دور الإمام الصدر في التطوير الفقهي

دور الإمام الصدر في التطوير الفقهي

01/07/2011

تحديد المشكلة الاقتصاديّة

الفقيه الشيخ عبدالهادي الفضلي

بحثٌ مُعمّق، لآية الله، الشيخ عبدالهادي الفضلي في النظريّة الإقتصاديّة الإسلاميّة التي أرسى مداميكها أستاذه السيّد الشهيد محمد باقر الصدر قدّس سرّه، في كتابه الشهير (اقتصادنا).
تنشر «شعائر» هذه البحث على قسمين. ما يلي، هو القسم الأوّل، ويتطرّق فيه آية الله الدكتور الفضلي إلى العوامل التي حَدَت بالسيّد الشهيد إلى الخروج من دائرة التأليف الفقهي العام إلى التأليف في الفقه الإقتصادي، مُمهّداً لذلك بعرض مُكثّف لبدايات التدوين الفقهي عند المسلمين شيعةً وسُنّة.

في نهايات القرن الثاني وبدايات القرن الثالث الهجريّين، أخذ الفكر الإسلامي المُستمَد من القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة يتحوّل على أيدي المفكّرين المسلمين -من أئمّة أهل البيت عليهم السلام وأعلام الصحابة رضي الله عنهم، ورجالات التابعين- إلى علومٍ مقنّنة، لها أصولها وقواعدها وتفريعاتها المتعدّدة والمختلفة.
كان في طليعة هذه العلوم علم الفقه، ذلك العلم الذي تناول بالدرس الأحكام الشرعيّة الفرعيّة التي تقوم بوظيفة تنظيم علاقات الإنسان مع خالقه تعالى، ومع الإنسان الآخر، وجميع ما يتفاعل معه ممّا هو موجود في هذا الكون الرحيب.
فتوجّه العلماء المسلمون يدرُسونه ويُدرِّسونه، ويؤلّفون فيه الرسائل والكتب المفردة، ومن ثمّ الموسوعات صغيرة وكبيرة.

تدوين الفقه عند المسلمين السُّنّة

وبدأ التدوين العلمي للفقه الإسلامي عند أهل السنّة في نهايات القرن الثاني وبدايات القرن الثالث الهجريّين متأثّراً بعاملَين، هما:
1- إنقراض آخر جيل من أجيال علماء الصحابة، فقد توفّي آخر عالم من علماء الصحابة وهو جابر بن عبد الله الأنصاري سنة 78 للهجرة، وقد كانت له في أواخر أيّامه حلقة تدريس في المسجد النبوي الشريف.
روى له البخاري ومسلم وغيرهما، وبلغت مرويّاته عن النبي صلّى الله عليه وآله 1540 حديثاً.
وله مُسند، وهو ممّا رواه عبد الله بن أحمد بن محمّد بن حنبل، وتوجد مخطوطته في خزانة الرباط برقم 221 كتاني.
2- نشاط الحركة الفكريّة بعد تولّي عمر بن عبد العزيز الخلافة سنة 99 للهجرة.
وكان العامل الأوّل -وهو انقراض أجيال علماء الصحابة- الحافز القوي للخليفة عمر بن عبد العزيز أن ينشّط الحركة العلميّة ويتوسّع بها.
وهنا جاء دور العلماء المسلمين من تلامذة التابعين وتابعي التابعين في الإكثار من حلقات الدرس الفقهي في المساجد الكبرى في العالم الإسلامي: المسجد الحرام، والمسجد النبوي الشريف، وجامعَي البصرة والكوفة.
وكذلك في التأليف، ومنه التأليف الفقهي، وقد مرّ بمرحلتين عند علماء أهل السنّة، هما:
1- مرحلة التأليف في الفقه الإستدلالي، وشملت النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وتَمثّل التأليف فيها بالكتب التالية:
• كتاب (المبسوط) لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي الحنفي المتوفّى سنة 182 للهجرة.
• كتاب (المدوّنة) في فقه الإمام مالك بن أنس لأبي عبد الله عبدالرحمن بن القاسم المالكي المتوفّى سنة 191 للهجرة، برواية الفقيه المالكي سحنون بن سعيد التنوخي.
• كتاب (الأم) للإمام أبي عبد الله محمّد بن إدريس الشافعي المتوفّى سنة 204 للهجرة.
2- مرحلة تأليف المختصرات الفقهيّة، وهي متون علميّة تضمّ فتاوى الفقهاء مجرّدة من الدليل.
وغطّت هذه المرحلة القرنين الثالث والرابع الهجريَّين والنصف الأوّل من القرن الخامس، وتمثَّل تأليفها بالكتب التالية:
• (المختصر في فروع الشافعيّة)، لأبي حفص حرملة بن يحيى المتوفّى سنة 243 للهجرة.
• (مختصر الطحاوي) في فروع الحنبليّة لأبي القاسم عمر بن حسين الخرقي الحنبلي الدمشقي المتوفّى سنة 334 للهجرة.
• (مختصر الكرخي) في فروع الحنفيّة لأبي الحسين عبدالله بن الحسين الكرخي المتوفّى سنة 340 للهجرة.
• (مختصر القدوري) في فروع الحنفيّة لأبي الحسين أحمد بن محمّد القدوري البغدادي الحنفي المتوفّى سنة 428 للهجرة.
• في القرن الثامن الهجري ألّف الشيخ خليل بن إسحاق الجندي الفقيه المالكي مختصره في فروع المالكيّة المعروف بـ (مختصر خليل)، وقد شرحه كثيرون وتُرجم إلى الفرنسيّة.
وكانت هذه الكتب استدلاليّةً ومتوناً تحتوي أحكام العبادات، وأحكام المعاملات بطابعها الفقهي العام.
وفي هذه الحقبة الزمنيّة للتأليف الفقهي عند أهل السنّة الممتدّة من القرن الثاني الهجري حتى نهاية القرن الخامس الهجري أُلّفت كتب مفردة في الفقه الخاص، منها إقتصاديّة الطابع، ومنها إداريّة الطابع، أمثال:
• كتاب (الخراج) لأبي يوسف القاضي الحنفي المتوفّى سنة 182 للهجرة.
• كتاب (الأموال) لأبي عبيد القاسم بن سلّام المتوفّى سنة 224 للهجرة.
وكلاهما في الفقه الاقتصادي.
• كتاب (الأحكام السلطانيّة) لأبي الحسن عليّ بن محمّد الماوردي الشافعي المتوفّى سنة 450 للهجرة.
• كتاب (الأحكام السلطانيّة) لأبي يعلى محمّد بن الحسين بن الفرّاء الحنبلي المتوفّى سنة 458 للهجرة.

تدوين الفقه عند المسلمين الشيعة

وأمّا بداية التأليف الفقهي عند الشيعة الإماميّة فكانت في بدايات عهد الغيبة الكبرى، ذلكم العهد الذي بدأ سنة 329 للهجرة، وهي سنة وفاة أبي الحسن عليّ بن محمّد السَمُري آخر النواب الخاصّين للإمام المهدي عليه السلام، حيث انقطع الالتقاء من قِبل الشيعة بالأئمّة، فكان الحافز لهم إلى ذلك.
وقارنَ تأليفُهم في الفقه الاستدلالي تأليفَهم للمختصرات الفقهيّة.
ومن أبرز وأشهر مؤلّفاتهم في الفقه العام حتى وفاة الشيخ الطوسي سنة 460 للهجرة:

المختصرات

• كتاب (الشرائع) المعروف برسالة عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المتوفّى سنة 329 للهجرة.
• (مختصر الأحمدي) لأبي عليّ بن محمّد بن أحمد الجنيد الإسكافي البغدادي المتوفّى سنة 381 للهجرة.
• كتابا (المقنع) (والهداية) لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي الملقّب بالصَّدوق المتوفّى سنة381 للهجرة.
• كتاب (المُقنعة) لأبي عبد الله محمّد بن النعمان المعروف بابن المعلّم والملقّب بالمفيد المتوفّى سنة 413 للهجرة.
• كتاب (جمل العلم والعمل) لأبي القاسم عليّ بن الحسين الموسوي المُشتهر بالشريف المرتضى المتوفّى سنة 436 للهجرة.
• كتاب (الكافي في الفقه) لأبي الصلاح تقي الدين بن عبد الله الحلبي المتوفّى سنة 447 للهجرة.
• كتاب (النهاية) لأبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي الشهير بشيخ الطائفة المتوفّى سنة 460 للهجرة.
الكتب الإستدلاليّة:
• كتاب (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة) لابن الجنيد الإسكافي المتوفّى سنة 381 للهجرة.
• كتاب (من لا يحضره الفقيه) لأبي جعفر الصدوق المتوفّى سنة 381 للهجرة.
• كتابا (تهذيب الأحكام) و(المبسوط) لأبي جعفر الطوسي المتوفّى سنة 460 للهجرة.
وقد تأثّر التأليف الفقهي عند الإماميّة بالتأليف الفقهي عند أهل السنّة من حيث التبويب وطريقة العرض، فاقتصروا فيه استدلاليّاً ومختصرات على الفقه العام أيضاً.
وفي القرن العاشر الهجري، ألّف أبو الحسن علي بن عبد العالي العاملي الكركي المعروف بالمحقّق الثاني المتوفّى سنة 940 للهجرة، في الفقه الاقتصادي حيث مسّت الحاجة لدى الإماميّة لذلك بسبب اختيار المحقِّق الثاني من قبل الدولة الصفويّة -وهي دولة شيعيّة- مرشداً عامّاً لها.
ألّفَ: (الرسالة الخراجيّة) و(الرسالة المواتية) في تقسيم الأراضي.
وفي القرن الرابع عشر الهجري، عندما قامت الحركة السياسيّة المعروفة بحركة «المشروطة والمستبدّة» في إيران بقيادة علماء الدين، والتي تعني الدعوة إلى إعلان الحياة الدستوريّة من قِبل الدولة القاجاريّة التي كانت تحكم إيران آنذاك، وامتدّت الحركة إلى النجف الأشرف، المركز الديني للمرجعيّة الشيعيّة الإماميّة في العالم، واشترك فيها كلٌّ من المرجعَين الشيخ محمّد كاظم الخراساني المتوفّى سنة 1329 للهجرة داعياً لإعلان الحياة الدستوريّة، والسيّد محمّد كاظم اليزدي المتوفّى سنة 1337 للهجرة معارضاً الدعوة الدستوريّة.
في هذه الفترة ألّف الشيخ الميرزا محمد حسين النائيني المتوفّى سنة 1355 للهجرة، وهو من أبرز تلامذة الشيخ الخراساني، داعية الحياة الدستوريّة، رسالته الموسومة بـ (تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة) في الفقه السياسي، وضعها باللغة الفارسيّة وتُرجمت للغة العربيّة.
وبعد انقلاب 14 تموز 1958م العسكري في العراق الذي انتهى به الحكم الملكي وحلّ محلّه الحكم الجمهوري، والذي أزال الحواجز لانطلاق الشيوعيّين وسيطرتهم على الساحة العراقيّة الثقافيّة بفكرهم الإشتراكي وخاصّة في مجال الاقتصاد، وفيه ما يتعارض مع العقيدة والتشريع الإسلاميَّين، ألّف الفقيه الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر المتوفّى سنة 1400 للهجرة كتابه الشهير (إقتصادنا) للوقوف أمام الهجوم الإشتراكي، ولوضع النظريّة الإقتصاديّة الإسلاميّة بين يدَي المفكّرين المسلمين بُغية أن لا يتأثّروا بالإقتصاد الاشتراكي، وليكونوا في منطلق العودة إلى بناء الحضارة الإسلاميّة، والعيش في ظلّها متمتّعين بعدالة الإسلام، بعيداً عن مشكلات الإشتراكيّة والرأسماليّة.
وقبل تبيان النظريّة الإقتصاديّة للإمام الصدر من خلال كتابه المذكور، من المفيد أن أشير إلى العوامل التي ساعدت الشهيد الصدر على إبداعاته العلميّة في هذا الكتاب، وخروجه من دائرة التأليف الفقهي العام إلى التأليف في الفقه الإقتصادي، وهي:

1- إجتهاده المُميَّز:

وأعني بذلك أنّ الإمام الصدر كان فقيهاً مجتهداً على مستوى النظريّة والتطبيق.
مستوى النظريّة الذي يعني أنّه كان يمتلك وسائل الإجتهاد ويتمتّع بالقدرة على الإستنباط.
ومستوى التطبيق الذي يعني انفتاحه على الحياة المعاصرة، ومحاولة تَعرّفه لكلّ ما يجري فيها من أحداث وتطوّرات علميّة، وغير علميّة.
وتوصّل إلى هذه النظرة المميّزة من خلال إيمانه، وعن معرفة واقعيّة للفقه الإسلامي بأنّه النظام الإسلامي للحياة، بكلّ أبعادها وجميع شؤونها.
فليس هو الفقه المدوَّن في المتون الفقهيّة، وإنّما هو أوسع من هذا وأبعد، بما يشمل الإجتماع والإقتصاد والسياسة وإلخ.

2-  موسوعيّته الثقافيّة:

فقد لاحظت -عن قُرب- حياته الثقافيّة، فرأيته قارئاً مدمن قراءة، قرأ الكثير من الكتب القديمة والكثير من الكتب الجديدة، وتابع الدوريّات التي صدرت والتي تصدر، منوّعاً في قراءاته لمختلف حقول المعرفة التي ترتبط -مباشراً وغير مباشر- بتخصُّصه كفقيه مجتهد.
فقرأ الإشتراكيّة الماركسيّة في فكرها العقيدي والتنظيمي، وتعرّف أيديولوجيّتها السياسيّة العلميّة والعمليّة.
وقرأ الرأسماليّة مذهباً إقتصاديّاً وخطّاً سياسيّاً يهدف إلى الهيمنة على كلّ مصادر الثروة في العالم.
وقرأ العلوم الحديثة، وبخاصّة العلوم الإنسانيّة، تلك التي ساعدت من خلال دراساتها وما تُبديه من مرئيّات وتقدّمه من مقترحات وتضعه من خطط لتوسيع ونشر الأيديولوجيّة السياسيّة الغربيّة، بما مكّن لها السيطرة على مصادر ومعابر الثروات الطبيعيّة في العالم الثالث.

3-  نظرته للحياة:

ونتيجة ما وُفِّق إليه من ثروة ثقافيّة منحته الموسوعيّة التي أشرت إليها، توسّعت نظرته للحياة المعاصرة لتشملها بكلّ أبعادها وشؤونها.
ومن هنا كان الفقيه بمستوى التطبيق.

4-  فهمه لواقع الفقه الإسلامي:

بما له من شموليّة لتنظيم كلّ شؤون حياة الإنسان فرديّاً واجتماعيّاً.
ذلك الفهم الذي استمدّه من مقارنة التشريع الإسلامي بالتشريعات القانونيّة الحديثة التي غطّت كلّ الجوانب الاجتماعيّة للإنسان، اجتماعيّة بمعناها الخاص، واقتصاديّة وسياسيّة وإداريّة وعسكريّة وإلخ.
والذي هداه إلى أنّ في الفقه الإسلامي القدرة على هذه الشموليّة، ومتميّزاً بالجانبَين العبادي والأخلاقي. وهذا ما أعانه أن يوازن بين النظريّة والتطبيق في ما أعطاه من فكر فقهي.
وقد عبّر عن هذا في مقدّمة كتابه (اقتصادنا)، حيث نصّ على «أنّ الإسلام عقيدة ونظام كامل للحياة، ومنهج خاص في التربية والتفكير».

5-  متابعته لإفرازات الصراع الفكري العالمي:

ذلك الصراع المتمثّل إقتصادياً بالخلافات الفكريّة بين الإشتراكيّة والرأسماليّة التي تركت آثارها وانعكاساتها على الساحة العالميّة تأزّماً نفسيّاً، وتطلّعاً لاقتصاد آخر يُنقذ إنسان العصر من ضغوط هذا الصراع ونتائجه المريرة في أخطارها.
كلّ هذه العوامل التي تمثّلت عناصر في تركيب شخصيّة الشهيد الصدر بصفته مفكِّراً إسلاميّاً وفقيهاً مجتهداً، دفعته لأن يعمل على استخلاص النظريّة الإقتصاديّة الإسلاميّة من واقع الفقه الإسلامي، ثمّ يقارن بينها وبين النظريّة الرأسماليّة والنظريّة الإشتراكيّة، ليضعها في مركزها الفكري ومن ثمّ العملي، لإقامة النظام الإقتصادي الإسلامي على أساسٍ منها.
ويُلخّص النظريّة الإسلاميّة الاقتصاديّة: في أنّ المذهب الاقتصادي الإسلامي يقوم على ثلاثة مبادئ أساسيّة، تتكامل فيما بينها لتؤلّف النظريّة الاقتصاديّة الإسلاميّة، وهي:
الأوّل: مبدأ المُلكيّة المزدوجة.
الثاني: مبدأ الحريّة الإقتصاديّة في نطاق محدود.
الثالث: مبدأ العدالة الإجتماعيّة.     
 (يتبع)

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

03/07/2011

  كتب أجنبية

كتب أجنبية

03/07/2011

  كتب عربية

كتب عربية

03/07/2011

نفحات