الملف

الملف

04/07/2016

إعلانُ الإمامة والدعوة إليها


المواجهة السياسية عند الإمام الصادق عليه السلام

إعلانُ الإمامة والدعوة إليها

ـــــــ الإمام السيد علي الخامنئي دام ظلّه ـــــــ

* هذه المقالة التي اخترناها من أحد فصول كتاب (إنسان بعمر 250 سنة) للإمام السيّد علي الخامنئي دام ظلّه تكشف جانباً مهماً من حياة الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام. عنينا به ذاك المتعلّق بدوره الريادي الكبير في الحياة السياسيّة والأمنيّة التي سادت في أواخر الدولة الأمويّة وبدايات دولة بني العبّاس.

هنا يضيء السيّد الخامنئي على تلك السيرة الغامضة من حياة الإمام الصادق عليه السلام؛ وهي على وجه التحديد استراتيجيّة المواجهة السرّيّة والعلنيّة في وجه السلطة المستبدّة، والآليات التي وضعها لأتباع أهل بيت النبوّة عليهم السلام ليواصلوا جهادهم على المستويات كافّة.

لا بدّ من الإشارة إلى أنّنا اقتطفنا بعض الموارد المهمة من بحث السيّد القائد لأهمّيّتها العظمى في هذه الحقبة بالذات، والمقال بمجمله مختصر عن الفصل المشار إليه.

«شعائر»


عندما انتقل الإمام الباقر عليه السلام من هذه الدنيا، وعلى أثر النشاطات المكثّفة الّتي جرت طيلة مدّة إمامته وإمامة الإمام السجّاد عليه السلام، فإنّ الأوضاع والأحوال تغيّرت كثيراً لمصلحة آل البيت عليهم السلام.

كانت خطّة الإمام الصادق عليه السلام، هي أن يجمع - بعد رحيل الإمام الباقر عليه السلام - الأمورَ، وينهض بثورة علنيّة، ويسقط حكومة بني أميّة - والّتي كانت في كلّ يوم تنتقل من حاكمٍ إلى آخر، ما يدلّ على منتهى ضعف هذا الجهاز - ويأتي بالجيوش من خراسان والريّ وأصفهان والعراق والحجاز ومصر والمغرب وكلّ المناطق الإسلاميّة، الّتي كان فيها أيضاً شبكات حزبية للإمام الصادق عليه السلام، أي شيعته؛ ويحضر كلّ القوّات إلى المدينة ليزحف نحو الشام ويسقط حكومتها ويرفع بيده راية الخلافة، ويأتي إلى المدينة ويعيد حكومة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إليها، هذه كانت خطّة الإمام الصادق عليه السلام.

لقد كان الإمام الصادق صلوات الله عليه، مشغولاً بجهادٍ واسعٍ النطاق؛ الجهاد من أجل الإمساك بالحكومة والسلطة، من أجل إيجاد حكومة إسلامية وعلويّة. أي أنّ الإمام الصادق سلام الله عليه، كان يهيّئ الأرضية للقضاء على بني أميّة والمجيء بحكومة علويّة أي حكومة العدل الإسلامي. وإنّ هذا ما يتّضح من حياة الإمام الصادق عليه السلام لكلّ من يطالع ويدقّق.

لقد أوجد الإمام الصادق صلوات الله عليه، تشكيلات عظيمة من المؤمنين به، ومن أتباع تيّار الحكومة العلوية في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، من أقصى خراسان وما وراء النهر إلى شمال أفريقيا.

فماذا تعني التشكيلات؟ أي أنّه عندما يريد الإمام الصادق عليه السلام أن ينقل أيّ شيءٍ فإنّ وكلاءه المتواجدين في مختلف آفاق العالم الإسلامي، سينقلون ذلك إلى النّاس لكي يعلموه. ويعني أيضاً أنّها ستجمع كلّ الحقوق الشرعية والميزانية المطلوبة لإدارة مواجهة سياسية عظيمة لآل عليّ عليهم السلام. ويعني ذلك أنّ وكلاءه وممثّليه المتواجدين في جميع المدن سيرجع إليهم أتباع الإمام الصادق عليه السلام لمعرفة تكليفهم الدينيّ والسياسيّ من الإمام. لقد أوجد الإمام الصادق عليه السلام مثل هذه التشكيلات العظيمة، وبهذه التشكيلات وبمساعدة مَن كان داخلاً فيها من الناس، كان يواجه جهاز بني أميّة.

وبالطبع، إنّ ما جرى على الإمام الصادق عليه السلام هو أمرٌ مهمٌّ جدّاً ومليءٌ بالعبر، فقد كان يواجه بني أميّة لمدّة عشر سنوات وبني العبّاس لمدّة طويلة أيضاً، وعندما كان انتصاره على بني أميّة حتميّاً، جاء بنو العبّاس كتيّارٍ انتهازيٍّ ونزلوا إلى الميدان، ومن بعدها صار الإمام الصادق عليه السلام يواجه بني أميّة وبني العبّاس أيضاً.

وقد نُقل عن الطبريّ - المؤرّخ المعروف - أمورٌ تتعلّق بأنّ الإمام عليه السلام كان يحارب بني أميّة في بداية السنوات العشر لإمامته. وكانت مواجهة الإمام الصادق عليه السلام في هذه المرحلة علنيّة، لم يعد فيها أيّ إخفاء أو تقيّة أو كتمان.

كان الإمام عليه السلام أثناء ترويج هذا الأمر وتبليغه، يرى نفسه في مرحلةٍ من الجهاد، حيث ينبغي عليه أن يتبرّأ بشكل مباشر وصريح من حكّام زمانه، وأن يُعرّف الناس على نفسه كصاحب حقٍّ واقعيِّ للولاية والإمامة.

الوكلاء والمبلّغون

من يطالع حياة الأئمّة عليهم السلام غير المدوّنة، يتساءل في نفسه: ألم يكن للأئمّة من أهل البيت عليهم السلام في نهايات عصر بني أمّية من الدعاة الّذين يبلّغون بإمامتهم ويأخذون من الناس الطاعة والدعم لهم في أطراف الدولة الإسلامية وأكنافها؟

(إذا كان الجواب نفياً) فكيف يمكن تفسير هذه العلائم والروابط التنظيميّة الّتي تُشاهد بوضوح والّتي تظهر في العلاقات الماليّة والفكريّة، بين الأئمّة والشيعة؟

فما معنى حمل هذه الحقوق الشرعية والأموال من مختلف أطراف العالم إلى المدينة؟ وكلّ هذه الأسئلة حول القضايا الدينية؟ وهذه الدعوة الواسعة المنتشرة للتشيّع؟ وأيضاً هذا الشرف والمحبوبيّة الّتي لا نظير لها، لآل عليٍّ عليهم السلام في مناطق مهمّة من الدولة الإسلاميّة؟ وهذا الجمع الغفير من المحدّثين والرواة الخراسانيين والسيستانيين والكوفيين والبصريين واليمانيين والمصريين الّذين اجتمعوا حول الإمام عليه السلام؟ فأيّة يدٍ مقتدرة أوجدت كلّ هؤلاء؟ فهل يمكن أن نعتبر هذا الأمر مصادفةً وأنّ الحدث التلقائي كان عاملاً أساسيّاً وراء كلّ هذه الظواهر المنسجمة والمترابطة؟

من الممكن أن يُسأل أنّه لو كان هناك مثل هذه الشبكة الإعلاميّة الوسيعة والفعّالة، فلماذا لا يوجد في التاريخ ذكرٌ لها، أو أن يُنقل بالصّراحة ما يتعلّق بوقائعها؟

والجواب: ... هو أنّه، أوّلاً، يجب البحث عن سبب عدم هذا الظهور في تمسّك أصحاب الإمام عليه السلام الشديد بأصل التقيّة المُعتبر والراقي، والّذي يمنع نفوذ أيّ غريبٍ إلى تشكيلات الإمام عليه السلام؛ ويؤدّي في النهاية إلى فشل جهاد الشيعة في هذه المرحلة وعدم وصولهم إلى السلطة، والّذي هو أيضاً بذاته معلولٌ لعوامل عدّة. لو لم يصل العبّاسيّون إلى السلطة، لبقيت مساعيهم ونشاطاتهم السرّية وذكرياتهم المرّة والحلوة من نشاطاتهم الإعلاميّة بلا شك في الصدور، ولما عرف أيّ أحدٍ شيئاً عنهم ولما سجّلها التاريخ.

لقد استطاع الإمام الصادق عليه السلام وبمساعدة آبائه الكبيرة - أي الإمام السجّاد والإمام الباقر عليهما السلام - إعداد عدّةٍ مؤمنةٍ مسلمة دينية أصيلة ثورية مُضحيّة من أجل المخاطرة في كلّ أنحاء العالم الإسلامي.

من المدهش أنّ أتباع الإمام الصادق عليه السلام كانوا منتشرين في كلّ مكان، لا تتصوّر أنّ ذلك كان في المدينة فقط، بل كانوا في الكوفة أكثر من المدينة، لا بل كان منهم في الشام أيضاً. فهؤلاء كانوا يمثّلون الشبكة العظيمة لتشكيلات الإمام الصادق عليه السلام.

كان هناك شبكة هي الّتي كانت تتحمّل مسؤولية الأنشطة الواسعة والمثمرة المتعلّقة بقضية الإمامة في الكثير من المناطق النائية لدولة المسلمين، وخصوصاً في نواحي العراق العربي وخراسان. ولكن هذا أحد وجوه القضية وجزء صغير جدّاً منها. إنّ موضوع التشكيلات السرّية في ساحة الحياة السياسية للإمام الصادق عليه السلام وللأئمّة الآخرين أيضاً، هو من أهم فصول هذه الحياة والسيرة الجيّاشة، وفي نفس الوقت من أكثرها غموضاً وإبهاماً.

الإمام الحسن عليه السلام يؤسّس لتقويض سلطان بني أمية

التشكيلات هي مجموعة من الناس، وبهدفٍ مشترك، يقومون بأعمال ومسؤوليات مختلفة بالارتباط بمركزٍ واحد وقلبٍ نابض وعقلٍ حاكم، ويشعرون فيما بينهم بنوع من الروابط والإحساسات والمشاعر القريبة والمتآلفة.

وهذا الجمع تمثّل في زمن عليّ عليه السلام - أي في المدّة الفاصلة بين السقيفة والخلافة، والّتي امتدّت لخمس وعشرين سنة - بخواصّ الصحابة الّذين كانوا، بالرغم من كلّ تظاهر جهاز الخلافة بالحقّانيّة والشعبيّة، كانوا يعتقدون أنّ الحكومة هي حقّ أفضل المسلمين وأكثرهم تضحيةً - أي عليّ بن أبي طالب عليه السلام - ولم ينسوا النصّ الصريح للنبيّ بخلافة عليّ عليه السلام ، وقد أعلنوا بصراحة، منذ الأيّام الأولى بعد السقيفة مخالفتهم الذين حصلوا على الخلافة، وأيضاً وفاءهم للإمام عليه السلام.

وتؤيّد الشواهد التاريخيّة أنّ هذه الجماعة كانت تنشر الفكر الشيعيّ - أي الاعتقاد بضرورة اتّباع الإمام كقائدٍ فكريّ وسياسيّ أيضاً - بين الناس، ملتزمةً بأساليب المصلحة والحكمة، وكانوا يزدادون يوماً بعد يوم؛ وكان كلّ عملٍ لأجل تشكيل الحكومة العلويّة يُعدّ بمنزلة مقدّمة للواجب.

كما أنّ الإجراءات المهمّة جدّاً الّتي حصلت بعد حادثة صلح الإمام الحسن عليه السلام قد أدّت إلى انتشار الفكر الشيعي وتوجيه هذه المجموعة المترابطة والمتآلفة.

إنّ تجميع القوى الشيعيّة الأصيلة والموثوقة وحمايتهم من شرّ المؤامرات الغادرة للجهاز الأموي ضدّ الشيعة، ونشر الفكر الإسلاميّ الأصيل في دائرةٍ ضيّقةٍ ولكنّها عميقةٌ جدّاً، واستقطاب القوى المستعدّة وإضافتهم إلى مجموع الشيعة، وانتظار الفرصة المناسبة وفي النهاية الثورة والتحرّك في الوقت المناسب الّذي يدمّر النظام الجاهلي لبني أميّة، سيعيد النظام الإسلامي والعلويّ إلى موقعه؛ هكذا كانت استراتيجية الإمام الحسن، وآخر الأسباب الّتي جعلت قبوله للصلح غير قابلٍ للاجتناب.

ولعلّه لأجل هذه الجهة، وبعد حادثة الصلح، عندما جاءت جماعة من الشيعة بزعامة المسيّب بن نجبة وسليمان بن صُرد الخزاعي إلى المدينة - حيث كان الإمام عليه السلام قد رجع لتوّه من الكوفة وجعل المدينة المنوّرة مقرّاً فكريّاً وسياسيّاً لنفسه مجدّداً - واقترحوا عليه إعادة بناء القوى العسكريّة والسيطرة على الكوفة والهجوم على جيش الشام، فاختار الإمام عليه السلام هذين الرجلين من بين الجميع واختلى بهما، وبكلماتٍ لم يصلنا منها أيّ خبرٍ، لا من قريب ولا من بعيد، أقنعهما بعدم صوابيّة هذه الخطّة، بحيث أنّهما عندما رجعا إلى أتباعهم ورفقائهم أفهموهم بكلماتٍ قصيرة وبليغة انتفاء موضوع الثورة العسكرية وضرورة أن يرجعوا إلى الكوفة وينصرفوا إلى أعمالهم.

بالالتفات إلى هذه القرائن، يعتقد بعض كبار المؤرّخين أنّ اللبنة الأولى لبناء التشكيلات السياسية الشيعية قد حصلت في ذلك اليوم، وأُسّست في ذلك المجلس الّذي اجتمع فيه الإمام الحسن عليه السلام مع هاتين الشخصيّتين الشيعيّتين المعروفتين وتباحث معهما.

النّاظر في تاريخ الإسلام يسأل نفسه: هل أنّ رواج الفكر والتوجّهات الشيعيّة إلى هذا الحدّ ممكنٌ ومعقولٌ إلّا في ظلّ نشاطٍ محسوبٍ بدقّة لتشكيلاتٍ شيعيّة متّحدة منسجمة مترابطة ذات جهة واحدة، أي من جانب تلك التشكيلات التي استشرف الإمام الحسين ولادتها مباشرةً بعد صلح الإمام الحسن؟ لا شكّ بأنّ الجواب سلبيّ. فالإعلام المستمرّ والدقيق للجهاز الأموي المتسلّط الّذي كان يُدار بواسطة مئات القضاة والقرّاء والخطباء والوُلاة، ما كان ليُجاب عليه، وفي بعض الموارد ليُحبط إلا بوجود إعلامٍ دقيقٍ آخر، يُدار من جانب مجموعة مترابطة ذات جهة واحدة وبالطبع سرّيّة.

على مشارف هلاك معاوية، أضحت نشاطات المنظّمة هذه أكثر، وأضحت وتيرتها أسرع؛ إلى حدٍّ أنّ والي المدينة كتب رسالة إلى معاوية بعدما حصل على تقريرٍ حول نشاطات الإمام عليه السلام. فقد رُوي أنّ مروان بن الحكم كتب إلى معاوية وهو عامله على المدينة :«أما بعد، فإن عمرو بن عثمان ذكر أنّ رجالاً من أهل العراق، ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن عليّ، وذكر أنه لا يأمن وثوبه، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً لما بعده، فاكتب إليّ برأيك..».

بعد واقعة كربلاء وشهادة الإمام عليه السلام، أضحت الأنشطة المنظّمة للشيعة في العراق أكثر تنظيماً وتحرّكاً بدرجات. يقول الطبري المؤرّخ المعروف إنّ تلك الجماعة - أي الشيعة - كانوا دائماً مشغولين بجمع السلاح وإعداد العدّة للحرب ودعوة الناس في الخفاء - سواء كانوا شيعة أم غير شيعة - من أجل الثأر للإمام الحسين، وقد استجابت لهم جماعةٌ، واحدة تلو أخرى ، والتحقوا بهم، وكان الأمر على هذا المنوال حتّى مات يزيد بن معاوية.

وعلى أثر السعي الخفيّ والهادئ، بالظاهر، للإمام السجّاد عليه السلام استعاد هذا الجمع عناصره المستعدّة الكامنة وجذبها ووسّعها،  وكما قال الإمام الصادق عليه السلام: «فَإِنَّ النّاسَ لَحِقُوا وَكَثُروا». وفي (العصور اللاحقة) كان هذا الجمع دائماً هو الّذي يُخيف بتحرّكاته زعماء نظام الخلافة.

(من ناحية ثانية) لم يكن يُطلق اسم الشيعة... على الشخص الّذي يكتفي بمحبّة عترة النبيّ أو يعتقد فقط بحقّانيّتهم وصدق دعوتهم... بل بالإضافة إلى ذلك، كان التشيّع يحمل شرطاً أساسيّاً وحتميّاً وهو عبارة عن الارتباط الفكري والعملي بالإمام والمشاركة في الأنشطة الّتي كان يبادر إليها الإمام ويقودها. هذا الارتباط هو ذاك الّذي يُسمّى في الثقافة الشيعيّة بـ«الولاية».

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

04/07/2016

دوريات

نفحات