قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

01/08/2016

تظهيرُ روح الوحي بمكارم الأخلاق


(كشفُ الرِّيبة عن أحكام الغِيبة) للشّهيد الثاني

تظهيرُ روح الوحي بمكارم الأخلاق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ قراءة: محمود ابراهيم ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الكتاب: (كشفُ الرِّيبة عن أحكام الغِيبة)

المؤلف: الشهيد الثاني، زين الدين عليّ بن أحمد الجُبعيّ العامليّ (911-966 للهجرة)

الناشر: «دار الأضواء»، بيروت 1987م


 

غالباً ما يُؤثِر المشتغلون في البحث العلميّ تصنيفَ ما يقع بين أيديهم من كُتب ومؤلّفات ومصنّفات علميّة؛ فإنّهم في العادة يلجأون إلى تصنيف هذا الكتاب أو ذاك تِبعاً لاختصاصه، ووضْعه إمّا في خانة الفلسفة، أو المنطق، أو في ميدان علم الجمال والأدب، أو في التاريخ والفكر السياسيّ، وهكذا دواليك. إلّا أنّهم حين يواجهون أعمالاً أو منجزاتٍ معرفيّة، كالتي قدّمها العلّامة الكبير الشيخ زين الدين الجُبعَيّ العامليّ (الشهيد الثاني)، فقد يصعب عليهم الأمر، أو أنّهم يحارون في تصنيف هذه المنجزات. والسبب في هذا يعود إلى تميّز علّامتنا في أنّه جمع بين الأصناف والمناهج في خلال تناوله معارفَ تأسيسيّة متّصلة بأصول الدين وفروعه. وفي مصنّفه الشهير (كشفُ الرّيبة عن أحكام الغِيبة) سيكون لنا الدليل المبين على منهجيّته الجمعيّة هذه. حيث يظهر النصّ ثمرة تكاملٍ بين علوم الشريعة ومقاصدها، وبين ما يتفرّع عنها من علوم الحديث، والكلام، والفلسفة، والفقه، وعلم الأخلاق، والعرفان.

حين يطرق الشهيد الثاني باباً ذا صِلة بمكارم الأخلاق كموضوع هذا الكتاب، يكون القرآن الكريم والسيرة المعصومة معيار الحكم في المبتدأ والخاتمة. فلئن كانت الغِيبة (كسر الغين) من الكبائر التي حذّر الله تعالى الناس ونهاهم عن اقترافها، فلأنّها الباعث على الفساد في الأرض، والانزياح عن مكارم الأخلاق. وفي التعريف المشهور: «إنّ الغِيبة هي ذكر الإنسان حالَ غَيبته بما يكره نسبتَه إليه، ممّا يعدّ نقصاناً في العُرف، بقصد الانتقاص والذمّ».

وتحريمُ الغِيبة في الجملة إجماعيّ. بل هو كبيرةٌ وموبقةٌ للتصريح بالتّوعُّد عليها في الكتاب والسنّة. وقد نصّ الله تعالى على ذمِّها في كتابه العزيز، وشبَّه صاحبها بآكل لحم أخيه ميتاً، فقال: ﴿..وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ..﴾ الحجرات:12. وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «كُلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِم حَرَامٌ، دَمُه ومَالُه وعِرْضُه». والغِيبة تناولُ العرض، وقد جمع صلّى الله عليه وآله بينه وبين الدّم والمال، وقال: «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا ولا يَغْتَبْ بَعضُكُم بعضاً، وكونوا عِبادَ اللهِ إخواناً».


تظهير المقاصد الإلهيّة

ورد في تعريف هذا المصنّف في كتاب (الذريعة: 36/18، ق:562) للشيخ الطهرانيّ، أنّه عملٌ جامع في تعريف الغِيبة وذكر أقسامها، وأحكامها، والأحاديث الدالّة على تحريمها. وهو كتابٌ نفيس. ففي خاتمته نقرأ اثني عشر حديثاً مناسباً للمرام، والحديث العاشر منها رسالة أبي عبد الله الصادق عليه السلام، إلى عبد الله النجاشيّ، المعروفة بـ «الرسالة الأهوازيّة». وقد فرغ المؤلّف منه سنة (949 للهجرة)، ونسخة منه بخطّ تلميذ الشهيد الشيخ سلمان بن محمّد بن محمّد الجبعيّ، كتبها في جمادى الثانية 945 للهجرة، بعد أربعة أشهر من التأليف، موجود عند ورثة الآخوند المولى محمّد حسين القمشهيّ الكبير، وتاريخ إجازة الشهيد على ظهرها له: ذي القعدة عام 954 للهجرة.

ومهما يكن من أمر التعليقات التي تناولت (كشف الريبة عن أحكام الغيبة)، يبقى معنى النصّ ومقاصد العلّامة الشهيد من ورائه. وبهذا فالكتاب هو بكلماتٍ قصار تظهير لواحدة من مكارم الأخلاق المحمّديّة والسنّة المعصومة، في عالم التربية، وآداب السير والسلوك، وبيان السبيل إلى صراط الحق.

نحن إذاً، بإزاء منهجٍ إيمانيّ خاصّ مستلهَمٍ من الوحي وبيانات أهل العصمة عليهم السلام. قوامُ هذا المنهج ربطٌ لا انفصام له بين شريعةٍ مؤيَّدةٍ بالحقيقة، وحقيقةٍ مؤيَّدة بالشريعة. فلا يُمكن الوقوف على أسرار الحقيقة - كما يقول الشهيد الثاني - إلّا بإثبات الأعمال المبيَّنة ببيان صاحب الشرع تعالى، لأنّ كل منهج وطريقة يخالفان الشريعة سوف يُفضيان إلى الانزياح عن الصراط، وإنّ كل حقيقة لا يشهد لها الكتاب والسُّنّة تُفضي إلى الإلحاد.

وشأنه في هذا، شأن كبار الفقهاء العرفاء الذين لا يجدون أيّ فصل أو تباين بين الشريعة والحقيقة. فهو ممّن يرون أنّ كل شريعة هي حقيقة من كلّ وجه، وكلّ حقيقة شريعة، مع ملاحظة التمييز بين كليهما. فالشريعة نزلت بواسطة الرُّسُل، وأمّا الحقيقة فهي تقريبٌ من غير واسطة. وربما يُشار بالشريعة إلى الواجبات بالأمر والزَّجْر، وبالحقيقة إلى المكاشفات بالسرّ، وإلى أنّ الشريعة هي وجود الأفعال، والحقيقة شهود الأحوال بها. وبحسب العرفاء، فإنّ حاصل السّير إلى الحقّ الأول يتحقّق عبر لزوم حدوده، أي أحكام الشريعة. وطبقاً لإجماع أهل التوحيد، فإنّ مَن زعم الوقوف على أسرار الحقيقة بما يخالف الشريعة، فقد طغى وغلبتْ عليه الضلالة والنسيان.


أخلاقيّة القول والعمل

في أعمال الشهيد الثاني، الممتدّة سحابة خمسة وخمسين مؤلَّفاً، تظهيرٌ بيِّنٌ للقِسط والتّناسُب والاعتدال؛ فلقد حرص - مثل جمعٍ كبير من أهل الذِّكر- على أن يستعيذ بالله من فتنة القول، كما يستعيذُه من فتنة العمل. وهذا هو الشيء الذي أتاح له تحصيل رؤية تَقَويّة إيمانيّة، بلغت ذروة إخلاصها بواحديّة العالم العارف في تجربته الدينيّة.

لقد تشكَّل المنجز العلميّ/العرفانيّ للشهيد الثاني، على منبسَطٍ معرفيّ يغتذي ممّا سبقه من منجزاتٍ زخر بها الفكر الإسلاميّ منذ تدوين السنّة، والحديث، وظهور علوم الكلام والأصول والفقه والرجال، إلى التفسير والبلاغة، ناهيك عن علوم التصوّف، والأخلاق، والفلسفة.

لم يقطع الشهيد الثاني مع أيٍّ من الفروع العلميّة المشار إليها، بل هو مضى في رحلته العلميّة إلى استيعابها، والأخذ منها ما وافق الشريعة وحقائقها. وسيتبيّن لنا تبعاً لذلك أنه اختبر هذه المنجزات، من خلال الوصل الوطيد فيما بينها، وعلى مبدأ وحدة العلم بالعمل. وهو مبدأ يدخل في دائرة البديهيّات، لكون العلم عين العمل، والعمل عين العلم في مقام التخلّق الذي تفترضه التجربة الدينيّة. فالعلم - على ما يعرّفه الشهيد الثاني في كتابه الأخلاقيّ المشهور (مُنية المريد في أدب المفيد والمستفيد) - هو «بمنزلة الشجرة، والعمل بمنزلة الثّمرة. والغرض من الشجرة المثمرة ليس إلّا ثمرتُها. أما شجرتها من دون الاستعمال، فلا يتعلّق بها غرَضٌ أصلاً، فإنّ الانتفاع بها في أيّ وجهٍ كان، ضربٌ من الثمرة بهذا المعنى».

إن ما يُستخلص من توصيفٍ كهذا، يُمكن أن نضعه في سياقٍ تأسيسيّ لنظريّة معرفةٍ دينيّة قوامها: أنّ العلم المعتبَر، هو العلم الباعث على العمل.

ما ذهب إليه الشهيد الثاني يُفصح عن أنّ صِلة الوصل بين العلم والعمل واقعة ضمن منفسحات الحقيقة الدينيّة، حيث يشير إلى ذلك بوضوح حين يرى أنّ الغرض الذاتيّ من العلم مطلقاً هو العمل، وأنّ العلوم كلّها ترجع - بحسب هذا التأصيل – إلى صنفين: علم معاملة، وعلم معرفة.

- فعلم المعاملة عنده، هو معرفة الحلال والحرام ونظائرهما من الأحكام، ومعرفة أخلاق النفس المذمومة وكيفيّة علاجها والفرار منها.

- وأمّا علم المعرفة فيقوم على العلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه.

وما عداهما من العلوم، فإنّه إمّا آلاتٌ لهذه العلوم، أو ما يُراد به عملٌ من الأعمال في الجملة. والواضح أنّ علوم المعاملة لا تُراد إلّا للعمل، بل لولا الحاجة إلى العمل لم يكن لها أيّ قيمة.

وسنرى كيف أنه مثّل هذه الرؤية بمَثَلٍ جاء به من عالم الفقه، وذلك للاستدلال بواسطته على واحديّة النظر والعمل. فالفقيه – بنظره - إذا أحكمَ علمَ الطّاعات، أي أدركه بالنظر العقليّ، ولم يعمل به، وإذا أحكم علم المعاصي ولم يتجنّبها، وإن أحكم علم الأخلاق المذمومة، وما زكّى نفسه منها، أو أحكم علم الأخلاق المحمودة ولم يتّصف بها، فحاصلُه أنّ ذاك الفقيه، مغرورٌ في نفسه، مخدوعٌ عن دينه، ولهذه الناحية بالذات قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ الشمس:9، ولم يقل: قد أفلح من تعلم كيفيّة تزكيتها، وكتب عِلمها، وعلّمها الناس. إذ لو عرف اللهَ حقَّ معرِفته لَخَشِيَه واتّقاه، وذلك ما نبّه عليه الحقّ تعالى بقوله: ﴿..إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ..﴾ فاطر:28.


التأسيس الأخلاقيّ لحضارة الإسلام

ما من جدال في المنزلة التي تبوّأتها هذه الشخصيّة الاستثنائيّة في التاريخ الإسلاميّ، وعلى الخصوص في مدرسة أهل البيت عليهم السلام. ولعل الخاصِّية في ما أنجزه الشهيد الثاني، أنّه لم يقتصر على إلقاء الدروس الحوزويّة المعروفة في زمانه، ولا بتقريراته المدوّنة في كُتبه ورسائله وسائر مؤلّفاته، ولا بآرائه الفقهيّة التي سجّلها شرحاً أو تأليفاً في مصنّفاته، ولا هي أيضاً بعدد تأليفاته وكثرة تدويناته في العلوم الإسلاميّة فحسب، بل هي – علاوة على كلّ ذلك – تركّز على إعادة تأسيس الحضارة الإسلاميّة وفقاً لمكارم الأخلاق. ولنا أن نشير هنا إلى ما تناوله الباحثون في هذا الصدد:

أولاً: تأسيس مرجعيّة إسلاميّة عامّة، حيث حَظِيَت شخصيّته باحترام علماء سائر المذاهب، من خلال حضوره لدى عددٍ كبير من علماء أرباب المذاهب الإسلاميّة المختلفة، ومناقشاته الجادة معهم.

ثانياً: إبراز الفقه الإماميّ بصورته الناصعة، وتقديمه كفقهٍ قائمٍ بذاته، له مستنداته وأصوله وقواعده، ويمتلك قواماً وذائقةً خاصّة تختلف عن سائر المذاهب، ما يُمهّد له مكانته الحقيقيّة والواقعيّة التي طالما سعى مخالفوه – منذ صدر الإسلام - إلى قمعه واستئصال شَأْفَتِه، وإطفاء نوره الذي أبى اللهُ تعالى إلّا أن يبقى ويخلد حتّى قيام الساعة.

ثالثاً: التأثير في مسير الفكر الإسلاميّ، وتطوير حركته بما يتناسب والمرحلة الحضاريّة التي تمرّ بها البشريّة، من خلال تأسيس قواعد فقهيّة يُمكن أن تسند حركة الفقه الإسلاميّ وتُعينه على أداء دوره في فترة ما بعد عصر النصّ، ومواكبته للحوادث الجديدة الواقعة.

 رابعاً: تأسيس نُخبة واعية، وطليعة علميّة متميّزة ومعطاءة، تخدم الدين والمذهب الحقّ بإخلاصٍ وتَفانٍ، وصدقٍ وشجاعة، تداوم على الطريقة، وتحافظ على المسيرة لئلّا تصاب بالتعطيل والانكسار.

لقد تميّزت هذه الشخصيّة الفذّة بالاجتهاد والإبداع، والنشاط الدَّؤوب في المعارف الإسلاميّة وتفعيل حركة الفقه الشيعيّ، وبعثِه على التفاعل والتلاقح في ضوء معطيات تلك الفترة الزمنيّة. وهذا ما جعل حضور الشهيد الثاني ممتدّاً عبر التاريخ في مجال تحديد أحكام الشريعة، وممارسة العمليّة الاجتهاديّة بصدقٍ وعمق، إضافةً الى ما لها من دور في نشر روح البحث العلميّ التي تفرض الموضوعيّة والتجرّد عن الهوى، وتصويب الرأي الراجح على المرجوح وفق الأدلّة الشرعيّة المعتبَرة.

 

اخبار مرتبطة

  شعائر العدد الثامن و السبعون -شهر ذو القعدة 1437-أيلول

شعائر العدد الثامن و السبعون -شهر ذو القعدة 1437-أيلول

نفحات