من أبحاث البسملة

من أبحاث البسملة

31/05/2011

الذّات والتَّجَلِّيات والبحر والأمواج

الإمام الخميني قدّس سرّه

تقدِّم «شعائر» مقتطفاً من خمسة دروس كان الإمام الخميني الراحل قدّس سرّه قد قام بتدريسها إثر انتصار الثورة الإسلاميّة (خلال شهر صفر عام 1400 للهجرة)، وقد بُثَّت عبر التلفزيون الإيراني في التأريخ المذكور.

«الله» هو الإسم الأعظم، والتَّجلِّي الأوّل، والأسماء منها ما هو في مقام الذات، ومنها (ما هو) في مقام التجلِّيات بالإسميّة، وهناك أيضاً أسماء «التَّجلّي الفِعلي» الذي يُقال لِقسمٍ منه مقام الأحد، وللآخر مقام الواحديَّة، وللثالث مقام المَشيئة، ومثل هذه المُصطَلحات. ويُحتَمل أن تكون مقامات الأسماء الثلاثة هي المقصودة بالآيات الأخيرة من سورة الحشر، حيث ذُكرت في آياتها الثلاث الأخيرة بثلاثة أشكال، وهي: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ..﴾ الحشر:22-24.
فالإسم في مقام الذات يُناسِب الأسماء الواردة في الآية الأولى، والإسم بالتجلّي الصفاتي يُناسِب الصفات الواردة في الآية الثانية، فيما التجلّي الفعلي يُناسِب ما في الآية الثالثة ﴿هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ..﴾. والتَّجلِّي الفِعلي هو على ثلاثة أنماط، تجلِّي الذَّات للذَّات، والتجلِّي في مقام الأسماء، والتجلِّي في مقام الظهور، ولعلَّ ﴿هُوَ الأوَّلُ وَالآَخِرُ..﴾  يعني وكأنّ الآخرين أصلاً هم نَفْيٌ مَنْفيّ، ﴿هُوَ الأوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ..﴾ الحديد:3  فكلُّ ظهور هو، وليس منه. هو الظاهر، وهو الباطن، وهو الأوَّل، وهو الآخِر.

لا فصل بين التَّجلِّي والمُتجلِّي

هناك مراتبُ للتَّجلِّيات، ولكن ليس بحيث تكون مُستقِلّة عن المُتَجلِّي. لا شكَّ في أنَّ تَصوُّر الأمر صعب، ولكنّ تصديقه بعد ذلك يسير.
وقد يكون «الله» إسماً لهذا التجلِّي في مقام الصِّفات، ولو كان كذلك يكون «اسم الله» «بسم الله» إسماً لظهور ذلك التَّجلِّي على النَّحو الجَمْعي، وهذا لا يتعارض مع كِلا الإحتمالَيْن اللّذين تحدَّثنا عنهما سابقاً، بل ينسجم مع كِليْهما، لأنَّ هذه المسائل ليست على نحو الإستقلال، وهذه القضايا كافّة يجب أن نُمرِّرها على نحو النَّقص.
وهناك قضيّة أخرى تَرتبِط بجميع هذه القضايا والمَباحث، وهي أنَّنا نتعرَّف على الواقعيَّات مرَّة بالحواسّ التي لدينا، وأخرى بِما يَنتزعه العقل ويُدركُه منها، وثالثة بِحَسب مقام القلب وما يُدركُه منها، ورابعة في مقام الشُّهود وأمثالِ هذه المعاني.
وغاية ما تَصله إدراكاتنا نحن هي المُدرَكات العقليَّة، إمَّا بالقَدَم البُرهانيَّة أو ما يشبه الإستدلال، فالواقعيَّات بحسب تصوُّرنا هي التي نفهمها بِمُدركاتنا العقليَّة، ولكن عندما نرتفع درجة عن هذه المدركات، نفهم أنَّ الواقعيّات هي الذات المقدَّسة وتجلِّياتها. بأيِّ نحوٍ كانت إدراكاتنا نجد هذا.
وواقع الأمر هو أن لا مقابل لِلْحقِّ تعالى، أيْ ليس هناك مَوجودٌ مُقابِلٌ -مُستقلّ عنه- بل إنَّ مقابل الوجود المُطلَق لا معنى له أصلاً، فالمَوجود هو الذَّات المُقدَّسة وتجلِّياتها، سواء التجلِّي في مقام الذَّات، أم في مقام الصِّفات، أو في مُقابل الفِعْل، والآيات نفسها التي نشير إليها أحياناً يمكن أن تكون شاهداً على أنّ ﴿هُوَ الأوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ..﴾ الحديد:3. فواقع الأمر هو أن لا مُقابل للحقِّ تعالى، مرّةً نتساءل -وبحسب إدراكنا- ما الذي أدركناه، وما هو إدراكنا العقلي؟! وهل أنَّنا أوصلناه إلى القلب ليُصبح اسمه إيماناً؟! أو هل تَحرَّكنا بِقَدَم السَّير ليكون اسمه عرفاناً ومعرفةً إلى غاية ما يستطيع الإنسان الوصول إليه؟!
وتلك هي قضيّة إدراكنا للواقعيَّات على ما هي عليه، ولكنّ الواقع عندما يُحسَب بِحَسَب الواقع، فما مِن شيءٍ سوى الحقّ تعالى. كلّ ما هو موجودٌ هو. والتجلِّي هو تَجلِّيه، ولا يُمكننا أن نَجِد مثالاً منطقيّاً، و«الظلّ وذو الظلّ» ناقصٌ أيضاً.

الذَّات والتَّجلِّيات والبحر والأمواج

ولعل أقرب الأمثلة الموضِّحة هو مثال مَوْج البحر، فالمَوْج ليس خارجاً -مُستقِلّاً- عن البحر، بمعنى هناك مَوْجٌ، وهناك بحر، بل هناك مَوْجُ البحر. هذه الأمواج الحاصلة إنّما هي البحر يتموَّج، ولكن عندما نَنْظر إلى الأمر بحسب إدراكنا، نرى بحراً وأمواج البحر، كأنّه هناك بحرٌ ومَوْجٌ، ولكنّ المَوْج معنى عارِض لِلبحر، وحقيقة الأمر أنَّ ليس هناك سِوى البحر، ومَوْج البحر هو البحر، وكذلك حال العالم فهو كـ «مَوْج».
وبالطبع فهو مثال. وكما قال القائل «أُحْثوا التراب على مفرقي وعلى مثالي»، فالأمر لا مثال له.
نحن عندما نريد أن نَلِج في هذه المسائل نَطرح بحسب إدراكنا تصوُّراتٍ عامَّة من قبيل اسم الذَّات، واسم الصِّفات، واسم الأفعال، والمقام الفلاني وهكذا. وهي نفسها مفاهيم في مفاهيم. والإدراك إدراك مفهومي.
أمَّا المرتبة الأخرى، فهي أن ندرك ما وراء هذه المفاهيم. نُثبت بُرهانيّاً أنّ الحقيقة هي هذه، ولكنّ المَنهج البُرهاني عندما يَستدلّ على أنَّ الموجود هو الذَّات وتجلِّياتها ولا شيء غيرها، يقول إنَّ صِرْف الوجود والوجود المطلَق هو الوجود الذي لا يُقيّده قيد، و«أنت وجودنا المطلَق»، فلو كان له حدٌّ أو نَقصٌ فما هو بوجود مُطلَق، فالوجود المُطلَق ليس له أيُّ تَعيُّنٍ أو نَقْصٍ، وإذا كان كذلك فهو يشمل تمام الوجود، ولكنّ «تمام» هذه ناقصة أيضاً، أي أنَّه لا يُمكن أن يكون فاقِداً لحيثيَّةٍ ما، فجميع أوصافه هي مُطلَقةٌ لا على نحو التَّعيُّن، لا رحمانيَّةٌ متعيِّنة، ولا رحيميَّةٌ متعيِّنة، ولا أُلوهيَّةٌ متعيِّنة.

فقدان أيِّ كمالٍِ، يؤدّي إلى التَّعيُّن

عندما يكون النُّور مطلَقاً يصبح بلا تَعيُّن، وبذلك يجب أن يكون جامعاً للكمالات كافّة، لأنّ فقدان أيّ كمال يوجب «التعيُّن». فلو كانت هناك نقطة نَقْصٍ واحدة في مقام الرُّبوبيّة، أو لم تكن هناك ولو نقطة وجود فقط -بل وما دون النقطة من العدم- لخرج عن الإطلاق وأصبح ناقصاً، مُمكِناً، ولم يكن واجب الوجود. فالواجب كمالٌ مُطلَق، وجمالٌ مُطلَق.
من هنا، فعندما نعتبر «الله» -وبحسب المنهج البرهاني الناقِص- إسماً للذَّات المُطلَقة، ولها التجلِّيات كافّة ، فيجب أن يكون جامِعاً للأسماء والصِّفات كافّة، جامعاً لكلّ الكمالات كمالاً مطلقاً من دون أي تعيُّن، وهذا لا يمكن أن يكون فاقداً لأيِّ شيء، وإلَّا لم يَكُن كمالاً مُطلَقًا، بل يكون «مُمكِناً»، والمُمكن ناقصٌ، مهما كانت درجة الكمال التي يَصلها، فبمجرَّد خروجه عن مرتبة الإطلاق، يدخل حدود الإمكان.
الوجود المُطلَق واجدٌ لِكلِّ شيء، لِكلِّ الكمالات. البرهان يقول: «صِرْف الوجود كلُّ الأشياء، وليس بِشيءٍ منها» (العبارة متكرّرة في معظم المتون الفلسفيّة، خاصّة مصنّفات المولى صدر الدين الشيرازي ومَن بعده، راجع: الأسفار الأربعة، ج6، ص211 وما بعدها).
«صِرْفُ الوجود» كلُّ الأشياء لكنْ لا بالتَّعيُّنات، واجدٌ لكلِّ وجود ولكنْ لا على نحو التعيُّن، بل على نحو الكمال المُطلَق.
وحيناً يكون هذا الكمال المُطلَق -عندما نحسب واقع الأمر- في كلِّ الأسماء فهذه ليست مستقلَّة، بل هي أسماء الذَّات نفسها غير منعزلة (عنها). الخصوصيَّات الموجودة في اسم «الله» هي نفسها موجودة في «الرحمن»، فيُصبح هذا كمالاً مطلَقاً: ﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى..﴾ سورة الإسراء:110، سواء «الله» أم «الرحمن» أم «الرحيم» وسائر الأسماء ﴿.. فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى..﴾. وهذه موجودة أيضاً في جميع صفات الحقِّ تعالى، ولِكَوْنها على نحو الإطلاق فلا حدود بين الإسم والمُسمَّى، و(لا بين) اسمٍ واسمٍ آخر، فهي ليست مثل الأسماء التي نُطلقها على شيء ما باعتباراتٍ مُختلفة.
عندما نقول «نور» و«ظهور» فلا يعني ذلك أنَّه من جهة نُور، ومن أخرى ظُهور، بل إنَّ الظُّهور هو عين النُّور، والنُّور أيضاً عَيْنُ الظُّهور، وبالطبع فهذا المثال ناقصٌ أيضاً. الوجود المُطلَق كَمالٌ مُطلَق، في كلِّ شيءٍ مُطلَق. جميع الأوصاف هي على الإطلاق بحيث لا يُمكننا فرض أيّ شكلٍ من الإستقلاليّة. يقول السهروردي مؤسِّس فلسفة الإشراق: «صِرْف الوجود الذي لا أتمَّ منه، كلَّما فَرضتَه ثانياً فإذا نَظَرتَ إليه هو هو». (التوحيد العلمي والعيني، ص 139).

المشاهدة فوق البرهان والعمى

هذا بحسب القَدم البرهانيَّة، وهذا ما يقوله البرهان. يُروى أنَّ أحد العارفين قد قال «إنّني حيثما ذهبتُ جاء هذا الأعمى بِعَصاه»، ومُراده هو الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا، ومقصوده من هذا القول هو أنَّ كلَّ ما وجده ووصله أدركه (هذا الأعمى) برهانيَّاً، ولكنّه بعصا البرهان، وصل إلى ما وصل إليه هذا العارف بِقَدم العِرفان والمُشاهدة، وعلى هذا التفسير قالوا إنّ مقصوده من الأعمى هو ابن سينا.
وأصحاب البرهان -كما يقول- نحن العُمْي، فعندما لا تكون مشاهدة يعني أنَّ هناك «عمىً»، فحتّى بعد أن نُبرهن استدلاليّاً على التوحيد المُطلَق والوحدة المُطلَقة، وأنَّ مَبدأ الوجود هو الكمال المُطلَق، فالأمر برهانٌ أيضاً، والمحجوبيّة هي خلف جدار البرهان. والمهمُّ أن تَصِل   -بالمُجاهدة والسَّعي- حقيقة أنّ «صِرْف الوجود كلّ شيء» إلى القلب فيُدركها. وحالُ قلوبنا كَحالِ الطفل الذي يجب أن تُلقِّنه كلمة بعد أخرى، وعلى الذي أدرك تلك الحقائق عقليّاً، أن يوصِلَها إلى قلبه بطريقة التَّلقين كلمةً كلمة، بالتكرار والمُجاهَدة وأمثال ذلك.
فإذا وَصَلتْ هذه الحقائق إلى القلب ووعاها وأدرك أنَّ «صرف الوجود كلُّ الكمال»، فهذا هو الإيمان. الإيمان يتحقَّق عندما يصل إلى القلب هذا الإدراك العقلي والتَّصوُّرات المفهوميّة التي أُقيم عليها البرهان، وعندما يَصل إلى القلب هذا المعنى القرآني البرهاني ويقرأ (الشخص) بالقلب ما قَرأَه بالعقل، وعندما يعلم القلب ذلك بالتكرار والرياضات والمجاهدات، عندها يؤمن القلب بأنّ «ليس في الدار غيرُ دَيَّار» (راجع ص147 من رسالة لبّ اللّباب في سير وسلوك أولي الألباب (بالفارسية) وهي تقريرات السيّد الطهراني لدروس أستاذه العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه في العرفان).
ولكن هذه أيضاً هي مرتبةٌ من الإيمان، بل وحتّى مرتبة ﴿.. لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي..﴾ البقرة:260 هي غير تلك التي كانت للأنبياء، فقد كانت لهم قَدَم المُشاهدة وهي فوق ذلك. لهم مُشاهدة جمال الحقّ تعالى، ﴿..تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ..﴾ الأعراف:143 تجلّى لموسى الذي كانت له محطّات ثلاثون ليلة في البداية، ثمّ أصبحت أربعين، وجاءت بعدها تلك الوقائع بعدما رَحَل عن منزل شُعيْب، والد زوجته، وسار بأهله قال لهم: ﴿..إِنِّي آنَسْتُ نَاراً..﴾ طه:10، هو أدرك هذه النَّار أمّا أهله فلم يروها أصلاً، بعد ذلك ذهب إليها: ﴿..لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ..﴾ طه:10، وعندما اقترب منها جاء النداء ﴿إِنَّنِي أَنَا اللهُ..﴾ طه:14. هذا النداء جاء من تلك النَّار نفسها التي كانت في الشَّجرة، وقَدَمُ المُشاهدة يعني أنّ موسى شاهد ما ذَهَب إليه ذاك الأعمى بالعَصا، وذاك العارف بالقلب.

توهُّمُ معرفة مَقصد النُبوّة

الذين يظُنّون أنّ لِدعوة النبيّ الخاتم والرَّسول الهاشميّ صلّى الله عليه وآله جهتين؛ دنيويّة وأُخرويّة، ويَحسبون هذا فخراً لصاحب الشريعة وكمالاً لنُبوَّته، -هؤلاء- ليس عندهم معرفة بالدِّين، وهم عن مقصد النبوّة ودعوتها غافلون.    الإمام الخميني قدّس سرّه 


اخبار مرتبطة

  إصدارات : دوريات

إصدارات : دوريات

02/06/2011

  إصدارات : كتب أجنبية

إصدارات : كتب أجنبية

02/06/2011

  إصدارات : كتب عربية

إصدارات : كتب عربية

02/06/2011

نفحات