فكر ونظر

فكر ونظر

منذ 3 أيام

الإنسان بين الماهيّة والهويّة


الإنسان بين الماهيّة والهويّة*

ضرورة العودة إلى الصّنع الإلهيّ

_____ د. صادق جواد سليمان** _____

 

موضوع حديثي هو «الإنسان بين الهويّة والماهيّة»، أعرضه مدركاً أنّه موضوع يكاد لا يكون له محلّ من الإعراب وسط ما يشغل الجميع من متابعةِ قلقة للأحداث الجارية في عالمنا العربيّ، بل عبر العالم كلّه. مع ذلك، ما سأعرضه، بنظري، هو ما من شأنه أن يُمكِّن من التّحوّل من ثقافة المغالَبة بالعنف والاحتراب - الّتي أضحت تعاني تحت وطأتها الإنسانيّة في كلِّ مكان - إلى مسارٍ رشيد، مسارِ تآلفٍ وتعاونٍ يفتح الأفق واسعاً أمام الأمم جميعها لتحقّق نفسها إنسانيّاً بأوفى وأمثل المتاح.

«الإنسان بين الهويّة والماهيّة» هو موضوعنا، وإذاً فلنبدأ بالهويّة (IDENTITY): الهوية تعرّف المرء من حيث انتماءاته الخارجيّة، أي تلك التي أضفى عليه بعضَها مجتمعُه، وبعضها الآخر اتّخذها لنفسه، وأبرزها: الثّقافة، والعِرق، والوطن... والمنظور الفكريّ أو السياسيّ.

* في المقابل، الماهيّة (ESSENCE) تعرّف الإنسان من حيث كَينونته الوجوديّة، أي تلك التي نشأ من رحِمها أصلاً، وبقي عليها، فطرةً، مدى ما عاش، أيّاً كانت معرِّفات هويّته.

* الهويّة، بمعرّفاتها المتعدّدة، تورَد جواباً انتمائيّاً إزاء السؤال: من أنت؟ من هو؟ أو إذا كان التّساؤل مثاراً من الذّات: من أنا؟ الجواب هنا يأتي بمعرّفات متعدّدة، يصدرها كلّ شخص بالمعرّف الّذي يؤْثِره من بين معرّفات هويته.

* في المقابل، الماهيّة، التي هي مشتركة بين النّاس جميعاً، ترِد جواباً وجوديّاً على التّساؤل: ما أنا؟ ما أنت؟ ما هو؟ الجواب هنا يأتي بمعرّف واحد فحسب: أنا إنسان.

 

* في عصرنا، وعبرَ العالم، يأتي تركيز معظم النّاس - في مجال معرفة الذات وتعريفها - على الهويّة الانتمائيّة. بتعبيرٍ آخر: فهمُهم لأنفسهم، وتعريف أنفسهم لغيرهم، وتعاملهم مع الآخرين، يأتي مشكَّلاً ومنطلقاً من المعرّفات الانتمائيّة: مثلاً: أنا عربيّ، لذا متمايز عن غير العربي؛ عُماني، لذا متمايز عمّن هو من بلدٍ آخر؛... منتسب لمدرسة فكريّة أو لحزب سياسيّ معين، لذا متمايز عن المنتسب لمدرسة فكريّة مغايرة أو لحزب سياسيّ آخر، وهكذا.

* في المقابل، قلّة من النّاس، في مجال معرفة الذات، وتعريفها، والتّعامل مع الآخر، يأتي تركيزهم على المُعرّف الوجوديّ المشترَك بين النّاس، أي الماهيّة الوجوديّة، وخلاصة التّعريف هنا: أنا إنسان قبل كلّ شيْء، وإنسانيّتي تسبق أيّ انتماءٍ مضاف، وتعلو عليه.

* في التّركيز على الماهيّة الوجوديّة تتضاءل الفروقات الواردة في تعريف الهويّة الانتمائيّة. هنا، كأمرٍ أوّل وأساس، يرى المرء الآخر، أيّاً كانت معرفات هويّة الآخر... يراه كمثل ما يرى نفسه: كائناً حيّاً واعياً يتماثل مع جميع أفراد جنسه من حيث الجَسَد، وملَكَة التّفكير intellect، ومن وراء ذلك، بل وبأهمّ من ذلك وأعمق، من حيث الرّوح المودَعة فيه، أو بالعبارة القرآنيّة، المنفوخة فيه من الذّات الإلهيّة.

* قديماً وحاضراً، التَّغافل عن وحدة الإنسانيّة المتمثّلة في الماهيّة الوجوديّة المشتركة بين النّاس تسبَّب، ولا يزال يتسبَّب، في معظم المشاكل المولِّدة للصّراع في الحراك البشري. بالنتيجة، معظم مشاكل البشر، سياسيّة، واقتصاديّة، واجتماعيّة، وثقافيّة، وسواها، لا تزال تنتج عن التّركيز المفرط على تعدّديّة معرّفات الهويّة الانتمائيّة، وفي المقابل، عدم التّركيز على وحدة الماهيّة الوجوديّة. ذلك أنّ التركيز على تعدّديّة الهوية الانتمائيّة، والتّجاهل لوحدة الماهيّة الوجوديّة، من شأنه استثارة التفرقة بين الأمم، بل وضمن الأمّة الواحدة، بين فئاتٍ تتباين عِرقاً.. أو منظوراً فكريّاً، أو سياسيّاً. التفرقة تولِّد الخصام والخصومة، وتراكميّاً، تؤدّي إلى الصراع، في عاجلٍ أو آجِل.

بين الجوهر الإلهيّ والانتماء

إلى ماذا أرمي تحديداً بهذه المقدّمة؟

* أرمي إلى لفت النّظر إلى تراجعٍ خطير أراه يحدث حثيثاً في الحال الإنسانيّ عالميّاً، نتيجة تزايد تشخُّص إنسان هذا العصر بتعدّدية معرِّفات هويته الانتمائيّة، مقابل تزايد تجاهله لوحدة ماهيّته الوجوديّة.

* أنا إذ ألاحظ هذا السياق، في زمن تَكاثر التعداد البشري، مقترناً بتكاثف تواصل الأفراد والجماعات من مختلف الأمم، على نطاق غير مسبوق في حراكه ومداه، فإنّني أستشرف تصاعد وتيرة الصّراع، في مختلف أشكاله، عبر العالم بأسره.

* في استطراد هذا السياق المعيق للنّماء الحضاري، أرى صراعاتٍ متفاقمةً ما بين الأمم، أو إن شئتم، ما بين الدّول، وتباعاً، أرى تشظّي الصراع إلى ما بين فئات الأمّة الواحدة، الوطن الواحد، الدّين الواحد، وهكذا ... مُثاراً، في الأغلب الأعمّ، بعاملين: التّسييس والتّحريض.

كيف يكون الابتعاد عن هذا المسار المنهك؟

* الابتعاد أراه في الارتكاز في الماهيّة الوجوديّة، بمعنى أن يكون ارتكاز النّاس وعياً في ماهيّتهم الوجوديّة، الجامعة والموحِّدة، أقوى وأثبت وأعمق من ارتكازهم في هويّاتهم الانتمائيّة، المتفرّقة والمفرِّقة.

* الابتعاد أراه في إخضاع تعدّدية معرِّفات الهوية الانتمائيّة لوحدة الماهيّة الوجوديّة، المؤصّلة ذاتياً، بحيث لا ينفصم عنها المرء أينما حلّ أو ارتحل، وفي أيّما بيئة وطنيّة، أو ثقافيّة... نشأ وترعرع.

* الابتعاد أراه في التّحوُّل من منظور يحبسنا، أفراداً وجماعات وأمماً، في قوالب تَخاصم مستدام، ناتج عن التّشبّث المبالغ بتعدّديّة الهويّة الانتمائيّة، إلى منظور ينقل الجميع إلى ساحات تعايشٍ رحب، قائم على الأصل المشترك، أصل الماهيّة الوجوديّة.

* إجمالاً، أرى الابتعادَ في تعميق إلإحساس بمشتركنا الإنساني: الانطلاق منه، والانضباط به في عموم مساحات التفاعل والتعامل، أيّاً كانت المشاكل المعترضة، وكيفما كان حراك الأحوال والظروف.

* بذلك، على ما أرى، سوف نُمَكَّن من لجم استدامة الصّراع الآخذ بالانتشار عالميّاً، الباعث مراراً على العنف... العنف المهلك من المدنيّين الأبرياء أضعاف ما يُهلك من المتحاربين، العنف الذي يتلف ويشرِّد ويُهدر كرامة الإنسان، وفي ساعة هيَجانٍ هادرٍ يدمِّر ما يكون قد عُمِّر حثيثاً بمجهود عمْر.

مفسدة الصّراع والتناحر

* الصّراع يَصرف الطّاقة الخلّاقة في الإنسان عن الإعمار والإنماء، ويُفسد المناخ السياسيّ الاجتماعيّ، ويُسمّم الحال النفسيّ، وبذلك يُقعِد الإنسانيّة عن التّقدّم حضاريّاً نحو الأوفى والأمثل. لذا لا أرى خيراً في نزاعات (نزَعات) تستثير الصّراع.

* من وجهٍ آخَر، بما رصدتُ من تفشّي العنف عبر العالم في العقود الأخيرة، وبما وعيت بالأخصّ من تاريخ القرن العشرين بحروبه المتكرّرة، ممكَّنة في مداها التّدميريّ المهول بالعلم الحديث (modern science)، لم أعد مطمئنّاً إلى العلم الحديث معزولاً عن الانضباط الخُلُقيّ. العلم الحديث مُمكّن وليس بمرشدٍ، بمعنى أنّه قابل للتّسخير لخيرٍ كان أو شرّ. لذا، ما لم يرتدف العلم الحديث باللّازم الخُلُقيّ - ذلك الذي ينعته الفيلسوف الألماني إيمانيوئل كانط باللّازم المؤكَّد

(The categorical imperative) - فقد يغدو العلم الحديث عامل تخريب وإفساد أكثرَ منه عامل تعمير وإصلاح.

* كما أنّني ما عدتُ متفائلاً اليوم، كما كنتُ متفائلاً بالأمس، بحداثة عشتُها طويلاً وثمّنت معطاها كثيراً، حداثةٍ أرى أنْ قد شابها الصّراع، وشانَها العنف، وشوَّهتها نزعةُ المغالبة بالإثم والعدوان، فأضحت بقدر ما تُيَسّر العيش تزيد الطّيش، وبقدر ما تُريح البدن تُرهِقُ الرّوح، وبقدر ما تَعِد بالسّعادة تُنتج الشّقاء... حداثةٍ تغرّر أكثر ممّا تبصّر، فيتراجع، في سياقها المتعجرف، الحالُ الحضاري، وتهدر جرّاء جرفها الغاشم، كرامةُ الإنسان.

ما هي بنية رؤياي لماهيّة الإنسان الوجوديّة، تلك التي أدعو إلى الارتكاز فيها والانطلاق منها لأجل بَتر مسلسل الصّراع، ولأجل تنشيط سياقات التعايش والتعاون، ولأجل ربط مسار الإبداع الحداثيّ بهدف الارتقاء الحضاريّ؟

* بنية رؤياي هي أنّ الإنسان في ماهيّته تشكّل من جسد، وملَكة تفكير، وروح. الجسد يتضاءل ويفنى، وملكَة التّفكير تتضاءل بتضاؤله وتفنى بفنائه. الرّوح، من حيث أنّها طاقة محضة، لا تتضاءل ولا تفنى: هي... من أزلٍ لِأَبد.

* خلال الحياة، تَعالُق تلازميّ يسري بين الجسد وملَكَة التفكير؛ بمعنى: كلّما تلازم الجسد بهَدْي تفكيرٍ سديد، كلّما صحّ وسَلِم، والعكس بالعكس.

* بمثل ذلك، تعالُق تلازميّ يسري بين ملَكة التّفكير والرّوح: بمعنى كلّما تلازم الفكر بصفاء الرّوح، كلّما صحّ وسَلِم، والعكس بالعكس.

 

الإنسان في القرآن المجيد

* في كُنهه الوجوديّ، الإنسان روحٌ قبلَ أن يولد، وروحٌ بعد أن يُتوفّى. روح الإنسان من روح الله تعالى، سوى أنّ روح الإنسان جزءٌ من كلّ، وروحُ الله سبحانه كُلٌّ مطلَق. لذا كلّما توثّقت صِلة الإنسان بالله، صلةُ المحدود بالمطلق، صلةُ المتكامل حثيثاً بالكامل أصلاً، صلةُ المستزيد من الخير بالمَعين غير النّاضب خيرُه، كلّما تعرَّضَ وعياً، وسَما خُلقاً، وصفا نفساً، وتمكّن من بناء حضاريّ نابذ للعنف، موطِّد للسّلم، مقِيم للعدل، متعامِل بالمساواة، صائن للكرامة...

* في المقابل، كلّما ازداد الإنسان انحباساً في شِراك الخصام والصّراع، متعصِّباً لانتماءات هويّته الخارجيّة مفصولة عن وعيه لماهيّته الوجوديّة، كلّما انحدر على المدرج الحضاريّ، فإنْ لم يتدارك أمره، أخلد إلى الأرض وارتكس.

تلك هي بنية رؤياي التي أرى من خلالها لزوميّة إعلاء الإنسان ماهيّته الوجوديّة فوق هويّته الانتمائيّة، لكي يُمكَّن من نظرٍ أعرضَ أفقاً، ويُحفَّز على أداءٍ أكثرَ نُبلاً ورشداً ورُسوّاً في مكارم الأخلاق.

* من بصائر القرآن المجيد بصيرةٌ يجدر وعيُها صميماً بهدا الصّدد: ﴿..إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ..﴾ الرّعد:11. نقطة الاستيعاب هنا: أنّ منشأ التّغيير في الحال الإنسانيّ، سلباً أو إيجاباً، هو الإنسانُ نفسه: بمعنى أنّ ساحة التّغيير المنشود لا تكون ابتداءً في عمارة الأرض أو التّرفّه في المعاش بقدر ما تكون، كأمرٍ أوّل وأساس، في استصلاح النّفس، وهو المسعى المستدام الذي عُرف في الحكمة المتعالية... عُرِف بالجهاد الأكبر، باعتبار أنّ باستصلاح النّفس يُستصلح المحيط، لكنّ العكس لا يكون، ضرورةً، بصحيح.

* بصيرة قرآنية أخرى: من أهمّ وأنجع ما تُستصلَح به النفس، فتصلح بذلك الحياة وتطيب، هو الاستقرار في الإيمان... الإيمان المثبِّت لنا في الصّدق، المؤيِّد لنا بالصّبر، الحاضّ لنا على صالح العمل، المعين لنا في الشّدائد... الإيمان الجانح بنا للسّلم، والدّافع لنا للارتقاء طرداً على السُّلَّم الحضاريّ.

 
 
 

* مختصر محاضرة ألقيت في ندوة أقامها «المركز العربيّ للحوار» في مسقط في 19 تشرين الثاني 2014.

** مفكّر وكاتب من سلطنة عُمان.

 

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

منذ 3 أيام

دوريّات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

  إصدارات عربيّة

إصدارات عربيّة

نفحات