ويتخوّفون منه، منذ أيّامهم الأولى في السّلطة. وممّا يدلّ على ذلك:

أنّ السّفّاح، من أوّل عهده كان قد وضع الجواسيس على بَني الحسن، حيث قال لبعض ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: «قُم بإنزالهم ولا تَأْلُ في ألطافهم، وكلّما خلوتَ معهم، فأظهر الميل إليهم، والتّحاملَ علينا، وعلى ناحيتنا، وأنّهم أحقُّ بالأمر منّا، وأحصِ لي ما يقولون، وما يكون منهم في مسيرهم، ومَقدمهم..».

وقد تنوعت هذه المراقبة، وتعدّدت أساليبها بعد عهد السّفّاح، يظهر ذلك لكلّ من راجع كُتب التّاريخ "..".

وحسبنا هنا بعد كلّ الذي قدّمناه، أن نذكر فقراتٍ من رسالة أبي بكر الخوارزميّ، التي أرسلها إلى أهل نيشابور.

بعد أن ذكر كثيراً من الطّالبيّين، الذين قتلهم الأمويّون، والعبّاسيّون - ومنهم الرّضا عليه السّلام الذي تسمّم بيد المأمون - يقول أبو بكر الخوارزمي:

«فلمّا انتهكوا [أي الأُمويّون] ذلك الحريم، واقترفوا ذلك الإثمَ العظيم، غضبَ اللهُ عليهم، وانتزع المُلكَ منهم، فبعثَ عليهم (أبا مجرم) لا أبا مسلم، فنظر، لا نظرَ اللهُ إليه، إلى صلابة العلويّة، وإلى لِين العبّاسيّة، فترك تُقاه، واتّبعَ هواه، وباع آخرتَه بدنياه، بقَتلِه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وسلّط طواغيتَ خراسان، وأكرادَ إصفهان. وخوارجَ سجستان على آل أبي طالب، يقتلُهم تحت كلّ حجرٍ ومدَر، ويطلبُهم في كلّ سهلٍ وجَبل، حتّى سلّطَ عليه أحبَّ النّاس إليه، فقتلَه كما قتل النّاسَ في طاعتِه، وأخذه بما أخذَ النّاس في بيعتِه، ولم ينفعه: أن أسخطَ اللهَ برضاه، وأنْ ركبَ ما لا يهواه، وخَلَتْ من الدّوانيقيّ الدّنيا، فخبطَ فيها عَسْفاً، وتقضّى فيها جوراً وحيفاً. وقد امتلأت سجونُه بأهل بيت الرّسالة، ومعدنِ الطّيب والطّهارة، قد تتبّع غائبَهم، وتلَقّطَ حاضرهم، حتّى قتل عبد الله بن محمّد بن عبد الله الحسنيّ بالسّند، على يد عمر بن هشام الثّعلبيّ، فما ظنُّك بمَن قرب متناوله عليه، وَلانَ مَسُّهُ على يديه.

وهذا قليلٌ في جنب ما قتلَه هارون منهم، وفعلَه موسى قبله بهم، فقد عرفتم ما توجّه على الحسين بن عليّ بفخٍّ من موسى، وما اتّفق على عليّ بن الأفطس الحسينيّ من هارون، وما جرى على أحمد بن عليّ الزّيدي، وعلى القاسم بن عليّ الحسينيّ من حَبْسِه، وعلى غسّان بن حاضر الخزاعيّ، حين أُخذ من قبله، والجملة أنّ هارون مات وقد حصدَ شجرةَ النّبوّة، واقتلعَ غرسَ الإمامة. وأنتم، أصلحكم الله، أعظمُ نصيباً في الدّين من الأعمش، فقد شتَموه، ومن شريك، فقد عزلوه، ومن هشام بن الحكم، فقد أخافوه، ومن عليّ بن يقطين، فقد اتّهموه».

إلى أن يقول: بعد كلامٍ له عن بني أميّة: «.. وقُل في بني العبّاس، فإنّك ستجدُ بحمد الله مقالاً، وجُلْ في عجائبهم، فإنّك ترى ما شئتَ مجالاً.

يُجْبى فَيْؤُهُم، فيُفرَّق على الدّيلميّ، والتّركيّ، ويحتمَل إلى المغربيّ، والفرغانيّ. ويموت إمامٌ من أئمّة الهدى، وسيّدٌ من سادات بيت المصطفى، فلا تُتبَع جنازتُه، ولا تُجصَّص مقبرته، ويموت ".." لهم، أو لاعبٌ أو مسخرةٌ، أو ضاربٌ، فتحضر جنازتَه العدولُ والقضاة، ويعمرُ مسجدَ التّعزية عنه القوّادُ والولاة..

ويَسلمُ فيهم مَن يعرفونه دهريّاً، أو سوفسطائيّاً، ولا يتعرّضون لمَن يدرسُ كتاباً فلسفيّاً ومانويّاً، ويقتلون مَن عرفوه شيعيّاً، ويسفكون دم من سمّى ابنه عليّاً..

ولو لم يقتَل من شيعة أهل البيت غير المعلّى بن خنيس، قتيلِ داوود بن علي، ولو لم يحبَس فيهم غير أبي تراب المروزيّ، لكان ذلك جرحاً لا يبرأ، وثائرةً لا تُطفأ، وصدعاً لا يلتئم، وجرحاً لا يلتحم.

وكفاهم أنّ شعراء قريش قالوا في الجاهليّة أشعاراً يهجون بها أمير المؤمنين عليه السّلام، ويعارضون فيها أشعار المسلمين، فحُملت أشعارهم. ودُوّنت أخبارهم، ورواها الرّواة، مثل: الواقديّ، ووهب بن منبه التّميميّ، ومثل الكلبيّ، والشّرقيّ ابن القطاميّ، والهيثم بن عديّ، ودأب بن الكناني، وأنّ بعض شعراء الشّيعة يتكلّم في ذِكر مناقب الوصيّ، بل ذِكر معجزاتِ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيُقطَع لسانُه، ويمزَّق ديوانُه، كما فُعل بعبد الله بن عمّار البرقيّ، وكما أُريدَ بالكميت بن زيد الأسديّ، وكما نُبش قبر منصور بن الزّبرقان النّمري، وكما دمّر على دعبل بن عليّ الخزاعيّ، مع رِفقتِهم من مروان بن أبي حفصة اليماميّ، ومن عليّ بن الجهم الشّامي. ليس إلّا لغلوّهما في النّصب، واستيجابهما مقتَ الرّبّ، حتّى إنّ هارون بن الخيزران، وجعفراً المتوكّل على الشّيطان، لا على الرّحمن، كانا لا يُعطيان مالاً، ولا يَبذلان نوالاً، إلّا لمَن شتم آل أبي طالب، ونصرَ مذهبَ النّواصب، مثل: عبد الله بن مصعب الزّبيريّ، ووهب بن وهب البختريّ، ومن الشّعراء مثل: مروان بن أبي حفصة الأمويّ، ومن الأدباء مثل: عبد الملك بن قريب الأصمعيّ. فأمّا في أيّام جعفر فمثل: بكّار بن عبد الله الزّبيريّ، وأبي السّمط ابن أبي الجون الأمويّ، وابن أبي الشّوارب العبشميّ».

وبعد كلامٍ له عن بني أميّة أيضاً، قال:

«وماذا أقول في قومٍ حملوا الوحوش على النّساء المسلمات، وأجروا لعبادة [هكذا] وذويه الجرايات، وحرثوا تربةَ الحسين عليه السّلام بالفدّان، ونفوا زوّارَه إلى البلدان، وما أَصِفُ من قومٍ هم: نُطَفُ السّكارى في أرحام القِيان؟ وماذا يُقال في أهل بيتٍ منهم نبع البغاء، وفيهم راح التّخنيث وَغَدا، وبهم عرف اللّواط؟! كان إبراهيم بن المهديّ مغنّياً، وكان المتوكّل مؤنّثاً موضعاً، وكان المعتزّ مخنّثاً، وكان ابن زبيدة معتوهاً مفرّكاً، وقتلَ المأمون أخاه، وقتلَ المنتصر أباه، وسمّ موسى بن المهدي أمَّه، وسمّ المعتضدُ عمَّه. ولقد كان في بني أميّة مخازي تذكَر، ومعائب تؤثَر».

وبعد أن عدّد بعض مخازي بني أميّة ومعائبَهم، قال:

«.. وهذه المثالب مع عظمها وكَثرتها، ومع قُبحها وشنعتها، صغيرةٌ وقليلةٌ في جَنب مثالبِ بني العبّاس، الذين بنوا مدينة الجبّارين، وفرّقوا في الملاهي والمعاصي أموالَ المسلمين.. إلى آخر ما قال..».

 

.. كان جبريلُ خادماً لأبيه

ذكر ابن طولون في كتابه (الأئمّة الاثني عشر: ص 98 - 99) أنّ أبا نوّاس عُوتب على تَرْك مدحِ الإمام الرّضا عليه السّلام، فقال له بعضُ أصحابه: ما رأيتُ أوقحَ منك، ما تركتَ خمراً ولا طوداً ولا مغنًى إلّا قلتَ فيه شيئاً، وهذا عليّ بن موسى الرّضا في عصرِك لم تَقُلْ فيه شيئاً، فقال: واللهِ، ما تركتُ ذلك إلّا إعظاماً له، وليس يقدرُ مثلي أن يقولَ في مثلِه، ثمّ أنشدَ بعد ساعةٍ هذه الأبيات:

قِيْلَ لِي أَنْتَ أَوْحَدُ النّاسِ طُرّاً     في فُنونٍ مِنَ المَقالِ النَّبيهِ

لَكَ مِنْ جَوْهَرِ الكَلامِ نِظامٌ         يَثْمُرُ الدُّرُّ في يَدَيْ مُجْتَنِيهِ

فَلِماذا تَرَكْتَ مَدْحَ ابْنِ مُوسى     وَالخصالِ الّتي تَجَمَّعْنَ فيهِ

قُلْتُ: لا أَهْتَدي لِمَدْحِ إِمامٍ        كانَ جِبْريلُ خادِماً لِأَبيهِ

(الشّيخ باقر شريف القرشي، حياة الإمام الرّضا عليه السّلام)

 

 

 

الإمام الرّضا عليه السّلام وولاية العهد

ثلاث وثائق سياسيّة مُهمّة

------- الشّيخ باقر شريف القرشي----------

 

نعرض في ما يلي ثلاثاً من أبرز الوثائق السّياسيّة التي ترتبط بولاية العهد للإمام الرّضا عليه السّلام، هي رسالةُ الفضل بن سهل التي هي في الحقيقة رسالة المأمون إلى الإمام عليه السّلام، ووثيقتا ولاية العهد.

نصوص هذه الوثائق، مقتبسة باختصار شديد، ممّا ذكره الرّاحل الشّيخ باقر شريف القرشيّ، في كتابه (حياة الإمام الرّضا عليه السّلام).

يُشار هنا إلى أنّ وقائع الحديث الأوّل بين الإمام الرّضا عليه السّلام، والمأمون قد أورده المؤلّف مُجتزَءاً، فأوردناه من (عيون أخبار الرّضا عليه السّلام) للشيخ الصّدوق رحمه الله تعالى.

 

الوثيقة الأولى:

رسالة الفضل إلى الإمام: أرسلَ الفضل بن سهل رسالةً إلى الإمام الرّضا عليه السّلام يطلب فيها القدوم إلى (خراسان)، ليتسلّم الخلافة من المأمون وهذا نصُّها بعد البسملة:

لعليّ بن موسى الرّضا، وابنِ رسول الله المصطفى، والمهتدي بهَديه، والمقتدى بفعله، الحافظِ لدين الله، الخازنِ لوَحي الله، من وّليّه الفضل بن سهل، الذي بذلَ في ردِّ حقِّه إليه مُهجتَه، ووصلَ ليلَه فيه بنهاره.

سلامٌ عليك أيّها المهتدي ورحمة الله وبركاته، فإنّي أحمدُ إليك الله الذي لا إلهَ إلّا هو، وأسأله أن يصلّي على محمّدٍ عبدِه.

أمّا بعد: فإنّي أرجو أنّ اللهَ قد أدّى لك، وأذِن لك في ارتجاع حقّك ممّن استضعفَك، وأن يعظّمَ مِننَه عليك، وأن يجعلَك الإمامَ الوارث، ويرِيَ أعداءك، ومَن رغب عنك، منك ما كانوا يحذرون.

وإنّ كتابي هذا عن إزماعٍ من أمير المؤمنين عبد الله الإمام المأمون، ومنّي، على ردِّ مظلَمتِك عليك، وإثباتِ حقوقِك في يدَيك، والتّخلّي منها إليك، على ما أسألُ اللهَ الذي وقف عليه: أن تبلّغني ما أكون بها أسعدَ العالَمين، وعند الله من الفائزين، ولِحَقّ رسول الله صلّى الله عليه وآله من المؤدّين، ولك عليه من المعاونين، حتّى أبلغ في توليّك ودولتك كِلتا الحسنتَين.

فإذا أتاك كتابي - جُعِلتُ فِداك - وأمكنَك أن لا تضعَه من يدك، حتّى تسيرَ إلى أمير المؤمنين، الذي يراكَ شريكاً في أمره، وشفيعاً في نَسَبِه، وأَولى النّاس بما تحتَ يده... فعلت ما أنا بخيرة الله محفوفاً، وبملائكته محفوظاً، وبكلَاءته محروساً، وإنّ الله كفيلٌ لك بكلّ ما يجمعُ حُسنَ العائدة عليك، وصلاحِ الأمّة بك، وحسبُنا الله ونِعمَ الوكيل، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته».

رُسُل المأمون إلى الإمام:

وأرسل المأمون وفداً رسميّاً لإشخاص الإمام الرّضا عليه السّلام من (يثرب) إلى (خراسان)، وقد عهد المأمون إلى رئيس الوفد أن يأتيَ بالإمام عليه السّلام على طريق (البصرة)، و(الأهواز) و(فارس)، وأن لا يأتي به على طريق (الكوفة) و(قم)، كما كتب المأمون إلى الإمام الرّضا عليه السّلام أن لا يأخذَ على طريق الجبل وقم، وإنّما يأخذ على طريق البصرة والأهواز وفارس.

ومرورُ الإمام على (البصرة) لا مكسب فيه للإمام، لأنّها كانت عثمانيّة الهوى، كما كانت تَدينُ بالولاء للعبّاسيّين، وهذا الإجراء يكشفُ عن زَيفِ خطّة المأمون في التّخلّي عن الحكم، وإرجاعه للعلويّين.

الإمام يودّع قبر النّبيّ

ولم يَجِد الإمام عليه السّلام بدّاً من إجابة المأمون، فمَضى إلى قبر جدّه الرّسول صلّى الله عليه وآله فودّعه الوداعَ الأخير، وعلمَ أنّه لا عودةَ له إلى جواره.

 قال «محول السّجستاني»:

لمّا وردَ البريد بإشخاص الإمام الرّضا إلى (خراسان) كنتُ أنا بالمدينة، فدخلَ المسجدَ ليودّعَ قبر جدِّه رسول الله صلّى الله عليه وآله فودّعَه مراراً، وكان صوتُه يعلو بالبكاء والنّحيب، فتقدّمتُ إليه، وسلّمتُ عليه، فردّ السّلام، وهنّأتُه بما يصيرُ إليه، فقال عليه السّلام: «ذَرْنِي، فَإِنّي أَخْرُجُ مِنْ جِوارِ جَدِّي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فَأَموتُ في غُرْبَةٍ وَأُدْفَنُ في جَنْبِ هارونَ».

الإمام يأمر أهله بالبكاء عليه:

وكان الإمام الرّضا عليه السّلام على علمٍ لا يخامرُه أدنى شكّ في أن لا عودةَ له إلى أهله ووطنه، فودّعهم الوداعَ الأخير، وجمعَ عياله وأمرَهم بالبكاء والنّحيب عليه، وهو يسمعُ ذلك، ووزّعَ عليهم اثنَي عشر ألف دينار، وعرّفَهم أنّه لا يرجعُ إليهم أبداً.

إقامةُ ولده الجواد مقامه:

وأقام الإمام الرّضا عليه السّلام ولدَه الجواد عليه السّلام مقامَه وهو ابنُ سبع سنين أو يزيد على ذلك، وأدخلَه مسجد النّبيّ صلّى الله عليه وآله ووضعَ يده على حافّة القبر الشّريف وألصقَ ولدَه بالقبر، واستحفظه عند جدّه الرّسول صلّى الله عليه وآله، وقال له: «أَمَرْتُ جَميعَ وُكَلائِي، وَحَشَمي، بِالسَّمْعِ وَالطّاعَةِ لَكَ»، وعرّف أصحابَه أنّه القيّمُ من بَعدِه.

إلى بيت الله الحرام:

وقبل أن يتوجّه الإمام إلى (خراسان) يمّمَ وجهَه نحو بيتِ الله الحرام ليودّعَه الوداعَ الأخير، وقد صحبَ معه معظمَ عائلتِه، وكان من بينهم ولدُه الإمام الجواد عليه السّلام، ولمّا انتهى إلى بيت الله المعظّم أدى التّحيّةَ فطافَ بالبيت وصلّى بمقامِ إبراهيم، وسعى، وطافَ معه ولدُه الإمام الجواد، فلمّا انتهى الإمامُ الجواد إلى حِجر إسماعيل جلسَ فيه، وأطالَ الجلوس فانبرى إليه موفّق الخادم، وطلبَ منه القيامَ فأبى، وقد بدا عليه الحزنُ والأسى، فأسرعَ موفّق نحو الإمام الرّضا، وأخبره بشأن ولده، وبادر الإمام الرّضا نحو ولده فطلب منه القيامَ فأجابه بنبراتٍ مشفوعةٍ بالبكاء والحَسَراتِ قائلاً:

«كَيْفَ أَقُومُ وَقَد وَدَّعْتَ يَا أَبَتِ البَيْتَ ودَاعَاً لَا رُجُوعَ بَعْدَهُ؟!».

إلى خراسان:

وغادر الإمام الرّضا عليه السّلام بيتَ الله الحرام مُتوجّهاً إلى خراسان، وقد قُوبل بمنتَهى الحفاوة والتّكريم والإجلال في كلّ بلدٍ أو حيٍّ اجتازَه، فقد سارعَ المسلمون إلى الاحتفاء به، وهم يتبرّكون بتقبيل يدَيه، ويعرضون عليه التّشرفَ بضيافتِه وتقديمِ الخدمات له، كما يسألونه عن أحكام دينِهم، وهو، عليه السّلام، يجيبُهم عن ذلك.

في نيسابور:

استُقبل عليه السّلام في (نيسابور) استقبالاً شعبيّاً منقطعَ النّظير، فلم تشهد (نيسابور) في جميع تاريخِها مثل ذلك الاستقبال، وكان في طليعة المستقبلين كبارُ العلماء والفضلاء ورجال الحديث، وقد رووا عنه الحديثَ الذّهبيّ الذي سنذكره.

ونزل الإمام عليه السّلام في محلّة الغربيّ أو «الفرويّ» في دار شخصٍ سمّاه أهل نيسابور (بَّسَنْدَه) وهي كلمة فارسيّة معناها في العربيّة (مَرْضِيّ)، لأنّ الإمام عليه السّلام ارتضاه من دون النّاس فنزلَ في داره، وزرعَ الإمام في تلك الدّار لوزةً فنبتًت، وصارت شجرةً وأثمرت في سنة، ولمّا علمَ النّاسُ جعلوا يستشفون بِلَوْزِها، فمَن أصابَتْه عِلّةٌ تبرّك بالتّناول من لَوْزِها فَعُوفِيَ ببركة الإمام العظيم، وقد قطعَ بعضَ أغصانِها شخصٌ فَعَمِي، وقطعَ تلك الشّجرة ابنُ حمدان فأصابَه العَمى.

وكان في (نيسابور) حمّامٌ فدخل فيه الإمام عليه السّلام فاغتسلَ فيه ثمّ خرجَ منه وصلّى على ظهرِه، وأخذَ أهالي (نيسابور) يتبرّكون بذلك الحمّام فيغتسلون فيه ويشربون منه التماساً للبركة، ويصلّون على ظهره ويدعون اللهَ عزَّ وجلَّ في حوائجِهم فتُقضى لهم ببركة الإمام العظيم.

الحديث الذّهبيّ:

أحاط العلماءُ ورواة الحديث بالإمام عليه السّلام، وكان على بغلةٍ شَهباء، وقد لبس عمامتَه، وكان في مقدّمة العلماء يَحيى بنُ يحيى، وإسحاقُ بن راهويه، ومحمّدُ بن رافع، وأحمدُ بن حرب وغيرُهم، ولمّا رأتْه الجماهير الحاشدة وهو بتلك الهيئة التي تحكي هيئةَ جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله، تعالتْ أصواتُهم بالتّهليل والتّكبير مشفوعةً بالأسى والبكاء، وقد ضجّت البقعةُ بالبكاء فنَادى العلماءُ والحفّاظ:

«معاشرَ النّاس، أنصِتوا، وَعُوا، ولا تؤذوا رسولَ الله صلّى الله عليه وآله في عترته».

وألقى الإمامُ عليه السّلام على العلماء هذا الحديث الشّريف، فقال:

«سَمِعْتُ أَبي موسى بْنَ جَعْفَرٍ يَقولُ: سَمِعْتُ أَبي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقولُ:

سَمِعْتُ أَبي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَقولُ: سَمِعْتُ أَبي عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ يَقولُ: سَمِعْتُ أَبي الحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ يَقولُ: سَمِعْتُ أَبي أَميرَ المُؤْمِنينَ عَلِيَّ بْنَ أَبي طالِبٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ يَقولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يَقولُ: قالَ اللهُ جَلَّ جَلالُه: (لا إِلَهَ إِلّا اللهُ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذابي)».

ولمّا مرت الرّاحلةُ نادى أهل (نيسابور) فقال: «وَلَكِنْ بِشُروطِها، وَأَنا مِنْ شُروطِها».

وقد كتب هذا الحديث الشّريف ما ينيفُ على عشرين ألفاً من العلماء والحفّاظ والرّواة، أمّا أسنادُ هذا الحديث الشّريف فهو من أَجَلِّ وأروع الأحاديث المسنَدة. يقول أحمدُ بنُ حنبل: لو قُرِئَ هذا الإسناد على مجنونٍ لبرئ من جنّته. وقد أوصى بعضُ أمراء السّامانيّة أن يكتبَ هذا الحديث بالذّهب ويدفَن معه.

إلى طوس:

وسَرَتْ قافلةُ الإمام عليه السّلام من (نيسابور)، وهي تطوي الصّحراء حتّى انتهت إلى (سُناباد)، وفيه جبلٌ كانت تُنحَتُ منه القدور، فاستندَ إليه، وقال: «أللَّهُمَّ أَنْفِعْ بِهِ، وَبارِكْ فيما يُجْعَلُ فيهِ، وَفيما يُنْحَتُ مِنْهُ»، ثمّ أمر بأن ينحتَ منه قدورٌ له فنٌحِتت له، وقال: «لا يُطْبَخُ ما آكُلُهُ إِلّا فيها».

وفي (سناباد) دارُ حميد بن قحطبة الطّائي التي فيها قبرُ هارون الرّشيد، فمَضى إليها الإمام، وانتهى إلى قبر هارون فخطَّ بيده إلى جانبِه، وقال لمَن حوله: «هَذِهِ تُرْبَتي، وَفيها أُدْفَنُ، وَسَيَجْعَلُ اللهُ هَذا المَكانَ مُخْتَلَفَ شيعَتي وَأَهْلِ مَحَبَّتي، وَاللهِ ما يَزورُني مِنْهُمْ زائِرٌ، وَلا يُسَلِّمُ عَلَيَّ مِنْهُمْ مُسَلِّمٌ إِلّا وَجَبَ لَهُ غُفْرانُ اللهِ وَرَحْمَتُهُ بِشَفاعَتِنا أَهْلَ البَيْتِ».

 ثمّ استقبلَ القبلةَ فصلّى ركعتَين ودعا بدَعَوات، ولمّا فرغَ من صلاته سجدَ سجدةً طالَ مكثُه فيها، فأُحصِيَت له فيها خمسمائةُ تَسبيحة.

 ثمّ ناول، عليه السّلام، بعضَ ثيابه إلى حميد لغَسلِها، فأخذَها حميد وأعطاها إحدى جواريه فأخذَتْها، وسرعانَ ما أقبلت وقالت: وجدتُ رقعةً في قميص أبي الحسن، فناولَتْها إلى حميد وسارعَ بها إلى الإمام عليه السّلام وقال له: ما فيها يا ابنَ رسول الله صلّى الله عليه وآله؟ فقال عليه السّلام:

«هَذِهِ عُوذَةٌ مَنْ أَمْسَكَها في جَيْبِهِ كانَ مَدْفوعاً عَنْهُ، وَكانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ، وَمِنَ السُّلْطانِ».

وطلب حميدُ من الإمام أن يُمليها عليه، فأملاها وهذا نصُّها بعد البسملة:

بِسْمِ اللهِ. إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيّاً أوْ غَيْرَ تَقيٍّ. أَخَذْتُ بِاللهِ السَّميعِ البَصيرِ عَلى سَمْعِكَ وَبَصَرِكَ، لا سُلْطانَ لَكَ عَلَيَّ، وَلا عَلى سَمْعي وَبَصَري، وَلا عَلى شَعْري، وَلا عَلى بَشَري، وَلا عَلى لَحْمي، وَلا عَلى دَمي، وَلا عَلى مُخِّي، وَلا عَلى عَصَبي، وَلا عَلى عِظامي، وَلا عَلى أَهْلي، وَلا عَلى مالي، وَلا عَلى ما رَزَقَنِي رَبِّي. سَتَرْتُ بَيْني وَبَيْنَكَ بَسِتْرِ النُّبُوَّةِ الَّذي اسْتَتَرَ بِهِ أَنْبِياءُ اللهِ مِنْ سُلطانِ الفَراعِنَةِ. جِبْرَئيلُ عَنْ يَميني، وَميكائيلُ عَنْ يَساري، وَإسْرافيلُ مِنْ وَرائي، وَمُحَمَّدٌ صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ أمَامِي، وَاللهُ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا يَمْنَعُكَ وَيَمْنَعُ الشَّيْطانَ مِنّي.

اللَّهُمَّ لا يَغْلِبْ جَهْلُهُ أَناتَكَ أَنْ يَسْتَفِزَّني وَيَسْتَخِفَّني، اللَّهُمَّ إلَيْكَ الْتَجأتُ، اللَّهُمَّ إلَيْكَ الْتَجأتُ، اللَّهُمَّ إلَيْكَ إلْتَجأتُ.

 

استقبال المأمون للإمام:

وأمر المأمون باستقبال الإمام استقبالاً رسميّاً، فخرجت القوّات المسلّحة لاستقباله وسائرُ أبناء الشّعب، وكان المأمون في مقدّمة مستقبليه، ومعه الفضل بن سهل، وبقيّة وزرائه ومستشاريه.

عَرضُ الخلافة على الإمام:

 «عن أبي الصّلت الهَرَويّ، قال: إنّ المأمون قال للرّضا عليه السّلام: يا ابنَ رسول الله، قد عرفتُ علمَك وفضلَك وزهدَك وورعَك وعبادتَك، وأراكَ أحقُّ بالخلافة منّي.

 فَقالَ الرِّضا عَلَيْهِ السَّلامُ: بِالعُبودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ أَفْتَخِرُ، وَبِالزُّهْدِ في الدُّنْيا أَرْجُو النَّجاةَ مِنْ شَرِّ الدُّنْيا، وَبِالوَرَعِ عَنِ المَحارِمِ أَرْجُو الفَوْزَ بِالمَغانِمِ، وَبِالتَّواضُعِ في الدُّنْيا أَرْجُو الرِّفْعَةَ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

 فقال له المأمون: فإنّي قد رأيتُ أن أعزلَ نفسي عن الخلافة وأجعلها [لك] وأبايعك.

 فقالَ له الرّضا عَلَيْهِ السَّلامُ: إِنْ كانَتْ هَذِهِ الخِلافَةُ لَكَ، وَاللهُ جَعَلَها لَكَ، فَلا يَجوزُ لَكَ أَنْ تَخْلَعَ لِباساً أَلْبَسَكَ اللهُ وَتَجْعَلَهُ لِغَيْرِكَ، وَإِنْ كانَتِ الخِلافَةُ لَيْسَتْ لَكَ، فَلا يَجوزُ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ لي ما لَيْسَ لَكَ.

 فقال له المأمون: يا ابنَ رسول الله، فلا بدّ لك من قبول هذا الأمر.

فَقالَ: لَسْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ طائِعاً أَبَداً.

فما زال يجهدُ به أيّاماً حتّى يئسَ من قبوله، فقال له: فإنْ لم تقبلِ الخلافة ولم تُجِب مبايعتي لك، فكُن وَلِيَّ عهدي له [كذا] تكون (لك) الخلافةُ بعدي.

 فَقالَ الرِّضا عَلَيْهِ السَّلامُ: وَاللهِ، لَقَدْ حَدَّثَني أَبي، عَنْ آبائِهِ، عَنْ أَميرِ المُؤْمِنينَ، عَلَيْهِمُ السَّلامُ، عَنْ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَنّي أَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيا قَبْلَكَ مَقْتولاً بِالسُّمِّ مَظْلوماً تَبْكِي عَلَيَّ مَلائِكَةُ السَّماءِ وَمَلائِكَةُ الأَرْضِ، وَأُدْفَنُ في أَرْضِ غُرْبَةٍ إِلى جَنْبِ هارونَ الرَّشيدِ.

 فبكى المأمون، ثمّ قال له: يا ابنَ رسول الله، ومَنْ الذي يقتلُك أو يقدرُ على الإساءة إليك وأنا حَيّ؟

 فَقالَ الرِّضا عَلَيْهِ السَّلامُ: أَما إِنّي لَوْ أَشاءُ أَنْ أَقولَ، لَقُلْتُ مَنْ يَقْتُلُني.

 فقال المأمون: يا ابن رسول الله، إنّما تريدُ بقولك هذا التّخفيفَ عن نفسِك ودفعَ هذا الأمر عنك، ليقولَ النّاسُ إنّك زاهدٌ في الدّنيا.

 فَقالَ الرِّضا عَلَيْهِ السَّلامُ: وَاللهِ، ما كَذَبْتُ مُنْذُ خَلَقَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، وَما زَهِدْتُ في الدُّنْيا للدُّنْيا، وَإِنّي لَأَعْلَمُ ما تُريدُ.

 فقال المأمون: وما أريد؟

قال: الأمانُ عَلى الصِّدْقِ؟

 قال: لك الأمان.

«تُريدُ بِذَلِكَ أَنْ يَقولَ النّاسُ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ موسى الرِّضا لَمْ يَزْهَدْ في الدُّنْيا، بَلْ زَهِدَتِ الدُّنْيا فيهِ، أَلا تَرَوْنَ كَيْفَ قَبِلَ وِلايَةَ العَهْدِ طَمَعاً في الخِلافَةِ؟

فغضبَ المأمون، ثمّ قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهُه وأمنتَ سطوتي، فَبِاللهِ أُقسم، لَئِنْ قبلتَ ولايةَ العَهد، وإلّا أجبرتُك على ذلك، فإنْ فعلتَ وإلّا ضربتُ عُنُقَك.

 فَقالَ الرِّضا عَلَيْهِ السَّلامُ: قَدْ نَهاني اللهُ تَعالى أَنْ ألْقِيَ بِيَدي [إلى] التَّهْلُكَةِ، فَإِنْ كانَ الأَمْرُ عَلى هَذا فَافْعَلْ ما بَدا لَكَ، وَأَنا أَقْبَلُ عَلى أَنّي لا أُوَلّي أَحَداً وَلا أَعْزِلُ أَحَداً وَلا أَنْقُضُ رَسْماً وَلا سُنَّةً، وَأَكونُ في الأَمْرِ مِنْ بَعيدٍ مُشيراً. فَرَضِيَ منه بذلك، وجعلَه وليَّ عهدِه على كراهةٍ منه عليه السّلام بذلك».

 (الصّدوق، عيون أخبار الرّضا عليه السّلام)

 

الوثيقة الثّانية:

نَصُّ وثيقة ولاية العهد:

ولم تقتصر ولايةُ العهد بين الإمام عليه السّلام وبين المأمون على البحوث الكلاميّة، وإنّما دُوّنت في وثيقة رسميّة، وقّع عليها الإمام والمأمون، وشهدَ عليها كبارُ رجال الدّولة، وقد نقلَتْها جمهرةٌ من مصادر التّاريخ، وقد اطّلعَ عليها ابن الجوزيّ وقال: ابتاعَها خالي بمأتَي دينار، وحملَها إلى سيف الدّولة صدقة بن منصور، وكان فيها خطوطُ جماعةٍ من الكُتّاب، مثل: الصّوليّ عبد الله بن العبّاس، والوزير المغربيّ، وقد اطّلع عليها عليّ بن عيسى الأربليّ، ونقل نصَّها في كتابة (كشف الغُمّة) [انظر: ج 3، ص 124] وذلك في سنة 670 هجريّة‍، ونحن ننقلُ نصَّها، فقد جاء فيها بعد البَسملة:

«هذا كتابٌ كتبَه عبدُ الله بن هارونِ الرّشيد، أمير المؤمنين لعليِّ بن موسى بن جَعفر.

أمّا بعد: فإنّ اللهَ عزّ وجلّ اصطفى الإسلامَ ديناً، واصطفى من عبادِه رُسلاً دالّين عليه، وهادين إليه، ويُبَشِّرُ أوّلُهم بآخرهم، ويصدّقُ تاليهم ماضيهم، حتّى انتهت نبوّة الله إلى محمّدٍ صلّى الله عليه وآله على فترةٍ [من] الرُّسُل، ودُروسٍ من العلم، وانقطاعٍ من الوَحي، واقترابٍ من السّاعة، فختمَ اللهُ به النّبيّين، وجعلَه شاهداً لهم، ومُهيمناً عليهم، وأنزلَ عليه كتابَه العزيز الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيه، ولا من خلفه. تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ، بما أحلَّ وحرّمَ ووعدَ وأوعدَ، وحذّر وأنذَر، وأمر به، ونهى عنه، لتكونَ له الحجّةُ البالغةُ على خلقِه، ليهلكَ من هلكَ عن بيّنة، ويحيا من حَيَّ عن بيّنة، وإنّ الله لسميعٌ عليم. فبلّغ عن الله رسالتَه، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالّتي هي أحسن، ثمّ بالجهاد والغِلظة، حتّى قبَضَه الله إليه، واختار له ما عنده، صلّى الله عليه وآله، فلمّا انقضتِ النّبوة، وختمَ اللهُ بمحمّدٍ صلّى الله عليه وآله، الوحيَ والرّسالة، وجعل قِوامَ الدّين ونظامَ أمر المسلمين بالخلافة، وإتمامَها وعزّها والقيامَ بحقّ الله فيها بالطّاعة التي يقامُ بها فرائضُ الله تعالى وحدوده، وشرائع الإسلام وسُننه، ويجاهد بها عدوّه.

فعلى خلفاء الله طاعتُه فيما استحفظَهم واسترعاهم من دينه وعباده، وعلى المسلمين طاعةُ خلفائهم، ومعاونتُهم على إقامة حقِّ الله وعدْله، وأمن السّبيل، وحقْن الدّماء، وصلاح ذات البَيْن، وجمع الألفة، وفي خلاف ذلك اضطرابُ حبلِ المسلمين، واختلالهم، واختلاف مِلّتهم، وقهرُ دينِهم، واستعلاءُ عدوّهم، وتفرُّق الكلمة، وخسرانُ الدّنيا والآخرة.

فحقٌّ على مَن استخلفه الله في أرضه، وائتمنَه على خلقه أن يُجهِدَ لله نفسَه، ويُؤْثِرَ ما فيه رضى الله وطاعته، ويعتمد لِما اللهُ مواقفُه عليه، ومسائلُه عنه، ويحكم بالحقّ، ويعمل بالعدل فيما أحلّه الله وقلَّده، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول لنبيّه داود: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ ص:26، وقال الله عزّ وجلّ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الحجر:92-93. وبلغنا أنّ عمر بن الخطّاب قال: (لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات لتخوّفت أن يسألني الله عنها).

وَأَيْمُ اللهِ، إنّ المسؤولَ عن خاصّة نفسِه، الموقوفَ على عمله في ما بينه وبين الله، لَيُعْرَض على أمرٍ كبيرٍ، وعلى خطرٍ عظيمٍ، فكيف بالمسؤول عن رعاية الأُمّة، وبالله الثّقة، وإليه المَفزع، والرّغبة في التّوفيق والعصمة، والتّسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحُجّة، والفوز من الله بالرّضوان والرّحمة.

وَأَنْظَرُ الأُمّة لنفسِه، وأَنصحُهم لله في دينه وعباده من خلائقه في أرضه، مَن عمل بطاعة الله وكتابه وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وآله، في مدّة أيّامه وبعدها، وأجهدَ رأيَه فيمَن يُولّيه عهدَه، ويختاره لإمامة المسلمين ورعايتهم بعدَه، وينصبُه علماً لهم، ومفزعاً في جمْع ألفتهم، ولَمِّ شعثِهم، وحقنِ دمائهم، والأمنِ بإذن الله من فرقتِهم، وفسادِ ذات بينِهم، واختلافِهم، ورفع نزغِ الشّيطان وكيدِه عنهم، فإنّ الله عزّ وجلّ جعلَ العهدَ بعد الخلافة من تمام (أمر) الإسلام وكمالِه، وعزِّه وصلاحِ أهلِه، وألهَمَ خلفاءه الخلافة من توكيده لمَن يختارونه له من بعدهم ما عظُمت به النّعمة وشملت فيه العافية، ونقضَ اللهُ بذلك مكرَ أهل الشّقاق والعداوة والسّعي والفرقة والتّربّص للفتنة.

ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضتْ إليه الخلافة فاختبرَ بشاعةَ مذاقها، وثقلَ محملِها، وشدّة مؤونتها، وما يجب على مَن تقلّدها من ارتباط طاعة الله، ومراقبتِه في ما حمّلَه منها، فأنْصَبَ [أي أتعب] بدنَه، وأسهر عينَه، وأطال فكرَه في ما فيه عزُّ الدّين، وقمعُ المشركين، وصلاحُ الأُمّة ونشرُ العدل، وإقامةُ الكتاب والسّنّة، ومنعَه ذلك من الخفض والدَّعَة، ومَهْنَأ العيش، علماً بما اللهُ سائلُه عنه، ومحبّةَ أن يلقى الله مُناصِحاً له في دينه وعباده، ومختاراً لولاية عهده، ورعاية الأُمّة من بعده أفضلَ مَن يقدر عليه، في دينِه ووَرَعِه وعملِه، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقِّه، مناجياً بالاستخارة في ذلك، ومسألته إلهامَه ما فيه رضاه وطاعته في آناء ليلِه ونهاره، ومعملاً - في طلبِه والتماسِه في أهل بيتِه من وُلد عبد الله بن العبّاس، وعليّ بن أبي طالب  - فكرَه ونظرَه، مقتصراً ممَّن عَلِمَ حالَه ومذهبَه منهم على علمه، وبالغاً في المسألة عمّن خفي عليه أمرُه جهدَه وطاقتَه، حتّى استقصى أمورَهم معرفةً، وابتلى أخبارَهم مُشاهدةً، واستبرأ أحوالَهم مُعاينةً، وكشفَ ما عندهم مسألةً، فكان خَيَرَتُه بعد استخارته الله، وإجهاده نفسَه في قضاء حقِّه في عباده وبلاده في البيتَين جميعاً: عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام، لِمَا رأى من فضله البارع، وعلمِه النّافع، ووَرعِه الظّاهر، وزُهدِه الخالص، وتَخلّيه من الدّنيا، وتسلّمه من النّاس.

وقد استبانَ له ما لم تزل الأخبارُ عليه مُتواطئةً والألسن عليه مُتّفقة، والكلمةُ فيه جامعة، ولِما لم يزَل يعرفُه به من الفضل يافعاً، وناشئاً، وحَدَثاً ومُكتهِلاً، فعقدَ له بالخلافة من بعده، واثقاً بخِيَرة الله في ذلك، إذ علمَ اللهُ أنّه فعلَه إيثاراً له، وللدّين، ونظراً للإسلام والمسلمين، وطلباً للسّلامة، وثبات الحُجّة والنّجاة في اليوم الذي يقومُ النّاس فيه لربّ العالمين.

ودعا أمير المؤمنين وُلدَه وأهلَ بيتِه وخاصّته وقوّادَه وخدمَه، فبايعوا مسرورين عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعةَ الله على الهوى في وُلده وغيرهم ممّن هو أشبك منه رَحِماً وأقربُ قرابةً.

وسمّاه الرّضا، إذ كان رضاً عند أمير المؤمنين، فبايِعوا، معشرَ أهل بيت أمير المؤمنين، ومَن بالمدينة المحروسة من قوّاده وجندِه وعامّة المسلمين لأمير المؤمنين، وللرّضا من بعده عليّ بن موسى على اسمِ الله وبركتِه، وحُسنِ قضائه لدينِه وعبادِه، بيعةً مبسوطةً إليها أيديكم منشرحةً لها صدورُكم، عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثرَ طاعة الله، والنّظر لنفسِه ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهمَ أمير المؤمنين بها من قضاء حقّه في رعايتِكم، وحرصه على رُشدِكم، وصلاحكم، راجين عائدةَ ذلك في جمْع ألفتكم، وحقْن دمائكم، ولمِّ شعثِكم، وسدّ ثغورِكم وقوّة دينِكم، ورغم عدوِّكم، واستقامة أموركم، وسارعوا إلى طاعة الله، وطاعة أمير المؤمنين، فإنّه الأمن إنْ سارعتم إليه، وحمدْتُم اللهَ عليه، عرفتم الحظّ فيه إن شاء الله، وكتب بيده يوم الاثنين بسبعٍ خلونَ من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين».

 

الوثيقة الثّالثة:

ما كتبه الإمام الرّضا عليه السّلام:

وطلب المأمون من الإمام الرّضا عليه السّلام أن يكتبَ بيده الشّريفة بقبول هذا العهد، فكتبَ عليه السّلام بخطّه بعد البَسملة ما يلي:

«الحَمْدُ للهِ الفَعّالِ لِما يَشاءُ، وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلا رادَّ لِقَضائِهِ؛ يَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ وَما تُخْفي الصُّدورُ، وَصَلاتُهُ عَلَى نَبِيِّهِ خاتَمِ النَّبِيّينَ وَآلِهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ.

أَقولُ: وَأَنا عَلِيُّ بْنُ موسى بْنِ جَعْفَرٍ: إِنَّ أَميرَ المُؤْمِنينَ عَضَدَهُ اللهُ بِالسَّدادِ، وَوَفَّقَهُ للرَّشادِ، عَرَفَ مِنْ حَقِّنا ما جَهِلَهُ غَيْرُهُ، فَوَصَلَ أَرْحاماً قُطِعَتْ، وَأَمَّنَ أَنْفُساً فَزَعَتْ، بَلْ أَحْياها وَقَدْ تَلِفَتْ، وَأَغْناها إِذِ افْتَقَرَتْ، مُبْتَغِياً رِضَى رَبِّ العالَمينَ، لا يُريدُ جَزاءً مِنْ غَيْرِهِ، وَسَيَجْزي اللهُ الشّاكِرينَ، وَلا يُضيعُ أَجْرَ المُحْسِنينَ.

وَإِنَّهُ جَعَلَ إِلَيَّ عَهْدَهُ، وَالإِمْرَةَ الكُبْرَى إِنْ بَقيتُ بَعْدَهُ، فَمَنْ حَلَّ عُقْدَةً أَمْرَ اللهُ بِشَدِّها، وَفَصَمَ عُرْوَةً أَحَبَّ اللهُ إيثاقَها، فَقَدْ أَباحَ اللهُ حَريمَهُ، وَأَحَلَّ مُحَرَّمَهُ، إِذْ كانَ بِذَلِكَ زارِياً عَلى الإِمامِ مُنْتَهِكاً حُرْمَةَ الإِسْلامِ، بِذَلِكَ جَرَى السّالِفُ، فصبر مِنْهُ عَلى الفَلَتاتِ وَلَمْ يعترض عَلى العَزَماتِ، خَوْفاً مِنْ شَتاتِ الدِّينِ، وَاضْطِرابِ حَبْلِ المُسْلِمينَ، وَلِقُرْبِ أَمْرِ الجاهِلِيَّةِ، وَرَصْدِ فُرْصَةٍ تُنْتَهَزُ وَبايقةٍ [البائقة أي الدّاهية] تبتدرُ.

وَقَدْ جَعَلْتُ اللهَ عَلَى نَفْسِي إِنِ اسْتَرْعاني أَمْرَ المُسْلِمينَ وَقَلَّدَني خِلافَةَ العَمَلِ فيهِمْ - عامَّةً، وَفي بَنِي العَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ خاصَّةً - بِطاعَتِهِ وَطاعَةِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَأَنْ لا أَسْفِكَ دَمَاً حَراماً، وَلا أُبيحَ فَرْجاً، وَلا مالاً إِلّا ما سَفَكَتْهُ حُدودُ اللهِ، وَأَباحَتْهُ فَرائِضُهُ، وَأَنْ أَتَخَيَّرَ الكُفاةَ جَهْدِي وَطَاقَتي، وَجَعَلْتُ بِذَلِكَ عَلى نَفْسي عَهْداً مُؤَكَّداً، يَسْأَلُني اللهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقولُ: ﴿..وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ الإسراء:34.

وَإِنْ أَحْدَثْتُ أَوْ غَيَّرْتُ أَوْ بَدَّلْتُ كُنْتُ للغِيَرِ مُسْتَحَقّاً، وَللنَّكالِ مُتَعَرِّضاً، وَأَعوذُ بِاللهِ مِنْ سَخَطِهِ، وَإِلَيْهِ أَرْغَبُ في التَّوْفيقِ لِطاعَتِهِ، وَالحَوْلِ بَيْني وَبَيْنَ مَعْصِيَتِهِ، في عافِيَةٍ لي وَللمُسْلِمينَ.

وَالجامِعَةُ وَالجَفْرُ يَدُلّانِ عَلى ضِدِّ ذَلِكَ، وَما أَدْري ما يُفْعَلُ بي وَلا بِكُمْ، إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقْضي بِالحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الفاصِلينَ، وَلِكِنّي امْتَثَلْتُ أَمْرَ أَميرِ المُؤْمِنينَ، وَآثَرْتُ رِضاهُ وَاللهُ يَعْصِمُني وَإِيّاهُ، وَأَشْهَدْتُ اللهَ عَلى نَفْسي بِذَلِكَ، وَكَفى بِاللهِ شَهيداً...

وَكَتَبْتُ بِخَطّي، بِحَضْرَةِ أَميرِ المُؤْمِنينَ - أَطالَ اللهُ بَقاءَهُ - وَالفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ، وَسَهْلِ بْنِ الفَضْلِ، وَيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ، وَبِشْرِ بْنِ المُعْتَمَرِ، وَحَمّادِ بْنِ النُّعْمانِ، في شَهْرِ رَمَضانَ سَنَةَ إِحْدَى وَمائَتَيْنِ».

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

24/08/2014

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات