فكر ونظر

فكر ونظر

منذ يومين

آدابُ الدّعاء وشروطه

آدابُ الدّعاء وشروطه

مقتطف من كتاب (النّفَحَات الرّحمانيّة في الواردات القَلبيّة)

ــــــــــــــــــــــــــــــ الفقيهة العارفة السّيّدة مجتهدة أمين (مجتهدة أصفهان) قدّس سرّها ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

النصّ التالي الذي نقدّمه للقارئ العزيز هو من النصوص النادرة في باب الدعاء والاستجابة. وأمّا ندرته فتعود إلى أمرَين: الأول: أن صاحبة النصّ، هي السيدة العلويّة مجتهدة أمين المعروفة بـ «فقيهة العصر»
 والتي جمعت بين شرَفَيْ العلم والعمل، وحازت أعلى مراتب الاجتهاد في الفقه والحكمة والتفسير والحديث وغيرها من العلوم والمعارف الإسلامية، كما نالت مقاماً سامياً في الإلهيّات والعرفان. ويُشار إلى أنّها حصلت على ثلاث إجازات اجتهاد، إحداها تصديق الشّيخ عبد الكريم الحائري، مؤسّس حوزة قمّ.

أما الأمر الثاني: فهو طبيعة النصّ نفسه. حيث إنّه يترجم السيرة الذاتية للسيدة الفقيهة في مقاربتها لشعيرة الدّعاء. حيث يتناول إجابات على الأسئلة التي يطرحها الداعي على نفسه عندما تتأخّر الاستجابة لدعائه والأسباب الكامنة وراء ذلك.
وهكذا سنجد أن النصّ يركّز على آداب الدّعاء والشّروط اللازمة لتحقّق الاستجابة من الحقّ جلّ وعلا. كما تبيّن الكثير من الأمور التي تُشكِلُ على مسيرة العابد في سيره وسلوكه معتبرةً أن الشرط الأساس في الإجابة هو معرفة الداعي لمولاه عزّ وجلّ قبل عرض الطلب عليه.
وإلى ذلك فإن أهميّة النص تكمن في أنّه يصدر عن فقيهة وعارفة وفيلسوفة اتّصفت بصفات التخلّق الإلهي، وكان دَيدَنُها في المعرفة قوله تعالى: ﴿..وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ .﴾ البقرة:282، وفناؤها في حبّ أهل بيت النبوّة عليهم السلام والتأسِّي بقولهم الشريف: «بنا عُبِد الله، وبنا عُرِفَ الله».
نشير إلى أن هذ النصّ مقتطف من كتابها المعروف (النفَحَات الرحمانيّة في الواردات القلبيّة)، والذي نُشر في نُشر في لبنان قبل حوالي نصف قرن في (سلسلة حديث الشّهر) الّتي كان يصدرها العلّأمة الرّاحل الشّيخ عبد الله سبيتي.
«شعائر»

قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ..﴾ الفرقان:77.

في شهر محرّم الحرام سنة 1358 للهجرة عند وقوع بعض المِحَن والآلآم اختلج في نفسي أنّه كيف لا يعبأ بي ربّي ولم يَستجب دعائي في بعض الأوقات، مع أنّني دعوتُه بلسان الحال والقال مراراً عديدة بفنون الدّعوات، ولم يصرف عنّي السّوء، مع أنّه تعالى وعد عباده الإجابة - كلّما دعَوه - بقوله عزّ مِن قائل: ﴿..ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..﴾ غافر:60، وقوله سبحانه ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ..﴾ النمل:62.

وإنّي أعلم أنّ التّقصير منّي قَطعاً، وذلك إمّا لعدم استعدادي لاستجابة دعواتي، وإما لعدم حصول شرائط الدّعاء منّي، وعُمْدَتُها معرفةُ المدعوّ كي يمكن للدّاعي التّوجّه إليه حين يدعوه.

فحينئذٍ وقعتُ في دهشةٍ وحَيرة، وغلَبَتْ عليّ أوهامٌ وخيالات، ومضت عليّ مدّةٌ مديدة وأنا في الحَيرة والتّعجّب من أنّه كيف يكون حالي مع وجداني ربّي وإلهي بالمشاهدة القلبيّة، بحيث أجِدُ انطماسَ رسوم الخَلْقيّة وانمحائها عند تجلّي نور الأحديّة، والانكشاف لي أنّه قائمٌ بذاته ومقوّمٌ لغيره، وأشاهد أنّ رحمتَه وسعتْ كلّ شيء، ومع ذلك لم أتوجّه إليه حين الدّعاء.

وإن لم يكن الأمر كذلك، فكيف لم يستجب دعائي في بعض الأوقات، بحيث أعرف أنّه أثَرُ دعائي في ذلك الوقت - ولو أنّه كشف السّوء عنّي في كلّ وقت، سواء كان مقارناً لدعوتي لكشف السّوء عنّي أو لم يكن- لكنّ المقصود أنّني في بعض الأوقات بعينِها لم أجد دعائي و تضرّعي مقروناً بالإجابة، وما سرّ ذلك؟

ثمّ تذكّرت وقلت في نفسي بأنّه:

 أوّلاً: لا يجوز لأحدٍ أن يَيأس من رحمة الله، لأنّه ﴿..لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ يوسف:87. كيف ورحمتُه وسعتْ كلَّ شيء.

وثانياً: بأنّه كما أنّ لكلّ شيء آداباً وشرائط لو لم تُراعَ لم يُؤتِ النّتيجة المقصودة، فكذلك للدّعاء آدابٌ وشرائط كثيرة لو أردنا استقصاءها لخرجنا عن وضع الكتاب، ولعلّي كنتُ في بعض الأوقات لم أراعِ شرائطَه، ولذلك لم يُستجب دعائي.

 

شرائط الدّعاء وآدابه

 وهنا نشير إلى بعضٍ منها - أي آداب الدعاء وشرائطه - فإنْ شئتَ أن تطّلع على جميعها فعليك بكتاب (عدّة الدّاعي ونجاح السّاعي)، فإنّه أجلُّ كتابٍ وُضع لبيان ذلك.

روى الدَّيلَمي قدّس سرّه في (إرشاد القلوب) عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «للدّعاءِ شُروطٌ أربعة: الأوّل: إحضارُ النّيّة. الثّاني: إخلاصُ السّريرة. الثالث: معرفةُ المسؤول. الرابع: الإنصافُ في المَسألة..». الحديث

فالأصحُّ معرفةً بالحقّ تعالى، والأتمّ توجّهاً إليه سبحانه، تكون الإجابة في عين ما سألَ فيه أسرع، كيف لا، وعديمُ المعرفة ليس بداعٍ الحقَّ الذي ضمنَ الإجابةَ بقوله عزّ مِن قائل: ﴿..ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..﴾ غافر:60، ضرورةَ أنّ عديم المعرفة لا يتوجّه بدعائه إليه تعالى، بل إنّما هو متوجّهٌ حين دعائه إلى الصّورة المتشخّصة في ذهنه، المُنْتَجَة من نظَره وخياله، وذلك لعدم خلوّ النّفس عن الخواطر في حالٍ من الأحوال.

فمَن هذا شأنُه لا يُستجاب له، ولو استُجيب له لكان سببُه كونَه من المضطرّين الموعودين بالإجابة، لأن الاضطرار ربّما يصير سبباً لاستعداد النّفس للإجابة، فمَن كان هذا حالُه فهو مخالِفٌ لحال صاحب المعرفة الصّحيحة المحقَّقة؛ فإنّه يشعر ويشاهد حين دعائه حضورَ نفسه عند ربّه حضوراً محقَّقاً، وهو يتوجّه إليه ويلتجئ به، فإذا دعاه جلّ شأنه يُجيبه بمقتضى وعدِه تعالى الإجابةَ لداعيه.

* ومن جملة شرائط الدّعاء كمالُ المتابعة لأوامر الله سبحانه، وكمال الاجتناب عن نواهيه تعالى، وذلك لأنّ مَن كان أتمّ مراقبةً لامتثال أوامر الحقّ، وأشدَّ مبادرةً، تكون - لكمال متابعته- إجابةُ دعواته أسرعَ من إجابة دعوات غيره من الدّاعين.

ويستفاد هذا الشّرط أيضاً من الآيات الكثيرة والأخبار المستفيضة.

وغير ذلك من الشّرائط التي وردت في الأخبار والآيات، لكنْ لهذين الشّرطين المذكورَين هنا مدخليّة تامّة في الإجابة كما لا يخفى.

فلعلّ عدم استجابة دعائي في بعض الأوقات يكون لعدم حصول بعض شرائط الدّعاء حين دعوتُه.

وثالثاً: إنّه ينبغي للإنسان الكامل أن يُسلّم ويفوّض جميع أموره إلى الله تعالى، ولا يريد شيئاً إلّا ما أراد الله تعالى به، أي أن تفنى جميعُ إراداته وخواطره وميولُه وشهواته في إرادة الله تعالى، وتموت كلُّ جارحةٍ منه وعزيمةٍ في أوامره، فحينئذٍ يصلُ العبدُ إلى حيث لا يبقى له خاطرٌ من نفسه، ولا إرادةٌ من قِبَلِ ذاته، فيعلم أنّه لا يمكن أن يقعَ شيءٌ في عالَم الوجود إلّا ما شاء الله وقوعَه، فإرادة العبد وطلبُه لا يؤثّران في إرادة الله تعالى، ولا في وجود شيء، ولا في حكمتِه المكنونة فيه.

فأولياء الله تعالى الذين تخلّقوا بأخلاق الله، وإنّهم - بارتباطهم باللّوح المحفوظ ولوح المَحو والإثبات، واطّلاعهم على المصالح المكنونة في الأمور- عرفوا مجاري التّقدير، وموارد القضاء والقدر، فعلموا – بعلم الله تعالى - أنّ الأمر الفلانيّ مثلاً ممّا يقتضي في حكمة الله وجوده أو عدمه، فما يشاؤون إلّا ما شاء الله، وما يريدون إلّا ما أراد الله تعالى وجودَه أو عَدَمَه، بل كلّ أمرٍ وقع في العالم يراه كالمراد له، ويتلذّذ به، ومَنْ هذه حالُه لا يزال في نعمةٍ دائمة، حتّى أنّهم إن علموا - بعلم الله تعالى - أنّه بحكمته ومصلحته يريد إهلاكَ نفوسهم، أو إهلاك أولادهم، فهم يريدون ذلك أيضاً من غير كراهية وانزجار، فهم لا يزالون يتقبّلون البلاء والمِحَن والمصائب، لأنّ إرادتهم ورضاهم تابعان لإرادة الله ورضاه.

في دعاء الأولياء

 وما سمعتَ من أنّ أولياء الله تُستجاب دعواتُهم، هو أمرٌ غير ما يُفهم من ظاهره، لأنّه لا معنى لذلك إلّا أنّهم لمّا صارت إرادتُهم مضمحلّةً في إرادة الله تعالى، وكذا رضاهم في رضاه سبحانه، وأيضاً علمُهم وقدرتهم كذلك، أي هما مندكّان في علمه وإرادته، فما يشاؤون إلّا ما شاء الله، وما يشاء الله إلّا ما شاؤوا لمكان اضمحلال إرادتهم في إرادته.

وليس المراد أنّ استجابة الدّعاء مختصّة بالإنسان الكامل كي يقال إنّه منافٍ لعموم قوله سبحانه ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ..﴾ البقرة:168، لأنّ الأمر بالدّعاء عامّ والاستجابة أيضاً عامّة ولا تختصّ بالإنسان الكامل، بل المراد بيانُ حال الإنسان الكامل مع ربّه في ما يدعوه، وأنّه لا يريد شيئاً إلا ما أراد الله.

وخلاصة الكلام: أنّ قوله تعالى ﴿..ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..﴾ غافر:60، وإنْ كان عامّاً، لكن يُمكن تخصيصُه بغير ما يُفهم من ظاهره، كيف وإن كان كثيراً ما يظهر خلافُه، فكيف يُمكن إبقاؤه على إطلاقه وظاهرِه، مع أنّه منافٍ لحكمته في خِلقة العالم ونظامه، كما أنّه تعالى قال في كتابه العزيز: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ..﴾ المؤمنون:71. ولا يخفى على العاقل أنّه لا يمكن إجابةُ دعوات النّاس في كلّ ما تهوى أنفسُهم، لأنّه مع ذلك لا يبقى نظام العالم بحاله، بل يفنى وجوده رأساً.

فلعلّ المراد من إجابة دعواتهم إقبالُه تعالى عند إقبال العبد والتوجّه إليه، فالمراد من الأمر بالدّعاء، والحثّ والتّرغيب فيه، إنّما هو التّوجّه والإقبال إليه سبحانه كي يصير سبباً لازدياد قرب العبد ومنزلته عندَه.

وسرُّ ذلك، أنّ النّفس الزكيّة إذا توجّهت بدعائها إلى الله تعالى ومالت إليه تحرّكت بغريزتها نحوه، وتقرّبت إليه، حتّى تشتدّ قواها الرّوحانيّة شيئاً فشيئاً، كما يقع للفحم بمجاورة النّار بأن يسخن أوّلاً سخونة قليلة، ثمّ تشتدّ سخونته حتّى يحمَرّ، ثمّ يتوهّج، ثمّ يُضيء ويُحرِق ويفعل فعلَ النّار؛ من الإضاءة، والإحراق، والتّسخين.

فهكذا النّفس تشتدّ بدعائها وتوجّهها إلى الله تعالى حتّى تصير بهما مؤثّرةً في العناصر والموادّ بإذن الله تعالى، فتقلِبُها بأيّ صورةٍ تريد، وتصيّرها منقادةً لأمرها، كما أنّها بذاتها تكون منقادةً لربّها، وذلك يحصل للعبد إذا صار، بتمام القوى، متوجّهاَ إلى الله تعالى توجّهاً تامّاً، بحيث ينقطع عمّا سواه، كما أشار سبحانه إلى ذلك في الحديث القدسيّ: «يَا عيسى! ادعُنِي دعاءَ الغريقِ الحزينِ الذي ليسَ له مُغيث»، أي ادعُنِي في حال الانقطاع إليّ واليأس عن غيري بالكليّة، بأن ترى وتعلمَ بعلم اليقين أن لا مؤثّرَ في الوجود إلّا أنا وحدي.

إقبالُ الحقّ على العبد

وخلاصةُ الكلام أنّه لعلّ المرادَ من إجابة الدّعاء الموعود بها في الآيات والأخبار، إقبالُ الحقّ تعالى على العبد إذا توجّه العبد بدعائه إليه، وأمّا قضاءُ حوائجِه فهو تفضّلٌ آخر، وهو يتحقّق اذا كانت فيه المصلحة كما لا يخفى.

وأمّا قولُه تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ..﴾ النمل:62. فيرجع إلى الحكمة والمصلحة في نظام العالَم، بارتفاع السّوء عن المضطرّين، وقضاءِ حوائجهم في ما اضطُرّوا إليه لحفظ نظام العالم، وبقاء نوع الموجودات. ولعلّ المرادَ من قوله تعالى ﴿إِذَا دَعَاهُ﴾ - والله أعلم- ما يكون أعمَّ من الدّعوة والطّلب منه بلسان الحال أو الاستعداد، ومن الدّعوة بلسان القال.

فالمراد - واللهُ أعلم: أنّه من اضطُرّ ودعا خالقَه وربّه بالحال أو القال لِكَشْفِ السّوء عنه، يُجيب دعوته، ويرفع عنه ما يكون سبباً لاضطراره، لأنّ الله تعالى يُوصِلُ الفيضَ إلى كلّ ممكنٍ بحسب استعداده - ويصرفُ عنه كلّ ما يضادّه ويكون سبباً لإعدامه [لهلاكه] - ما دام كونه مستعدّاً لذلك.

قال عزّ مِن قائل: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرّ.. ﴾، أي ليس معطي الوجود إلّا الله، وليس مَن يكشفُ السّوءَ إلّا الله، ولَنِعمَ ما قيل بالفارسيّة:

آب كم جو، تشنكى آور بدست

تا بجوشد آبت، از بالا و بست

 

والمعنى: قلّل طلب الماء، واحصل على العطش، ليتفجّر ماؤك من الأعلى والأسفل.

فالحاصل، أنّ الممكن ما دام كونه قابلاً للوجود والبقاء، يطلب من ربّه بلسان الاستعداد وجودَه وبقاءَه، ورفْعَ السّوء عن نفسه، ودفْعَ كلّ ما يضادّ وجودَه وبقاءَه، وهو تعالى وتقدّس يُفيض عليه كلّ ما يطلب منه بلسان الاستعداد، لأنّه الفيّاضُ المطلق، ولا بُخلَ في المبدأ الفيّاض.

وبالجملة، فبعد ذلك صِرتُ متنبِّهةً إلى أنّه لَعلّي إذا كنت أدعوه ولم أرَ أثرَ إجابته، لم يكن لي حينئذٍ استعدادٌ للإجابة والوصول إلى ما سألتُه منه سبحانه، وأيضاً لم أكن في الواقع من المضطرّين الذين وعدهم الله الإجابةَ ورفْعَ السّوء عنهم، أو لم تكن المصلحة إذ ذاك في رفع السّوء عنّي، ولمّا لم أكن عالمةً بموارد القضاء والقدر، فلا ينبغي لي اليأس وتركُ الدّعاء أبداً، كيف وإنّ الله تعالى أمرنا بالدّعاء بقوله: ﴿ادْعُونِي﴾، وأيضاً قال الله تعالى ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ..﴾ الفرقان:77، ولعلّ الأمر بالدّعاء والسّرّ فيه كما مرّ آنفاً أنّ العبدَ إذا توجّه بدعائه إلى الله، وأقبل إليه مع قلبٍ صافٍ زكيّ، وعزمٍ راسخٍ قويّ، فبمقدار إقباله إلى الله تعالى أقبلَ اللهُ عليه، ويجذبه كما في الحديث القدسي: «مَن تقرّبَ إليَّ شِبْراً تَقرّبتُ منه ذِراعاً..».

فمِن هذين الإقبالَين، أي إقبالِ العبد إلى الله تعالى، وإقبال الله إلى العبد، ربّما يحدث للعبد استعدادٌ خاصٌّ لما يهواه ويطلبُه من ربّه، فيدخل في المضطرّين الذين وعدَهم الله أن يجيبَ دعواتهم ويرفع السّوء عنهم.

وذلك أنّ الإنسان إذا توجّه إلى الله تعالى على الدّوام وبتمام الهمّة أخذ منه تعالى قوّةً وقدرة، ويصير بها قويّاً فعّالاً على ما دونه، فبمقدار ما أخذَ منه من القوّة والقدرة يؤثّر في المُمكنات، أي العبد بعد أخذ القوّة من الله تعالى يؤثّر فيها بنفسه، ويتصرّف بالموجودات بإذن الله تعالى كيف يشاء، فيقضي هو بذاته المنقادة لرّبه حوائجَه.

فوائدُ الدّعاء، وآثارُه

ثمّ اعلم أنّ للدعاء فوائدَ وآثاراً كثيرة، منها:

أنّه ربّما يصيرُ سبباً لإجابته في ما يدعو له، أي ربّما لم تكن المصلحة في وقوعه قبل دعائه، ومع الدّعاء يصير راجحاً ذا مصلحة.

ومنها: أنّه قد يحصّل بالدّعاء والتوجّه إلى الله تعالى قوّةً وقدرةً لرفع السّوء عن نفسه وجلب المنفعة إليها.

ومنها: أنّ الدّعاء عبادةٌ في نفسه، لأنّ الله تبارك وتعالى أمر عبادَه بأن يدعوه في كلّ الحالات من الرّخاء والشّدّة، والصّحة والمرض، وغير ذلك.

ولا يخفى عليك أنّ الفائدة الأخيرة تترتّب على الدّعاء نفسه، أعمّ من أن تقتضي المصلحة إعطاءَه ما يطلبه أم لا. وعلى أيّ حالٍ ينبغي على الإنسان ألّا  يترك الدّعاء في حالٍ من الحالات، لأنّ فيه الفوائد التي لا يعلمُها إلّا اللهُ تعالى، فلذا حثّ الشّارع المؤمنين على الدّعاء، وأن لا يتركوا الدّعاء في حالٍ من الحالات أبداً.

وبالجملة، إنّ المقصود من الدّعاء، واللهُ الأعلم، هو توجُّهُ القلب بتمام الهمّة إلى الله سبحانه، وإظهارُ التّذلّل والفقر والاحتياج إليه تعالى، بل لعلّ المقصود من إرسال الرّسل وإنزال الكتب السّماويّة ليس إلّا ذلك، لأنه لا يُمكن لأحدٍ أن يصلَ إلى درجةٍ ومقام إلّا بالتّوجّه إلى الله تعالى، وينقاد لأحكامه وأوامره ونواهيه.

 

اخبار مرتبطة

  شعائر العدد الخامس و الخمسون -شهر ذو الحجة 1435 - تشرين أول 2014

شعائر العدد الخامس و الخمسون -شهر ذو الحجة 1435 - تشرين أول 2014

نفحات