أحسن الحديث

أحسن الحديث

14/09/2015

البيت الحرام في القرآن الكريم


البيتُ الحرام في القرآن الكريم

مزاياه، ووجوبُ الحجّ إليه

___ المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ___

 

 

﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ آل عمران:96-97.

في ما يأتي بحثٌ قرآنيّ حول الآيتين المتقدّمتين انتخبته «شعائر» من (تفسير الأمثل) للمرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي. أمّا أهميّة هذا البحث فتكمن في الإضاءة على مزايا البيت الحرام، ومعنى الاستطاعة، وعاقبة مَن تجاهل النداء بالحجّ.

 

بعد أن استعرضَ القرآنُ الكريم – في الآيتَين اللّتَين وردتا في التمهيد - فضائلَ البيت الحرام وعدّد مزاياه، أمر الناس كافّة ومن دون استثناء، بأن يحجّوا إليه، وعبّر عن ذلك بلفظٍ يُشعر بأنّ مثل هذا الحجّ هو في الحقيقة دَيْنٌ لله تعالى على الناس، فيتوجّب عليهم أن يؤدّوه ويُفرغوا ذِمَمهم منه، إذ قال تعالى: ﴿..وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ..﴾.

وتعني لفظة «الحجّ» أصلاً القصد، ولهذا سُمِّيت الجادّة بالمحَجّة (على وزن مودّة) لأنّها تُوصل سالكها إلى المقصد، كما أنّ لهذا السبب نفسه سُمّي الدليل بـ «الحُجّة» لأنّه يوضح المقصود.

أمّا وجه تسمية هذه الزيارة وهذه المناسك الخاصّة بالحجّ، فلأنّ قاصد الحجّ إنّما يخرج وهو يقصد زيارة بيت الله، ولهذا أُضيفت لفظة الحجّ إلى البيت، فقال تعالى: ﴿..حِجُّ الْبَيْتِ..﴾.

ثمّ إنّ شعائر الحجّ هذه قد سُنَّت وأُسِّست منذ عهد إبراهيم، عليه السّلام، ثمّ استمرّت حتّى العهد الجاهلي حيث كان العرب الجاهليّون يمارسونها ويؤدّونها، ولكنّها شُرِّعت في الإسلام في صورةٍ أكمل، وكيفيّة خالية عن الخرافات التي لصقت بها من العهد الجاهلي، ولكنّ المستفاد من «الخطبة القاصعة» في (نهج البلاغة) وبعض الأحاديث والروايات أنّ فريضة الحجّ شُرِّعت أوّل مرّة في زمن آدم، عليه السلام، إلّا أنّ اتّخاذها الصفة الرسميّة يرتبط - في الأغلب – بزمن النبيّ إبراهيم الخليل عليه السلام.

إنّ الحجّ يجب على كلّ إنسان مستطيع، في العمر مرّة واحدة، ولا يستفاد من الآية المبحوثة هنا أكثر من ذلك، لأنّ الحكمَ فيها مطلق، وهو يحصل بالامتثال مرّة واحدة. إنّ الشرط الوحيد الذي ذكرته الآية الحاضرة لوجوب الحج واستقراره هو «الاستطاعة» المعبَّر عنها بقوله سبحانه: ﴿..مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا..﴾.

نعم، قد فُسِّرت الاستطاعة في الأحاديث الإسلاميّة والكتب الفقهيّة بـ «الزاد والراحلة - أي الإمكانيّة الماليّة لنفقات سفر الحجّ ذهاباً وإياباً - والقدرة الجسديّة والتمكّن من الإنفاق على نفسه وعائلته بعد العودة من الحج»، والحقّ أنّ جميع هذه الأمور موجودة في الآية، إذ لفظة ﴿اسْتَطَاعَ﴾، التي تعني القدرة والإمكانيّة، تشمل كلّ هذه المعاني والجهات.

ثمّ أنّه يُستفاد من هذه الآية أنّ هذا القانون - كبقيّة القوانين الإسلاميّة - لا يختصّ بالمسلمين، فعلى الجميع أن يقوموا بفريضة الحجّ، مسلمين وغير مسلمين، وتؤيّد ذلك القاعدة المعروفة: «الكفّار مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالأصول». وإنْ كانت صحّة هذه المناسك وأمثالها من العبادات مشروطة بقبولهم الإسلام واعتناقهم إيّاه، ثمّ أداءها بعد ذلك، ولكن لا بدّ أن يعلم بأنّ عدم قبولهم الإسلام لا يُسقِط عنهم التكليف، ولا يحرّرهم من هذه المسؤولية. وما قلناه في هذه الآية في هذا المجال جارٍ في أمثالها أيضاً.

تَرْكُ الحجّ كُفْرٌ

ولتأكيد أهميّة الحجّ، قال سبحانه في ذيل الآية الحاضرة: ﴿..وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، أي أنّ الذين يتجاهلون هذا النداء، ويتنكّرون لهذه الفريضة، ويخالفونها لا يضرّون بذلك إلّا أنفسهم لأنّ الله غنيٌّ عن العالمين، فلا يُصيبه شيء بسبب إعراضهم ونُكرانهم وتركهم هذه الفريضة.

إنّ لفظة «كفر» تعني في الأصل السّتر والإخفاء، وأمّا في المصطلح الديني فتعطي معنى أوسع، فهي تعني كلّ مخالفة للحقّ، وكلّ جحود وعصيان، سواء في الأصول والاعتقاد، أو في الفروع والعمل، فلا تدلّ كثرة استعمالها في الجحود الاعتقادي على انحصار معناها في ذلك، ولهذا استُعملت في «ترك الحجّ». وقد فسِّر الكفر في هذه الآية عن الإمام الصادق عليه السلام بـ «تَرْك الحجّ».

وبعبارة أخرى إنّ للكفر والابتعاد عن الحقّ - تماماً مثل الإيمان والتقرّب إلى الحقّ - مراحل ودرجات، ولكلّ واحدة من هذه المراحل والدرجات أحكام خاصّة بها، وفي ضوء هذه الحقيقة يتّضح الحال بالنسبة إلى جميع الموارد التي استُعملت فيها لفظة الكفر والإيمان في الكتاب العزيز.

فإذا وجدنا القرآن يستعمل وصف الكفر في شأن آكِل الرّبا (كما في الآية 275 من سورة البقرة)، وكذا في شأن السَّحَرة (كما في الآية 102 من نفس السورة)، ويعبّر عنهما بالكافر، كان المراد هو ما ذكرناه، أي أنّ الربا والسِّحر ابتعادٌ عن الحقّ في مرحلة العمل.

وعلى كلّ حال فإنّه يُستفاد من هذه الآية أمران:

الأوّل: الأهميّة الفائقة لفريضة الحجّ، إلى حدٍّ أنّ القرآن عبّر عن تركها بالكفر. ويؤيِّد ذلك ما رواه الصّدوق في كتاب (مَن لا يحضره الفقيه) من أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله قال لعليِّ عليه السلام: «يا عَلِيُّ، تارِكُ الحَجِّ وهُوَ مُستَطيعٌ كافِرٌ؛ يَقولُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿..وللهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطاعَ إلَيهِ سَبيلاً ومَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمينَ﴾. يا عَلِيُّ، مَنْ سَوَّفَ الحَجَّ حَتّى يَموتَ، بَعَثَهُ اللهُ يَومَ القِيامَةِ يَهودِيًّا أو نَصرانِيًّا».

الثاني: أنّ هذه الفريضة الإلهيّة المُهمّة - مثل سائر الفرائض والأحكام الدينيّة - شُرِّعت لصلاح الناس أنفسهم، وفُرضت لتربيتهم، وإصلاح أمرهم وَبَالِهِم، فلا يعود شيءٌ منها إلى الله سبحانه أبداً، فهو الغنيّ عنهم جميعاً.

من مزايا الكعبة المعظّمة

في هاتين الآيتين – المشار إليهما في التمهيد - أربع مزايا للكعبة المكرّمة، هي:

1 - ﴿مُبَارَكًا﴾

«المُبارك» يعني كثير الخير والبركة، وإنّما كانت الكعبة المُعظّمة مُباركة لأنّها تُعتبر بحقّ واحدة من أكثر نقاط الأرض بركةً وخيراً، سواء الخير المادي، أو المعنوي.

وممّا لا يخفى على أحد، البركات المعنويّة التي تتحلّى بها هذه الأرض وهذه المنطقة من اجتماع الحَجيج فيها، وما ينجم عن ذلك من حركة وتفاعل ووحدة، وما يصحبه من جاذبيّة ربّانيّة تُحيي الأنفس والقلوب، وخاصّة في موسم الحجّ.

ولو أنّ المسلمين لم يَقصروا اهتمامهم - في موسم الحجّ - على الجانب الصوري لهذه الفريضة بل أحيوا روحها، والتفتوا إلى فلسفتها، لاتّضحت – حينذاك - البركات المعنويّة، وتجلّت للعيان أكثر فأكثر. هذا من الناحية المعنويّة.

وأمّا من الناحية المادّيّة، فإنّ هذه المدينة [مكّة] رغم أنّها أُقيمت في أرض قاحلة لا ماء فيها ولا عشب، ولا صلاحية فيها للزراعة والرعي، فإنّها بقيت على طول التاريخ واحدة من أكثر المدن عمراناً وحركة، وكانت دائماً من المناطق المؤهّلة – خير تأهيل - للحياة، بل وللتجارة أيضاً.

2 - ﴿هُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾:

إنّ الكعبة هدًى للعالمين، فهي تجتذب الملايين من الناس الذين يقطعون البحار والوهاد للوصول إليها، ويقصدونها من كلِّ فج ٍّعميقٍ ليجتمعوا في هذا الملتقى العبادي العظيم، وهم بذلك يقيمون هذه الفريضة، فريضةَ الحجّ، التي لم تزل تؤدّى بجلالٍ عظيمٍ منذ عهد إبراهيم الخليل عليه السّلام.

إنّ لهذا البيت من الجواذب المعنويّة ما لا يستطيع أيّ أحد مقاومتها والصّمود أمام تأثيرها الأخّاذ.

3 - ﴿فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾:

إنّ في هذا البيت معالم واضحة وعلائم ساطعة لعبادة الله وتوحيده، فها هي آثار جليلة من إبراهيم عليه السلام، لا تزال باقية عند هذا البيت مثل: زمزم، والصفا، والمَروة، والركن، والحطيم، والحجر الأسود، وحِجر إسماعيل، التي يُعدّ كلّ واحد منها تجسيداً حيّاً لتاريخٍ طويل، وذكريات عظيمة خالدة. ولقد خصّ «مقام إبراهيم» بالذكر من بين كلّ هذه الآثار والآيات، لأنّه المحلّ الذي كان قد وقف فيه الخليل عليه السلام لبناء الكعبة، أو لإتيان مناسك الحجّ، أو لإطلاق الدعوة العامّة التي وجّهها إلى البشريّة كافّة، والأذان بهم ليحجّوا هذا البيت، ويلتقوا في هذا الملتقى العبادي التوحيدي العظيم.

وعلى كلّ حالٍ، فإنّ هذا المقام لمن أهمّ الآيات التي مرّ ذكرها، وإنّه لمن أوضح الدلائل وأقوى البراهين على ما شهدته هذه النقطة من العالم من التضحيات والذكريات، والاجتماعات، والحوادث البالغة الأهمّيّة.

4 - ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا﴾:

لقد طلب إبراهيم، عليه السلام، من ربّه سبحانه بعد الانتهاء من بناء الكعبة، أن يجعل مكّة بلداً آمناً، إذ قال: ﴿..رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا..﴾ إبراهيم:35، فاستجاب الله له، وجعلها بلداً آمناً، ففي هذا البلد أمنٌ للنفوس والأرواح، وفيه أمنٌ للجموع البشريّة التي تفِد إليه وتستلهم المعنويّات السامية منه، وفيه أمنٌ من جهة القوانين الدينيّة، فإنّ الأمن في هذا البلد قد بلغ من الاهتمام به واحترامه أنْ مُنع فيه القتال منعاً باتّاً وأكيداً.

وقد جُعلت الكعبة بالذّات مَأمَناً وملجأً في الإسلام، لا يجوز التعرّض لمَن لجأ إليها أبداً، وهو أمر يشمل الحيوانات أيضاً، إذ يجب أن تكون في أمان من الأذى والمزاحمة إذا هي التجأت إلى هذه النقطة من الأرض. فإذا التجأ إنسانٌ إلى الكعبة، لا يجوز التعرّض له حتّى لو كان قاتلاً جانياً، بيد أنّه حتّى لا تُستغلّ حرمة هذا البيت وقدسيّته الخاصة، وحتّى لا تضيع حقوق المظلومين، سمح الإسلام بالتضييق في المطعم والمشرب على الجناة أو القتلَة اللاجئين إليه، ليضطروا إلى مغادرته، ثمّ ينالوا جزاءهم العادل.                (بتصرّف)

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

14/09/2015

دوريات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات