قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

09/12/2015

(العبقات العنبريّة في الطبقات الجعفريّة) للعلامة كاشف الغطاء

(العبقات العنبريّة في الطبقات الجعفريّة) للعلامة كاشف الغطاء

تدوينٌ لتاريخ المرجعيّة ومواجهة الوهابيّة

ـــــــــــــــــــــــــــ محمود إبراهيم ـــــــــــــــــــــــــــ

الكتاب: العبقات العنبريّة في الطبقات الجعفريّة

تأليف: الإمام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء

تحقيق: د. جودت القزويني

الناشر: «بيسان»، بيروت 1998م

 

يكتسب كتاب (العبقات العَنبريّة في الطبقات الجَعفريّة) أهميّة استثنائيّة في التوثيق الدقيق والجامع لتاريخيّة المرجعيّة الإسلاميّة الشيعيّة بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديّين. وهو، فضلاً عن ذلك، يعدّ في قسم من أقسامه مأثرة علميّة في مجادلة المشكّكين وأهل البِدع عمّا تختزنه العقيدة الإماميّة من معارف الوحي وسنّة أهل العصمة.

وإذا كان ثمّة ما يدلّ على مثل هذه الصفة الاستثنائيّة فهي:

أوّلاً: فرادة الكتاب كمصدر موسوعي لا مناص من العودة إليه لأيّ باحث في التاريخ الشيعي الحديث.

وثانياً: في اشتماله على كتاب آخر في غاية الأهميّة الجداليّة تحت عنوان: (منهج الرشاد لمَن أراد السداد)، وهذا الكتاب رسالة وجّهها الجدّ الأكبر الإمام الشيخ جعفر كاشف الغطاء – وهو زعيم الإمامية في عصره - إلى الأمير عبد العزيز بن سعود أحد قادة الوهّابيّة في القرن التاسع عشر الميلادي، والمؤسّس الفعلي لمملكة آل سعود.

هذان الشاهدان على أهميّة الكتاب سنجد تفصيلهما في المتن، وعلى نحو يضاعف من فرادته، لما لهما، وخصوصاً للقسم الثاني من الكتاب، من آثار معرفيّة على راهن الأمّة والمآل الذي وصلت إليه بلاد المسلمين. على أنّ خصوصيّة هذا القسم المتعلّق بكتاب (منهج الرشاد) إنّما يكمن في السبب الذي حمل الشيخ جعفر كاشف الغطاء على تأليفه. فقد جاء ردّاً على مكتوب أتاه من عبد العزيز ينتقد فيها الأعمال والممارسات التي يؤدّيها زوّار المراقد المقدّسة في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة. وهي حسب زعم العقيدة الوهّابيّة - وكما جاء في رسالة عبد العزيز - أعمال تقارب الشرك في مقام التوحيد، مثل الشفاعة والتوسّل والاستغاثة.

من يقرأ ردّ الشيخ على رسالة الأمير عبد العزيز التي كتبها له في الواقع غلاة مشايخ الوهّابيّة في ذلك الحين، سوف يتبيّن له العمق المعرفي للإمام وإحاطته بصنوف الجدل الكلامي وفنون الدفاع عن عقيدة الإماميّة الحقّة.

وما دمنا في معرض الكلام على هذا القسم من الكتاب فلا بد من الإشارة إلى المنهجيّة المميزة التي حكمت الأسلوب الجدالي لصاحب كتاب (كشف الغطاء)، فقد امتازت الرسالة بالموضوعيّة، والصدق، والواقعيّة، وغزارة المعرفة، وقوّة الاستدلال. حيث نهج مؤلّفها منهجاً عقلانيّاً متكاملاً ردّ فيه المنطق بالمنطق، والحجّة بالحجّة والبرهان، ما جعلها – على الرغم من أنّ تأليفها نافَ على القرنين من الزمن – رسالة فتيّة ما زالت حجّيتها قائمة.

لقد تناولت الرسالة ردّاً للشبهات التي نشرها الوهّابيّون، وقد رتَّبها على مقدّمة وفصول، ومقاصد، وكان لا يملّ من تكرار كلمة «أخي»، وعبارة «أقسم عليك» – نهاية كلّ موضوع – بعد بيان النتيجة التي يتوصّل إليها وبعد إيراده جملة من الأحاديث النبويّة، لعلّ ذلك يكون سبباً لمراجعة المعتقد من جديد. كذلك استخدم في طيّات رسالته أسلوب الموعظة، وإلفات النظر إلى أنّ النفوذ الدنيوي مهما بلغ فإنّه سيؤول إلى الزوال.

جامعيّة الكتاب بمحتواه

وبالرغم من أن الكتاب تخصّص بتسجيل تاريخ أسرة الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء جدّ الأسرة الأكبر، إلا أنه تعدى إلى تسجيل تاريخ (عصر) كان لهذه الأسرة تأثير كبير في أحداثه الدينيّة، والسياسيّة، والاجتماعيّة، ولفترة زادت على نصف قرن من الزمن.

ويُعدّ الكتاب الحلقة المفقودة في تاريخ المرجعيّة الدينيّة خلال هذين القرنين حيث تناول تسليط الأضواء على الوقائع التاريخيّة المتصلة بالنشاط الديني للفقهاء، وأهمها يكمن بما يلي:

1- أرَّخ للصراع الوهابي- الشيعي في عهده الأول، وما وصلت إليه العلاقة الوهابيّة - الاثنا عشريّة منذ قيام الحركة الوهابيّة. وقد انفرد من بين المصادر الإسلامية بذكر الرسالة – النصيحة التي وجّهها الشيخ جعفر كاشف الغطاء (زعيم الأماميّة)، إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب (زعيم الوهابيّة)، وذلك قبل أن يستفحل أمره وتظهر حقيقته.

2- أرَّخ للصراع الأخباري - الأصولي (في مرحلته الثانية)، من خلال الحديث عن المحاججة بين الشيخ جعفر كاشف الغطاء، والميرزا محمد الأخباري المقتول سنة 1232هـ/1817م. وبالرغم من انحياز المؤلف في عرض الوقائع التاريخيّة، وتسجيل هذا الصراع لصالحه، إلا أنه وفر مادة غزيرة يمكن الاستلهام منها في معرفة بعض أسرار المرحلة، والأهداف الناجمة عن ذلك الاختلاف.

3- يعدّ الكتاب من المصادر الأولى، إن لم يكن المصدر الأول الذي دوّن قصة نشوء طائفتي (الزقرت) و(الشمرت) في مدينة النجف، والحوادث الداميّة التي نجمت عنهما.

4- عرض المؤلف شيئاً من تاريخ ظهور الفرقة (الشيخيّة) الكشفيّة التي قادت لظهور الحركة (البابيّة) فيما بعد، ومواقف المرجعيّة الدينيّة من هذه الفرقة.

5- أورد الكتاب بعض الاقتباسات عن مصادر خطيّة أصبح بعضها في عداد المفقودات ككتاب (معدن الشرف في أحوال المشاهير من علماء النجف) للمؤرخ السيد حسّون البراقي المتوفي سنة 1332هـ/1914م، ولا يزال بعضها الآخر مخطوطاً مثل (يتيمة الدهر) للسيد محمد علي العاملي المتوفّى سنة 1290هـ/1873م.

6- اشتمل الكتاب على رسالة خطيّة بعنوان (نبذة الغَريّ في أحوال الحسن الجعفري) كتبها الشيخ عباس كاشف الغطاء المتوفي سنة 1323هـ/1905م في ترجمة حياة أبيه الشيخ حسن كاشف الغطاء المتوفّى سنة 1262هـ/1846م، وفيها شيء من فتاواة وأجوبته على بعض المسائل السائدة في عصره. وأهم ما تتضمّنه هذه (النبذة) المناظرة التي دارت بين الشيخ حسن، ومفتي بغداد أبي الثناء الآلوسي حول الحركة (البابيّة) بمحضر الوالي نجيب باشا المتوفي سنة 1267هـ/1850م.

 

منهجيّة الشيخ في البحث العلمي

سيلاحظ القارئ مدى إلمام الإمام كاشف الغطاء بمنهجيّة البحث العلمي في التعامل مع موضوعاته. الأمر الذي يدعو إلى الظن أنّ الإمام كان مطلعاً على منطق العلوم الحديثة إلى جانب إلمامه العميق بمنطق وآليات فنون البحث في العلوم الدينيّة.

أما المنهج الذي نهجه المؤلف في كتابه فإنه رتّبه ترتيباً تأريخياً فنياً معتمداً، وأشبعه بكثير من الفوائد التي تفرّد بها.

والكتاب – كما يبدو للمتخصّصين – مدعّم بالشواهد التاريخيّة الحيّة، والوثائق النادرة، والمنقولات عن طبقة من رجال السند الذين اعتمد على نقلهم المؤلّف، بيد أنّ المؤلّف استكمل بعض الصور الوصفيّة للأحداث بواسطة السرد القَصصي، كما حدث ذلك في سياق الحديث عن بعض أوصاف الميرزا محمد الأخباري، او الحديث عن (بني عقيل) في قصة تاريخيّة غير محقّقة.

ويظهر أن المؤلف كان في بعض الأحيان يبصر الحقائق على نحو ذاتي، فبالرغم من موضوعيّة الحقائق المسجلة، إلّا أنّ بعضها لا يخلو من (التحيّز)، والرغبة في إثبات ما يتعلّق به من أحداث، والتقليل من واقعيتها لدى الأطراف الأخرى. وهذه صفة ربما يشترك بها أغلب المؤرّخين، إن لم يكونوا جميعهم.

كما اتّبع المؤلّف الأسلوب المسجّع الذي كان متعارفاً في تلك الأيام، إلا أنه في مؤلفاته التي كُتبت بعد هذا التاريخ ترك هذه «الصنعة» واعتمد على أساليب الكتابة الحديثة.

وقد ظهرت صفة المبالغة في وصف الأعلام الذي ترجم لهم تبعاً لمتطلبات هذه الطريقة السائدة في التعبير، والتي كانت تُعدّ من شواهد الكمال، وإتقان فنّ التأليف والكتابة.

بشكل عام يكشف الكتاب بقسميه الموسوعي والجدالي عن طبيعة العلاقة الترابطيّة بين طبقة الفقهاء، وبين أتباعهم من جهة، وتأثير هذه الطبقة في المجتمع الشيعي تبعاً للظروف السياسيّة والمجتمعيّة التي سادت الحقبة التي عايشها الإمام ودوّنّ أحداثها ومعارفها.

مقتطف من (منهج الرشاد)

خصّص الفقيه الشيخ جعفر كاشف الغطاء قدّس سرّه المقصد السادس من رسالته (منهج الرشاد لمن أراد السداد) المطبوعة بضميمة (العَبقات العنبريّة) لموضوع الاستغاثة، وممّا قاله في هذا الباب:

«لا يخفى أنّ الاستغاثة بالمخلوق على أنّه الفاعل المختار مُدخِلٌ للمستغيث في أقسام الكفّار، وإنّما المراد منه طلب الشفاعة وسؤال الدعاء.

وقد روى النسائيّ والترمذيّ في حديث الأعرابيّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله علّمه قول: (يَا مُحَمَّدُ إِنّي أَسْتَغيثُ بِكَ إِلى اللهِ)، ونحوه ما في حديث ابن حنيف.

وروى البيهقيّ في خبرٍ صحيح أنّه في أيّام عمر جاء رجلٌ إلى قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقال: يا محمّد استسقِ لأمّتك، فسُقوا.

وروى الطبرانيّ، وابن المقري، وأبو الشيخ أنّهم كانوا جياعاً، فجاؤوا إلى قبر النّبيّ صلّى الله عليه وآله، فقالوا: يا رسولَ الله الجوع، فأُشبعوا.

وروى البيهقيّ عن مالك الدار خازن عمر، قال: أصاب الناس قحط، فذهب إلى قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقال: استسقِ لأمّتك فقد هلكوا، فأتاه النبيّ صلّى الله عليه وآله في المنام، وقال له: قُلْ لعمر أنّهم سُقوا.

وفي قصّة إدريس أنّ المطر انقطع عن قومه عشرين سنة، فجاؤوا إليه يدعو لهم.

وفي الحقيقة أنّ المستغيث بالمخلوق إنْ أراد طلب الدعاء والشفاعة من المستغاث به، فلا بأس به، وإنْ أراد إسناد الأمور بالاستقلال إليه، فالمسلمون منه براء.

على أنّا بيّنا أنّ الاستغاثة بدار (زيد)، وصفاته، وغلمانه، وخدمه، وربّما أُريد بها الاستغاثة به، فيكون هذا أولى في بيان ذلّ المستغيث، وإنّه لا يرى لسانه أهلاً لأن يجري عليه اسم المولى، ولهذا ترى أنّ طاعة الله تُذكر بعدها طاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله، ورضاه يُذكر بعد رضى الله ورسوله، وإذا انفردت إحداهما دخلت فيها الأخرى.

روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال: (مَنْ أَطاعَني فَقَدْ أَطاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصاني فَقَدْ عَصا اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأميرَ فَقَدْ أَطاعَني، وَمَنْ يَعْصِ الأَميرَ فَقَدْ عَصاني).

وإنّما شرفُه بالعبوديّة والانقياد للحضرة القدسيّة، ولولا أمرُ الله ما سُمِع له كلام، ولا رُفِعَ له مقام، وليس بيننا وبينه ربطٌ سوى أمر الملك العلّام.

فالمستغيث إنْ طلب أصالةً واستقلالاً من المستغاث به، كان معوّلاً عليه في كلّ أمر يرجع إليه، وإلّا فالمستغاث به حقيقةً هو الذي تنتهي إليه الأمور.

وممّا يناسب نقله في هذا المقام ما نقله القتيبيّ، قال: كنتُ جالساً عند قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله، فجاء أعرابيّ فسلّم على النبيّ صلّى الله عليه وآله، ثمّ قال: ها أنا ذا يا رسول الله، فقد ظلمتُ نفسي، وأنا أستغفر الله واسألك يا رسول الله أن تستغفرَ لي. قال القتيبيّ: ثمّ نمتُ، فرأيت النبيّ صلّى الله عليه وآله في المنام، فقال: يا قتيبيّ! أدرِكْ الأعرابيّ وبشّره أنّه قد غَفر اللهُ له، قال: فأدركتُه وبشّرتُه».

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

09/12/2015

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات