الملف

الملف

07/03/2016

مقامُ الصِّدّيقَة الكبرى عليها السلام


 

مقامُ الصِّدّيقَة الكبرى عليها السلام

وراثةُ عِلم النبيّ صلّى الله عليه وآله، والشهادة على الخَلق

 

 

اقرأ في الملف

استهلال: «..وطاعتنا نظاماً للملّة»                           من خطبة الصدّيقة الكبرى عليها السلام

منزلة الزهراء عليها السلام عند الله تعالى                        العلامة الشيخ محمّد السند

مصحف فاطمة                                                 العلامة الشيخ محمد فاضل المسعودي

توريثُ الأنبياء                                                 آية الله السيّد عبد الحسين شرف الدين

آداب ولاية السيّدة الزهراء عليها السلام                             الشيخ حسين كوراني

 


 

 

 

 

استهلال

..وطاعتَنا نظاماً للمِلّة

«..ففرضَ اللهُ عليكم الإيمان تطهيراً لكم من الشِّرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكِبر، والزكاة تزييداً في الرزق، والصيام إثباتاً للإخلاص، والحجّ تشييداً للدين، والحقّ تسكيناً للقلوب، وتمكيناً للدِّين، وطاعتنا نظاماً للمِلّة، وإمامتنا لمَّاً للفُرقة، والجهاد عزّاً للإسلام، والصبر معونةً على الاستيجاب، والأمر بالمعروف مصلحةً للعامّة، والنهي عن المنكر تنزيهاً للدِّين، والبرّ بالوالدَين وقايةً من السَّخَط، وصِلةَ الأرحام منماةً للعدد، وزيادةً في العمر، والقَصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذور تعرّضاً للمغفرة، ووفاءَ المِكيال والميزان تغييراً للبَخس والتطفيف، واجتناب قذْف المُحصنة حجاباً عن اللعنة، والتناهي عن شرب الخمور تنزيهاً عن الرِّجس، ومجانبةَ السرقة إيجاباً للعفّة، والتنزّه عن أكل مال اليتيم والاستئثار به إجارةً من الظلم، والنهي عن الزنا تحصّناً من المَقت، والعدل في الأحكام إيناساً للرَّعِيّة، وترْكَ الجَور في الحكم إثباتاً للوعيد، والنهي عن الشرك إخلاصاً له بالربوبية.

فاتّقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون...».

من خطبة الصديقة الكبرى عليها السلام في المسجد النبويّ

(الطبري، دلائل الإمامة: ص 113)

 

 

         منزلة الزهراء عليها السلام عند الله تعالى

مقام القُرب فوق مقام الأبرار

ـــــــــــــــــــــــ العلامة المحقّق الشيخ محمّد السند ـــــــــــــــــــــ

من كتاب (مقامات فاطمة الزهراء عليها السلام في الكتاب والسنّة) للعلّامة المحقّق الشيخ محمّد السند هذا المقال الذي يتناول مقام الصدّيقة الكبرى السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام من حيث معرفتها بكتاب الله وبواطنه وعلومه، ومن حيث ولايتها التشريعية والتكوينية معاً، وأنّها شاهدةٌ لله تعالى على الخلق، وتُعرَضُ عليها أعمالهم.

«شعائر»

 

 

قال الله تعالى في سورة الدهر: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ الإنسان:5-9.

هذه الآيات وصفٌ لحال الأبرار الذين نعموا برضوان الله تعالى وكرامته وبيانٌ لمقامهم، وأظهرُ مصاديق هذا المقام الكريم أنّهم يشربون كأساً صفته (أنّه) ممزوجٌ بكافور.

ثمّ تنتقل الآية إلى وصف هذه العين التي هي شراب المقرّبين، وهي عينٌ يتولّى أمرها عبادُ الله إذ يفجّرونها تفجيراً، فمَن هم هؤلاء الذين يتولّون تفجير هذه العين وأمرها، ومن ثَمّ يسقون منها الأبرار؟

إنّ الآية تكفّلت ببيان هؤلاء المتولّين لأمر هذه العين وهم عباد الله الذين صفاتهم:

1 - يُوفون بالنذر.

2 - يخافون يوم القيامة الذي يكون شرّه مستطيراً مهولاً.

3 - يطعمون المسكين واليتيم والأسير لله تعالى، عطاءً خالصاً لا يرجون من غيره جزاءً ولا شكوراً.

فمَن هؤلاء إذاً؟

اتّفق الفريقان أنّها نزلت في عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

فقد أورد الحاكم الحسكاني في (شواهد التنزيل) بأربعةٍ وعشرين طريقاً أنّها نزلت في عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وخلاصة القصّة أنّهم، عليهم السلام، نذروا إن عُوفيَ الحسنان أن يصوموا لله تعالى ثلاثاً، فلمّا عُوفيا، وفَوا بنذرهم؛ فجاءهم في اليوم الأوّل مسكين فأعطوه طعامهم، وسألهم في اليوم الثاني يتيم فأعطوه طعامهم، ووقف ببابهم أسير فأعطوه طعامهم، فباتوا ثلاثاً طَاوِين، فأنزل الله بهم هذه الآيات، فثبتت صفة عباد الله الذين يفجّرون هذه العين لهم عليهم السلام.

فإذاً، هم الذين يفجّرون عين الكافور ويفيضون منها على الأبرار ليمتزج شرابهم بقليل من العين، أي أنّهم واسطة فيض على الأبرار ولهم القيمومة التامّة على ذلك، وهذا يطابق قيمومتهم على الأبرار وأنّهم المقرّبون في قوله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ المطففين:18-21.

قيمومة المقرّبين على الأبرار

فشهادة كتاب الأبرار من قبل المقرّبين دليلٌ على قيمومة المقرّبين على الأبرار وشهادتهم عليهم، فالمقرّبون هم الشهداء على كتاب الأبرار؛ أي على أعمالهم، ولذلك ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة: «أَنْتُمُ الصِّراطُ الأقْوَمُ، وَشُهَداءُ دارِ الْفَناءِ، وَشُفَعاءُ دارِ الْبَقاءِ..».

وفي موضعٍ آخَر من الزيارة: «..شُهَداءَ عَلى خَلْقِهِ وَأَعْلاماً لِعبادِهِ».

هذه هي شهادة المقرّبين وهيمنتُهم على الأبرار، والمقرّبون هؤلاء هم السابقون الذين وصفتهم الآية بقوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ الواقعة:10-11، مع أنّ سورة (الدهر) لم تزل في سياقات وصف المقرّبين وهم الذين يوفون بالنذر: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ الإنسان:7-18.

هذا حال المقرّبين، ويطابق هذا الوصف لعباد الله وارتفاع مقامهم عن الأبرار ما في سورة (المطفّفين) من قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ المطففين:18-28، فهذه الآيات تشير أيضاً إلى أنّ المقرّبين واسطة فيض للأبرار، وهم الذين يمزجون شراب الأبرار بشيءٍ من التسنيم، ولأنّهم وسطاء فيض فهم يشهدون أعمال الأبرار، وهذا يتطابق مع ما تقدّم من أنّ المُطهَّرين في هذا الشرع المقدّس، هم المعصومون، يمسّون الكتاب في اللّوح المحفوظ المكنون الذي يستطر فيه كلُّ غائبة، ومنها أعمال العباد؛ فالمطهّر هو المقرّب، وهم عباد الله الذين يسقون الأبرار من عينٍ يفجّرونها تفجيراً، وهذه العين هي عين الكافور، وهي عينٌ فوقَ مقام الأبرار، «والسلسبيلُ» الذي هو مصدر المقرّبين والعين التي يسقون منها هو رسول الله صلّى الله عليه وآله، إذ هو القيّم على المقرّبين الذين هم أهل البيت عليهم السلام، وهو مصدرهم. فتلخّص إذاً، أنّ الأبرار يُسقون كأساً ممزوجة بالكافور، والمقرّبون هم مصدر الأبرار، والسلسبيل مصدر المقرّبين التي يسقون ويُسقوْنَ منها.

على أنّ السقاية من العين وتفجيرها، تعني أنّ المقرّبين هم واسطة إفاضة على الأبرار، وهم يفيضون بالنور والعلم والحكمة والهداية على الأبرار، وهؤلاء المقرّبون هم عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، يُفاض عليهم من عين السلسبيل بواسطة رسول الله صلّى الله عليه وآله، فعلومهم وراثة من رسول الله صلّى الله عليه وآله، كما في الروايات الواردة عنهم، ما يعني أنّ المقرّبين هم في مقام الحجّيّة والقيمومة المهيمنة على الخلق؛ إذ قيمومتُهم تصدر من رسول الله صلّى الله عليه وآله، الذي ينصّ على حجّيّتهم وإمامتهم بأمر الله تعالى.

وبذلك يتّضح مقام فاطمة عليها السلام، وكونها إحدى وسائط الإفاضة على الخلق، النابعة من مصدر إلهيّ يمثّله رسول الله صلّى الله عليه وآله، وظهر أنّها شاهدة لله على الخَلق، وأنّها هادية لهم، وأنّها من الراسخين في العلم الذين يمسّون الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ، فهي من الذين أوتوا العلم وأُثبت في صدورهم، وأنها ممّن تُعرَض عليها أعمال العباد.

 

فاطمة عليها السلام من المطهَّرين الذين يمسّون الكتاب

وإذا ثبت أنّ المطهَّرين هم محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، بحكم آية التطهير: ﴿..إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ الأحزاب:33، فإنّ من خصوصيّات المطهَّرين أنّهم هم الذين يمسُّون كتاب الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ الواقعة:77-79، أي لا يعلمه إلّا المطهّرون، ولا يعني المسّ هنا مسّ نفس الوجود الخطّي والكتبي للقرآن الكريم، إذ لا معنى لذلك.

والآية في مقام الإشارة إلى مكنونية هذا الكتاب بمثل هذا القسَم المغلّظ الذي يتعلّق بالأمر الخبري لا الإنشائي، فلفظ (لا) في الآية نافية لا ناهية، بل قصد الإخبار، كما أنّه قد وصف الكتاب المكنون بأنّه الذي تنزّل منه القرآن المصحف الذي بين الدفّتَين، فالقرآن في الكتاب المكنون له حقيقة علويّة لا يتناولها إلا المطهّر المعصوم، فالحقيقة العُلويّة بعيدة عن أفهام الناس إلّا بواسطة المطهّرين، فالمطهّرون هم أهل بيانه وتفسيره ومعرفته، وهم العالمون ببطونه وعلومه: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ الزخرف:4، ولا يعلم تأويل الكتاب إلّا الراسخون في العلم: ﴿..وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ آل عمران:7.

قال أبو عبد الله عليه السلام: «نَحْنُ الرَّاسِخونَ في العِلْمِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ تَأْويلَهُ». وإذا ثبت أنّ المطهّرين هم المقرَّبون، كما تقدّم ذكره من أنّ المقرّبين هم عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فإنّ الكتاب المكنون لا يمسّه إلّا (المقرّبون).

أخرج السيوطي عن ابن مردويه بسندٍ رواه عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ الواقعة:77-78، قال: «عِنْدَ اللهِ في صُحُفٍ مُطَهَّرَةٍ»، ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ قال: «المُقَرَّبونَ».

وإذا كان المطهّرون [هم] المقرّبين الذين يمسّون الكتاب، ويعلمون تأويل بواطنه، فإنّ لهم الحجّيّة من الله تعالى على الخلق؛ إذ الحجّة هو الموصل لمعرفة الطريق إلى الله، ومن هنا نعلم أنّ إحاطتهم، عليهم السلام، بكلّ شيءٍ دليلُ حجيّتهم، إذ علمُهم بالكتاب يعمّ علمَهم بكلّ شيء، فالكتاب محفوظٌ فيه علمُ كلّ شيء لقوله تعالى: ﴿..وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ الأنعام:59، فالحجّيّة تعني ولايتَهم على الخلق بقسمَيها:

1) ولايتهم التشريعية المنبعثة من مقام علمهم بالكتاب الذي يضمّ علم كلّ شيء، إذ الولاية التشريعية لا تتمّ إلّا بمعرفة أحكام كلّ شيء، فهي من لوازم العلم.

2) وبحكم علمهم بكتاب الله فإنّ لهم الولاية التكوينية على الخلق، إذ هذا القرآن بحقيقته العلمية المكنونة التكوينية الملكوتية الذي لا يعلمه إلّا المطهّرون، موصوفٌ بقابلياته الإلهيّة المودَعة فيه: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى..﴾ الرعد:31، وقوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ..﴾ النمل:40.

فالحجيّة هي المقام الإلهيّ المنبعثة منها ولايتهم عليهم السلام بقسمَيها. وبهذا سيتمّ لنا معرفة مقام فاطمة عليها السلام من حيث معرفتها بكتاب الله وبواطنه وعلومه، ومن حيث ولايتها التشريعية والتكوينية معاً. وقد رُويت في عرض ولايتها على الخلق كباقي ولاية أصحاب الكساء والأئمّة المعصومين عليهم السلام روايات عديدة، فلاحظ.

 

مُصحف فاطمة

أعظمُ مناقب الزهراء عليها السلام

ـــــــــــــــــــــــــ العلامة الشيخ محمّد فاضل المسعودي ـــــــــــــــــــــــــ

من أعظم مناقب السيّدة الزهراء عليها السلام علمُها اللدُّنيّ الذي عُرف عند المسلمين بـ«مصحف فاطمة».

في هذه المقالة للباحث الإسلامي الشيخ محمّد فاضل المسعودي عرضٌ وشرحٌ للمصحَف المتضمّن العلمَ الفاطميّ، وذلك استناداً إلى الروايات الشريفة وما دوّنه علماء ومحقّقو الإمامية في هذا الصدد.

«شعائر»

 

«المُصحَف» في اللّغة:

* (لسان العرب): «المُصْحَفُ والمِصْحَفُ: الجامع للصُّحُف المكتوبة بين الدَّفَّتَيْنِ كأَنّه أُصْحِفَ، والكَسر والفَتح فيه لغة».

* (المصباح المنير): «والصحيفة قطعة من جِلد أو قرطاس كُتب فيه... والجمع صُحُف بضمّتين وصحائف... والمُصحف بضمّ الميم أشهر من كسرها».

* (أقرب الموارد): «المُصحف اسم مفعول... وحقيقتها مجمع الصحف أو ما جُمع منها بين دفّتَي الكتاب المشدود... وفيه لغتان أُخريان وهما المِصحف والمَصحف والجمع مصاحف».

يظهر من هذه المعاني أنّ المُصحف ما جُمِعَ فيه الصحف، وليس كما يُدَّعى أنّه قرآنٌ غير هذا القرآن الموجود.

وهناك شواهد أخرى تثبت هذه الحقيقة حيث ورد في حديثٍ رواه في (بصائر الدرجات) عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «.. وَإِنَّ عِنْدَنا لَمُصْحَفَ فاطِمَةَ عَلَيْها السَّلامُ، وَما يُدْريهِم ما مُصْحَفُ فاطِمَةَ!؟

قال: مُصْحَفٌ فيهِ مِثْلُ قُرْآنِكِمْ هَذا ثَلاثَ مَرّاتٍ، وَاللهِ ما فيهِ مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ واحِدٌ، إِنَّما هُوَ شَيْءٌ أَمْلاهُ اللهُ وَأُوحِيَ إِلَيْها.

قال الراوي: قلت: هذا واللهِ العِلم..».

إن هذا الحديث يعطي دلالة واضحة على أنّ مصحف فاطمة، سلامُ الله عليها، يختلف اختلافاً كبيراً عمّا في القرآن الكريم من جهة مضمونه.

* وقد علّق العلّامة السيّد محسن الأمين العاملي رحمه الله، في (أعيان الشيعة)، على هذه المسألة بقوله: «لا يخفى أنه تكرّر نفيُ أن يكون فيه شيءٌ من القرآن، والظاهر أنّه لكون تسميته بمصحف فاطمة يوهم أنّ أحداً قد نسخ المصاحف الشريفة، فنفى [عليه السلام] هذا الإيهام، وفي بعض الأحاديث أن فيه وصيّتها، ولعلّها أحد محتوياته، ثمّ إنّ بعضها دالٌّ على أنّه من إملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وخطّ عليٍّ عليه السلام».

* وعلّق العلّامة الخطيب محمّد كاظم القزويني رحمه الله، في كتابه (فاطمة عليها السلام من المهد إلى اللحد) على هذه الرواية بقوله: «وليس معناه أنّ القرآن الموجود بين أيدينا ناقص، وأنّ مصحف فاطمة مكمّلٌ له، كلّا وألف كلّا، وليس معناه أنّ الله أنزل على فاطمة عليها السلام قرآناً، وكلّ من ادّعى غير هذا فهو إمّا جاهل أو معاندٌ مفتَرٍ كذّاب».

* أقول: يظهر من أقوال علماء الشيعة الإمامية، وممّا ورد في أحاديث أهل البيت أن مسألة «مصحف فاطمة عليها السلام» ممّا أجمعت عليها الشيعة؛ فهم يعتقدون به، ويعتبرونه من المواريث التي تركتها فاطمة سلام الله عليها لأبنائها الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ولا يظهر هذا المصحف إلا بظهور الحجّة بن الحسن العسكري عجّل الله تعالى فرجه الشريف، باعتباره الوريث الشرعي لجدّته الزهراء سلام الله عليها.

مصحف فاطمة في الأحاديث الشريفة

1) (بصائر الدرجات) للصفّار: في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام: «.. وَمُصْحَفُ فاطِمَةَ ما أَزْعُمُ أَنَّ فيهِ قُرْآناً، وَفيهِ ما يَحْتاجُ النّاسُ إِلَيْنا، وَلا نَحْتاجُ إِلى أَحَدٍ، حَتَّى أَنَّ فيهِ الجَلْدَةَ وَنِصْفَ الجَلْدَةِ وَثُلُثَ الجَلْدَةِ وَرُبْعَ الجَلْدَةِ وَأَرْشَ الخَدْشِ».

2) (بصائر الدرجات): في حديثٍ طويل عنه عليه السلام: «.. وَإِنَّ عِنْدَنا لَمُصْحَفَ فاطِمَةَ عَلَيْها السَّلامُ، وَما يُدْريهِمْ ما مُصْحَفُ فاطِمَةَ!؟

قال: مُصْحَفٌ فيهِ مِثْلُ قُرْآنِكِمْ هَذا ثَلاثَ مَرّاتٍ، وَاللهِ، ما فيهِ مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ واحِدٌ، إِنَّما هُوَ شَيْءٌ أَمْلاهُ اللهُ وَأُوحِيَ إِلَيْها.

قال الراوي: قلت: هذا والله العلم..».

3) (بصائر الدرجات): في حديث آخر: «.. وَخَلَّفَتْ فاطِمَةُ مُصْحَفاً ما هُوَ قُرْآنٌ، وَلَكِنَّهُ كَلامٌ مِنْ كَلامِ اللهِ أُنْزِلَ عَلَيْها، إِمْلاءُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَخَطُّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ».

4) (بصائر الدرجات): عن الإمام الصادق عليه السلام، قيلَ له: «إنّ عبدَ الله بن الحسن يزعمُ أنّه ليس عنده من العلم إلّا ما عند الناس، فقال عليه السلام:

صَدَقَ وَاللهِ، ما عِنْدَهُ مِنَ العِلْمِ إِلّا ما عِنْدَ النّاسِ، وَلَكِنَّ عِنْدَنا، وَاللهِ، الجامِعَةَ فيها الحَلالُ وَالحَرامُ؛ وَعِنْدَنا الجَفْرُ، أَفَيَدري عَبْدُ اللهِ مَا الجَفْر؟ أَمِسْكُ بَعيرٍ أَمَ مِسْكُ شاةٍ؟

وَعِنْدَنا مُصْحَفُ فاطِمَةَ، أَما، وَاللهِ، ما فيهِ حَرْفٌ مِنَ القُرْآنِ، وَلَكِنَّهُ إِمْلاءُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَخَطُّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ.

كَيْفَ يَصْنَعُ عَبْدُ اللهِ إِذا جاءَهُ النّاسُ مِنْ كُلِّ فَنٍّ يَسْأَلونَهُ؟ أَما تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونوا، يَوْمَ القِيامَةِ، آخِذينَ بِحُجْزَتِنا، وَنَحْنُ آخِذونَ بِحُجْزَةِ نَبِيِّنا، وَنَبِيُّنا آخِذٌ بِحُجْزَةِ رَبِّهِ».

5) (بحار الأنوار): عن حمّاد بن عثمان قال: «سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول: تَظْهَرُ زَنادِقَةٌ سَنَةَ ثَمانِيَةٍ وَعِشْرينَ وَمائَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنّي نَظَرْتُ في مُصْحَفِ فاطِمَةَ.

قال: فقلتُ: وما مصحف فاطمة؟

فقال: إِنَّ اللهَ، تَبارَكَ وَتَعالى، لَمّا قَبَضَ نَبِيَّهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلى فاطِمَةَ مِنْ وَفاتِهِ مِنَ الحُزْنِ ما لا يَعْلَمُهُ إِلّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْها مَلَكاً يُسَلِّي عَنْها غَمَّها وَيُحَدِّثُها، فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلى أَميرِ المُؤْمِنينَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقالَ لَها: إِذا أَحْسَسْتِ بِذَلِكَ وَسَمِعْتِ الصَّوْتَ قُولِي لِي. فَأَعْلَمَتْهُ، فَجَعَلَ يَكْتُبُ كُلَّ ما سَمِعَ حَتَّى أَثْبَتَ مِنْ ذَلِكَ مُصْحَفاً.

قال: ثمّ قال: أَما إِنَّهُ لَيْسَ الحَلالَ وَالحَرامَ، وَلَكِنْ فيهِ عِلْمُ ما يَكونُ».

6) (بحار الأنوار): في حديثٍ آخر قال له الراوي: «..فمصحفُ فاطمة؟

فسكت طويلاً ثمّ قال: إِنَّكُمْ لَتَبْحَثونَ عَمّا تُريدونَ وَعَمّا لا تُريدونَ، إِنَّ فاطِمَةَ مَكَثَتْ بَعْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةً وَسَبْعينَ يَوْماً، وَقَدْ كانَ دَخَلَها حُزْنٌ شَديدٌ عَلى أَبيها، وَكانَ جَبْرَئيلُ يَأْتيها فَيُحْسِنُ عَزاءَها عَلى أَبيها، وَيُطَيِّبُ نَفْسَها، وَيُخْبِرُها عَنْ أَبيها وَمَكانِهِ، وَيُخْبِرُها بِما يَكونُ بَعْدَها في ذُرِّيَّتِها، وَكانَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ يَكْتُبُ ذَلِكَ، فَهَذا مُصْحَفُ فاطِمَةَ عَلَيْها السَّلامُ».

7) (دلائل الإمامة) للطبريّ: عن أبي بصير قال: «سألتُ أبا جعفر محمّدَ بن علي (الباقر) عليهما السلام عن مصحف فاطمة، فقال: أُنْزِلَ عَلَيْها بَعْدَ مَوْتِ أَبيها.

قلت: فَفيه شيءٌ من القرآن؟ فقال: مَا فيهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ.

قلت فصِفه لي، قال: لَهُ دَفَّتانِ مِنْ زَبَرْجَدَتَيْنِ عَلى طُولِ الوَرَقِ وَعَرْضِهِ حَمْراوَين.

قلت: جُعلت فداك، فَصِفْ لي ورقَه، قال: وَرَقُهُ مِنْ دُرٍّ أَبْيَضَ، قيلَ لَهُ: كُنْ فَكانَ.

قلت: جعلت فداك فما فيه؟ قال: فيهِ خَبَرُ ما كانَ وَخَبَرُ ما يَكونُ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ، وَفيهِ خَبَرُ سَماءٍ سَماءٍ، وَعَدَدُ ما في السَّماواتِ مِنَ المَلائِكَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَعَدَدُ كُلِّ مَنْ خَلَقَ اللهُ مُرْسَلاً وَغَيْرَ مُرْسَلٍ وَأَسْماؤُهُمْ، وَأَسْماءُ الّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ، وَأَسْماءُ مَنْ كَذَّبَ وَمَنْ أَجابَ مِنْهُم، وَفِيهِ أَسْماءُ جَميعِ مَنْ خَلَقَ اللهُ مِنَ المُؤْمِنينَ وَالكافِرينَ مِنَ الأَوَّلينَ وَالآخِرينَ، وَأَسْماءُ البُلْدانِ، وَصِفَةُ كُلِّ بَلَدٍ في شَرْقِ الأَرْضِ وَغَرْبِها، وَعَدَدُ مَا فِيهَا مِنَ المُؤْمِنينَ، وَعَدَدُ مَا فِيهَا مِنَ الكافِرينَ، وَصِفَةُ كُلِّ مَنْ كَذَّبَ، وَصِفَةُ القُرونِ الأُولى وَقِصَصُهُمْ، وَمَنْ وُلِّيَ مِنَ الطَّواغيتِ وَمُدَّةُ مُلْكِهِمْ وَعَدَدُهُمْ، وَفِيهِ أَسْماءُ الأَئِمَّةِ وَصِفَتُهُمْ وَما يَمْلِكُ، واحِداً واحِداً، وَفِيهِ صِفَةُ كَرَّاتِهِم [الكرّة: الرجعة]، وَفِيهِ صِفَةُ جَميعُ مَنْ تَرَدَّدَ في الأَدْوارِ مِنَ الأَوَّلينَ وَالآخِرينَ.

- قلت: جُعلت فداك، وكم الأدوار؟ قال: خَمْسونَ أَلْفَ عامٍ، وَهِيَ سَبْعَةُ أَدْوارٍ - وَفيهِ أَسْماءُ جَميعِ مَنْ خَلَقَ اللهُ - مِنَ الأَوَّلينَ وَالآخِرينَ - وَآجالُهُمْ، وَصِفَةُ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَعَدَدُ مَنْ يَدْخُلُها، وَعَدَدُ مَنْ يَدْخُلُ النّارَ، وَأَسْماءُ هَؤُلاءِ َأَسْماءُ هَؤُلاءِ، وَفيهِ عِلْمُ القُرْآنِ كَما أُنْزِلَ، وَعِلْمُ التَّوْراةِ كَما أُنْزِلَتْ، وَعِلْمُ الإِنْجيلِ كَما أُنْزِلَ، وَعِلْمُ الزَّبُورِ، وَعَدَدُ كُلِّ شَجَرَةٍ وَمَدَرَةٍ في جَميعِ البِلادِ.

قال أبو جعفر عليه السلام: وَلَمّا أَرادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يُنَزِّلَهُ عَلَيْها، أَمَرَ جَبْرَئيلَ وَميكائيلَ وَإِسْرافيلَ أَنْ يَحْمِلوا المُصْحَفَ فَيَنْزِلوا بِهِ عَلَيْها، وَذَلِكَ في لَيْلَةِ الجُمُعَةِ مِنَ الثُّلُثِ الثّاني مِنَ اللَّيْلِ، (فَـ)هَبَطُوا بِهِ عَلَيهَا وَهِيَ قائِمَةٌ تُصَلِّي، فَمَا زَالوا قِياماً حَتَّى قَعَدَتْ، فَلَمّا فَرَغَتْ مِنْ صَلاتِها سَلَّموا عَلَيْها وَقالُوا لَهَا: السَّلامُ يُقْرِئُكِ السَّلامَ، وَوَضَعُوا المُصْحَفَ في حِجْرِها، فَقالَتْ لَهُم: اللهُ السَّلامُ، وَمِنْهُ السَّلامُ، وَإِلَيْهِ السَّلامُ، وَعَلَيْكُمْ يا رُسُلَ اللهِ السَّلامُ. ثُمَّ عَرَجُوا إِلى السَّماءِ.

فَما زالَتْ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الفَجْرِ إِلى زَوالِ الشَّمْسِ تَقْرَأُهُ حَتَّى أَتَتْ عَلى آخِرِهِ.

وَلَقَدْ كانَتْ، صَلَواتُ اللهِ عَلَيهَا، طَاعَتُها مَفْروضَةٌ عَلى جَميعِ مَنْ خَلَقَ اللهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ، وَالطَّيْرِ وَالوَحْشِ، وَالأَنْبِياءِ وَالمَلائِكَةِ.

فقلتُ: جُعلت فداك، فَلِمَن صار ذلك المصحف بعد مضيّها؟ قال: دَفَعَتْهُ إِلى أَميرِ المُؤْمِنينَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمّا مَضَى صَارَ إلى الحَسَنِ، ثُمَّ إِلى الحُسَيْنِ، عَلَيْهِما السَّلامُ، ثُمَّ عِنْدَ أَهْلِهِ حَتَّى يَدْفَعُوهُ إِلى صاحِبِ هَذا الأَمْرِ.

فقلت: إنّ هذا العلم كثير!

قال: يا أَبا مُحَمَّدٍ، إِنَّ هَذا الّذي وَصَفْتُهُ لَكَ لَفِي وَرَقَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِهِ، وَمَا وَصَفْتُ لَكَ بَعْدُ مَا في الوَرَقَةِ الثّالِثَةِ، وَلا تَكَلَّمْتُ بِحَرْفٍ مِنْهُ».

وختاماً للبحث نذكر ما قاله العلّامة الهمداني في كتابه (فاطمة عليها السلام بهجة قلب المصطفى صلّى الله عليه وآله) حول وجوه الاستفادة من الأخبار في شأن «مُصْحَفُ فاطِمَةَ سَلامُ اللهِ عَلَيْها»:

منها: ما يدلّ على أنّ الله تعالى أرسل إليها ملَكاً، أو أنّ جبرئيل كان يأتيها بعد قبضِ نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، يحدّثها عليه السلام، ويكتبُ ذلك أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام، كما في الحديثَين من (البحار). (5-6)

ومنها: ما يدلّ على أنّ مصحف فاطمة عليه السلام كان موجوداً في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما لاحظتَ في حديث (بصائر الدرجات) بقوله عليه السلام: « وَلَكِنَّهُ إِمْلاءُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَخَطُّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ». (3)

ومنها: ما يدلّ على أن الله عزّ وجلّ أوحى إليها كما لاحظتَ في الحديث من (البصائر) بقوله عليه السلام: «إِنَّما هُوَ شَيْءٌ أَمْلاها اللهُ وَأُوحِيَ إِلَيْها». (2)

ويُستفاد أيضا أنّ مصحفها سلام الله عليها يشتملُ على جميع الأحكام الشرعية من نصف الجَلدة أو جَلدة واحدة وحتّى أَرْش الخدش، وأنّ فيه أسماء جميع الناس والكائنات جميعها من الشجر والمدَر وغير ذلك كما في حديث (دلائل الإمامة)، وفيه ذكر الحوادث المهمّة إلى يوم القيامة. ويستفاد أيضاً أن هذا «المصحف» الجليل هو من مصادر علوم أهل البيت عليهم السلام، وكانوا يرجعون إليه.

 

توريثُ الأنبياء

الدليل الإلهي على حقّ الزهراء عليها السلام

ــــــــــــــــــــــــــــــ آية الله السيّد عبد الحسين شرف الدين رحمه الله ــــــــــــــــــــــــــــــ

تقديسُ الزهراء عليها السلام وعظَمةُ منزلتها الإلهية هي محلّ إجماع المسلمين شيعةً وسُنّة. وإذا كان هذا الإجماع من بديهيّات اعتقاد أبناء الأمة الإسلامية، فإن مسائل أُخَر كانت مدار الاختلاف في الرأي والاجتهاد بين علماء الطائفتين. منها على سبيل المثال قضية الميراث والتوريث بالنسبة للأنبياء عموماً وللنبيّ الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم عل وجه الخصوص.

في هذه المقالة للعلم الراحل السيد عبد الحسين شرف الدين رضوان الله عليه توكيد إجماع المسلمين على تقديس الزهراء عليها السلام، وذلك في إطار بحثه تحت عنوان: «توريثُ الأنبياء» الوارد في كتابه المعروف (النصّ والاجتهاد).

في هذا المقال يبيّن العلامة المقدّس بالأدلة القرآنية وبالاستناد إلى الصحيحَين حقّ الزهراء عليها السلام بالميراث.

«شعائر»

المنصوصُ عليه بعموم قوله عزّ من قائل: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ النساء:7.

وقولِه تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ..﴾ النساء:11، إلى آخر آيات المواريث، وكلّها عامّة تشمل رسول الله صلّى الله عليه وآله فمَن دونه من سائر البشر فهي على حدّ قوله عزّ وجلّ: ﴿..كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ..﴾ البقرة:183.

وقولِه سبحانه وتعالى: ﴿..فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ..﴾ البقرة:184.

وقولِه تبارك وتعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ..﴾ المائدة:3.

ونحو ذلك من آيات الأحكام الشرعية يشترك فيها النبيّ صلّى الله عليه وآله وكلّ مكلّف من البشر، لا فرق بينه وبينهم، غير أنّ الخطاب فيها متوجّه إليه ليعمل به وليبلّغه إلى من سواه، فهو من هذه الحيثية أولى في الالتزام بالحكم من غيره.

ومنها: قوله عزّ وعلا ﴿.. وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ..﴾ الأنفال:75، جعل الله عزّ وجلّ في هذه الآية الكريمة، الحقّ في الإرث لأولي قرابات الموروث، وكان التوارث قبل نزولها من حقوق الولاية في الدين، ثمّ لمّا أعزّ الله الإسلام وأهله نسخ بهذه الآية ما كان من ذي حقّ في الإرث قبلها، وجعل حقّ الإرث منحصراً بأولي الأرحام الأقرب منهم للموروث فالأقرب مطلقاً، سواء أكان الموروث هو النبيّ صلّى الله عليه وآله أم كان غيره، وسواء أكان الوارث من عصبة الموروث أم من أصحاب الفرائض، أم كان من غيرهما عملاً بظاهر الآية الكريمة.

 ومَن راجع صحاح السُّنَن الواردة في تشريع المواريث وجدها بأسرها عامّة تشمل النبيّ صلّى الله عليه وآله وغيره على حدّ قوله صلّى الله عليه وآله - من حديث أخرجه الشيخان كلاهما في كتاب الفرائض من صحيحيهما: «وَمَنْ تَرَكَ مالاً فَلِوَرَثَتِهِ».

ومنها: قوله تعالى فيما اقتصّ من خبر زكريا: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ مريم:3-6.

احتجّت الزهراء والأئمّة من بنيها، بهذه الآية المتقدّمة، على أنّ الأنبياء يورّثون المال، وأن الإرث المذكور فيها إنّما هو المال لا العلم ولا النبوّة، وتبعهم في ذلك أولياؤهم من أعلام الإمامية كافة. فقالوا: «إنّ لفظ الميراث في اللغة والشريعة لا يطلق إلا على ما ينتقل من الموروث إلى الوارث كالأموال، ولا يستعمل في غير المال إلا على طريق المجاز والتوسّع، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة».

وأيضاً، فإنّ زكريا عليه السلام قال في دعائه: ﴿..وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ أي اجعل يا ربّ ذلك الوليّ الذي يرثني مرضيّاً عندك. ممتثلاً لأمرك، ومتى حملنا الإرث على النبوّة لم يكن لذلك معنى وكان لغواً عبثاً. ألا ترى أنّه لا يحسن أن يقول أحد: «اللّهمّ ابعث لنا نبيّاً واجعله عاقلاً مرضيّاً في أخلاقه». لأنّه إذا كان نبيّاً فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في النبوّة.

ويقوّي ما قلناه أن زكريا، عليه السلام، صرّح بأنّه يخاف بني عمّه بعده بقوله: ﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي..﴾ وإنما يطلب وارثاً لأجل خوفه، ولا يليق خوفه منهم إلّا بالمال دون النبوّة والعلم، لأنّه، عليه السلام، كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيّاً من هو ليس بأهل للنبوّة، وأن يورث علمه وحكمته مَن ليس لهما بأهل، ولأنّه إنّما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس، فكيف يخاف الأمر الذي هو الغرض في بعثته؟!

فإن قيل: هذا يرجع عليكم في وراثة المال لأن في ذلك إضافة البخل إليه.

فالجواب: معاذ الله أن يستوي الأمران، فإنّ المال قد يرزقه المؤمن والكافر والصالح والطالح، ولا يمتنع أن يأسى على بني عمّه إذ كانوا من أهل الفساد أن يظفروا بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي، بل في ذلك غاية الحكمة، فإنّ تقوية أهل الفساد، وإعانتهم على أفعالهم المذمومة محظورة في الدين والعقل، فمن عدّ ذلك بخلاً فهو غير منصف.

وقوله تعالى: ﴿..وإنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي..﴾ يفهم منه أنّ خوفه إنّما كان من أخلاقهم وأفعالهم، والمراد خفت الموالي أن يرثوا بعدي أموالي فينفقوها في معاصيك، فهب لي يا ربّ ولداً رضيّاً يرثها ليُنفقها فيما يرضيك.

وبالجملة لا بدّ من حمل الإرث في هذه الآية على إرث المال دون النبوّة وشبهها حملاً للفظ «يرثني» من معناه الحقيقي المتبادر منه إلى الأذهان، إذ لا قرينةَ هنا على النبوّة ونحوها، بل القرائن في نفس الآية متوفّرة على إرادة المعنى الحقيقي دون المجاز. وهذا رأي العترة الطاهرة في الآية. وهم أعدالُ الكتاب لا يفترقان أبداً.

وقد علم الناس ما كان بين الزهراء سيّدة نساء العالمين، وبين أبي بكر، إذ أرسلت إليه تسأله ميراثها من رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال أبو بكر: «إن رسول الله قال: لا نوّرث ما تركناه صدقة».

[و] هذا الحديث ردّته الزهراء والأئمّة من بنيها، وهو - بألفاظه هذه الثابتة في باب غزوة خيبر من صحيح البخاري - لا يصلح لأن يكون حجّة عليها. إلّا أن يكون لفظه (صدقة) مرفوعاً على الإخبار به عن (ما) الموصولة في قوله (ما تركناه)، ولا سبيل إلى إثبات ذلك إذ لعلّ (ما) هذه في محلّ النصب على المفعولية  لـ(تركناه)، وتكون (صدقة) حالاً من (ما)، فيكون المعنى أن ما نتركه في أيدينا من الصدقات لا حقّ لوارثنا فيه.

[وعن] عائشة: «فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منه شيئاً، واستأثر لبيت المال بكلّ ما تركه النبيّ صلّى الله عليه وآله من بُلغة العيش، لا يبقي ولا يذر شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت، وعاشت بعد النبيّ ستّة أشهر، فلما توفّيت دفنها زوجها عليّ ليلاً بوصية منها، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلّى عليها». الحديث.

ثم غضبت الزهراء عليها السلام على أثارة  واستقلّت غضباً فلاثت خمارها واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لُمّةٍ من حفَدَتها (أي خادماتها) ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى دخلت على أبي بكر، وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنِيطت دونها ملاءة ثمّ أنّت أنّةً أجهش لها القوم بالبكاء. وارتجّ المجلس، فأمهلتهم حتّى إذا سكن نشيجهم، وهدأت فورتهم افتتحت الكلام «بحمد الله عزّ وجلّ»، ثمّ انحدرت في خطبتها تعِظ القوم في أتمّ خطاب - (حكت المصطفى به وحكاها) - فخشعت الأبصار، وبخعت النفوس، ولولا السياسة ضاربة يومئذٍ بجرانها لردّت شوارد الأهواء، وقادت حرون الشهوات، ولكنّها السياسة توغل في غاياتها لا تلوي على شيء، ومن وقف على خطبتها في ذلك اليوم عرف ما كان بينها وبين القوم. حيث أقامت على إرثها آيات محكمات، حُججاً لا تردّ ولا تكابر، فكان ممّا أدلت به يومئذٍ أن قالت: «أَعَلى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتابَ اللهِ وَنَبَذْتموهُ وَراءَ ظُهورِكُمْ؟

إِذ يَقولُ: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ..﴾ النمل:16. وَقالَ فيما اقْتَصَّ مِنْ خَبَرِ زَكَرِيّا: ﴿.. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾.

وَقالَ: ﴿.. وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ..﴾.

وَقالَ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ..﴾.

وَقالَ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ البقرة:180».

ثمّ قالت: «أَخَصَّكُمُ اللهُ بِآيَةٍ أَخْرَجَ مِنْهَا أَبي؟ أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصوصِ القُرْآنِ وَعُمومِهِ مِنْ أَبي وَابْنِ عَمِّي؟! أَمْ تَقولونَ: أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لا يَتَوارَثانِ؟!».

فانظر كيف احتجّت أولّاً: على توريث الأنبياء بآيتَي داود وزكريا الصريحتَين بتوريثهما. ولعمري أنّها، عليها السلام، أعلم بمفاد القرآن ممن جاؤوا متأخّرين عن تنزيله، فصرفوا الإرث هنا إلى وراثة الحكمة والنبوّة دون الأموال، تقديماً للمجاز على الحقيقة بلا قرينة تصرف اللّفظ عن معناه الحقيقي المتبادر منه بمجرّد الإطلاق، وهذا ممّا لا يجوز، ولو صحّ هذا التكلّف لعارضها به أبو بكر يومئذ أو غيره ممّن كان في ذلك الحشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم.

على أنّ هناك قرائن تعيّن وراثة الأموال كما بيّناه سابقاً.

واحتجّت ثانياً: على استحقاقها الإرث من أبيها، صلّى الله عليه وآله، بعموم آيات المواريث وعموم آية الوصية، منكرةً عليهم تخصيص العمومات بلا مخصّص شرعي من كتاب أو سنّة.

وما أشدّ إنكارها إذ قالت: أخصّكم الله بآية أخرج منها أبي؟ فنفت بهذا الاستفهام الإنكاري وجود المخصّص في الكتاب.

ثمّ قالت: أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟ فنفت بهذا الاستفهام التوبيخي وجود المخصّص في السُّنّة.

بل نفتْ وجوده مطلقاً، إذ لو كان ثمّة مخصّص لبيّنه لها النبيّ والوصيّ ويستحيل عليهما الجهل به لو كان في الواقع موجوداً، ولا يجوز عليهما أن يُهملا تبيينه لها لما في ذلك من التفريط في البلاغ، والتسويف في الإنذار، والكتمان للحقّ، والاغراء بالجهل، والتعريض لطلب الباطل، والتغرير بكرامتها، والتهاون في صونها عن المجادلة والمجابهة والبغضاء والعداوة بغير حقّ، وكلّ ذلك محال ممتنع عن الأنبياء وأوصيائهم.

وبالجملة كان كَلَف [الكلَف بمعنى الحُبّ والعناية] النبيّ، صلّى الله عليه وآله، ببضعته الزهراء وإشفاقه عليها فوق كَلَفِ الآباء الرحيمة، وإشفاقهم على أبنائهم البررة، يؤويها إلى الوارف من ظلال رحمته، ويفديها بنفسه مسترسلاً إليها بأنسه.

وكان يحرص بكلّ ما لديه على تأديبها وتهذيبها وتعليمها وتكريمها حتّى بلغ في ذلك كلّ غاية، يزقّها المعرفة بالله والعلم بشرائعه زقّاً، لا يألو في ذلك جهداً، ولا يدّخر وسعاً حتّى عرج بهما إلى أوج كلّ فضل، ومستوى كلّ كرامة. فهل يمكن أن يكتم عليها أمراً يرجع إلى تكليفها الشرعي؟ حاشا لله، وكيف يمكن أن يعرّضها - بسبب الكتمان - لكلّ ما أصابها من بعده في سبيل الميراث... بل يعرّض الأمة للفتنة التي ترتّبت على منع إرثها.

وما بالُ زوجها خليل النبوّة، والمخصوص بالأخوّة، لم يسمع حديث «لا نورّث» مع ما آتاه الله من العلم والحكمة، والسّبق، والصّهر، والقرابة، والكرامة والمنزلة، والخصيصة، والولاية، والوصاية، والنجوى؟

وما بال رسول الله، صلّى الله عليه وآله، يكتم ذلك عنه، وهو حافظ سرّه، وكاشف ضرّه وباب مدينة علمه، وباب دار حكمته، وأقضى أمّته، وباب حطّتها، وسفينة نجاتها وأمانها من الاختلاف.

وما بال الهاشميّين كافّة وهم عَيبته... لم يبلغهم الحديث حتّى فوجئوا به بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله.

وما بال أمّهات المؤمنين يَجهلنَه فيُرسلن عثمان يسأل لهنّ ميراثهنّ من رسول الله صلّى الله عليه وآله؟ وكيف يجوز على رسول الله، صلّى الله عليه وآله، أن يبيّن هذا الحكم لغير الوارث ويدع بيانه للوارث؟

ما هكذا كانت سيرته، صلّى الله عليه وآله، إذ يصدع بالأحكام فيبلّغها عن الله، عزّ وجلّ، ولا هذا هو المعروف عنه في إنذار عشيرته الأقربين، ولا مشْبهٌ لما كان يعاملهم به من جميل الرعاية وجليل العناية.

بقيَ للطاهرة البتول كلمة استفزّت بها حميّة القوم، واستثارت حفائظَهم، بلغت بها أبعد الغايات، ألا وهي قولها: «أَمْ تَقولونَ: أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لا يَتَوارَثانِ؟!»، تريد بهذا أنّ عمومات المواريث لا تتخصّص بمثل ما زعمتم، وإنما تتخصّص بمثل قوله صلّى الله عليه وآله: «لا تَوارُثَ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ»، وإذاً فهل تقولون، إذ تمنعونني الإرث من أبي: إنّي لستُ على ملّته، فتكونون - لو أثبتّم خروجي عن الملّة - على حجّة شرعية فيما تفعلون. فإنّا لله وإنا إليه راجعون.

 

آداب ولاية السيّدة الزهراء عليها السلام

وأخطر الحُجُب دونها

ـــــــــــــــــــــــــــــــ الشيخ حسين كوراني* ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 

تتحكّم الصورة الذهنيّة عن أيّ شخص بالموقف منه إيجاباً وسلباً. على هذا الأساس ينبغي طرح هذا السّؤال: ما هي الصّورة في أذهاننا – عادةً - عن الصِّدِّيقة الكبرى وعظمة شخصيّتها الإلهيّة الفريدة؟

قد يحلو للكثير منّا أن يلجأ في الجواب على السّؤال إلى «العقائد»، فيستحضر عصمتَها والآيات الخاصّة بها أو العامّة، والأحاديث القدسيّة والرّوايات. وجميع ذلك حقّ لا ريب فيه، إلّا أنّ موضوع السّؤال شيءٌ آخر.

كم من النصوص العقائدية حول منزلة السيّدة الزهراء عليها السلام، استطاع أن يصل من العقل إلى القلب ليتفاعل القلبُ معه، ويستخلص صفوته فَيُحِلَّها حيث تستحقّ من الدائرة التي تتحكّم بالوجدان، والمشاعر، والأحاسيس؟

تارةً يكون السؤال ما هي عقيدتك بالصِّدِّيقة الكبرى، وطوراً يكون: ما هي معرفتك بها؟

وقد تكون العقيدة محضَ انسجامٍ مع الدليل والحجّة والتسليم العقلي لهما، تسليم الجاهل بما هو أبعد من كلّ آفاقه، ثقةً بالمقدّمات واعتماداً عليها، أمّا المعرفة الفاعلة المحرّكة، المعبَّر عنها هنا بالصورة الذهنية بما هي ثمرة تفاعل القلب مع ما عُقد عليه من نتاج العقل، فهي شيء آخر غير الاعتقاد المُقونَن المُمَكْنَن بالبرهان وضوابطه الحديدية الجافّة. ".."

لا تَنافٍ بين حركة العقل في المعرفة وحركة القلب، بل يقع التنافي حين يتّخذ كلٌّ منهما مسرباً له وسبيلاً بمعزلٍ عن الآخر. إنّهما معاً: إنسانية الإنسان وفطرته الصافية وجوهره النقيّ.

يريد لنا السؤال أن يعرف كلٌّ منّا مدى حضور عقله وقلبه معاً في باب معرفة الصِّدِّيقة الكبرى، عليها السلام، «وَعَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتِ القُرونُ الأُولَى» والأخيرة. ولدى الدخول في تفاصيل السؤال يجد كلّ فردٍ نفسه أمام التساؤلات التالية:

* هل «أعرف» شيئاً عن نور الزهراء قبل أن يخلق الله تعالى الخلق؟ أكرّر أنّ السؤال ليس عن «الاعتقاد».

* هل «أعرف» حقاً أنّ عظَمَتَها لا تكمن على الإطلاق في مجرّد أنّها بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله؟

* هل «أعرف» شيئاً عن موقعها في منظومة المعصومين؟ ".."

* هل «أعرف» أنّ هذه الشخصية الإلهية النبوية الفريدة هي التي أراد الله تعالى أن يُبطل على يديها مفعول أخطر ثورة مضادّة لثمرة خطّ النبوات وخاتمة الرسالات، الأمر الذي يكشف جانباً من معنى الحديث القدسي: «وَلَوْلا فَاطِمَةُ مَا خَلَقْتُكُمَا»، الذي نحُسن فهمه إذا جعلناه وقوله تعالى: ﴿..وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ..﴾ المائدة:67، بمعنى واحد لدى التحقيق وإمعان النظر.

والنتيجة: هل يخشع القلب في محراب عظمة الصِّدِّيقة الكبرى، فيفقه بعض دلالات أنّها من المعدن المحمّديّ والحقيقة المحمّديّة صلّى الله عليه وآله، دون أن تدخل الأبوّة والبنوّة - على عظَمتها - في الحساب؟ وأنّها من حيث الموقع و«الدور» في حفظ دين الله تعالى تضاهي الأنبياء والأولياء على أقلّ تقدير، بل تفوق أكثرهم؟ ".."

هل نُدرك أيّ منحدَر صعب ننحدر حين تكون الصورة الذهنية المتحكّمة بآداب ولايتنا للزهراء، عليها السلام، أَوْهَى من بيت العنكبوت، تتلخّص في أنّنا أمام مثقّفة مؤمنة صابرة منحت أباها العطف والحنان ورضيت بعليٍّ عليه السلام - رغم فقره - وارتجلت خطبة تُعجز البلغاء، وتكشف عن مدى الحضور والوعي المميّزين!

إنّ هذه الصورة المشوّشة المغلوطة نتيجة طبيعية لعوامل تضافرت لتوصلنا إلى هذا المنحدر، ويمكن تلخيص هذه العوامل بالتالي:

أ) الإعراض التامّ أو النسبي عن الروايات «الغَيبيّة» حول عظَمتها، عليها السلام، كروايات النور، وروايات التزويج بأمر الله تعالى، وحفل الزفاف في السماء، وكراماتها..

ب) الوقوع في أَسْر ربط العظَمة بالموقع «الدنيويّ» وإن كان دينياً، أي بموقع السلطة الظاهرية حتى إذا كانت ناتجة باستحقاق عن سلطة إلهية باطنية، الأمر الذي يتحكّم - ولو عبر اللاوعي - بالصورة الذهنية التي ترتسم عن الشخص، فيتراءى لنا، خطأً، أنّ الصِّدّيقة عليها السلام، لا تأتي في مرتبة المعصومين الأنبياء والأئمّة، الذين أحلّهم الله تعالى، هذا الموقع بما له من سلطة ظاهرية، بقطع النظر عن القدرة على إعمالها وعدمه. ".."

ج) انتشار خلل إنزال المعصومين في غير مرتبتهم التي رتّبهم الله تعالى فيها، ليصل الأمر في التعاطي مع المعصوم إلى حدّ وكأنّه «عالم بامتياز» "..".

د) انتشار الجهل بعظمة موقفها الإلهيّ النبويّ بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وبعيد آثاره المركزية والجذرية في حفظ الإسلام واستمراره ".." ومن مظاهر انتشار هذا الجهل:

1- الإصرار على تسمية خطبتها في المسجد النبوي بالخطبة «الفَدَكيّة»، وكأنّ الدافع في الخطبة «عقاريّ»! ولئن كانت التقية تبرّر ذلك سابقاً، فما هو مبرّره الآن؟ ".."

2- تجنّب الحديث عن ظلامتها، عليها السلام، إمّا بحجّة أنّ هذه الأبحاث تاريخية ولم تعد مُلِحَّة، أو من منطلق التشكيك، أو انسياقاً مع فهمٍ خاطئ لمفهوم الوحدة الإسلامية. ".."

وهذا العامل، «انتشار الجهل بعظمة موقفها»، بعد وفاة المصطفى الحبيب، صلّى الله عليه وآله، هو الأخطر من بين كلّ الحجب التي تحول دون القيام بواجب آداب ولاية الصِّدِّيقة الكبرى عليها السلام.

".."

(كان أمير المؤمنين عليه السلام مأموراً بالصّبر) فالمرحلة مرحلة العقل بسيفه المغمَد، لا المصلَت المسلول. كان انتضاءُ السيف يعني الجهر بحقيقة الانقلاب على الأعقاب. يُحرجهم السيف فيُخرجهم، وأبى حِفظُ الله تعالى للذِّكر إلّا أن يفوِّت الفرصة، ولكن لا بدّ من تسجيل الموقف المحمّديّ لتكون الأجيال على بيِّنة من أمرها، لتستطيع اكتشاف حقيقة ما جرى ولو بعد قرون.

وكان لا بدّ أن يسجِّل هذا الموقف مَنْ تُجمِع الأمّة على موقعه الإلهيّ الخاصّ، من دون أن يؤدّي ذلك إلى الدخول في دوّامة العنف والاقتتال، وكانت الصِّدِّيقة الكبرى القائد الإلهيّ المحمّديّ، والمقياسَ الربّانيّ النبويّ لنزع بُرقع الشرعية المدّعاة عن الانقلاب على الأعقاب. ".."

ومشتْ صلوات الله عليها إلى المسجد بعد عشرة أيّام من وفاة المصطفى الحبيب ".." وقالت الكلمة الفصل، ولم تفرغ من خطبتها التاريخية، الوثيقة الكبرى، إلّا بتقدمة الحُجّة بما لا مزيد عليه ولا مقالة بعده لقائل، ولم يترك تعتيمُ الأنظمة وظُلم ذوي القربى مجالاً لمعرفة ميسّرة لحقيقة ما جرى، إلّا أنّ التاريخ، على عَبَث البلاط به، حفظ لنا أنّ لَغَطاً دار في المجلس وهتافاً تعالى، لك أن تستنتج بوضوح أنّه من قبيل: لا نبايع إلّا عليّاً ".." في هذا الجوّ، وبهذه اللغة، وهذا الأفق، يجب أن توضَع خطبة الصِّدِّيقة الكبرى وتُدْرس وتُفهَم.

إنّ مكانة الصِّدِّيقة الكبرى التي ثبّتها الله تعالى على يد مَن ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ النجم:3، جعلت الأمّة عبر أجيالها كلّها أمام حقيقة أنّ المتكلّم في المسجد بعد وفاة رسول الله، هو رسول الله نفسه. فالمتحدّث هو بنصِّه صلّى الله عليه وآله: شَجَنَةٌ مِنْهُ، وَبَضْعَةٌ، وَروحُهُ التي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، مَنْ يَرْضى اللهُ لِرضاها وَيَغْضَبُ لِغَضَبِها.

تتلاشى القرون وتذوب، ويبقى الموقف الفاطميّ أكبر من كلّ الأجيال، تستلهم سبيل الدخول إلى باب رسول الله من باب فاطمة!

أرأيتَ مدى أهمّية العلم بعظَمة موقفها الإلهيّ المحمّديّ على عتبة «آداب ولايتها»، عليها السلام، ومدى خطورة انتشار الجهل بذلك؟

 

* مختصر من كتاب (في محراب فاطمة عليها السلام).

 
 

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

07/03/2016

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات